كريم يا رمضان..(مهداة للأخ ربيع عقب الباب)

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • العربي الثابت
    أديب وكاتب
    • 19-09-2009
    • 815

    كريم يا رمضان..(مهداة للأخ ربيع عقب الباب)

    الليل والقمر.. وحبات المطر المنسكبة من غيمة وحيدة تعبر أديم سماء كئيبة ..
    لوعتني هذه الصورة وأنا مستلق تحت شجرة الجوز العتيقة أسمع مصافحة حبات المطر للأوراق ،وهي تشدو على نفحات من هواء عليل،لسعتني سيجارتي المنسية بين أصابعي فاستفقت من خدر ذكرى طفولة بعيدة...انقضت في عراء..
    تركت رفاق الحارة وجئت البيت جريا،دخلت لاهثا ،صدمني مرأى أمي وهي تلف أركان البيت ،وبيدها تمسك آنية البخور وهي تدندن بعيون دامعة وتصلي على النبي ،ارتميت على صدرها ،ضمتني كما لم تفعل من قبل،ارتفع شهيقها،امتد إلى داخلي،فارتج كياني ،وانخرطنا في بكاء حارق...
    لم أكن لحظتها أدرك ما يجري غير أنني فهمت أن هذا المساء استثنائي يتميز عن باقي أمسيات رمضان ذلك العام،
    فهذه والدتي التي تكون في هذه الآونة منهمكة في إعداد وجبة الإفطار وهي تسابق عقارب الساعة تبدو وكأنها غير معنية بذلك،غارقة في حزن جلل ، في عينها يتكون إعصار رهيب .
    حين ارتفع آذان المغرب ، في سماء القرية وسط جلبة الأطفال المتراكضين نحو البيوت، يغمرهم الفرح بموائد إفطار شهية..
    لم يشاركهم الركض هذا المساء ،تكوّم قرب أمه وهي تصب الشاي في كؤوس ثلاث على مائدة عارية إلا من رغيف واحد ،وماء.
    هاله منظر أخيه الأكبر وهو يصب بنهم كؤوس الشاي في جوفه صبّا،آلمته حركات تجاعيد حنك أمه وهي تلوك مضغة خبز حاف..
    نباح كلاب بعيدة يدغدغ سمعه،حفيف أوراق شجرة الجوز العتيق ترفرف على هبات عليلة لنسيم رطب، فتسقط ما علق بها من بلل،إيقاع حبات المطر خفّ ، وبدا له القمر أكثر وحشة وقنوطا،أو أن الصور التي تساقطت في داخله أوحت له بذلك...
    دخلت الجارة عائشة وقد عصبت على جبينها بشكل يوحي أنها في حالة سيئة مسحت وجوهنا بنظرات غريبة حدّقت في عينيّ بإمعان ..غابت نظرتها خلف دمعة تطل غصبا عنها تلقفتها بمنديلها.. توجهت إلى أمي مخاطبة:
    - يا الله ...قومي فالكثير ينتظرنا قبل حضورهم..
    قام أخي الكبير غير مبال أخذ معه كأس شاي وغاب في ظلام الحديقة،تلمست أمي شمعتها، أخرجتها من محزمها أشعلتها ..دخلت لتحضر لوازم العشاء ..وفهمت أننا نستعد لاستقبال ضيوف غير مرغوب فيهم...
    بعد صلاة العشاء والتراويح بدأوا يفدون على البيت إلى أن بلغ عددهم إحدى عشر رجلا من أعيان القرية، توسط المختار مجلسهم.... أخي واقف على خدمتهم بصفته رجل البيت بعد رحيل والدنا..فكرت على صغر سني أن هؤلاء لا يجتمعون إلا ّ لأمر هام ،
    تتوهج الذكرى بقوة لا يفصلني عنها حجاب،يستدعون والدتي بعد تناولهم العشاء،تحضر مكسوفة على مرأى مني مرتبكة حائرة في أدنى درجات ضعفها، يسألها المختار بلغة قوية:
    - أتوافقين سيدتي على بيع هذا البيت لفلان؟
    تلعثمت قليلا تهدج صوتها،قالت مستعينة بحركة من رأسها:
    - نعم سيدي أوافق..
    قالتها بصوت آت من أصقاع نائية..
    حين خرجت التقفتني بين ذراعيها ضمتني بقوة وأسرعت إلى الحديقة لتنفجر بشهيق موجع وأنا بين يديها..
    توهجت الذكرى في داخلي أوشكت أن تشعل حريقا في الذاكرة..
    وبين أوراق شجرة الجوز العتيقة كان القمر يطل أميرا للحكايات الكامنة.




    العربي الثابت
    التعديل الأخير تم بواسطة العربي الثابت; الساعة 31-08-2010, 02:04.
    اذا كان العبور الزاميا ....
    فمن الاجمل ان تعبر باسما....
  • ربيع عقب الباب
    مستشار أدبي
    طائر النورس
    • 29-07-2008
    • 25792

    #2
    اغترف صديقي من هذا النبع
    من هذا الحميم المختوم بخاتم الوقت
    و لكن لا يخون الذاكرة
    اغترف .. لا تتوقف عنه
    و لا تمل حضوره .. إنه نحن .. انزع قشرتك ليبدو اللب أقوى مضاء و قوة
    فهنا مكمن الإبداع و الدهشة
    هنا يطل طفل برأسه
    و رجل بقلبه المجروح الذى مازال ينزف
    حتى و إن ضاعت منك أسباب هذا الحزن !!
    لم كان الأمر ، و كأنه توديع روح إنسان عزيز ؟
    هذا ما عشته فى المشهد بكامل طقوسه ، ربما الشاى فى قبضة الأخ الكبير
    هو من قتل روح القتامة إلى حد ما !!

    أحببت ما كتبت و أنتظر من ذات الكأس جرعات
    شكرا على الإهداء ، الذى لا أدرى إن كنت أستحقه أم لا
    لكنها روحك الطيبة و أخوتك الصادقة

    محبتي
    sigpic

    تعليق

    • آسيا رحاحليه
      أديب وكاتب
      • 08-09-2009
      • 7182

      #3
      جميل هذا النص..زاد من جرعة الحزن عندي .
      أحيّيك .
      نعْم المهدي و المهدى إليه .
      يظن الناس بي خيرا و إنّي
      لشرّ الناس إن لم تعف عنّي

      تعليق

      • إيمان الدرع
        نائب ملتقى القصة
        • 09-02-2010
        • 3576

        #4
        أيها العربيّ الثابت..
        دائماً الحزن لديك ينفرد بسحابات فضيّةٍ تملأ الكون شجناً..
        غير أنه اليوم أكبر..
        تقلّبت به السنون...وما زال أكبر..
        استوطن الذاكرة..بلا انفكاك أو رحيل..
        وانسال إبداعاً على قلمك..
        يا ملك الحزن الجميل...
        بورك بقلمك..
        يستحقّ ربيعنا أن تُهدى إليه كلّ الحروف
        فكم أفرحته نتاجاتنا...وكم شجّعنا
        دُمتَ بهناءٍ وسعادةٍ..
        وكلّ عامٍ وأنت بخيرٍ

        تعيش وتسلم يا ااااااوطني ...يا حبّ فاق كلّ الحدود

        تعليق

        • خالد يوسف أبو طماعه
          أديب وكاتب
          • 23-05-2010
          • 718

          #5
          الجميل العربي الثابت
          نص جميل ومتقن وجذاب
          حلو جدا هذا السرد المتناسق
          سيدي الفقر ربما يفعل كل شيء!!
          هذه الحالات نراها في كل العصور
          وعلى مدى أيامنا التي سبقت رمضان
          وهذا هو تقصيرنا تجاه هؤلاء النفر من الناس
          الذين لا يمدون أيديهم لطلب العون والمساعدة
          على كل هذا حال كثير من الناس


          لم يشاركهم الركض هذا المساء ،تكوّم قرب أمه وهي تصب الشاي في كؤوس ثلاث على مائدة عارية إلا من رغيف واحد ،وماء.
          هاله منظر أخيه الأكبر وهو يصب بنهم كؤوس الشاي في جوفه صبّا،آلمته حركات تجاعيد حنك أمه وهي تلوك مضغة خبز حاف..

          نباح كلاب بعيدة يدغدغ سمعه،حفيف أوراق شجرة الجوز العتيق ترفرف على هبات عليلة لنسيم رطب، فتسقط ما علق بها من بلل،إيقاع حبات المطر خفّ ، وبدا له القمر أكثر وحشة وقنوطا،أو أن الصور التي تساقطت في داخله أوحت له بذلك...
          اخي العربي لماذا اختلف الضمير هنا ؟
          لو بقيت بنفس الوتيرة كلها للسارد وبنفس الضمير
          لكان أجمل وأمتن للنص وهذه رؤيتي ولست مجبر في الأخذ بها
          مودتي
          sigpicلن نساوم حتى آخر قطرة دم فينا

          تعليق

          • العربي الثابت
            أديب وكاتب
            • 19-09-2009
            • 815

            #6
            [quote=ربيع عقب الباب;528958]اغترف صديقي من هذا النبع
            من هذا الحميم المختوم بخاتم الوقت
            و لكن لا يخون الذاكرة
            اغترف .. لا تتوقف عنه
            و لا تمل حضوره .. إنه نحن .. انزع قشرتك ليبدو اللب أقوى مضاء و قوة
            فهنا مكمن الإبداع و الدهشة
            هنا يطل طفل برأسه
            و رجل بقلبه المجروح الذى مازال ينزف
            حتى و إن ضاعت منك أسباب هذا الحزن !!
            لم كان الأمر ، و كأنه توديع روح إنسان عزيز ؟
            هذا ما عشته فى المشهد بكامل طقوسه ، ربما الشاى فى قبضة الأخ الكبير
            هو من قتل روح القتامة إلى حد ما !!

            أحببت ما كتبت و أنتظر من ذات الكأس جرعات
            شكرا على الإهداء ، الذى لا أدرى إن كنت أستحقه أم لا
            لكنها روحك الطيبة و أخوتك الصادقة

            أخي الجميل ربيع...
            حاولت تسلق قمم ذلك الألم فما استطعت....
            أن يصبح لبيتك مالك آخر غيرك دون أن تدري فتلك قمة الوجع الذي لا ينتهي...
            ربما رصدت الآلم من زاوية امتدت فيها الظلال كثيرا فغابت أسباب الآلم، لكن مرورها على كل عتبات البيت وسحب الدمع في عينيها...وعودته من ساحات البلدة في ذروة ألعاب أقرانه ....ووقوفها المرتبك وهي تقول :أوافق على البيع..كل هذا كان يجسم حجم الألم القادم.
            فقدان بيت...فقدان وطن....
            تحايا تعبق بالرياحين لروحك الطيبة..
            وكل رمضان وانت بألف خير....
            محبتي وتقديري
            العربي
            التعديل الأخير تم بواسطة العربي الثابت; الساعة 05-09-2010, 19:57.
            اذا كان العبور الزاميا ....
            فمن الاجمل ان تعبر باسما....

            تعليق

            • أميرة فايد
              عضو الملتقى
              • 30-05-2010
              • 403

              #7
              نص جميل ومؤلم .. لجراح الطفولة نقوش غائرة في الروح تطفو على سطح الوعي حين يثيرها منبه ما..قد تكون كلمة او مشهد او حتى رائحة. تقديري وتحيتي .كل عام وانت بخير وسعادة.
              [SIZE=3] [B][FONT=Simplified Arabic]http://amirafayed.maktoobblog.com/
              [/FONT][/B][/SIZE]

              تعليق

              يعمل...
              X