وُجدت هذه الرسالة في سلة مهملات في أحد المقاهي الشّعبية في العاصمة عمان "
إلى من يهمه الأمر
إلى لا أحد
أنا مجرد عجوز خرف، ها قد أخبرتكم بذلك، و أدعى الحاج "أبو محمود ". هذا هو الإسم الذي اعتاد الناس أن ينادوني به منذ مدّة. و في الحقيقة أن اسمي هو ابراهيم محمود و لولا أنّني نظرت اليوم إلى وثيقة تدعى بطاقة الهوية لما استطعت تذكّر هذا الإسم أبدا.
ذهبت اليوم صباحا إلى إحدى الدوائر الحكومية و تدعى دائرة الأحوال المدنية لأجدّد بطاقة الهوية. لست أدري لم فعلت ذلك. بالطبع، لم أفعل ذلك من أجل انتخاب شخص ما، إذ أنّ أيامي معدودة على هذه الارض و لن أقوم بإفساد الحياة على أهلها. المفارقة العجيبة هي أنّ طوال الستّين عاما التّي عشتها لم يقل لي أبي غير " اخرس " حتى ظننت أن هذا هو اسمي. كذلك فعلت أمي. المعلمون الذين كانوا عتاة تعذيب كانوا لا يخاطبوننا إلاّ بكلمة "اخرس "، كما قالها رئيس العمل و الشرطي في الشارع و حتّى أبنائي الذّين إن لم تقلها ألسنتهم قالتها أفعالهم.
المرّة الوحيدة التي يُسمح لي فيها بأن أصدر صوتا تكون بوضع هذا الصوت المختنق أصلا داخل صندوق أبكم لا يسمع ولا يتكلم.
لم أجدّد بطاقة هويّتي إلاّ لشعوري بالملل، أو ربما لأنني أردت أن أثبت لنفسي و للعالم أنني لا زلت موجودا !
و هل يكترث احد لوجودي؟ و هل يعني وجودي أو عدمه لأحدٍ شيئاً ؟
إن كان لا يعني لي شيئاً أبدا فلا أظن انه سيعني أي شيء لأي شخص .آخر
اكتشفت اليوم - و يا لحسن هذا الاكتشاف - أنّه عيد ميلادي. و لولا ضعف قدرتي على الضّحك، لانفجرت ضاحكاً كلما تذكرت هذا الامر.
نسيت أن اخبركم انني لست لاعب كرة و لا قائدا و لا مطربا شعبيا، و لم أكن يوماً سوى انسان عادي. لذلك لا أتوقع أن يُخصّص لهذه الذّكرى عطلة وطنيّة.
عيد ميلادي لم يتنبه إليه ذلك الشّاب الذي قام بتجديد الهوية لي و ربما أنّه انتبه دون أن يكترث. أبنائي هم الآحرون لم ينتبهوا، و لا جديد في ذلك ، إذ أنّهم لم يهنّؤوني قطّ بعيد مولدي منذ أنجبتهم زوجتي الى هذه الدنيا. أمّا أنا فلم أكن لانتبه لو لم أقم بائسا بالنّظر إلى هوّيتي.
وحدها كانت زوجتي الحبيبة تنتبه و تهتمّ لعيد مولدي. لكنّ الامور الآن قد تغيّرت، فاليوم يا أعزائي الذين لا أعرفهم هو الذّكرى العشرون لرحيل زوجتي.
لست أصدق كلّ ما يفعله بي الزّمن. التاريخ الذي شهد صرختي الأولى شهد كذلك صرختي الأخيرة. بكيتها كثيرا. بكيتها حتى كدت أُصاب بالجنون او ربما أنني قد جننت بالفعل.
و الآن بعد عشرين سنة، بدأت أعتقد أنني لم أبكها هي بل بكيتُ نفسي .لطالما اعتبرتُ أنّ موتها هو موتي أيضاً. انا من كُفّن تلك الليلة، لا هي
وقفتُ امام المبنى و تأمّلت اللافتة الكبيرة التي كُتب عليها
اسمه : دائرة الاحوال المدنية. أيّ كذب هذا؟ الأحوال المدنية ! أي أحوالي واحوال نظرائي من البشر. هل هناك من يهتمّ فعلاً؟ هل هناك من يأبه لكوني لم اذق للسعادة طعما منذ عشرين عاما ؟ لا يأبهُ احدٌ
و لن يأبهَ يوما.
خرجت من تلك الدائرة اللّعينة لا ادري الى اين تقودني قداماي اللّتان - و كما بقية أجزاء هذا الجسد المُتعب المثقل بالهموم و الأمراض - قد فعلت بها السّنون فعلتها.
هل هاتان هما اليدان اللّتان اعتادتا ان تشقا الصخر ولا تباليان؟
هل هاتان هما الساقان اللّتان كانتا تقطعان بي الأميال دون أن تكلا أو تتعبا؟
لم أنظر الى المرآة منذ عشرين سنة إلاّ أنني اظن أنّ ذلك المعول .المسمى وقتا قد حفر في جبهتي خنادق جعلت منه أشبه بخريطة الوطن
فعلتُ جاهداً كلَّ ما يوحي بإنسانيّتي: ابتسمتُ بوجه طفل
صغير فبكى خوفا، ابتسمت لشابة جميلة فأشاحت بوجهها عني، هل ظنت انّي أغازلها ؟ .
قادتني خطواتي الثقيلة كأيّام الخريف إلى هذا المقهى. لم اعتد دخول المقاهي ولكنني الآن مجبر. لا أريد العودة إلى ذلك القبر المسمى مأوى العجزة ولا استطيع الذهاب الى بيوت أبنائي او بيوت بناتي. لم أكن أتصور في يوم من الأيام انني قد اصل الى هذه الحال ويتجاهلني أبنائي الذين ربيتهم و سهرت اللّيالي من أجلهم. لم أكن الاب الافضل في العالم ولن اكون و ربما لو عادت بي الايام لارتكبت ذات الأخطاء التي ارتكبتها في السّابق. لكن ذلك لا يبرّر أبداً ما فعلوه و يفعلونه بي. بناتي يسلطن علي أبنائهن فيشتمونني وسط قهقهات أمهاتهم اللواتي لا يحاولن على الأقل إخفائها. أمّا ابنائي فيكفي ان أخبركم ان كبيرهم قد طردني من البيت، اعني طردني من بيتي، البيت الذي جُبل بعرقي وبني على ضلوعي يطردني منه ابني الأكبر وقال لي ان الملجأ او هذا القبر المسمى دار عجزة أفضل لي. لم اناقشه ولم ادافع عن بيتي بل لملمت ما تبقى لدي من كرامة وخرجت الى القبر الذي رماني اليه ابنائي.
قد أكون مجرد عجوز خرف. قد يكون كلّ ما اتفوه به مجرد حماقات وجنون اطبق على عقلي المنهك. لكنني رغم ذلك كله استحق ان يستمع الي احد ما. النادل لن يستمع الي حتّى إذا رشوته ليفعل ذلك، ولن اغامر بالتحدث الى الشبان الذين جلسوا بجوار طاولتي. ها هم يتكلمون بكلمات لا افهم منها سوى ما يتفوّهون به في كل جملة من افظع الشتائم. نعم انا عجوز خرف بالتاكيد!!! فها انا أطلي صفحة بيضاء بسواد لن يفهمه احد ولن يعني لاحد شيئا على الاطلاق وعلى الاغلب لن يراه احد، فكما قلت منذ قليل لم اكن في يوم من الايام شخصا مهما لاحد باستثناء امرأة انتُزعت من بين يدي انتزاعاً.
ستون عاما قضيتها في هذا العالم وها أنا الآن مستعد لان اقايض هذا العمر باكلمه و ما تبقّى لي من أيّام او حتّى ساعات بيوم واحدٍ اقضيه إلى جوار تلك المرأة التي جعلت مني إنسانا. هل جربتم طوال حياتكم ان تصلوا الى درجة ان يفهمكم شريك حياتكم بمجرد نظرة او من خلال طريقة تنفسك؟ ان لم تجربوا هذا الامر فأنتم لم تعيشوا بعد. ان امراَ كهذا لا يحدث الا ان كان الشّخص محظوظا جدا، فدعوني اخبركم انني كنت محظوظا جدّاً وان هذا الحظ قد انتهى منذ عشرين عاما بالضبط.
سأترككم الآن فأنا مضطر إلى الذهاب. لابدّ أنّ زوجتي تنتظرني على أحر من الجمر. اعلم ذلك جيدا.
لقد أخبرتكم أنّي عجوز خرف و لكنّكم لا تصدّقون
إلى من يهمه الأمر
إلى لا أحد
أنا مجرد عجوز خرف، ها قد أخبرتكم بذلك، و أدعى الحاج "أبو محمود ". هذا هو الإسم الذي اعتاد الناس أن ينادوني به منذ مدّة. و في الحقيقة أن اسمي هو ابراهيم محمود و لولا أنّني نظرت اليوم إلى وثيقة تدعى بطاقة الهوية لما استطعت تذكّر هذا الإسم أبدا.
ذهبت اليوم صباحا إلى إحدى الدوائر الحكومية و تدعى دائرة الأحوال المدنية لأجدّد بطاقة الهوية. لست أدري لم فعلت ذلك. بالطبع، لم أفعل ذلك من أجل انتخاب شخص ما، إذ أنّ أيامي معدودة على هذه الارض و لن أقوم بإفساد الحياة على أهلها. المفارقة العجيبة هي أنّ طوال الستّين عاما التّي عشتها لم يقل لي أبي غير " اخرس " حتى ظننت أن هذا هو اسمي. كذلك فعلت أمي. المعلمون الذين كانوا عتاة تعذيب كانوا لا يخاطبوننا إلاّ بكلمة "اخرس "، كما قالها رئيس العمل و الشرطي في الشارع و حتّى أبنائي الذّين إن لم تقلها ألسنتهم قالتها أفعالهم.
المرّة الوحيدة التي يُسمح لي فيها بأن أصدر صوتا تكون بوضع هذا الصوت المختنق أصلا داخل صندوق أبكم لا يسمع ولا يتكلم.
لم أجدّد بطاقة هويّتي إلاّ لشعوري بالملل، أو ربما لأنني أردت أن أثبت لنفسي و للعالم أنني لا زلت موجودا !
و هل يكترث احد لوجودي؟ و هل يعني وجودي أو عدمه لأحدٍ شيئاً ؟
إن كان لا يعني لي شيئاً أبدا فلا أظن انه سيعني أي شيء لأي شخص .آخر
اكتشفت اليوم - و يا لحسن هذا الاكتشاف - أنّه عيد ميلادي. و لولا ضعف قدرتي على الضّحك، لانفجرت ضاحكاً كلما تذكرت هذا الامر.
نسيت أن اخبركم انني لست لاعب كرة و لا قائدا و لا مطربا شعبيا، و لم أكن يوماً سوى انسان عادي. لذلك لا أتوقع أن يُخصّص لهذه الذّكرى عطلة وطنيّة.
عيد ميلادي لم يتنبه إليه ذلك الشّاب الذي قام بتجديد الهوية لي و ربما أنّه انتبه دون أن يكترث. أبنائي هم الآحرون لم ينتبهوا، و لا جديد في ذلك ، إذ أنّهم لم يهنّؤوني قطّ بعيد مولدي منذ أنجبتهم زوجتي الى هذه الدنيا. أمّا أنا فلم أكن لانتبه لو لم أقم بائسا بالنّظر إلى هوّيتي.
وحدها كانت زوجتي الحبيبة تنتبه و تهتمّ لعيد مولدي. لكنّ الامور الآن قد تغيّرت، فاليوم يا أعزائي الذين لا أعرفهم هو الذّكرى العشرون لرحيل زوجتي.
لست أصدق كلّ ما يفعله بي الزّمن. التاريخ الذي شهد صرختي الأولى شهد كذلك صرختي الأخيرة. بكيتها كثيرا. بكيتها حتى كدت أُصاب بالجنون او ربما أنني قد جننت بالفعل.
و الآن بعد عشرين سنة، بدأت أعتقد أنني لم أبكها هي بل بكيتُ نفسي .لطالما اعتبرتُ أنّ موتها هو موتي أيضاً. انا من كُفّن تلك الليلة، لا هي
وقفتُ امام المبنى و تأمّلت اللافتة الكبيرة التي كُتب عليها
اسمه : دائرة الاحوال المدنية. أيّ كذب هذا؟ الأحوال المدنية ! أي أحوالي واحوال نظرائي من البشر. هل هناك من يهتمّ فعلاً؟ هل هناك من يأبه لكوني لم اذق للسعادة طعما منذ عشرين عاما ؟ لا يأبهُ احدٌ
و لن يأبهَ يوما.
خرجت من تلك الدائرة اللّعينة لا ادري الى اين تقودني قداماي اللّتان - و كما بقية أجزاء هذا الجسد المُتعب المثقل بالهموم و الأمراض - قد فعلت بها السّنون فعلتها.
هل هاتان هما اليدان اللّتان اعتادتا ان تشقا الصخر ولا تباليان؟
هل هاتان هما الساقان اللّتان كانتا تقطعان بي الأميال دون أن تكلا أو تتعبا؟
لم أنظر الى المرآة منذ عشرين سنة إلاّ أنني اظن أنّ ذلك المعول .المسمى وقتا قد حفر في جبهتي خنادق جعلت منه أشبه بخريطة الوطن
فعلتُ جاهداً كلَّ ما يوحي بإنسانيّتي: ابتسمتُ بوجه طفل
صغير فبكى خوفا، ابتسمت لشابة جميلة فأشاحت بوجهها عني، هل ظنت انّي أغازلها ؟ .
قادتني خطواتي الثقيلة كأيّام الخريف إلى هذا المقهى. لم اعتد دخول المقاهي ولكنني الآن مجبر. لا أريد العودة إلى ذلك القبر المسمى مأوى العجزة ولا استطيع الذهاب الى بيوت أبنائي او بيوت بناتي. لم أكن أتصور في يوم من الأيام انني قد اصل الى هذه الحال ويتجاهلني أبنائي الذين ربيتهم و سهرت اللّيالي من أجلهم. لم أكن الاب الافضل في العالم ولن اكون و ربما لو عادت بي الايام لارتكبت ذات الأخطاء التي ارتكبتها في السّابق. لكن ذلك لا يبرّر أبداً ما فعلوه و يفعلونه بي. بناتي يسلطن علي أبنائهن فيشتمونني وسط قهقهات أمهاتهم اللواتي لا يحاولن على الأقل إخفائها. أمّا ابنائي فيكفي ان أخبركم ان كبيرهم قد طردني من البيت، اعني طردني من بيتي، البيت الذي جُبل بعرقي وبني على ضلوعي يطردني منه ابني الأكبر وقال لي ان الملجأ او هذا القبر المسمى دار عجزة أفضل لي. لم اناقشه ولم ادافع عن بيتي بل لملمت ما تبقى لدي من كرامة وخرجت الى القبر الذي رماني اليه ابنائي.
قد أكون مجرد عجوز خرف. قد يكون كلّ ما اتفوه به مجرد حماقات وجنون اطبق على عقلي المنهك. لكنني رغم ذلك كله استحق ان يستمع الي احد ما. النادل لن يستمع الي حتّى إذا رشوته ليفعل ذلك، ولن اغامر بالتحدث الى الشبان الذين جلسوا بجوار طاولتي. ها هم يتكلمون بكلمات لا افهم منها سوى ما يتفوّهون به في كل جملة من افظع الشتائم. نعم انا عجوز خرف بالتاكيد!!! فها انا أطلي صفحة بيضاء بسواد لن يفهمه احد ولن يعني لاحد شيئا على الاطلاق وعلى الاغلب لن يراه احد، فكما قلت منذ قليل لم اكن في يوم من الايام شخصا مهما لاحد باستثناء امرأة انتُزعت من بين يدي انتزاعاً.
ستون عاما قضيتها في هذا العالم وها أنا الآن مستعد لان اقايض هذا العمر باكلمه و ما تبقّى لي من أيّام او حتّى ساعات بيوم واحدٍ اقضيه إلى جوار تلك المرأة التي جعلت مني إنسانا. هل جربتم طوال حياتكم ان تصلوا الى درجة ان يفهمكم شريك حياتكم بمجرد نظرة او من خلال طريقة تنفسك؟ ان لم تجربوا هذا الامر فأنتم لم تعيشوا بعد. ان امراَ كهذا لا يحدث الا ان كان الشّخص محظوظا جدا، فدعوني اخبركم انني كنت محظوظا جدّاً وان هذا الحظ قد انتهى منذ عشرين عاما بالضبط.
سأترككم الآن فأنا مضطر إلى الذهاب. لابدّ أنّ زوجتي تنتظرني على أحر من الجمر. اعلم ذلك جيدا.
لقد أخبرتكم أنّي عجوز خرف و لكنّكم لا تصدّقون
تعليق