[align=center]لـو لم تكُنْ أمُّ اللغـاتِ هيَ المُنى لكسرتُ أقلامي وعِفتُ مــــــــــِدادي
لغـةٌ إذا وقعـتْ عـلى أسماعِـــناكانتْ لنا برداً على الأكبــــــــــــــــاد
ستظل رابطةً تؤلف بينــــــــــنا فهيَ الرجـاءُ لناطـقٍ بالضّـــــــــــادِ
حليم دمّوس (1888-1957)م[/align]
[align=justify]تقديم المقدمات:
وقبل...، يأتي هذا الموضوع الأول لي هنا في ملتقى اللغة العربية الغراء منسجماً مع توجهاته،ومواءماً لما نريده للغة عظيمة عظيمة تنطق بها الأمةالأمة العربية ،وذلك ضمن أنشطة ثقافية كثيرة سوف ننهض بها ،حفاظاً على اللغة العربية ودرءاً للمخاطر عنها ،وبحثاً عن السبل التي تشيع استعمالها وتسهل استخدامها في مجالات الحياة المختلفة ،لتواكب لغات عالم اليوم وتصبح لغة منتجة للمعارف ،والحقيقة أن المخاطر والتحديات التي تواجه اللغة العربية في هذه المرحلة من الزمن ليست جديدة فقد واجهت لغتنا مخاطر متعددة منذ تمزق الوطن إلى دويلات تئن تحت وطأة المستعمر الأعجمي الغاصب ،وتصبح المخاطر هذه الأيام أشد شراسة وفتكاً إزاء ما تعانيه العربية من عقوق أبناءها وما حمله النظام العالمي الجديد من متغيرات كالعولمة وسيطرة وسائل الاتصالات الغربية على العالم والثورة الرقمية حتى أصبح العالم بمثابة قرية كونية صغيرة، وتسارع إنتاج المعارف بلغات العالم المتقدم حتى أصبح بإمكاننا القول أن اللغة العربية اليوم مستقبلة ليس لها في إنتاج المعرفة نصيب ،لقد أصبحت قديمةً جداً ومتخلفةً تلك النظرة إلى اللغة على أنها أداة للقول أو وسيلة للتعبير ،بل إن البحث العلمي اليوم أثبت بما لايقبل شكاً أن اللغة هي أداة تلقي المعرفة وأداة التفكير ورمزه وتجسيده،(اللغة هي الفكر عندما يعمل) أي ليس هناك فكر مجرد عن حامله الموضوعي :الرموز اللغوية ،بمقدار ما تكون اللغة دقيقة وحية ومبرأة عن الفوضى يكون الفكر كذلك أي أنها علاقة عكسية ،ندرك ذلك من الترابط الوثيق بين اللغة وعلم النفس اليوم،كما أن هناك بعداً اجتماعياً للغة لم ينل نصيبه من البحث إلى يومنا هذا،فمشكلة اللغة العربية اليوم هي مشكلة (فكرية-نفسية-اجتماعية)ولم ولن تكون في يوم من الأيام مجرد مشكلة تعبيرية كما يتوهم الكثير من الناس.
في واقعنا اللغوي:
حقيقةً أن الحديث حول واقع اللغة العربية اليوم يتخذ أبعاداً شديدة التعقيد والتداخل،نظراً لأبعاد التجربة القومية والحضارية التي تخوضها أمتنا العربية اليوم، فالعرب اليوم أمة مجزأة متخلفة تبحث عن مكان لها على مائدة الحضارة العالمية المعاصرة.. ،لذلك فإن المشكلة اللغوية اليوم وثيقة الصلة بالمسألتين القومية والحضارية ،بكل ما تحملان من سمات وأبعاد مميزة أهمها:
ــــ البعد القومي الوحدوي:
يدرك كل عاقلٍ أن أي تطورٍ في قطرٍ من الأقطار العربية لابد من أن يكون منسجماً ومتجاوباً و ومتناغماً مع التطور في الأقطار العربية الأخرى ،وهذا الكلام أقوله فيما لو أنني أرفض القول بأن التطور لا يمكن أن يحدث إلا تحت غطاء الدولة العربية الواحدة ،وهو رأي أغلب المفكرين و القوميين العرب ،لذلك فإن العمل على إيجاد الحل لأي معاناة لغوية لابد وأن يتم في محيط عربي ،وهنا لاينبغي أن نعتبر التجزئة عائقاً أو قيداً لايستهان به موجهين اهتمامنا إلى تفاوت الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية بين أقطار وطننا على هذا النحو الذي نعرف، إذن حالة التجزئة يجب أن تكون نقطة انطلاق نوحد من خلالها العمل اللغوي القومي لتكون اللغة العربية خادماً لهدف الوحدة العربية المنشودة الذي نسعى إليه نحن وأجيالنا القادمة.
ــــ البعد الاجتماعي :
تعتبر الوظيفة الاجتماعية للغة أهم وظائفها على الإطلاق فهي وسيلة التفاهم والتواصل الاجتماعي بين جميع أبناء الأمة الواحدة ،وهنا لابد وأن ينتبه الدارس إلى تفاوت التركيب الطبقي للمجتمع العربي بين صغير وكبير ومثقف وأمي وابن البادية وابن الحاضرة وهذا كله يشكل مسؤولية كبرى يقع على عاتق اللغة تحملها ذاك أنها مطالبة بخدمة الحاجات اليومية لكل هذه الشرائح على ما بينها من تفاوت طبقي وهي مهمة صعبة لكنها ممكنة وغير مستحيلة على لغة مبدعة خلاقة كالعربية.
ــــ البعد الثقافي :
وهو أشد الأبعاد تعقيداً حيث يتداخل فيه الاجتماعي والتاريخي لأمة تتمايز الطبقات الاجتماعية لأبنائها وهي إلى ذلك من أشد الأمم فخراً بماضيها وتاريخها وتراثها في الوقت الذي تتطلع شوقاً فيه إلى المشاركة والاندماج في الحضارة العالمية المعاصرة ،وهنا يقع أبناء العربية في حيرة من أمرهم بين الولاء لماضيهم والالتزام بمتطلبات حاضرٍ لايرحم ،وهنا أبين لكم وبكل صدق أنه لاتوجد لغة تصلح ببقائها على حالها لكل زمان ومكان ،وكل من يصر على ذلك فهو يمارس فن تعذيب النفس والضمير،والمطلوب فقط إزاء هذه المشكلة هو تحقيق التوازن بين الماضي والحاضر هذا فيما يخص مشكلة الأصالة والمعاصرة ،لكن تطفو على السطح مشكلة أخرى هي التعددية الثقافية في الوطن العربي،الذي خضعت أقطاره لقوىً استعمارية متعددة ،خلقت تبايناً ثقافياً بين أبناء الشعب العربي الواحد،واللغة العربية اليوم مطالبة أن ترضي جميع الأذواق وتتفاعل معها حتى لاتتحول إلى جسد ميت غير قادرٍ على الخلق والإبداع والتوليد،ولربما أن المسألة كانت أشد بساطة لو كانت هناك ثقافة عربية واحدة،تكون لغتنا العربية لسانها المعبر لكن المشكلة اليوم أن اللغة العربية مطالبة أن تنشئ هذه الثقافة كما هي مطالبة أن تبني نفسها من الداخل وهي إلى ذلك مطالبة بأن تكون حاضنةً للتفاعل الثقافي المنشود بين أبناء العربية.
ملامح المشكلة اللغوية:
الحقيقة أن المشكلة اللغوية موجودة وقائمة ،لكن الكثير من الباحثين يرفض رؤيتها ،ويرجع ذلك في نظري إلى سببين الأول أن البعض ليس على صلة بهذه المشكلة ربما لظروف وطبيعة عمله ،والثاني أن حب أبناء هذه اللغة لها يجعلهم يضعونها فوق مستوى أي شبهة،سواءً أكانوا لغويين أو هواة ومهتمين ،المشكلة أيها الأحبة موجودة لكنها كما أقول دائماً قابلة للحل، والإقرار بها لايعني بحال من الأحوال الدعوة إلى التخلي عن اللغة العربية أو إبدالها بالعامية أو الأجنبية فهذه أفكار مسمومة لامكان لها بين عرب اليوم،فقد أثبتت العربية أنها لغة علم وحضارة قادرة على الصمود أمام عاديات الزمن والتصدي لأي خطر حقيقي يواجهها،لقد كان أساتيذنا الأجلاء يرفضون الحديث عن المشكلة اللغوية في زمن كنا فيه تحت السيطرة الاستعمارية وكانت أي دعوة للإصلاح في ذلك الوقت تحمل تشكيكاً في اللغة وقيمتها إثارة الشكوك حولها لاستبدالها بلهجة عامية أو لغة أجنبية..المهم أن كل هذه الدعوات أصبحت عارية اليوم لاقيمة لها...وبما أن أمتنا قد تجاوزت مرحلة الحفاظ على اللغة إلى مرحلة الإصلاح اللغوي، فإن من واجب سدنة اللغة تقديمها إلى أبناءها هينةً لينةً سهلةً مستساغةً ....
أول معلم يطالع الدارس للمشكلة اللغوية هو عدم القدرة على تحديد المقصود باللغة العربية الفصحى اليوم،فهل هي لغة الجرائد والإذاعات والسياسيين؟ ،وما أبعد هذه عن النموذج اللغوي الذي نتطلع إليه ،أم أنها لغة خطباء وأئمة المساجد ومحققي كتب التراث العربي وأساتذة اللغة العربية في جامعاتنا؟وما أبعدها عن النموذج العملي الذي نصبو إليه ،أم هي لغة الترجمات التي يقرؤها شبابنا المتطلع إلى معرفة ثقافة الآخر وكيف يفكر؟
وهنا يبرز سؤالٌ منهجي في إطار البحث:ماهو المرجع في كل هذا؟هل هو مجامع اللغة العربية ؟ أم الباحثون والمفكرون؟ أم المترجمون؟
إننا لاننكر وجود اللغة العربية الحديثة،حتى منتصف القرن الماضي كانت لغة الأديبين العظيمين طه حسين وعباس محمود العقاد هي المرجع والمقياس المتعارف عليه لكننا في هذه الأيام نفتقد البوصلة التي تحدد الهدف أو سمت هذا الهدف،فليس بيننا اليوم من يقبل أن تكون لغة أيٍ من الأدباء المعاصرين هي المقياس ،ناهيك عن تلك الفروق بين لغة السياسة ولغة الثقافة ولغة الحياة اليومية،لذلك فالحاجة ملحة إلى مقياس لغوي لاسيما في مجال التركيب والصرف واستخدام المفردات، ولم أذكر النحو لأن مقياس النحو شديد الوضوح ومع ذلك فما أكثر ما يكون عرضة للنقاش في كثير من الأحيان.
بعض جوانب المشكلة اللغوية :
إن أي لغة في العالم تحمل ثلاثة وجوه(عملي- علمي – تربوي)ولو قارنا حال هذه الوجوه في اللغة العربية الفصحى مع غيرها من لغات العالم لرأينا العجب العجاب ،وتفصيل ذلك على النحو التالي:
1-الوجـــه العمــــــلي:
على الرغم من أن اللغة العربية قد قطعت مراحلاً من التطور لتصبح لغة الحياة اليومية،لكن من الصعوبة بمكان القول بأن الفصحى هي لغة الحياة العملية ،وأنا لاأقصد هنا أن تكون العربية الفصحى لغة الحديث اليومي فذلك أمرٌ من الصعوبة بمكان،لأننا لانستطيع الوصول إليه إلا بعد رفع مستوى التعليم في البلاد العربية كماً وكيفاً ،لكن المقصود بالجانب العملي هو تعاملاتنا التجارية والاقتصادية والقانونية والسياسية والتعاقدية وهنا تكمن الازدواجية فنحن نفكر في كل هذه المسائل بالعامية ومن ثم نترجم ما فكرنا حين يحتاج الأمر إلى توثيق،أي أن اللغة السماعية عندنا تحظى بمصداقية وقوة لاتملكها اللغة المكتوبة،ومرجع ذلك كما بينت أننا نفكر بالعامية..وهذه المسألة تدعونا إلى البحث عن السبل التي تمكننا من الاطمئنان فعلاً إلى أن اللغة الفصحى هي لغتنا التي نفكر ونتعامل بها،لااللغة التي نحترمها ونترجم إليها،فمثلاً من مظاهر الازدواجية التي ألفت النظر إليها:
ا – إن اللغة متفاوتة في البلاد العربية وتحمل تفسيرات وتأويلات متعددة لا يمكن قبولها في لغة تستخدم للتداولات المالية والتجارية ،وكذلك لغة التعاقدات التي تختلف مصطلحاتها وتراكيبها من دولة عربية إلى دولة أخرى،فصيغة الوكالة التي يصدرها كاتب العدل في دولة عربية لايمكن استخدامها في دولة عربية أخرى مثلاً ،ناهيك عن اختلاف لغة المشرق العربي عن لغة المغرب العربي،ومشاكل التعريب الذي أرى أنه وثيق الصلة بمشكلتنا اللغوية.
ب- هذه اللغة غير سليمة بدرجة كافية تجعلنا نطمئن إليها حيث يعتورها الخطأ الذي من الممكن أن يقلب مضمونها رأساً على عقب ،لولا أن الناس قد تعارفوا على معانيها وهم إلى ذلك يستنتجون المعنى في كثير من الأحيان استنتاجاً ،ومثال ذلك أننا لو أخذنا وثيقة رسمية عربية وقمنا بتفسيرها فإننا قد نجد الكلام قد يقود إلى غير المقصود منها،ومثال ذلك كتابة الأعداد بلغة عربية صحيحة وما أكثر المتلاعبين بها.
ج- إن لغة الحياة الاقتصادية في المعامل والمصانع تجعلنا نعيش في حالة قلق شديد ،نتيجة استخدام المفردات والمصطلحات التي تعوزها في كثير من الأحيان الدقة والضبط ،أو قد تكون ترجمة حرفية للغة أجنبية ،وهذه ليست القاعدة لكن تتفاوت المسألة من قطر عربي إلى آخر حسب تجربة التعريب فيه،بل إن هناك بلداناً ما زالت تستخدم اللغة الأجنبية جزئياً أو كلياً ،وبالتالي فتعاملات مؤسساتها الحكومية تعتمد هذه اللغة ،وهو خطر حقيقي قائم وموجود في كثير من البلدان العربية.
2ــــ الـــوجـــــه العـلمـــــــــــــي:
يسعى العرب إلى أن تكون لغتهم لغة علم وحضارة كما كانت طيلة عشرة قرون خلت من الزمن...، وقد دخل العرب العصر الحديث من الصفر،فحين بدأت النهضة في القرن التاسع عشر لم تكن الكتابة العلمية العربية شيئاً مذكوراً،لكن سرعان ما استنفر العرب تراثهم اللغوي العلمي محيين إياه ليكون موضع التطبيق:
أــــ تتفاوت تجربة الأقطار العربية في هذه المسألة حتى إنه ليصعب إعطاء صورة دقيقة لها،فقد تمكنت أقطار عربية من جعل اللغة العربية لغة العلم فيها بنسبة تقارب المائة من مائة ،وبالمقابل هناك أقطار عربية لاتزال لغة جامعاتها أجنبية مائة بالمائة ،كما أن هناك أقطاراً عربية تخلط بين اللغة العربية والأجنبية.. وخطورة هذه المسألة تكمن في كثيراً من الصعوبات سوف تقف حجر عثرة في طريق تفاعل الطاقات العربية لتسهم في تقدم العلم الحديث.
ب- هناك مشكلة ازدواجية بين ممارسة التفكير العلمي والبحث بلغة أجنبية ومن ثم التعليم العلمي والكتابة باللغة العربية، حيث أن معظم الأكاديميين العرب تلقوا تعليمهم في جامعات أجنبية ،فيطلب منهم أن يدرسوا بلغة ويعمقوا اختصاصهم العلمي بهذه اللغة ومن ثم التعليم باللغة العربية ،وهي مشكلة تعاني منها معظم دول العالم المتخلف ،لكنها في وطننا تأخذ طابعاً أكثر حدة يعوق تطور اللغة العربية العلمية نحو ما نطمح إليه.
ج – لايمكن أن يغفل الباحث عن مشكلة المصطلحات التي تعتبر الحاجة إليها يوميةً وملحةً وماسةً لاسيما مع اتساع الاستعمالات العلمية للغة العربية ومن الواضح أننا قطعنا أشواطاً سليمة في هذا الاتجاه حيث تتقبل لغتنا المصطلحات العالمية المتعارف عليها دون أي إشكال وهي قادرة على توليد كلمات مناسبة للمصطلحات الأقل شيوعاً ، وذلك بفضل جهود مجامع اللغة العربية في دمشق والقاهرة وبغداد والجامعات وغيرها ،وعلى الرغم من أن ذخيرتنا من المصطلحات جيدة فلا يزال هنالك خلاف حول عدد كبير من المصطلحات الأساسية ،وما نلحظه اليوم من عمليات استبدال لمصطلحات بمصطلحات أدق، الحقيقة أنه ينبغي علينا:
-توحيد المصطلحات بين جميع أقطار وطننا العربي ،ليتمكن أبناء الأمة العربية من تفادي أي إشكال قد ينشب نتيجة تضارب هذه المصطلحات .
-الوقوف في وجه المصطلحات التعسفية التي تصدر عن أشخاص لايملكون أي خبرة لغوية ،ولتتولى جهات علمية مختصة مسألة تغطية الاحتياجات الجديدة مع الاهتمام بالنواحي العلمية0
3 ــــ الوجــــــــــــه التـــــربــــــــوي:
وهنا بيت القصيد ،حيث أن أي لغة في العالم –مهما كانت معقدة وصعبةً – يمكن للإنسان تعلمها وإتقانها واكتسابها إذا توفرت الطريقة التربوية المناسبة ،ومن أخطر ما تعانيه اللغة العربية اليوم عدم خدمتها تربوياً ،ناهيك عن تخلف طرائق تعليمها،حيث أنها في هذا المجال أتعس لغات العالم وأقلها حظاً ،ولا أظنني في حاجةٍ لأن أثبت لكم أن تعليم اللغة العربية في انحدار مستمر ،وأن نسبة الأمية اللغوية تزيد عاماً بعد عام ،وليت المسألة تبقى منحصرة في الطلاب أو في نواحٍ شائكةٍ كالندبة والاختصاص والنداء ،لكنها تتجاوز ذلك إلى التراكيب والقدرة على التعبير والكتابة والإلقاء والمناقشة ،وهي مشكلة يتفرد بها أبناء العربية إذ لانراها في أغلب لغات العالم الحية ،ولكم أتمنى أن يكون حديثي هذا من قبيل المبالغة لكنني موقنٌ أن الواقع أشد مرارة ،وللأمانة العلمية أقول أننا نعاني من فشل ذريع في تعليم اللغة العربية وهو فشلٌ تربوي اجتماعي، جعل اللغة العربية بالنسبة للناطقين بها وكأنها(لغةٌ أجنبية) يدرسها الطالب ليحصل على علامة في الامتحان وليست سلاحاً نحمله معنا في معارك الحياة المختلفة.
اللغة العربية غير مخدومة لغوياً :
ما أكثر ما نتحدث ملء أشداقنا عن جمال لغتنا وسحرها ،وكم نتغنى بجمالها وسحرها ،وما أكثر ما نطلق عليها من الألقاب والصفات ،فهي العربية الشريفة لغة القرآن الكريم ،لغة أهل الجنة ،أم اللغات وأقدرها على توليد الألفاظ عن طريق الاشتقاق ،وهي أحلى لغات العالم جرساً وأجلاها بياناً...وهي إلى ذلك رمز الوحدة القومية وحامية الحضارة والتراث العربي،وبها نقرأ نثرنا وشعرنا ومديحنا وهجائنا وغزلنا أيضاً ،كل ذلك وغيره صحيح...بل الحق أكثر من ذلك لكن اسمحوا لي بسؤال:
-ماذا فعلنا لهذه اللغة لكي نصونها ونطورها ونمكنها من مجابهة التحديات والأخطار التي تفد عليها من كل حدب وصوب ؟
-ماذا فعلنا لجعل لغتنا قادرة على الصمود أمام منافسة لغات العالم الحية في عالم تحكمه شريعة الغاب فلا يرحم إلا القوي ؟
أيها الأحبة ليس أبناء العربية من يعقون لغتهم لكننا نحن من يفعل باحثين وكتاباً ومفكرين ،أبناؤنا كغيرهم من أبناء الأمم الأخرى يتعلمون ما يحبون ،لكننا نحن الذين لم نغرس فيهم حب العربية... أين هي قصائدكم؟؟ ......التي تجذر في أبنائكم حب اللغة العربية وتدفعهم إلى حمايتها والذود عن حياضها هيا أضيفوها إلى الملتقى ، أسمعونا وأطربونا جزاكم الله عن الإحسان إحسانا وعن السيئات عفواً وغفراناً،
وبما أننا وصلنا إلى هذه النقطة فلنوضح ما قصدنا بخدمة اللغة وتطويرها، الحقيقة أن أمتنا وبجهود المخلصين من أبنائها تمكنت من الحفاظ على اللغة العربية ضد كل محاولات التتريك والفرنسة... ،وإذا كنا قد تمكنا من تجاوز مرحلة المحافظة على اللغة فواجبنا اليوم العمل على خدمتها وتطويرها وإصلاحها وألفت النظر إلى وجود اتجاهين واضحين في هذا المجال لهما حججهما السليمة وأفكارهما القويمة:
ــــــــــــــــ يرفض الاتجاه الأول أي تطوير أو تعديل أو تحوير أو تبديل بشأن اللغة التي وصلتنا عن طريق الأجداد ،فالسلف لم يترك للخلف شيئاً ،ويرى أنصار هذا الاتجاه أن العيب فينا فمتى أصلحنا نفوسنا صلح حال لغتنا،كما أنهم يرون أن القيام بأي عملٍ إصلاحي لغوي من شأنه أن يجهز على هذا الصرح الخالد اللغة العربية،مهما اختلفت الذرائع التي يقدمها أنصار الاتجاه الآخر.
ـــــــــــــــــ أما الاتجاه الثاني فهو تيار الأغلبية الصامتة وهم لايمانعون في إدخال الإصلاحات اللغوية والتطويرية في اتجاه جعلها أكثر مرونة وليونة ويسراً أسوة بجميع اللغات الحية في العالم ، وبين أنصار هذا الاتجاه من الاختلافات ما لايمكن حصره ،فمنهم من يرى ضرورة الإصلاح البسيط فقط،ومنهم من يغالي في إدخال تعديلات على القواعد العربية كتوحيد جموع التكسير وإيجاد حل لمشكلة الممنوع من الصرف الذي لم يعد أحدٌ يتقن منعه إلا من رحم ربي.
والمتأمل في كلٍ من الاتجاهين يرى أن كل طرفٍ يرمي الطرف الآخر بعشرات الاتهامات أبسطها التحجر العقلي والجمود والخيانة القومية وعداء الإسلام والعروبة...
نحن في الجمعية الدولية الحرة للمترجمين واللغويين العرب ندعو إلى نبذ هذه الاتهامات وتجنب جميع الخلافات الشائكة والمعقدة ونرفع صوتنا مطالبين بخدمة اللغة العربية وصيانتها وإننا لنطالب وبشدة:
1-وضع معجم عربي عصري حديث،يكون معترفاً به ومقبولاً من الجميع أسوةً ببقية لغات العالم الحية مثل (أوكسفورد) في بريطانيا ومثل (لاروس)في فرنسا،وكانا يدرك صعوبة التعامل مع المعاجم العربية وما يتطلب ذلك من وقت وجهد لايقدر عليه حتى المختصون.
2-وضع معجم تاريخي للمفردات العربية يمكننا من معرفة عمر المفردات وتطور استخدامها ودلالتها ،ليتمكن متذوق اللغة وقارئ نصوصها من معرفة معاني المفردات المستخدمة في النصوص القديمة أو العكس.
3-وضع مرجع عربي موحد في الدراسات الصوتية واللسانية فقد أصبحت الأمة العربية آخر الأمم في هذا المجال.
4-وضع مرجع عربي حول تركيب الجملة العربية وأساليب التعبير بعيداً عن الدراسات النحوية التقليدية التي ينفر منها أغلب طلاب العلم اللغوي.
5-وضع مرجع عربي حول شيوع المفردات ونسبة هذا الشيوع والاستخدام،لتكون مرجعاً موحداً لدارسي العربية على اختلاف أمصارهم وبلدانهم.
أقول هذا مدركاً أشد الإدراك أن المسألة ليست بهذه البساطة كما أنها بحاجة إلى ندوات ومؤتمرات وبحوث عميقة،كما أنها بحاجة إلى تظافر جهود مؤسسات وجهات متنوعة تدعم مثل هذه البحوث ،وإني لعلى يقين من أننا إن لم نبدأ في مسيرة التطوير والخدمة للغتنا الآن فإننا سوف نصل إلى مرحلة لاينفعنا الإصلاح فيها حين نريده ..
لكم ودي ووردي
فريد[/align]
لغـةٌ إذا وقعـتْ عـلى أسماعِـــناكانتْ لنا برداً على الأكبــــــــــــــــاد
ستظل رابطةً تؤلف بينــــــــــنا فهيَ الرجـاءُ لناطـقٍ بالضّـــــــــــادِ
حليم دمّوس (1888-1957)م[/align]
( نحو أمن لغوي عربي )
[align=left]فريد محمد سليمان المقداد[/align][align=justify]تقديم المقدمات:
وقبل...، يأتي هذا الموضوع الأول لي هنا في ملتقى اللغة العربية الغراء منسجماً مع توجهاته،ومواءماً لما نريده للغة عظيمة عظيمة تنطق بها الأمةالأمة العربية ،وذلك ضمن أنشطة ثقافية كثيرة سوف ننهض بها ،حفاظاً على اللغة العربية ودرءاً للمخاطر عنها ،وبحثاً عن السبل التي تشيع استعمالها وتسهل استخدامها في مجالات الحياة المختلفة ،لتواكب لغات عالم اليوم وتصبح لغة منتجة للمعارف ،والحقيقة أن المخاطر والتحديات التي تواجه اللغة العربية في هذه المرحلة من الزمن ليست جديدة فقد واجهت لغتنا مخاطر متعددة منذ تمزق الوطن إلى دويلات تئن تحت وطأة المستعمر الأعجمي الغاصب ،وتصبح المخاطر هذه الأيام أشد شراسة وفتكاً إزاء ما تعانيه العربية من عقوق أبناءها وما حمله النظام العالمي الجديد من متغيرات كالعولمة وسيطرة وسائل الاتصالات الغربية على العالم والثورة الرقمية حتى أصبح العالم بمثابة قرية كونية صغيرة، وتسارع إنتاج المعارف بلغات العالم المتقدم حتى أصبح بإمكاننا القول أن اللغة العربية اليوم مستقبلة ليس لها في إنتاج المعرفة نصيب ،لقد أصبحت قديمةً جداً ومتخلفةً تلك النظرة إلى اللغة على أنها أداة للقول أو وسيلة للتعبير ،بل إن البحث العلمي اليوم أثبت بما لايقبل شكاً أن اللغة هي أداة تلقي المعرفة وأداة التفكير ورمزه وتجسيده،(اللغة هي الفكر عندما يعمل) أي ليس هناك فكر مجرد عن حامله الموضوعي :الرموز اللغوية ،بمقدار ما تكون اللغة دقيقة وحية ومبرأة عن الفوضى يكون الفكر كذلك أي أنها علاقة عكسية ،ندرك ذلك من الترابط الوثيق بين اللغة وعلم النفس اليوم،كما أن هناك بعداً اجتماعياً للغة لم ينل نصيبه من البحث إلى يومنا هذا،فمشكلة اللغة العربية اليوم هي مشكلة (فكرية-نفسية-اجتماعية)ولم ولن تكون في يوم من الأيام مجرد مشكلة تعبيرية كما يتوهم الكثير من الناس.
في واقعنا اللغوي:
حقيقةً أن الحديث حول واقع اللغة العربية اليوم يتخذ أبعاداً شديدة التعقيد والتداخل،نظراً لأبعاد التجربة القومية والحضارية التي تخوضها أمتنا العربية اليوم، فالعرب اليوم أمة مجزأة متخلفة تبحث عن مكان لها على مائدة الحضارة العالمية المعاصرة.. ،لذلك فإن المشكلة اللغوية اليوم وثيقة الصلة بالمسألتين القومية والحضارية ،بكل ما تحملان من سمات وأبعاد مميزة أهمها:
ــــ البعد القومي الوحدوي:
يدرك كل عاقلٍ أن أي تطورٍ في قطرٍ من الأقطار العربية لابد من أن يكون منسجماً ومتجاوباً و ومتناغماً مع التطور في الأقطار العربية الأخرى ،وهذا الكلام أقوله فيما لو أنني أرفض القول بأن التطور لا يمكن أن يحدث إلا تحت غطاء الدولة العربية الواحدة ،وهو رأي أغلب المفكرين و القوميين العرب ،لذلك فإن العمل على إيجاد الحل لأي معاناة لغوية لابد وأن يتم في محيط عربي ،وهنا لاينبغي أن نعتبر التجزئة عائقاً أو قيداً لايستهان به موجهين اهتمامنا إلى تفاوت الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية بين أقطار وطننا على هذا النحو الذي نعرف، إذن حالة التجزئة يجب أن تكون نقطة انطلاق نوحد من خلالها العمل اللغوي القومي لتكون اللغة العربية خادماً لهدف الوحدة العربية المنشودة الذي نسعى إليه نحن وأجيالنا القادمة.
ــــ البعد الاجتماعي :
تعتبر الوظيفة الاجتماعية للغة أهم وظائفها على الإطلاق فهي وسيلة التفاهم والتواصل الاجتماعي بين جميع أبناء الأمة الواحدة ،وهنا لابد وأن ينتبه الدارس إلى تفاوت التركيب الطبقي للمجتمع العربي بين صغير وكبير ومثقف وأمي وابن البادية وابن الحاضرة وهذا كله يشكل مسؤولية كبرى يقع على عاتق اللغة تحملها ذاك أنها مطالبة بخدمة الحاجات اليومية لكل هذه الشرائح على ما بينها من تفاوت طبقي وهي مهمة صعبة لكنها ممكنة وغير مستحيلة على لغة مبدعة خلاقة كالعربية.
ــــ البعد الثقافي :
وهو أشد الأبعاد تعقيداً حيث يتداخل فيه الاجتماعي والتاريخي لأمة تتمايز الطبقات الاجتماعية لأبنائها وهي إلى ذلك من أشد الأمم فخراً بماضيها وتاريخها وتراثها في الوقت الذي تتطلع شوقاً فيه إلى المشاركة والاندماج في الحضارة العالمية المعاصرة ،وهنا يقع أبناء العربية في حيرة من أمرهم بين الولاء لماضيهم والالتزام بمتطلبات حاضرٍ لايرحم ،وهنا أبين لكم وبكل صدق أنه لاتوجد لغة تصلح ببقائها على حالها لكل زمان ومكان ،وكل من يصر على ذلك فهو يمارس فن تعذيب النفس والضمير،والمطلوب فقط إزاء هذه المشكلة هو تحقيق التوازن بين الماضي والحاضر هذا فيما يخص مشكلة الأصالة والمعاصرة ،لكن تطفو على السطح مشكلة أخرى هي التعددية الثقافية في الوطن العربي،الذي خضعت أقطاره لقوىً استعمارية متعددة ،خلقت تبايناً ثقافياً بين أبناء الشعب العربي الواحد،واللغة العربية اليوم مطالبة أن ترضي جميع الأذواق وتتفاعل معها حتى لاتتحول إلى جسد ميت غير قادرٍ على الخلق والإبداع والتوليد،ولربما أن المسألة كانت أشد بساطة لو كانت هناك ثقافة عربية واحدة،تكون لغتنا العربية لسانها المعبر لكن المشكلة اليوم أن اللغة العربية مطالبة أن تنشئ هذه الثقافة كما هي مطالبة أن تبني نفسها من الداخل وهي إلى ذلك مطالبة بأن تكون حاضنةً للتفاعل الثقافي المنشود بين أبناء العربية.
ملامح المشكلة اللغوية:
الحقيقة أن المشكلة اللغوية موجودة وقائمة ،لكن الكثير من الباحثين يرفض رؤيتها ،ويرجع ذلك في نظري إلى سببين الأول أن البعض ليس على صلة بهذه المشكلة ربما لظروف وطبيعة عمله ،والثاني أن حب أبناء هذه اللغة لها يجعلهم يضعونها فوق مستوى أي شبهة،سواءً أكانوا لغويين أو هواة ومهتمين ،المشكلة أيها الأحبة موجودة لكنها كما أقول دائماً قابلة للحل، والإقرار بها لايعني بحال من الأحوال الدعوة إلى التخلي عن اللغة العربية أو إبدالها بالعامية أو الأجنبية فهذه أفكار مسمومة لامكان لها بين عرب اليوم،فقد أثبتت العربية أنها لغة علم وحضارة قادرة على الصمود أمام عاديات الزمن والتصدي لأي خطر حقيقي يواجهها،لقد كان أساتيذنا الأجلاء يرفضون الحديث عن المشكلة اللغوية في زمن كنا فيه تحت السيطرة الاستعمارية وكانت أي دعوة للإصلاح في ذلك الوقت تحمل تشكيكاً في اللغة وقيمتها إثارة الشكوك حولها لاستبدالها بلهجة عامية أو لغة أجنبية..المهم أن كل هذه الدعوات أصبحت عارية اليوم لاقيمة لها...وبما أن أمتنا قد تجاوزت مرحلة الحفاظ على اللغة إلى مرحلة الإصلاح اللغوي، فإن من واجب سدنة اللغة تقديمها إلى أبناءها هينةً لينةً سهلةً مستساغةً ....
أول معلم يطالع الدارس للمشكلة اللغوية هو عدم القدرة على تحديد المقصود باللغة العربية الفصحى اليوم،فهل هي لغة الجرائد والإذاعات والسياسيين؟ ،وما أبعد هذه عن النموذج اللغوي الذي نتطلع إليه ،أم أنها لغة خطباء وأئمة المساجد ومحققي كتب التراث العربي وأساتذة اللغة العربية في جامعاتنا؟وما أبعدها عن النموذج العملي الذي نصبو إليه ،أم هي لغة الترجمات التي يقرؤها شبابنا المتطلع إلى معرفة ثقافة الآخر وكيف يفكر؟
وهنا يبرز سؤالٌ منهجي في إطار البحث:ماهو المرجع في كل هذا؟هل هو مجامع اللغة العربية ؟ أم الباحثون والمفكرون؟ أم المترجمون؟
إننا لاننكر وجود اللغة العربية الحديثة،حتى منتصف القرن الماضي كانت لغة الأديبين العظيمين طه حسين وعباس محمود العقاد هي المرجع والمقياس المتعارف عليه لكننا في هذه الأيام نفتقد البوصلة التي تحدد الهدف أو سمت هذا الهدف،فليس بيننا اليوم من يقبل أن تكون لغة أيٍ من الأدباء المعاصرين هي المقياس ،ناهيك عن تلك الفروق بين لغة السياسة ولغة الثقافة ولغة الحياة اليومية،لذلك فالحاجة ملحة إلى مقياس لغوي لاسيما في مجال التركيب والصرف واستخدام المفردات، ولم أذكر النحو لأن مقياس النحو شديد الوضوح ومع ذلك فما أكثر ما يكون عرضة للنقاش في كثير من الأحيان.
بعض جوانب المشكلة اللغوية :
إن أي لغة في العالم تحمل ثلاثة وجوه(عملي- علمي – تربوي)ولو قارنا حال هذه الوجوه في اللغة العربية الفصحى مع غيرها من لغات العالم لرأينا العجب العجاب ،وتفصيل ذلك على النحو التالي:
1-الوجـــه العمــــــلي:
على الرغم من أن اللغة العربية قد قطعت مراحلاً من التطور لتصبح لغة الحياة اليومية،لكن من الصعوبة بمكان القول بأن الفصحى هي لغة الحياة العملية ،وأنا لاأقصد هنا أن تكون العربية الفصحى لغة الحديث اليومي فذلك أمرٌ من الصعوبة بمكان،لأننا لانستطيع الوصول إليه إلا بعد رفع مستوى التعليم في البلاد العربية كماً وكيفاً ،لكن المقصود بالجانب العملي هو تعاملاتنا التجارية والاقتصادية والقانونية والسياسية والتعاقدية وهنا تكمن الازدواجية فنحن نفكر في كل هذه المسائل بالعامية ومن ثم نترجم ما فكرنا حين يحتاج الأمر إلى توثيق،أي أن اللغة السماعية عندنا تحظى بمصداقية وقوة لاتملكها اللغة المكتوبة،ومرجع ذلك كما بينت أننا نفكر بالعامية..وهذه المسألة تدعونا إلى البحث عن السبل التي تمكننا من الاطمئنان فعلاً إلى أن اللغة الفصحى هي لغتنا التي نفكر ونتعامل بها،لااللغة التي نحترمها ونترجم إليها،فمثلاً من مظاهر الازدواجية التي ألفت النظر إليها:
ا – إن اللغة متفاوتة في البلاد العربية وتحمل تفسيرات وتأويلات متعددة لا يمكن قبولها في لغة تستخدم للتداولات المالية والتجارية ،وكذلك لغة التعاقدات التي تختلف مصطلحاتها وتراكيبها من دولة عربية إلى دولة أخرى،فصيغة الوكالة التي يصدرها كاتب العدل في دولة عربية لايمكن استخدامها في دولة عربية أخرى مثلاً ،ناهيك عن اختلاف لغة المشرق العربي عن لغة المغرب العربي،ومشاكل التعريب الذي أرى أنه وثيق الصلة بمشكلتنا اللغوية.
ب- هذه اللغة غير سليمة بدرجة كافية تجعلنا نطمئن إليها حيث يعتورها الخطأ الذي من الممكن أن يقلب مضمونها رأساً على عقب ،لولا أن الناس قد تعارفوا على معانيها وهم إلى ذلك يستنتجون المعنى في كثير من الأحيان استنتاجاً ،ومثال ذلك أننا لو أخذنا وثيقة رسمية عربية وقمنا بتفسيرها فإننا قد نجد الكلام قد يقود إلى غير المقصود منها،ومثال ذلك كتابة الأعداد بلغة عربية صحيحة وما أكثر المتلاعبين بها.
ج- إن لغة الحياة الاقتصادية في المعامل والمصانع تجعلنا نعيش في حالة قلق شديد ،نتيجة استخدام المفردات والمصطلحات التي تعوزها في كثير من الأحيان الدقة والضبط ،أو قد تكون ترجمة حرفية للغة أجنبية ،وهذه ليست القاعدة لكن تتفاوت المسألة من قطر عربي إلى آخر حسب تجربة التعريب فيه،بل إن هناك بلداناً ما زالت تستخدم اللغة الأجنبية جزئياً أو كلياً ،وبالتالي فتعاملات مؤسساتها الحكومية تعتمد هذه اللغة ،وهو خطر حقيقي قائم وموجود في كثير من البلدان العربية.
2ــــ الـــوجـــــه العـلمـــــــــــــي:
يسعى العرب إلى أن تكون لغتهم لغة علم وحضارة كما كانت طيلة عشرة قرون خلت من الزمن...، وقد دخل العرب العصر الحديث من الصفر،فحين بدأت النهضة في القرن التاسع عشر لم تكن الكتابة العلمية العربية شيئاً مذكوراً،لكن سرعان ما استنفر العرب تراثهم اللغوي العلمي محيين إياه ليكون موضع التطبيق:
أــــ تتفاوت تجربة الأقطار العربية في هذه المسألة حتى إنه ليصعب إعطاء صورة دقيقة لها،فقد تمكنت أقطار عربية من جعل اللغة العربية لغة العلم فيها بنسبة تقارب المائة من مائة ،وبالمقابل هناك أقطار عربية لاتزال لغة جامعاتها أجنبية مائة بالمائة ،كما أن هناك أقطاراً عربية تخلط بين اللغة العربية والأجنبية.. وخطورة هذه المسألة تكمن في كثيراً من الصعوبات سوف تقف حجر عثرة في طريق تفاعل الطاقات العربية لتسهم في تقدم العلم الحديث.
ب- هناك مشكلة ازدواجية بين ممارسة التفكير العلمي والبحث بلغة أجنبية ومن ثم التعليم العلمي والكتابة باللغة العربية، حيث أن معظم الأكاديميين العرب تلقوا تعليمهم في جامعات أجنبية ،فيطلب منهم أن يدرسوا بلغة ويعمقوا اختصاصهم العلمي بهذه اللغة ومن ثم التعليم باللغة العربية ،وهي مشكلة تعاني منها معظم دول العالم المتخلف ،لكنها في وطننا تأخذ طابعاً أكثر حدة يعوق تطور اللغة العربية العلمية نحو ما نطمح إليه.
ج – لايمكن أن يغفل الباحث عن مشكلة المصطلحات التي تعتبر الحاجة إليها يوميةً وملحةً وماسةً لاسيما مع اتساع الاستعمالات العلمية للغة العربية ومن الواضح أننا قطعنا أشواطاً سليمة في هذا الاتجاه حيث تتقبل لغتنا المصطلحات العالمية المتعارف عليها دون أي إشكال وهي قادرة على توليد كلمات مناسبة للمصطلحات الأقل شيوعاً ، وذلك بفضل جهود مجامع اللغة العربية في دمشق والقاهرة وبغداد والجامعات وغيرها ،وعلى الرغم من أن ذخيرتنا من المصطلحات جيدة فلا يزال هنالك خلاف حول عدد كبير من المصطلحات الأساسية ،وما نلحظه اليوم من عمليات استبدال لمصطلحات بمصطلحات أدق، الحقيقة أنه ينبغي علينا:
-توحيد المصطلحات بين جميع أقطار وطننا العربي ،ليتمكن أبناء الأمة العربية من تفادي أي إشكال قد ينشب نتيجة تضارب هذه المصطلحات .
-الوقوف في وجه المصطلحات التعسفية التي تصدر عن أشخاص لايملكون أي خبرة لغوية ،ولتتولى جهات علمية مختصة مسألة تغطية الاحتياجات الجديدة مع الاهتمام بالنواحي العلمية0
3 ــــ الوجــــــــــــه التـــــربــــــــوي:
وهنا بيت القصيد ،حيث أن أي لغة في العالم –مهما كانت معقدة وصعبةً – يمكن للإنسان تعلمها وإتقانها واكتسابها إذا توفرت الطريقة التربوية المناسبة ،ومن أخطر ما تعانيه اللغة العربية اليوم عدم خدمتها تربوياً ،ناهيك عن تخلف طرائق تعليمها،حيث أنها في هذا المجال أتعس لغات العالم وأقلها حظاً ،ولا أظنني في حاجةٍ لأن أثبت لكم أن تعليم اللغة العربية في انحدار مستمر ،وأن نسبة الأمية اللغوية تزيد عاماً بعد عام ،وليت المسألة تبقى منحصرة في الطلاب أو في نواحٍ شائكةٍ كالندبة والاختصاص والنداء ،لكنها تتجاوز ذلك إلى التراكيب والقدرة على التعبير والكتابة والإلقاء والمناقشة ،وهي مشكلة يتفرد بها أبناء العربية إذ لانراها في أغلب لغات العالم الحية ،ولكم أتمنى أن يكون حديثي هذا من قبيل المبالغة لكنني موقنٌ أن الواقع أشد مرارة ،وللأمانة العلمية أقول أننا نعاني من فشل ذريع في تعليم اللغة العربية وهو فشلٌ تربوي اجتماعي، جعل اللغة العربية بالنسبة للناطقين بها وكأنها(لغةٌ أجنبية) يدرسها الطالب ليحصل على علامة في الامتحان وليست سلاحاً نحمله معنا في معارك الحياة المختلفة.
اللغة العربية غير مخدومة لغوياً :
ما أكثر ما نتحدث ملء أشداقنا عن جمال لغتنا وسحرها ،وكم نتغنى بجمالها وسحرها ،وما أكثر ما نطلق عليها من الألقاب والصفات ،فهي العربية الشريفة لغة القرآن الكريم ،لغة أهل الجنة ،أم اللغات وأقدرها على توليد الألفاظ عن طريق الاشتقاق ،وهي أحلى لغات العالم جرساً وأجلاها بياناً...وهي إلى ذلك رمز الوحدة القومية وحامية الحضارة والتراث العربي،وبها نقرأ نثرنا وشعرنا ومديحنا وهجائنا وغزلنا أيضاً ،كل ذلك وغيره صحيح...بل الحق أكثر من ذلك لكن اسمحوا لي بسؤال:
-ماذا فعلنا لهذه اللغة لكي نصونها ونطورها ونمكنها من مجابهة التحديات والأخطار التي تفد عليها من كل حدب وصوب ؟
-ماذا فعلنا لجعل لغتنا قادرة على الصمود أمام منافسة لغات العالم الحية في عالم تحكمه شريعة الغاب فلا يرحم إلا القوي ؟
أيها الأحبة ليس أبناء العربية من يعقون لغتهم لكننا نحن من يفعل باحثين وكتاباً ومفكرين ،أبناؤنا كغيرهم من أبناء الأمم الأخرى يتعلمون ما يحبون ،لكننا نحن الذين لم نغرس فيهم حب العربية... أين هي قصائدكم؟؟ ......التي تجذر في أبنائكم حب اللغة العربية وتدفعهم إلى حمايتها والذود عن حياضها هيا أضيفوها إلى الملتقى ، أسمعونا وأطربونا جزاكم الله عن الإحسان إحسانا وعن السيئات عفواً وغفراناً،
وبما أننا وصلنا إلى هذه النقطة فلنوضح ما قصدنا بخدمة اللغة وتطويرها، الحقيقة أن أمتنا وبجهود المخلصين من أبنائها تمكنت من الحفاظ على اللغة العربية ضد كل محاولات التتريك والفرنسة... ،وإذا كنا قد تمكنا من تجاوز مرحلة المحافظة على اللغة فواجبنا اليوم العمل على خدمتها وتطويرها وإصلاحها وألفت النظر إلى وجود اتجاهين واضحين في هذا المجال لهما حججهما السليمة وأفكارهما القويمة:
ــــــــــــــــ يرفض الاتجاه الأول أي تطوير أو تعديل أو تحوير أو تبديل بشأن اللغة التي وصلتنا عن طريق الأجداد ،فالسلف لم يترك للخلف شيئاً ،ويرى أنصار هذا الاتجاه أن العيب فينا فمتى أصلحنا نفوسنا صلح حال لغتنا،كما أنهم يرون أن القيام بأي عملٍ إصلاحي لغوي من شأنه أن يجهز على هذا الصرح الخالد اللغة العربية،مهما اختلفت الذرائع التي يقدمها أنصار الاتجاه الآخر.
ـــــــــــــــــ أما الاتجاه الثاني فهو تيار الأغلبية الصامتة وهم لايمانعون في إدخال الإصلاحات اللغوية والتطويرية في اتجاه جعلها أكثر مرونة وليونة ويسراً أسوة بجميع اللغات الحية في العالم ، وبين أنصار هذا الاتجاه من الاختلافات ما لايمكن حصره ،فمنهم من يرى ضرورة الإصلاح البسيط فقط،ومنهم من يغالي في إدخال تعديلات على القواعد العربية كتوحيد جموع التكسير وإيجاد حل لمشكلة الممنوع من الصرف الذي لم يعد أحدٌ يتقن منعه إلا من رحم ربي.
والمتأمل في كلٍ من الاتجاهين يرى أن كل طرفٍ يرمي الطرف الآخر بعشرات الاتهامات أبسطها التحجر العقلي والجمود والخيانة القومية وعداء الإسلام والعروبة...
نحن في الجمعية الدولية الحرة للمترجمين واللغويين العرب ندعو إلى نبذ هذه الاتهامات وتجنب جميع الخلافات الشائكة والمعقدة ونرفع صوتنا مطالبين بخدمة اللغة العربية وصيانتها وإننا لنطالب وبشدة:
1-وضع معجم عربي عصري حديث،يكون معترفاً به ومقبولاً من الجميع أسوةً ببقية لغات العالم الحية مثل (أوكسفورد) في بريطانيا ومثل (لاروس)في فرنسا،وكانا يدرك صعوبة التعامل مع المعاجم العربية وما يتطلب ذلك من وقت وجهد لايقدر عليه حتى المختصون.
2-وضع معجم تاريخي للمفردات العربية يمكننا من معرفة عمر المفردات وتطور استخدامها ودلالتها ،ليتمكن متذوق اللغة وقارئ نصوصها من معرفة معاني المفردات المستخدمة في النصوص القديمة أو العكس.
3-وضع مرجع عربي موحد في الدراسات الصوتية واللسانية فقد أصبحت الأمة العربية آخر الأمم في هذا المجال.
4-وضع مرجع عربي حول تركيب الجملة العربية وأساليب التعبير بعيداً عن الدراسات النحوية التقليدية التي ينفر منها أغلب طلاب العلم اللغوي.
5-وضع مرجع عربي حول شيوع المفردات ونسبة هذا الشيوع والاستخدام،لتكون مرجعاً موحداً لدارسي العربية على اختلاف أمصارهم وبلدانهم.
أقول هذا مدركاً أشد الإدراك أن المسألة ليست بهذه البساطة كما أنها بحاجة إلى ندوات ومؤتمرات وبحوث عميقة،كما أنها بحاجة إلى تظافر جهود مؤسسات وجهات متنوعة تدعم مثل هذه البحوث ،وإني لعلى يقين من أننا إن لم نبدأ في مسيرة التطوير والخدمة للغتنا الآن فإننا سوف نصل إلى مرحلة لاينفعنا الإصلاح فيها حين نريده ..
لكم ودي ووردي
فريد[/align]
تعليق