مرآة خالي
نهضتْ وتجولتْ مبتهجة في سطح حياتها الجديدة، أشرتُ بإشارةٍ لا تعنيني وطبطبتُ على حافةِ السرير كأني أدعوها للاستلقاء، دارتْ أكثر من مرة في فضاء الغرفة الضيق، لم تجد شيئاً يستحقُ الترتيب، تفقدتْ النافذة الوحيدة، ودحرجتْ رأسها أسفل السرير، وتفقدتْ الباب، وعادتْ تتلمس الجدار، انتابتها موجة فرحٍ هائلة، وهي ترى الغُبار عالقاً في وجه مرآةٍ صغيرة مُعلقة من خصلتها الوحيدة على مسمارٍ رفيع مدسوس في بطنِ الطين، أنزلتْ المرآة وكأنها تحمل جبلاً من الغبارِ وفجأة إلتصقتْ بجواري، تناولتْ طرف ثوبها وزجتْ به في فمها، مضغتْ الثوب، ومررته على لسانها، وضعتْ المرآة في فخذها، ومسحتْ سطحها بقطعةِ القماش المُبتلة بريقها، بان وجه المرآة مصقولاً وناعماً، رفعتها وتأملتْ ملامحها، وابتسمتْ لنفسها ابتسامة رضا كبيرة، حاولتْ أن تلفت انتباهي، أعطيتها وجهي دون أن أبتسم، أعادت وضعية المرآة أكثر من مرة حتى تراني وترى نفسها من زاوية واحدة، أزاحتْ المرآة قليلاً جهةِ اليسار، وصرختْ صرخة داوية استجاب لها الجدار وكاد أن ينهار، انتفضتْ كمن له خصر رفيع، ورمتْ المرآة، اصطدمتْ بحجرٍ عنيد تقف عليه إحدى قوائم السرير وهرولتْ، لم أعرفْ ماذا أفعل، حاولتُ أن أناديها، ولكن تذكرتُ إننا لم نتعارفْ بعد، أدخلتُ رأسي في الحذاءِ، وركضتُ خلفها، لم أجدْ لها أثراً، الشوارع خالية، والشمس تلفظ أنفاسها الأخيرة..
عدتُ إلى غرفتي، استعدتُ رأسي ووضعته في مكانه، بعثرتُ جيوب الذاكرة، ولم أجدْ ما يدلني على تفاصيل ما حدث، إلتقطتُ المرآة، واعتذرتُ للحجر الذي اصطدمتْ به، اقتربتُ من المسمارِ العالق في الطين وعلقتُ المرآة في مكانها، أدخلتُ يدي في جيبي الثاني الذي لا يلتصق بفخذي كثيراً، وتناولتُ مشطاً بلا أسنان وألصقتُ وجهي في المرآة...
لم أعدْ بعدها أتذكر شيئاً سوى إني صرختُ صرخةً داوية استجاب لها الباب الخشبي وسقط على الأرض، لملمتُ أطرافي وسبقتُ الريح، وظللتُ هكذا هائماً على وجهي في الطرقاتِ منذ ذلك اليوم الذي رأيتُ فيه عقلي الباطني يتجسد في المرآة، ويحتلُ بلا حياءٍ مكان وجهي..
خالي (عبدالحميد) ظل يتبعني في الطرقاتِ، يجمع كلماتي التي أبعثرها في الهواءِ ويملأ بها جيوبه، وحينما نعود سوياً في المساءِ يحفر خالي بأظافره حُفرة عميقة خلف منزله، يفرغُ جيوبه فتسقط كلماتي المتناثرة داخل الحُفرة، يتركُ الحفرةَ بدون غطاءٍ، ثم يقبض ساعدي الهش، ويدخلني إلى غرفته التي بلا مرآةٍ تزين جدارها، يشير إلى سريرٍ صغير بجوار سريره، ثم يغلقُ الباب ويغطُ في نومٍ عميق.
تعليق