مرآة خالي

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • عبدالمنعم حسن محمود
    أديب وكاتب
    • 30-06-2010
    • 299

    مرآة خالي

    مرآة خالي
    البنتُ التي بلا خصرٍ وتدعي إنها خطيبتي تبعتني إلى حيث أسكُن، تجولتْ بكثيرٍ من الخفةِ في أنحاءِ البيتِ الذي تظنُ أنه سيكون مملكتها فيما بعد، لم يرقْ لها السرير الكبير الذي يتوسط غرفة الطين التي تتوسط فناء يفتقر لسورٍ يحميه، صممتْ في داخلها أن تعيدَ ترتيبُ جميع الأشياء وفق ما يحلو لها، هذا ما راودني حينما قررتُ أن أقرأ أفكارها، ولكني لم أسترسلْ في هذا القرار، وتركتها وكأن البيت مملكتها، لملمتْ بهمة عالية بضع قصاصاتٍ متناثرة على أرضية الغرفة التي يسبح فيها غبار كثيف لا يدري أحد من أين سيأتي وإلى أين سَّيذهب، سألتني بصوتٍ مُنخفض، ولكنه مشحون بهمسٍ لذيذ عن مدى أهمية هذه القصاصات، أشرتُ لها بإيماءةٍ ما برأسي، خنقتْ عُنق الأوراق بيدٍ واحدة، وقفزتْ بالأخرى، واصطادتْ كيساً من البلاستيكِ لا يريدُ أن يتوقف عن الحركةِ في فضاءِ الغرفة، أدرتُ لها ظهري ولم أعدْ أسمع سوى صوت الورق وهو يغوص في بطن البلاستيك، جلستْ على عتبةِ الباب وظهرها الذي بلا خصرٍ داخل فناء الغرفة، بينما وجهها في الفناء الخارجي، وضعتْ حجراً سميكاً فوق رأس الأوراق، واقتربتْ مني كأنها تذكرتْ شيئاً مهماً نسيته في داخلي، وبلا استئذان أدخلتْ يدها كاملة في جيبي المُلتصق بفخذي أربعة أيام متتالية، ثم أخرجتْ منه حزمةِ كبريتٍ، وهرولتْ بذات الهمّة، أعطتني ظهرها مرة أخرى ووهبتْ وجهها للفناء، أشعلتْ النار بلا تردد في قصاصاتي التي كانت سعيدة بتناثرها على أرضية الغرفة اللعينة، استنشقتُ وأنا أحترق رائحة قلبي، وروائحٍ لقصائد، وبضع أهازيج عاطفية مغمورة في رائحة البلاستيك المحروق، لم يخيفْها الدخان المُتصاعد، فتحتْ باب خياشيمها على مصراعيه، أحاطتْ بالدخانِ المتطاير في الهواءِ دون أن تترك لي حفنة، وسحبته بنفسٍ واحد إلى داخلها، إلتفتت تجاهي إلتفاتة سريعة، فرأيتُ ما يشبه الدموع في عينيها، شكلتْ ملامحها من جديد، ورسمتْ على وجهها ظلالِ ابتسامةٍ غائبة، وارسلتْ صوتها المُنخفض دون أن يكون مشحوناً هذه المرة، وسمعتها تقول إنها مُستمتعة برائحةِ صفحة حياتها الجديدة، غادرتني القصائد، وأهازيج العاطفة، وانشغلتُ بمكالمة وهمية على الهاتف..
    نهضتْ وتجولتْ مبتهجة في سطح حياتها الجديدة، أشرتُ بإشارةٍ لا تعنيني وطبطبتُ على حافةِ السرير كأني أدعوها للاستلقاء، دارتْ أكثر من مرة في فضاء الغرفة الضيق، لم تجد شيئاً يستحقُ الترتيب، تفقدتْ النافذة الوحيدة، ودحرجتْ رأسها أسفل السرير، وتفقدتْ الباب، وعادتْ تتلمس الجدار، انتابتها موجة فرحٍ هائلة، وهي ترى الغُبار عالقاً في وجه مرآةٍ صغيرة مُعلقة من خصلتها الوحيدة على مسمارٍ رفيع مدسوس في بطنِ الطين، أنزلتْ المرآة وكأنها تحمل جبلاً من الغبارِ وفجأة إلتصقتْ بجواري، تناولتْ طرف ثوبها وزجتْ به في فمها، مضغتْ الثوب، ومررته على لسانها، وضعتْ المرآة في فخذها، ومسحتْ سطحها بقطعةِ القماش المُبتلة بريقها، بان وجه المرآة مصقولاً وناعماً، رفعتها وتأملتْ ملامحها، وابتسمتْ لنفسها ابتسامة رضا كبيرة، حاولتْ أن تلفت انتباهي، أعطيتها وجهي دون أن أبتسم، أعادت وضعية المرآة أكثر من مرة حتى تراني وترى نفسها من زاوية واحدة، أزاحتْ المرآة قليلاً جهةِ اليسار، وصرختْ صرخة داوية استجاب لها الجدار وكاد أن ينهار، انتفضتْ كمن له خصر رفيع، ورمتْ المرآة، اصطدمتْ بحجرٍ عنيد تقف عليه إحدى قوائم السرير وهرولتْ، لم أعرفْ ماذا أفعل، حاولتُ أن أناديها، ولكن تذكرتُ إننا لم نتعارفْ بعد، أدخلتُ رأسي في الحذاءِ، وركضتُ خلفها، لم أجدْ لها أثراً، الشوارع خالية، والشمس تلفظ أنفاسها الأخيرة..
    عدتُ إلى غرفتي، استعدتُ رأسي ووضعته في مكانه، بعثرتُ جيوب الذاكرة، ولم أجدْ ما يدلني على تفاصيل ما حدث، إلتقطتُ المرآة، واعتذرتُ للحجر الذي اصطدمتْ به، اقتربتُ من المسمارِ العالق في الطين وعلقتُ المرآة في مكانها، أدخلتُ يدي في جيبي الثاني الذي لا يلتصق بفخذي كثيراً، وتناولتُ مشطاً بلا أسنان وألصقتُ وجهي في المرآة...
    لم أعدْ بعدها أتذكر شيئاً سوى إني صرختُ صرخةً داوية استجاب لها الباب الخشبي وسقط على الأرض، لملمتُ أطرافي وسبقتُ الريح، وظللتُ هكذا هائماً على وجهي في الطرقاتِ منذ ذلك اليوم الذي رأيتُ فيه عقلي الباطني يتجسد في المرآة، ويحتلُ بلا حياءٍ مكان وجهي..
    خالي (عبدالحميد) ظل يتبعني في الطرقاتِ، يجمع كلماتي التي أبعثرها في الهواءِ ويملأ بها جيوبه، وحينما نعود سوياً في المساءِ يحفر خالي بأظافره حُفرة عميقة خلف منزله، يفرغُ جيوبه فتسقط كلماتي المتناثرة داخل الحُفرة، يتركُ الحفرةَ بدون غطاءٍ، ثم يقبض ساعدي الهش، ويدخلني إلى غرفته التي بلا مرآةٍ تزين جدارها، يشير إلى سريرٍ صغير بجوار سريره، ثم يغلقُ الباب ويغطُ في نومٍ عميق.
    التواصل الإنساني
    جسرٌ من فراغ .. إذا غادره الصدق


  • آسيا رحاحليه
    أديب وكاتب
    • 08-09-2009
    • 7182

    #2
    هذه ثاني مرّة أقرأ فيها النص..شيء ما شدّني فيه ..تصوير الفتاة و الغرفة ..و حالة هذا المعتوه الغريب..و المرآة التي فضحت باطنه..
    ربما أعود لأتمعّن أكثر.
    تحيّتي لك.
    يظن الناس بي خيرا و إنّي
    لشرّ الناس إن لم تعف عنّي

    تعليق

    • خالد يوسف أبو طماعه
      أديب وكاتب
      • 23-05-2010
      • 718

      #3
      مرآة خالي
      جميل هذا النص بكل ما فيه !!!
      لغة جميلة دقيقة ورصينة وأسلوب سلس رائع
      يجر المتلقي للهاث وراء الكلمات والمزيد من الأحداث
      جميل هذا السرد وتلك الحبكة والعقدة والحكي الجميل المشوق
      فيه .
      هي ربما حالة من الهذيان ... ربما حالة روحانية غريبة الأطوار
      وربما يكون حلما جرنا في عالمه المجهول حتى استفقنا على امرأة
      من خيال صماء لا تجيد غير لغة الصمت الأرعن وتكسوها
      طبقة كثيفة من الغبار والهموم !!!
      جميل هذا الحوار في منولوج رائع ودقيق لوصف حالة من حالات
      المجتمع التي لا تزال تبحث عن حلم ما زال يراوده ويهمس لها بأن
      الفرج ربما قريب وقريب جدا حتى إذا ما استيقظت على نفسها
      وإذا به وهم من سراب وصورة في مرآة لا تزال معلقة على الجدار !!!
      لم أعدْ بعدها أتذكر شيئاً سوى إني صرختُ صرخةً داوية استجاب لها الباب الخشبي وسقط على الأرض، لملمتُ أطرافي وسبقتُ الريح، وظللتُ هكذا هائماً على وجهي في الطرقاتِ منذ ذلك اليوم الذي رأيتُ فيه عقلي الباطني يتجسد في المرآة، ويحتلُ بلا حياءٍ مكان وجهي..
      خالي (عبدالحميد) ظل يتبعني في الطرقاتِ، يجمع كلماتي التي أبعثرها في الهواءِ ويملأ بها جيوبه، وحينما نعود سوياً في المساءِ يحفر خالي بأظافره حُفرة عميقة خلف منزله، يفرغُ جيوبه فتسقط كلماتي المتناثرة داخل الحُفرة، يتركُ الحفرةَ بدون غطاءٍ، ثم يقبض ساعدي الهش، ويدخلني إلى غرفته التي بلا مرآةٍ تزين جدارها، يشير إلى سريرٍ صغير بجوار سريره، ثم يغلقُ الباب ويغطُ في نومٍ عميق.

      تصوير فني رائع ومتين في التشبيه ولكم أعجبني هذا
      النهاية لم تكن في الحسبان على هذا الشكل المدهش والصادم
      أستاذي الكريم عبد المنعم تملك أدوات قص رائعة وأتمنى لك
      المزيد من الألق والإبداع .
      محبتي
      التعديل الأخير تم بواسطة خالد يوسف أبو طماعه; الساعة 02-09-2010, 23:16.
      sigpicلن نساوم حتى آخر قطرة دم فينا

      تعليق

      • عبدالمنعم حسن محمود
        أديب وكاتب
        • 30-06-2010
        • 299

        #4
        المبدعة آسيا..سلام وتقدير
        يكفيني جداً مرورك مرتين..

        أستاذنا الرائع خالد
        قرأت تعليقك عشرات المرات حتى
        حفظته عن ظهر قلب...أشكرك.
        التواصل الإنساني
        جسرٌ من فراغ .. إذا غادره الصدق


        تعليق

        يعمل...
        X