" فعل المَعْنىَ في قيّام الِشعْرْ كفعل النُدْرةِ في غَلاءِ التِّبْرْ "
قراءة في قصيدة "لحن الوفاء " لصاحبها يوسف الباز
حمل عنوان القصيدة " لحن الوفاء" دلالتين في تركيبهما لجملة اسمية فاللحن وهو الصوت المصوغ الموضوع الذي تتغير نبراته عن الصوت المعتاد والذي قد يرمز إلى ما يصدر عن آلات الطرب و الغناء المختلفة وفي انضمام "الوفاء" إليه بدلالاته المتشعبة الواسعة تغير معناه فصبغة بصبغة الرومانسية حتى يعطيه " العنوان" وظيفة إغرائيةلشد انتباه القارئ بهدف كسب تعاطفه" القارئ " مع ما سيأتي به النص من مواقف بطولية يكون فيها للوفاء القسط الأكبر. هذا النص الذي نستشف من القراءة الأولى له ان الظروف العامة التي يمكن ان تكون أفرزته ، هي ظروف سياسة إذا ما اعتبرنا ان الوفاء للتراب تعني حتما الوفاء للوطن . وان الشاعر إما يعاني من استعمار أو اغتراب أو نفي أو ضيم من حاكم والمتوقع بعد هكذا احتمالات هو ان يطغى على النص صور ترمز للتضحية . فالوفاء لا بد ان تقابله تضحية ، ومن هذا المنطلق فان هذا الموضوع يُعد إشكالية لا بد ان تتوفر في صياغتها العناصر المهمة التي تشكل المعنيين العام والخاص باعتبار ان القراءة المنهجية للشعر تولى أهمية بالغة في تركيزها على المؤشرات التي يحتويها النص للوصول من خلال تفاعل دلالات عناصرها إلى الرموز والعلامات التي تسمح ببناء المعنى المجرد ."ألاَ تنصفوني" هذه الجملة الاستفهامية ظهرتكعنوان ثانوي sous-titre دخلت فيها همزة الاستفهام على "لا" النافية وظهر الفعل بتاء الخطاب ، صيغة أفادت الإنكار والتوبيخ وتعني بهذا الأسلوب من القول إنكار المُخاطَبين وجحودهم رغم ما يرونه من ضيم واقع على المُخاطِب ، وربما الجملة بذلك تحمل بهذه الصيغة معنى الاستفهام الذي يفيد التوبيخ والإنكار والاستجداء في نفس الوقت. ويحتمل ان تكون (ألا) كلمة واحدة تفيد العرض. وفي كل الاحتمالات يُتوقع ان تظهر بعدها أي في النص مواقف تبين بوضوح بعض صور الظلم الواقع على المخاطب المتكلم تقابلها تضحياته في سبيل الوفاء للتراب .
النص الذي بين أيدينا حقق ببحره المتقارب الإيقاع والميزان الشعري الذين تجليا في قوافيه الداخلية والخارجية بين حرفي الباء والقاف وظل الحرف الأول مواصلا إيقاعه في كل عناصر النص واستبدل الثاني تارة بالألف وتارة بالسين وتارة أخرى بالدال وظهرت الكلمات في تجانسها الشكلي داخل الشطر أو البيت ككل مع تكرار هذا الشطر"لأني وفيٌّ لهذا التّـرابْ.! " مستوفية للإيقاعين الداخلي والخارجي في كل حقول النص.
على ضوء ما سبق و عندما أتت مرحلة التفكيك لاستخراج المكونات البنيوية للنص حتى يتم استيعاب الفكرة العامة من خلال إبراز وحداتها الدلالية واستخلاص القضية والفكرة والصور والمواقف و الأفكار في عملية تفكيك الجمل التي تكون اختزلتها ، وهذه العملية يتطلبها الاتجاه النفعي الخالص كمقياس لجودة الشعر الذي يبحث عن المعنى العقلي المجرد في الشعر ، هذه الخطوة أظهرت منذ البداية ان الألفاظ جاءت متنافرة فلم تستقر على دال أو مدلول من شأنهما المساهمة في بناء المعنيين العام أو الخاص. وبان بكل جلاء التراص اللفظي وانعدم بناء موضوعي للفكرة.
****
لأنيّ وفيٌّ لهذا التّـرابْ
... بكيتُ الرّفيقْ..!
فإذا ما قرأنا الشطر الأول "لأنيّ وفيٌّ لهذا التّـرابْ " أدركنا بالرجوع إلى العنوان " لحن الوفاء " ان الأمر يتعلق بالوطن فكلمة " التراب " هنا كعلامة من العلامات التي توحي بـ"الوطن" والبديهي المتوقع بعد ذلك ان يأتي التذييل مكملا له يحمل معان أو صورا ترمز للتضحية كإحتمالات دلالية تتعاضد بين العنوان وتجلياته في النص ولكن يفاجئ القارئ بإقحام هذه العبارة " بكيت الرفيق" سقوط عشوائي لم يزد شيئا في معنى الشطر الأول بل باجتماعها به أدخلته في اللامعنى وربما القارئ وهو يقرأ البداية متمعنا يجد نفسه أمام جملة شرط وجواب شرط التي يمكن أن تصاغ بصيغة النفي كالتالي "لأني لست وفيا لهذا التراب لم أبك الرفيق " وهو ما يحيله على سؤال آخر محير وهو : "هل الوفاء للتراب " الوطن" يؤدي حتما للبكاء على الرفيق .. ؟ أو ما هي سمات الرفيق يا ترى؟ وما ترمز له الكلمة من دلالات ؟ هل هو الصاحب في السفر أم الصديق كما جاء في قول الله تعالى: "وحَسُنَ أولئك رَفيقاً " فكلا المعنيين لم يضيفا للمعنى شيئا. فمثلا لو غيرنا الشطر الثاني "نسيت الطريق" واستبدلناه بجملة أخرى وهي" رأيت البريق" لأعطى للبيت نفس المعنى "اللامعنى"
****
لأنّي حبيبٌ نفاهُ الغيابْ
..نسيتُ الطريقْ..!
أما مدلول الغياب هنا ، هو عدم الحضور الإرادي ، والغياب لا يفعل فعل النفي لان النفي هو أمر قسري يدل على وجود فاعل غير المنفي الذي وقع عليه فعل الفاعل وحتى إذا ما احتملنا ان الغياب هنا قسري ويحل بذلك محل التّغْييب فانه سيتعارض مع ما جاء بعده بل ويتعداه في تعارضه مع ما حمله العنوان من رمزية " الوفاء" وهو نسيان الطريق فالنسيان يعني عدم الوفاء فمن سمات الوفاء ان تبقى ذكرى الديار أو المحبوب راسخة لا يمكن ان يطوي صفحتها الدهر .لان هذه الصفة حبا الله بها كل الكائنات الحية ولعل لنا في هجرة الطيور الموسمية وعودتها إلى موطنها خير مَثـَل .
وهكذا فالقصيدة في محافظتها على العناصر الأخرى أهملت المعنى فجاءت خاوية لا حياة فيها ،وإذا ما توغلنا في كل الحقول الأخرى ما وجدنا بفقراتها أي معنى سواء أسحبنا منها الصور مثل : "كلُّ نهار ٍ يشرّدُ دربــًا**و يخنقُ زهـرًا تغنّى طويلا "
التي بدت شاحبة أم تركناها .
فلا وجود لترابط أو تناص شكلي بين الألفاظ من جهة والعبارات من جهة أخرى لانعدام عنصر الربط بين التقديم وما يليه. و يظهر جليا بعد تمعن خفيف ان الكلمات رصت هكذا من اجل القافية والوزن دون ان تَسْنِدَ ما قبلها أو ما بعدها لبلورة مدلول ما من اجل بناء المعنى المجرد فظهرت هكذا عاجزة كليا وابتعدت القصيدة كلية عن الوظيفة الشعرية التي ينبغي أن يكون فيها المعنى المقياسً الأول لجودة الشعر باعتبار ان "الشعر معدن العرب، وموطن حكمتها، وديوان أخبارها، ومستودع أيامها"(1)وعن المعنى في الشعر قال ابن سلام: قال ابن عون، عن ابن سيرين، قال: قال سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه : كان الشعرُ علم قومٍ لم يكن لهم علمٌ أصح منه ..."( 2).
قد يحتج محتج بما أتى به عبد القادر الجرجاني من " ان الوصول مما يُقرأ منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده , ولكن يَدُلَّك اللفظ على معناه الذي يَقْتضيه موضوعُه في اللغة، ثم تجد لذلك المعنى دِلاَلةٍ ثانية تصل بها إلى الغرض. ومَدَارُ هذا الأمر على "الكناية" و"الاستعارة" و"التمثيل"
ولكن هنا لم يف اللفظ حتى بدلالته وحده من خلال تموقعه في الجملة فما بالك بالدلالة الثانية التي لا يمكن لها ان تَبينَ إلا إذا كان تركيب الألفاظ يبني بعضه بعضا دلاليا حسب الترتيب الطبيعي في اللغة العربية هي ( الفعل+ الفاعل+المفعول به) و(المبتدأ+ الخبر) و(الصفة+ الموصوف).)جملة الشرط وجواب الشرط)وإذا ما حدث أمر غير هذا فانه قد يقلب موازين المعنى . لأنه في غياب المعنى يستحيل الوصول إلى الخصائص التي يمكن من خلالها معرفة المدرسة الشعرية التي يرتبط بها الشاعر.
ومما قاله ابن رشيق القيرواني، في هذا السياق على ان : "الشعر يقوم من بعد النية من أربعة أشياء، وهي: اللفظ, والمعنى, والوزن، والقافية"(3)، فرتب بذلك المعنى بين الوزن والقافية، كدليل على ان المعنى أساس في صياغة الشعر
فالمعنى الذي أراده ابن رشيق هو الفكرة العقلية العامة , التي يجب أن تكون واضحة ومحددة وأساسية في الشعر . ويرى قدامة بن جعفر أنّ الشعر هو ( قول موزون مقفى دال على معنى) (4) وبعني بذاك أن كل عناصر الشعر من ألفاظ وزن وقافيه تخدم المعنى.
****
يُصادَرُ حسّي..
لأنّي شكوتُ لجرح الطفولةِ لوعــًا
يُعاتَبُ همسي..!
تُعذَّبُ نفسي..
و تُكسرُ كأسي..
فتؤسَرُ شمسي..
ومثل ما نلاحظ بهذا المقطع ، أن الذي يحدث باسم الحداثة والتجريب أن يتجه الاهتمام في الشعر إلى الإيقاع والقافية والى محاولة صبغ النص ببعض الأوجه الشكلية للحداثة من خلال استعمال ألفاظ و تعابير حديثة ولا بأس من استبدال المفردات و التعابير التي لم تعد تواكب العصر بأخرى جديدة تعكس بحق الواقع المعاش ولعل هذه التعابير التي ظهرت بالقصيدة كـ " يُصادَرُ حسّي"، و تُكسرُ كأسي..فتؤسَرُ شمسي " أراد بها صاحبهاالغموض لا غير الذي يعد سمة من سمات الشعر الحديث.. وأهمل تماما دلالات هذه الألفاظ وغيرها التي كان يتوقع ان تنطق بالمعنى وهو أمر أخرج النص كلية عن سياق الشعر ، وحتى وان كانت نية هؤلاء سليمة لا تتجاوز ظاهرة التقليد في اللجوء إلى الغموض ، وأتت هكذا عن عدم كفاءة وقدرة على الإلمام بكل عناصر الشعر فانه من واجب النقاد حث هؤلاء المقلدون على اتخاذ المعنى كعنصر أساس في صياغة الشعر حتى لا تتوه القصيدة العربية في متاهات هذا الاضطراب وتنفصل عن الموروث بدعوى الحداثة والإبداع الجديد .ولا بأس ان يكون الشاعر حداثيا دون ان يغفل عن اتخاذ المعنى ولو برؤية جديدة في إطار التولد الحضاري كأساس لا يقوم الشعر إلا به ، مثله مثل الندرة التي هي أساس غلاء التبر .لذلك فالشاعر الملهم ان أراد ان يصنع لنفسه منصة حقيقية ضمن معشر الشعراء وجب عليه ان يكون ملما بتجارب غيره من خلال الاطلاع الوافي والكافي ، وهو شرط أساس يُجنبه تكرار نفس الحقل اللفظي والدلالي عبر ما يزعم انه وليد الموهبة والتجربة ويتفادى بذلك الطلسمية والرص والرصف . حتى يتمعلى الأقل تقويم تجربته انطلاقا من نصه ضمن شعر الهواة الذين يسلكون خطاب التجريب.
المراجع
1. "عيون الأخبار، لابن قتيبة،
2. طبقات فحول الشعراء
3. العمدة في محاسن الشعر وآدابه، لابن رشيق القيرواني، تحقيق محمد قرقزان
4. قدامة بن جعفر " أبو الفرج" م نقد الشعر . ت. كمال مصطفى .
1. "عيون الأخبار، لابن قتيبة،
2. طبقات فحول الشعراء
3. العمدة في محاسن الشعر وآدابه، لابن رشيق القيرواني، تحقيق محمد قرقزان
4. قدامة بن جعفر " أبو الفرج" م نقد الشعر . ت. كمال مصطفى .
تلمسان في يوم 16/06/2009
تعليق