الليل والقمر.. وحبات المطر المنسكبة من غيمة وحيدة تعبر أديم سماء كئيبة ..
لوعتني هذه الصورة وأنا مستلق تحت شجرة الجوز العتيقة أسمع مصافحة حبات المطر للأوراق ،وهي تشدو على نفحات من هواء عليل،لسعتني سيجارتي المنسية بين أصابعي فاستفقت من خدر ذكرى طفولة بعيدة...انقضت في عراء..
تركت رفاق الحارة وجئت البيت جريا،دخلت لاهثا ،صدمني مرأى أمي وهي تلف أركان البيت ،وبيدها تمسك آنية البخور وهي تدندن بعيون دامعة وتصلي على النبي ،ارتميت على صدرها ،ضمتني كما لم تفعل من قبل،ارتفع شهيقها،امتد إلى داخلي،فارتج كياني ،وانخرطنا في بكاء حارق...
لم أكن لحظتها أدرك ما يجري غير أنني فهمت أن هذا المساء استثنائي يتميز عن باقي أمسيات رمضان ذلك العام،
فهذه والدتي التي تكون في هذه الآونة منهمكة في إعداد وجبة الإفطار وهي تسابق عقارب الساعة تبدو وكأنها غير معنية بذلك،غارقة في حزن جلل ، في عينها يتكون إعصار رهيب .
حين ارتفع آذان المغرب ، في سماء القرية وسط جلبة الأطفال المتراكضين نحو البيوت، يغمرهم الفرح بموائد إفطار شهية..
لم يشاركهم الركض هذا المساء ،تكوّم قرب أمه وهي تصب الشاي في كؤوس ثلاث على مائدة عارية إلا من رغيف واحد ،وماء.
هاله منظر أخيه الأكبر وهو يصب بنهم كؤوس الشاي في جوفه صبّا،آلمته حركات تجاعيد حنك أمه وهي تلوك مضغة خبز حاف..
نباح كلاب بعيدة يدغدغ سمعه،حفيف أوراق شجرة الجوز العتيق ترفرف على هبات عليلة لنسيم رطب، فتسقط ما علق بها من بلل،إيقاع حبات المطر خفّ ، وبدا له القمر أكثر وحشة وقنوطا،أو أن الصور التي تساقطت في داخله أوحت له بذلك...
دخلت الجارة عائشة وقد عصبت على جبينها بشكل يوحي أنها في حالة سيئة مسحت وجوهنا بنظرات غريبة حدّقت في عينيّ بإمعان ..غابت نظرتها خلف دمعة تطل غصبا عنها تلقفتها بمنديلها.. توجهت إلى أمي مخاطبة:
- يا الله ...قومي فالكثير ينتظرنا قبل حضورهم..
قام أخي الكبير غير مبال أخذ معه كأس شاي وغاب في ظلام الحديقة،تلمست أمي شمعتها، أخرجتها من محزمها أشعلتها ..دخلت لتحضر لوازم العشاء ..وفهمت أننا نستعد لاستقبال ضيوف غير مرغوب فيهم...
بعد صلاة العشاء والتراويح بدأوا يفدون على البيت إلى أن بلغ عددهم إحدى عشر رجلا من أعيان القرية، توسط المختار مجلسهم.... أخي واقف على خدمتهم بصفته رجل البيت بعد رحيل والدنا..فكرت على صغر سني أن هؤلاء لا يجتمعون إلا ّ لأمر هام ،
تتوهج الذكرى بقوة لا يفصلني عنها حجاب،يستدعون والدتي بعد تناولهم العشاء،تحضر مكسوفة على مرأى مني مرتبكة حائرة في أدنى درجات ضعفها، يسألها المختار بلغة قوية:
- أتوافقين سيدتي على بيع هذا البيت لفلان؟
تلعثمت قليلا تهدج صوتها،قالت مستعينة بحركة من رأسها:
- نعم سيدي أوافق..
قالتها بصوت آت من أصقاع نائية..
حين خرجت التقفتني بين ذراعيها ضمتني بقوة وأسرعت إلى الحديقة لتنفجر بشهيق موجع وأنا بين يديها..
توهجت الذكرى في داخلي أوشكت أن تشعل حريقا في الذاكرة..
وبين أوراق شجرة الجوز العتيقة كان القمر يطل أميرا للحكايات الكامنة.
لوعتني هذه الصورة وأنا مستلق تحت شجرة الجوز العتيقة أسمع مصافحة حبات المطر للأوراق ،وهي تشدو على نفحات من هواء عليل،لسعتني سيجارتي المنسية بين أصابعي فاستفقت من خدر ذكرى طفولة بعيدة...انقضت في عراء..
تركت رفاق الحارة وجئت البيت جريا،دخلت لاهثا ،صدمني مرأى أمي وهي تلف أركان البيت ،وبيدها تمسك آنية البخور وهي تدندن بعيون دامعة وتصلي على النبي ،ارتميت على صدرها ،ضمتني كما لم تفعل من قبل،ارتفع شهيقها،امتد إلى داخلي،فارتج كياني ،وانخرطنا في بكاء حارق...
لم أكن لحظتها أدرك ما يجري غير أنني فهمت أن هذا المساء استثنائي يتميز عن باقي أمسيات رمضان ذلك العام،
فهذه والدتي التي تكون في هذه الآونة منهمكة في إعداد وجبة الإفطار وهي تسابق عقارب الساعة تبدو وكأنها غير معنية بذلك،غارقة في حزن جلل ، في عينها يتكون إعصار رهيب .
حين ارتفع آذان المغرب ، في سماء القرية وسط جلبة الأطفال المتراكضين نحو البيوت، يغمرهم الفرح بموائد إفطار شهية..
لم يشاركهم الركض هذا المساء ،تكوّم قرب أمه وهي تصب الشاي في كؤوس ثلاث على مائدة عارية إلا من رغيف واحد ،وماء.
هاله منظر أخيه الأكبر وهو يصب بنهم كؤوس الشاي في جوفه صبّا،آلمته حركات تجاعيد حنك أمه وهي تلوك مضغة خبز حاف..
نباح كلاب بعيدة يدغدغ سمعه،حفيف أوراق شجرة الجوز العتيق ترفرف على هبات عليلة لنسيم رطب، فتسقط ما علق بها من بلل،إيقاع حبات المطر خفّ ، وبدا له القمر أكثر وحشة وقنوطا،أو أن الصور التي تساقطت في داخله أوحت له بذلك...
دخلت الجارة عائشة وقد عصبت على جبينها بشكل يوحي أنها في حالة سيئة مسحت وجوهنا بنظرات غريبة حدّقت في عينيّ بإمعان ..غابت نظرتها خلف دمعة تطل غصبا عنها تلقفتها بمنديلها.. توجهت إلى أمي مخاطبة:
- يا الله ...قومي فالكثير ينتظرنا قبل حضورهم..
قام أخي الكبير غير مبال أخذ معه كأس شاي وغاب في ظلام الحديقة،تلمست أمي شمعتها، أخرجتها من محزمها أشعلتها ..دخلت لتحضر لوازم العشاء ..وفهمت أننا نستعد لاستقبال ضيوف غير مرغوب فيهم...
بعد صلاة العشاء والتراويح بدأوا يفدون على البيت إلى أن بلغ عددهم إحدى عشر رجلا من أعيان القرية، توسط المختار مجلسهم.... أخي واقف على خدمتهم بصفته رجل البيت بعد رحيل والدنا..فكرت على صغر سني أن هؤلاء لا يجتمعون إلا ّ لأمر هام ،
تتوهج الذكرى بقوة لا يفصلني عنها حجاب،يستدعون والدتي بعد تناولهم العشاء،تحضر مكسوفة على مرأى مني مرتبكة حائرة في أدنى درجات ضعفها، يسألها المختار بلغة قوية:
- أتوافقين سيدتي على بيع هذا البيت لفلان؟
تلعثمت قليلا تهدج صوتها،قالت مستعينة بحركة من رأسها:
- نعم سيدي أوافق..
قالتها بصوت آت من أصقاع نائية..
حين خرجت التقفتني بين ذراعيها ضمتني بقوة وأسرعت إلى الحديقة لتنفجر بشهيق موجع وأنا بين يديها..
توهجت الذكرى في داخلي أوشكت أن تشعل حريقا في الذاكرة..
وبين أوراق شجرة الجوز العتيقة كان القمر يطل أميرا للحكايات الكامنة.
العربي الثابت
تعليق