مستقيلةٌ وبدمعِ العينِ أمضي
10/10/2010/ الساعة العاشرة ...
تذكّروا هذا التاريخ جيّداً ، يا من أنتم معي الآن على بعد مسافاتكم ..
كان موعد الفراق ...إنها الساعة الأخيرة التي غادرتُ فيها أعتاب مدرستي .
أردْتُه تاريخاً استثنائيّاً لموقفٍ استثنائيّ لن يتكرّر بحياتي ..، غادرتُ بعضاً من شرايين دمي على جدرانٍ أحببتُها، بنيتها لبنةً ، لبنة على أرصفة محطّات روحي .
كنتُ مرغمةً على انفصالها عنّي قبل الأوان ، قبل أن تحتلّ ملامحي التي ما عادتْ لي ، بل كانت لها ، سكنتني بلا مفارقة
أردتُ وبقرارٍ مني أن أفصل ذاتي عنها ، لأنها صارت وطناً بكلّ همومه وأحزانه ، وهواجسه، قتلتني بحبّها مدرستي
قتلني تراب أزقّتها ، أشجارها ، صرتُ رهينة مقاعدها ، طباشيرها ، وعاشقةً لوجوهٍ حفرتْ عميقاً في فؤادي .
طغتْ على كلّ شيءٍ فما عُدْتُ أرى سواها ، حتى قلمي كنت أسعى جاهدةً في سبيل إذابة الجليد عنه من أجلها .
قرار الاستقالة أنضجته على نارٍ هادئةٍ ، قلّبتهُ ، أرجحته ، تراجعتُ ، وأقدمتُ ، وحسبتها من جديدٍ .
وجدتني معانقة لفراقٍ هو الأقوى طالما كان بخياري ، لهفي عليهم من يباغتهم الفراق بطعنةٍ من قدر، أو بإحالةٍ إلى المعاش لانتهاء الخدمة بسبب استنفاذ شرط العمر .
كان هذا الاحتمال يرعبني وأنا أنظر لملامح من كنت أوقّع قرار تشطيبهم من الذاكرة ، كنت ألمح دمعةً كسيرةً مختبئةً خلف العيون ، يقيناً كنت ألمحها رغم المكابرة ، وكم تحايلت على هذا الموقف بعبارات تشجيعيّة لم تكن تجدي في معالجة الموقف الأصعب في العمر.
كنت أقف من وراء مكتبي الذي لم يحنّطني يوماً ، احتراماً لشموخهم ، وكدّهم ، ولعمرٍ أهدروه على منصّات الصفوف واقفين ، فغدرهم ، ونسّقهم من الخدمة .
أقف ...أربّتُ بحنانٍ على أيديهم ، وأشدّها بقوّة ، وأقول لهم : كنتم رائعين ، لن ننساكم ، ستبقى بصماتكم محفورةً في المدرسة جيلاً بعد جيلٍ.
كنت أخاف هذه اللّحظة ، ليس جبناً ، ولكن حرصاً على إنسانيّةٍ أحاول جاهدةً أن أستبقيها بروحي ما بقي لي من أنفاسٍ .
وتمثّلْتُ زنوبيا عندما تجرّعت السمّ قائلة : بيدي لا بيدك يا عَمْر .
حاولت أن أبدو متماسكةً حتى اللّحظة الأخيرة من بقائي فيها ، يجب أن أبقى كالطّود أمامهم ، هكذا كنت أعلّمهم .
ولأنّي كنت لهم القدوة ، حاولت أن أكتم دموعي التي كانت تتضارب في أعماقي .
طفتُ بين ردهاتها في الحصّة الثانية ، ظنّني الجميع أني أتفقّد حسن سير الدّروس كعادتي ، أبرزوا أفضل ما لديهم لنيل الرّضا ،والثّقة ، ليستمرّ الحبّ دافقاً بيننا، ولم يعرفوا أني أنثر بعضاً من أوصالي هنا وهناك ..تحرّكني الذكريات،
تناوشني حتى السّهام الصغيرة منها ، وتحاصرني ، وكأنّ الأماكن قد تحوّلتْ إلى نهر غانج ...أذرّ عليها رمادي.
وقفتُ على المنصّة ، أتقدّم جميع العاملين بثباتٍ كما اعتادوني في تحيّة العلم ، كان آخر شيءٍ أودّع فيه مدرستي علم بلادي ، وكأنني كنت أوصيهم به ، اتّخذت وضعيّة الاستعداد بشموخٍ مرفوعة الرّأس ، يداي على جانبيّ، مضمومة الأصابع، لستُ أدري لمَ تداخلتْ كلّ الوجوه النّضرة للطالبات مع هذا العلم المرفرف وأنا أودّعها ..للمرّة الأخيرة
التي أقف بها ، وصارتْ كلّها بالنهاية لوحةً عذّبتني ، أرجحتني للحظات ، كادتْ تهوي بي ، لولا إصراري على ألاّ تهتزّ صورتي أمامهنّ مهما كان الثّمن .
كنتُ قد أخفيتُ عن الجميع قرار استقالتي ، حتى لا أعذّبهم مثلي ، أعرف كم يحبّونني ، وأعرف عن خبرةٍ تراكميّة أين موقعي منهم على مدار السّنين ، لمَ لا وقد أسّسْت منهم مملكة الحبّ التعليميّة المستقلّة ، لم أسمحْ يوماً أن يغزو حصنها أيّ طامعٍ ، أو مخرّب ، أو دخيلٍ .
ولكني كنت مرغمةً على التنحّي عنها ، تصوّروا ..لأني أحبّها فارقتها !!! هل الفراق تعبير آخر عن حبّ يفوق الاحتمال؟
يا إلهي: هل هي قسوة ؟ أم لوثة جنونٍ؟ أم رحمة ؟ كلّ ما أدريه أنني لم أعدْ قادرةً على تسارع حبّها في قلبي ، وكنتُ أعرف أنني سأفارقها بعد سنواتٍ مرغمةً ،بعذابٍ أكبر ، وقد آن الأوان أن أفتح صفحةً جديدةً من عمري في محراب الكتابة والفكر،والأسفار.
دخلتُ إليها منذ بداية تعييني ، بعد قدومي مباشرة من مدينة حلب ، كنتُ أتخطّى منتصف العشرينات بقليلٍ ، اقتطفتني يد مديريّة التربية ، وفرع القيادة الحزبيّة ، لتزرعني زهرةً نديّةً في دروبها ، ارتأتْ في هذه الصبيّة الواثقة التي كانت تدير أوراقها وتستكمل معاملة انتقالها أن تكون مديرة فيها.
كنتُ في العمر أصغر الكادر الإداريّ والتدريسيّ ، ولكننّي استطعتُ أن أنفذ إلى كلّ القلوب ، توطّدت مساماتي بكلّ من حولي.وكبرتُ مع المدرسة ، أكثر من ربع قرنٍ وأنا أديرها ، وتفرّعتْ الشّجرة إلى أشجارٍ ، حوّلتها من إعداديّة إلى ثانويّة بفروعها المختلفة العلميّ ، الأدبيّ ، النّسويّ ، التجاريّ.
وكم يبهجني ويُثلج صدري عندما ضمنت لفتيات البلدة عدم حاجتهنّ لضبابيّة العاصمة وبعد مسافاتها لمتابعة تعليمهنّ
بعد تحيّة العلم ، دخلتُ غرفة المدرّسين، كاد صوتي يختنق ويبتلع الحروف، غصّتْ شهقتي بين جوانحي ، ألجمتها
قلت لهم : أتيتُ لأودّعكم ، هذا هو اليوم الأخير لي في المدرسة..
ران صمتٌ مفزعٌ على كلّ الوجوه حولي ، لم يصدّقوا ما يسمعون ، تفرّسوا في وجهي مستفسرين إن كنتُ أعني ما أقول
بعضهم لم يستوعبْ ما سمع ، واستعان بمن قربه ليصدّق .
لحظةٌ عصفتْ بي ما أردتها أن تنفجر وتظهر شلّال دموعي .
قلت : سأكون بينكم ، بعون الله ، لن يتغيّر شيء، أنتم أحبابي ، وإخوتي ، في القلب ستبقون ، أحبّكم جميعاً ، ولكن لابدّ من الفراق ، لقد آن الأوان .
وقفتُ قبل أن تدور بي الأرض ، ويسقطُ قناع تماسكي ، كنتُ أرتجف من أعماقي ، محاولةً ألاّ يلحظون ذلك ، ولكنّ نشيج قلبي وصل إليهم ، كيف تسرّب وقد أخفيته عنهم لست أدري ؟؟؟
صافحتهم فرداً.... فرداً ، وأنا أحاول مضاحكتهم ، وممازحتهم ، كلّ بدعابته الخاصّة التي ألفتها عبر السنين .
شددْتُ المدرّسات إلى صدري بقوّةٍ ، وكأني أحاول أن أكتنز لحظات عشقٍ استثنائيّ لن يُمحى من حياتي أبداً
كانت تبلّل وجنتي عبراتهنّ السّاخنة ،فأستنشقها رحيقاً سيسكن ذاكرتي ما حييت ..
شددْتُ على أيدي المدرّسين : وداعاً يا أغلى إخوةٍ عندي .
الزّمالة في ثوبها الناصع تصوغ ولادة صادقة ، تأتي من رحم الحياة .
وتركتهم مذهولين على عجلٍ ومضيتُ إلى غرفة الإداريّات ..
كانت المحطّة الأصعب ، إنّها عشرة العمر ، سنوات بحلوها ومرّها ، بأفراحها وعذاباتها،
مناسبات لاتُحصى جمعتنا ، معارض، مهرجانات ، احتفالات، محطّات تكريمٍ ، رحلات، أعراس ،أتراح ، ولقمة واحدة نسترقها خلسةً عن أعين الزّائرين ، وصدى ضحكات حلوة في دبكات عفويّة تشبك أيدينا معاً ..
وطعم قهوة على شفتي لا يزول ، و طقوس تعامل يوميّ صار كالإدمان... نفتقد جزئيّاته الصغيرة إن تغيّرتْ ،ومُغاضبة ، تتبعها مصالحة ،تزيد من ترابطنا ..والتحامنا ، وتآزرنا ..
حدّثتُ نفسي : أيتها الكاذبة ، يا من تدّعين الثبات ، كيف تتجرّئين على وداعهنّ ؟ كيف ستنتزعيهنّ من ذاتك ؟
وتقتلعين غراسك بيديك ..؟؟
ولكنّي فعلتها ، يا لبؤسي فعلتها ، كنت أواسيهنّ في هذا القرار الذي أربكهنّ ، أرعبهنّ ‘ حسّسهنّ باليتم
وأنا الشقيّة ، المتعبةُ ،كنت بحاجةٍ لمن يواسيني ، ويهدّئ من روعي.
وإمعاناً في رسم سيناريو رحيلي بلا دموع ٍ ، ارتشفْتُ بضع قطراتٍ من كوب شايٍ قُدّم إليّ ، ارتجفتْ أصابعي ،
صدقاً ما استطعتُ حمل الكوب مرّة أخرى لأعيده إلى شفتي ، تركته حتى لا يلحظْن اضطرابي .
لم أحاول أن أنظر في عيونهنّ التي كانت تمطر سحابات حبّ بلا توقّفٍ ، مازحتهنّ من جديد قائلة:
لا أريد هذه الدراما الهنديّة الآن ، إنها ليست بمأساة ،هذه أمور ورقيّة ، أنا بينكنّ ، لن أغادركنّ صدّقنني
وانسحبتُ متوجّهة إلى غرفة مكتبي، دون التفاتٍ إليهنّ حتى لا أعود إلى معانقتهن بنبضٍ ما ارتوى بعد ،فيفضحني
أغلقت الباب دونهنّ ، ألا يحقّ لي أن أرثي نفسي التي كانت تنسحب مني في معطف الرّحيل ..؟؟ لقد كان بعضي يودّع بعضي ، آن لهذه الدموع أن تنسكب ، لقد عذّبتها طويلاً بكتمانها، أما آن لهذا الفارس المثخن بالجراح أن يلتقط نزفه ؟؟ أما آن لهذا اللّحن الحزين أن تعزفه روحي التي عشقتْ ، فارتكبتْ خيانة الفراق مرغمةً ..؟؟
كنت كقتيل عشقٍ يُزفّ إلى مثواه الأخير.
نقراتٌ ملحّة على الباب ، إنها المعاونة ، صديقة الرّوح والدّرب ، اقتحمتْ جنازة الوداع ، تعانقنا خلف الباب ، بكينا بنشيجٍ طويلٍ ، عاتبتها على الحضور ، لأنها رأت دموعي ، ضعفي الموارب كما هو ، لم تُجبْني إلاّ بمزيدٍ من البكاء
المرتفع ، كانت ترتجف كطفلٍ صغيرٍ .
الهاتف المحمول في حقيبتي يرنّ ، كنت قد وعدتُ السائق أن يأتي في العاشرة ، موعد رحيلي ...
تعمّدتُ أن تكون دقائق الوداع سريعةً ومباغتة ، حتى لا نستوعب ما يحدث..
تعلّلت به لمّا عاود الاتصال ..خرجتُ إلى الباحة متّجهةً إلى الباب الرّئيس، ما بقي في القلب من أنّةٍ جارحةٍ إلاّ واستنفذتها احتضنتني معلّمة الرّياضة البدنيّة ، وسط ذهول الطالبات، اكتنزتْ كلّ ما سبق من وداع ، شدّتني إليها كالتحام الشّجرة الأمّ بالغصن، لدقائق طويلة ، ثمّ قبلتْ يدي ، وبصعوبةٍ سحبتها ..
الآذنات كنّ على الباب ، اخترقْن آخر قلاع مكابرتي ، آااااه كم تعذّبني دموع البسطاء ، لأنها صادقةٌ ، لا تعرف النّفاق ، ولأنها تعبّر عن أريحيّة لم يلوّثها فخّ المال والسّلطة.
أشفقتُ عليهنّ من بعدي، وأشفقتُ على نفسي ، كنت أبرّهنّ بحبّ كبيرٍ يحفظ إنسانيّتهنّ ، ويشعرني بإنسانيّتي....
قلت لهنّ :لن يتغيّر شيء ، لن أنساكنّ ، تعرفْن أرقام هواتفي ..أنا بانتظاركنّ دوماً ..وباب بيتي مفتوح ...
فتح السّائق باب السيّارة ، لوّحت بيدي المرتجفة لجدرانٍ أودعتها أسرار حبّ قديمٍ لن يغادرني ، أرسم أرقاماً على خدّ الزمن ..
10/10/ 2010/ العاشرة صباحاً ...
تذكّروا هذا التّاريخ جيدّاً ، إنه تاريخ مرثيّتي ....
يا من أنتم معي على بعد مسافاتكم ....كونوا معي .. أحبّكم ....أحتاجكم ......
تذكّروا هذا التاريخ جيّداً ، يا من أنتم معي الآن على بعد مسافاتكم ..
كان موعد الفراق ...إنها الساعة الأخيرة التي غادرتُ فيها أعتاب مدرستي .
أردْتُه تاريخاً استثنائيّاً لموقفٍ استثنائيّ لن يتكرّر بحياتي ..، غادرتُ بعضاً من شرايين دمي على جدرانٍ أحببتُها، بنيتها لبنةً ، لبنة على أرصفة محطّات روحي .
كنتُ مرغمةً على انفصالها عنّي قبل الأوان ، قبل أن تحتلّ ملامحي التي ما عادتْ لي ، بل كانت لها ، سكنتني بلا مفارقة
أردتُ وبقرارٍ مني أن أفصل ذاتي عنها ، لأنها صارت وطناً بكلّ همومه وأحزانه ، وهواجسه، قتلتني بحبّها مدرستي
قتلني تراب أزقّتها ، أشجارها ، صرتُ رهينة مقاعدها ، طباشيرها ، وعاشقةً لوجوهٍ حفرتْ عميقاً في فؤادي .
طغتْ على كلّ شيءٍ فما عُدْتُ أرى سواها ، حتى قلمي كنت أسعى جاهدةً في سبيل إذابة الجليد عنه من أجلها .
قرار الاستقالة أنضجته على نارٍ هادئةٍ ، قلّبتهُ ، أرجحته ، تراجعتُ ، وأقدمتُ ، وحسبتها من جديدٍ .
وجدتني معانقة لفراقٍ هو الأقوى طالما كان بخياري ، لهفي عليهم من يباغتهم الفراق بطعنةٍ من قدر، أو بإحالةٍ إلى المعاش لانتهاء الخدمة بسبب استنفاذ شرط العمر .
كان هذا الاحتمال يرعبني وأنا أنظر لملامح من كنت أوقّع قرار تشطيبهم من الذاكرة ، كنت ألمح دمعةً كسيرةً مختبئةً خلف العيون ، يقيناً كنت ألمحها رغم المكابرة ، وكم تحايلت على هذا الموقف بعبارات تشجيعيّة لم تكن تجدي في معالجة الموقف الأصعب في العمر.
كنت أقف من وراء مكتبي الذي لم يحنّطني يوماً ، احتراماً لشموخهم ، وكدّهم ، ولعمرٍ أهدروه على منصّات الصفوف واقفين ، فغدرهم ، ونسّقهم من الخدمة .
أقف ...أربّتُ بحنانٍ على أيديهم ، وأشدّها بقوّة ، وأقول لهم : كنتم رائعين ، لن ننساكم ، ستبقى بصماتكم محفورةً في المدرسة جيلاً بعد جيلٍ.
كنت أخاف هذه اللّحظة ، ليس جبناً ، ولكن حرصاً على إنسانيّةٍ أحاول جاهدةً أن أستبقيها بروحي ما بقي لي من أنفاسٍ .
وتمثّلْتُ زنوبيا عندما تجرّعت السمّ قائلة : بيدي لا بيدك يا عَمْر .
حاولت أن أبدو متماسكةً حتى اللّحظة الأخيرة من بقائي فيها ، يجب أن أبقى كالطّود أمامهم ، هكذا كنت أعلّمهم .
ولأنّي كنت لهم القدوة ، حاولت أن أكتم دموعي التي كانت تتضارب في أعماقي .
طفتُ بين ردهاتها في الحصّة الثانية ، ظنّني الجميع أني أتفقّد حسن سير الدّروس كعادتي ، أبرزوا أفضل ما لديهم لنيل الرّضا ،والثّقة ، ليستمرّ الحبّ دافقاً بيننا، ولم يعرفوا أني أنثر بعضاً من أوصالي هنا وهناك ..تحرّكني الذكريات،
تناوشني حتى السّهام الصغيرة منها ، وتحاصرني ، وكأنّ الأماكن قد تحوّلتْ إلى نهر غانج ...أذرّ عليها رمادي.
وقفتُ على المنصّة ، أتقدّم جميع العاملين بثباتٍ كما اعتادوني في تحيّة العلم ، كان آخر شيءٍ أودّع فيه مدرستي علم بلادي ، وكأنني كنت أوصيهم به ، اتّخذت وضعيّة الاستعداد بشموخٍ مرفوعة الرّأس ، يداي على جانبيّ، مضمومة الأصابع، لستُ أدري لمَ تداخلتْ كلّ الوجوه النّضرة للطالبات مع هذا العلم المرفرف وأنا أودّعها ..للمرّة الأخيرة
التي أقف بها ، وصارتْ كلّها بالنهاية لوحةً عذّبتني ، أرجحتني للحظات ، كادتْ تهوي بي ، لولا إصراري على ألاّ تهتزّ صورتي أمامهنّ مهما كان الثّمن .
كنتُ قد أخفيتُ عن الجميع قرار استقالتي ، حتى لا أعذّبهم مثلي ، أعرف كم يحبّونني ، وأعرف عن خبرةٍ تراكميّة أين موقعي منهم على مدار السّنين ، لمَ لا وقد أسّسْت منهم مملكة الحبّ التعليميّة المستقلّة ، لم أسمحْ يوماً أن يغزو حصنها أيّ طامعٍ ، أو مخرّب ، أو دخيلٍ .
ولكني كنت مرغمةً على التنحّي عنها ، تصوّروا ..لأني أحبّها فارقتها !!! هل الفراق تعبير آخر عن حبّ يفوق الاحتمال؟
يا إلهي: هل هي قسوة ؟ أم لوثة جنونٍ؟ أم رحمة ؟ كلّ ما أدريه أنني لم أعدْ قادرةً على تسارع حبّها في قلبي ، وكنتُ أعرف أنني سأفارقها بعد سنواتٍ مرغمةً ،بعذابٍ أكبر ، وقد آن الأوان أن أفتح صفحةً جديدةً من عمري في محراب الكتابة والفكر،والأسفار.
دخلتُ إليها منذ بداية تعييني ، بعد قدومي مباشرة من مدينة حلب ، كنتُ أتخطّى منتصف العشرينات بقليلٍ ، اقتطفتني يد مديريّة التربية ، وفرع القيادة الحزبيّة ، لتزرعني زهرةً نديّةً في دروبها ، ارتأتْ في هذه الصبيّة الواثقة التي كانت تدير أوراقها وتستكمل معاملة انتقالها أن تكون مديرة فيها.
كنتُ في العمر أصغر الكادر الإداريّ والتدريسيّ ، ولكننّي استطعتُ أن أنفذ إلى كلّ القلوب ، توطّدت مساماتي بكلّ من حولي.وكبرتُ مع المدرسة ، أكثر من ربع قرنٍ وأنا أديرها ، وتفرّعتْ الشّجرة إلى أشجارٍ ، حوّلتها من إعداديّة إلى ثانويّة بفروعها المختلفة العلميّ ، الأدبيّ ، النّسويّ ، التجاريّ.
وكم يبهجني ويُثلج صدري عندما ضمنت لفتيات البلدة عدم حاجتهنّ لضبابيّة العاصمة وبعد مسافاتها لمتابعة تعليمهنّ
بعد تحيّة العلم ، دخلتُ غرفة المدرّسين، كاد صوتي يختنق ويبتلع الحروف، غصّتْ شهقتي بين جوانحي ، ألجمتها
قلت لهم : أتيتُ لأودّعكم ، هذا هو اليوم الأخير لي في المدرسة..
ران صمتٌ مفزعٌ على كلّ الوجوه حولي ، لم يصدّقوا ما يسمعون ، تفرّسوا في وجهي مستفسرين إن كنتُ أعني ما أقول
بعضهم لم يستوعبْ ما سمع ، واستعان بمن قربه ليصدّق .
لحظةٌ عصفتْ بي ما أردتها أن تنفجر وتظهر شلّال دموعي .
قلت : سأكون بينكم ، بعون الله ، لن يتغيّر شيء، أنتم أحبابي ، وإخوتي ، في القلب ستبقون ، أحبّكم جميعاً ، ولكن لابدّ من الفراق ، لقد آن الأوان .
وقفتُ قبل أن تدور بي الأرض ، ويسقطُ قناع تماسكي ، كنتُ أرتجف من أعماقي ، محاولةً ألاّ يلحظون ذلك ، ولكنّ نشيج قلبي وصل إليهم ، كيف تسرّب وقد أخفيته عنهم لست أدري ؟؟؟
صافحتهم فرداً.... فرداً ، وأنا أحاول مضاحكتهم ، وممازحتهم ، كلّ بدعابته الخاصّة التي ألفتها عبر السنين .
شددْتُ المدرّسات إلى صدري بقوّةٍ ، وكأني أحاول أن أكتنز لحظات عشقٍ استثنائيّ لن يُمحى من حياتي أبداً
كانت تبلّل وجنتي عبراتهنّ السّاخنة ،فأستنشقها رحيقاً سيسكن ذاكرتي ما حييت ..
شددْتُ على أيدي المدرّسين : وداعاً يا أغلى إخوةٍ عندي .
الزّمالة في ثوبها الناصع تصوغ ولادة صادقة ، تأتي من رحم الحياة .
وتركتهم مذهولين على عجلٍ ومضيتُ إلى غرفة الإداريّات ..
كانت المحطّة الأصعب ، إنّها عشرة العمر ، سنوات بحلوها ومرّها ، بأفراحها وعذاباتها،
مناسبات لاتُحصى جمعتنا ، معارض، مهرجانات ، احتفالات، محطّات تكريمٍ ، رحلات، أعراس ،أتراح ، ولقمة واحدة نسترقها خلسةً عن أعين الزّائرين ، وصدى ضحكات حلوة في دبكات عفويّة تشبك أيدينا معاً ..
وطعم قهوة على شفتي لا يزول ، و طقوس تعامل يوميّ صار كالإدمان... نفتقد جزئيّاته الصغيرة إن تغيّرتْ ،ومُغاضبة ، تتبعها مصالحة ،تزيد من ترابطنا ..والتحامنا ، وتآزرنا ..
حدّثتُ نفسي : أيتها الكاذبة ، يا من تدّعين الثبات ، كيف تتجرّئين على وداعهنّ ؟ كيف ستنتزعيهنّ من ذاتك ؟
وتقتلعين غراسك بيديك ..؟؟
ولكنّي فعلتها ، يا لبؤسي فعلتها ، كنت أواسيهنّ في هذا القرار الذي أربكهنّ ، أرعبهنّ ‘ حسّسهنّ باليتم
وأنا الشقيّة ، المتعبةُ ،كنت بحاجةٍ لمن يواسيني ، ويهدّئ من روعي.
وإمعاناً في رسم سيناريو رحيلي بلا دموع ٍ ، ارتشفْتُ بضع قطراتٍ من كوب شايٍ قُدّم إليّ ، ارتجفتْ أصابعي ،
صدقاً ما استطعتُ حمل الكوب مرّة أخرى لأعيده إلى شفتي ، تركته حتى لا يلحظْن اضطرابي .
لم أحاول أن أنظر في عيونهنّ التي كانت تمطر سحابات حبّ بلا توقّفٍ ، مازحتهنّ من جديد قائلة:
لا أريد هذه الدراما الهنديّة الآن ، إنها ليست بمأساة ،هذه أمور ورقيّة ، أنا بينكنّ ، لن أغادركنّ صدّقنني
وانسحبتُ متوجّهة إلى غرفة مكتبي، دون التفاتٍ إليهنّ حتى لا أعود إلى معانقتهن بنبضٍ ما ارتوى بعد ،فيفضحني
أغلقت الباب دونهنّ ، ألا يحقّ لي أن أرثي نفسي التي كانت تنسحب مني في معطف الرّحيل ..؟؟ لقد كان بعضي يودّع بعضي ، آن لهذه الدموع أن تنسكب ، لقد عذّبتها طويلاً بكتمانها، أما آن لهذا الفارس المثخن بالجراح أن يلتقط نزفه ؟؟ أما آن لهذا اللّحن الحزين أن تعزفه روحي التي عشقتْ ، فارتكبتْ خيانة الفراق مرغمةً ..؟؟
كنت كقتيل عشقٍ يُزفّ إلى مثواه الأخير.
نقراتٌ ملحّة على الباب ، إنها المعاونة ، صديقة الرّوح والدّرب ، اقتحمتْ جنازة الوداع ، تعانقنا خلف الباب ، بكينا بنشيجٍ طويلٍ ، عاتبتها على الحضور ، لأنها رأت دموعي ، ضعفي الموارب كما هو ، لم تُجبْني إلاّ بمزيدٍ من البكاء
المرتفع ، كانت ترتجف كطفلٍ صغيرٍ .
الهاتف المحمول في حقيبتي يرنّ ، كنت قد وعدتُ السائق أن يأتي في العاشرة ، موعد رحيلي ...
تعمّدتُ أن تكون دقائق الوداع سريعةً ومباغتة ، حتى لا نستوعب ما يحدث..
تعلّلت به لمّا عاود الاتصال ..خرجتُ إلى الباحة متّجهةً إلى الباب الرّئيس، ما بقي في القلب من أنّةٍ جارحةٍ إلاّ واستنفذتها احتضنتني معلّمة الرّياضة البدنيّة ، وسط ذهول الطالبات، اكتنزتْ كلّ ما سبق من وداع ، شدّتني إليها كالتحام الشّجرة الأمّ بالغصن، لدقائق طويلة ، ثمّ قبلتْ يدي ، وبصعوبةٍ سحبتها ..
الآذنات كنّ على الباب ، اخترقْن آخر قلاع مكابرتي ، آااااه كم تعذّبني دموع البسطاء ، لأنها صادقةٌ ، لا تعرف النّفاق ، ولأنها تعبّر عن أريحيّة لم يلوّثها فخّ المال والسّلطة.
أشفقتُ عليهنّ من بعدي، وأشفقتُ على نفسي ، كنت أبرّهنّ بحبّ كبيرٍ يحفظ إنسانيّتهنّ ، ويشعرني بإنسانيّتي....
قلت لهنّ :لن يتغيّر شيء ، لن أنساكنّ ، تعرفْن أرقام هواتفي ..أنا بانتظاركنّ دوماً ..وباب بيتي مفتوح ...
فتح السّائق باب السيّارة ، لوّحت بيدي المرتجفة لجدرانٍ أودعتها أسرار حبّ قديمٍ لن يغادرني ، أرسم أرقاماً على خدّ الزمن ..
10/10/ 2010/ العاشرة صباحاً ...
تذكّروا هذا التّاريخ جيدّاً ، إنه تاريخ مرثيّتي ....
يا من أنتم معي على بعد مسافاتكم ....كونوا معي .. أحبّكم ....أحتاجكم ......
تعليق