رواية " السر الدفين "

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • هادي زاهر
    أديب وكاتب
    • 30-08-2008
    • 824

    #16
    الوقت ليلا ، وجميلة وسعدى تسهران على ضوء القنديل ، تتبادلان الحديث ، وسعدى تبدو عليها علامات الخوف ، وكثيرا ما فتحت يديها متوجهة بالدعاء الى الله أن تمر الليلة على خير ، فهذه الليلة ليلة تنفيذ حبيبها مهمته التي أخبرها عنها ، وتمضي الدقائق ثقيلة على قلب سعدى ، وجميلة تحاول تهدئتها ، وتخفيف همها ، لكن خبر المهمة وصل الى سامي منذ الصباح ، بتفاصيلة الدقيقة ، وبينما هما في الحديث ، دوى صوت انفجار قوي وصل صداه كافة أرجاء البلد ، رغم أنه على الطريق خارج البلد ، وسُمع صوت اطلاق رصاص كثيف ، ثم خيم الصمت من جديد ، وطال زمن الصمت كأنه دهر ، وقارب الوقت منتصف الليل ، وقد مضت ساعات على دوي الانفجار ، أحست سعدى على إثره بانقباض شديد في صدرها ، وعبثا حاولت جميلة طمأنتها وتخفيف همها ، لكن دون جدوى ، فكما يقال : قلب المحب دليله ، وما هي الا لحظات حتى علا صراخ في القرية ، فهبت سعدى راكضة خارج البيت على غير هدى ، فقد أحست أن حبيبها أصيب هذه الليلة ، ومرت في طريقها بدار حبيبها ، فرأت سيارة عسكرية تقف في المكان ، والصراخ ينبعث من داخل البيت ، وصوت أم حبيبها يخرج منتحبا مناديا على ابنها فلذة كبدها الذي سقط شهيدا ، ووقفت سعدى مكانها تبكي ، ثم سقطت أرضا لا تقوى على المتابعة ، وارتفع صوتها بالبكاء حتى انتبه لها كل من توافد على دار حبيبها تلك اللحظة ، واقتادت الشرطة والد حبيبها ومضت به للتعرف على جثث القتلى الذين كانت جثة ابنه احداها ، وخرج شبان القرية ركضا إلى مكان الانفجار ، واصطدموا مع الجيش الذي كان هناك قبلهم ، واستمر الصدام إلى قريب الفجر ، وكانت النتيجة عددا من الجرحى بين المتظاهرين ، وفي الغد شيعت القرية من سقط منها شهيدا ، في جنازة مهيبة ، شارك فيها إضافة لأهل القرية وفود من القرى المجاورة ، وتحولت الجنازة إلى مظاهرة ، رددت خلالها الهتافات الوطنية ، وبعد الجنازة طافت المظاهرة في القرية ، واستمر الطواف والهتاف حتى المساء ، وغضت الشرطة الطرف عما جرى خلال تشييع الجنازة والمظاهرة التي أعقبت ، وتركت الناس ينفسون قليلا من غضبهم الذي ملأ صدورهم .
    كانت جميلة خلال النهار تنظر إلى الناس من أمام بيتها ، وكتمت صرختها ، وظلت فترة طويلة على حالها ، ثم دخلت البيت بهدوء والدموع تغمر وجهها ، وأحست أنها شريكة في الجريمة ، وفكرت في زوجها وحاله في السجن ، وخشيت عليه أن يلقى نفس المصير الذي لقيه حبيب أختها ، وفي لقائها مع سامي ، أخبرته بمخاوفها ، ولكن سامي طمأنها أن زوجها بخير ، ويحصل على ما يريد في السجن ، وتعهد لها بعدم المساس به ، وأخذ يقسم لها بحبه الأبدي ، ثم تقدم ليتحسس بطنها الذي أخذ يكبر أكثر فأكثر ، وقد اقترب ميعاد الولادة ، فهذا شهرها السابع ، ، فهي رغم كل ما تقوم به ، ترفض فكرة أن يكون جنينها ابنا لسامي ، على الأقل حتى هذه اللحظة ، وترفض مهمتها التي أصبحت عملا شبه عادي ، وسألها سامي :
    ـ ما لك تنْزعجين ؟؟؟
    ـ اكسر يدك .. ابتعد عنه .
    ـ لماذا حبيبتي ؟؟ ما الذي جرى لك اليوم ؟؟ .. أو ليس ابني ؟؟؟ .. أو لستُ أباه ؟؟ .. مالكِ حبيبتي ؟؟ .
    ـ كلا ليس ابنك .. إنه .. ابن زوجي عدنان .
    ـ ههه .. بل إنه ابني يا حبيبتي .
    ـ كلا .. إنه ليس ابنك .. بل ابن عدنان .
    ـ من أين لك معرفة ذلك ؟؟ .. إنه ابني شئت أم أبيت .. وحتى لو كان ما تقولينه صحيحا .. فأنا شريك فيه .. وسيكون ابني .
    تصمت جميلة ، وابتسامة تعلو وجهها ، ويستمر سامي في حديثه وقد تهلل وجهه فرحا :
    ـ إنني أريده ابنا ، وأرجو أن يكون كذلك .. وإن كانت بنتا فهي لعدنان .. ه .. ما رأيك حبيبتي ؟؟ .. موافقة أليس كذلك ؟؟ .
    ينتظر قليلا ليسمع رد فعلها ، ولكن جميلة تستمر في صمتها ، ويتابع سامي حديثه :
    ـ ترى هل هو عربي أم يهودي ؟؟ .
    ـ إنه عربي .. ابن عربي .
    ـ كلا إنه يهودي .
    ـ ولكنكم تقولون إن الابن يتبع الأم .. أليس كذلك ؟؟ .. أم أنه في حالتنا سيتبع الأب ؟؟ .
    وهنا يبتسم سامي بسمة المنتصر :
    ـ لقد أفحمتِني .. جواب مفحم حقا .. ولكن لا بأس .. تعالي لنتفق على أنه مزيج .. يعني نصفه عربي ونصفه يهودي .
    ـ ماذا تعني ؟؟ .
    ـ أعني أن يكون نصفه الأعلى يهوديا ونصفه الأسفل عربيا ..
    يضحك ثم يستمر :
    ـ هكذا يخرج متكاملا من كلا الجانبين .
    تصمت وعلامات الحرج بارزة على وجهها ، ويستمر سامي في حديثه :
    ـ ثم هل تعلمين أنه إذا جاء من نقيضين يصبح ذكيا ؟؟
    تبتسم جميلة ، لكن تظل صامتة ، فيكمل سامي :
    ـ هكذا أريدك يا حبيبتي ، دائمة الابتسامة . لأن الابتسامة تأسر ما لا يستطيع السلاح أسره .. إنها تشبه القذيفة .. تنطلق من شفتيك وتصيب هدفها مباشرة .. أعني قلبي .. آآآآه من قلبي وضعفه .. لا أعلم لولاك يا حبيبتي ماذا كان بإمكاني فعله .. أنت أعدتِ بهجة الحياة إلى نفسي .
    فتجيبه وبقايا ابتسامة على شفتيها :
    ـ ما لك تتحدث عن الابتسامة بمصطلحات الحرب والمعارك ؟؟ .. كانت لغتك عذبة .. ما الذي غيرها ؟؟ .. أريد أن تتكلم برقتك التي أعرفها .. والتي أوقعتني في شباكك .. هل نسيتها ؟؟ .. ما هذه اللغة الحربية ؟؟ ..
    ـ إن الدنيا كلها تستعمل هذه المصطلحات في حديثها العادي .. ليس فقط في الحروب والمعارك .. لماذا يفاجئكِ الأمر ؟؟ .. ثم أنا رجل عسكري بالأساس .. ومن الطبيعي أن تختلط عندي المصطلحات ..
    ـ لكن أنا أفضل أن تحدثني بمصطلحات السلم والحب .. ثم لم تكن من قبل تكلمني بهذه اللغة .. وهذه المصطلحات .. لا شك أن هناك طارئا جعلك تبدل لغتك التي تعودتها منك .. أرجو أن لا تتحدث بهذه اللغة الحربية .. فلغة الحب والسلم أجمل وأحلى .
    ـ سأحاول يا حبيبتي .. سأحاول .. ولكن حتى يعم السلام أولا ونحس به .. أليس كذلك ؟؟ .. ألا ترين ما حولنا ؟؟ .. كلهم يريدون ابتلاعنا .. وعلينا أن نكون أقوياء .. حتى نظل متغلبين عليهم .. وكما يقول مثلكم العربي .. إن لم تكن ذئبا أكلتك الذئاب .
    ـ ولكن أنتم من شن الحرب .. أنتم من أخذ البلاد .. وأنتم المطالبون باحلال السلم .. أليس هذا صحيحا ؟؟ .. وأهل البلاد الذين غادروا .. أليست هذه بلادهم ؟؟ .. ألم تطردوهم من قراهم وبيوتهم ؟؟ .. ترى هل تظن أنهم سيبقون إلى الأبد بعيدين عن بيوتهم ؟؟ .
    ـ لا .. نحن لم نطردهم من بيوتهم وقراهم .. بل هم من هربوا .. لأنهم جبناء .. خافوا وهربوا ..ومع ذلك ربما يتم حل يرضي الجميع مستقبلا ..
    ـ أي حل تتكلم عنه ؟؟ .. ثم أنتم من طرد الناس وهجَّرهم من قراهم .. وقتلتم من قتلتم .. أنا اعرف فلست صغيرة .. هل تريد أن أسمي لك القرى التي طردتم أهلها ؟؟ .. أم القرى التي ذبحتم الناس فيها .. فخاف من ظل حيا وهرب .. هل نسيت كيف ذبحتم الناس في الجامع في اللد .. بعد أن تنكرتم بزي الجيش العربي .. أم نسيت في الشمال من ذبحتم في السهل أو الحرش أو غيره وغيره .. هل هذا هو الهرب الذي تعنيه ؟؟ .. ثم كيف تريد ممن قُتِل أبوه وأمه وأخوته أمام عينيه أن يفعل ؟؟ .. وهل يحسن من يوجه السلاح إلى رأسه سوى الخضوع للأوامر ؟؟ .. هل تظنني طفلة لتمرر عليَّ حكاياتك ؟؟ .. أنا لست طفلة يا سامي .. بل أعرف القصة كلها .. من أولها لآخرها .
    تظهر علامات الضيق على وجه سامي من كلام جميلة ، ويحاول الرد بطريقة ملتوية :
    ـ لكن حبيبتي هذه بلادنا .. هذه أرض الميعاد .. أرض آبائنا وأجدادنا .. عدنا إليها بعد غياب عنها .. ثم أنت الآن منا .. والواجب أن تدافعي عن وجهة نظرنا نحن وليس وجهة نظرهم .. لقد عشنا زمنا طويلا في أوروبا .. حتى جاء ذلك الشيطان المجرم .. الذي قتل منا ستة ملايين .. هل تعرفين أنه كان يضع شبابنا ونساءنا في أفران الغاز ؟؟ .. هذا عدا عن القتل الجماعي .. لم يتحمل شعب على وجه الأرض ما تحملنا نحن .. ولم يذق شعب ما ذقناه من التعذيب والدمار والموت .. وعدنا في النهاية إلى ارضنا .. أرض الميعاد .
    ـ ماذا تعني أرض الميعاد التي تتحدث عنها ؟؟ .. وأين تقع ؟؟ .
    ـ أرض الميعاد يا حبيبتي هي هذه الأرض .. وهذه البلاد .. نحن شعب الله المختار .. والرب وعدنا بهذه الأرض .. فهي لنا .. لقد كان أسلافنا يعيشون فيها .. طُردنا منها .. والآن عدنا إليها كما يقول وعد الرب .
    ـ أنا لا أفهم في هذه الأمور .. كل ما أعرفه أنكم جئتم وأخذتم البلاد منا .. وطردتم كثيرا من الناس إلى خارج الحدود .. لا تنكر هذا .. لا تنكر .. حتى من بلدنا هناك أناس طردتموهم إلى خارج الحدود .. هل نسيت عائلة الشامي ؟؟ .. إنها طردت قبل زمن ليس بعيدا .. منذ سنوات قليلة .. كانت تملك أرض كبيرة .. كبيرة جدا .. وطردتموها خارج الحدود .. وأقمتم مستوطنة على أرضها .. هل تنكر هذا ؟؟ .. والأخبار التي كانت تنتقل بين القرى عمن يقتلون ليلا في السهول وبين القرى .. من كان يقتلهم ؟؟ .. لا تقل لي إن من قتلهم هم العرب ؟؟ .. فالعربي هنا لا يقتل العربي .
    يتجاهل سامي الملاحظة ويستمر حديثه متسائلا :
    ـ دعينا من هذا الكلام الآن .. ولنفكر فيما يهمنا نحن فقط .. أنا وأنت فقط .. ماذا سنسمي ابننا ؟؟ .. أي اسم سنطلق عليه ؟؟
    تنظر جميلة باستغراب شديد ، فيكمل سامي :
    ـ أنا الأب ومن حقي المشاركة في اختيار الاسم .. وحتى أنتم .. فعندكم التسمية من حق الأب .. لن أحتكر التسمية .. بل أريد المشاركة فقط .
    وهنا ترد جميلة منْزعجة :
    ـ ماذا ؟؟ .. لم يبق إلا أن تسمي ابني .. .. عجيب أمرك .
    ـ لا تنْزعجي يا حبيبتي .. إن الاسم يجب ألا يوحي لأي شعب ينتمي المولود .. بل سنجعله يوحي إلى الأصل الأول .. إلى جدنا سام بن نوح .. الذي هو أبو السامية .. فكلانا نحن اليهود وأنتم العرب أبناء سام بن نوح .. وقد سمينا بالشعوب السامية .. وأريد لابننا انتماء كهذا .. دون تحديد لعرب أو يهود .. مثلي تماما .. فاسمي أنا مثلا يستعمله العرب واليهود على السواء .. ولا يمكن أن يدعي أحد أن اسمي يخص اليهود وحدهم أو العرب وحدهم .. بل كلاهما يسمي هذا الاسم .
    ـ كيف ؟؟
    ـ ما رأيك باسم سامي ؟؟ .. فكلانا من الأصل السامي كما قلت .
    تسأل باستغراب :
    ـ سامي !!
    ـ نعم سامي ابن سامي .
    ـ أناني .. إنك أناني وطماع .. إنك مرآة تعكس صورة المحيطين بك ..أنتم اليهود هكذا .. لا تتغيرون ولا تتبدلون .. طباعكم مُسخرة لمصالحكم .
    ـ إنك فيلسوفة تجيدين عملية التحليل النفسي .
    ـ إن الوعي ليس ملكا لأحد .. والحياة مدرسة ..ولا يحتاج الأمر إلى ما تقوله من مصطلحات لا أعرفها .. فكلامك يوضح حقيقتك .. ببساطة ودون تحليل .
    ـ صحيح ، ولكن دعينا نعد إلى موضوعنا .. ما رأيك بالاسم .. جميل أليس كذلك ؟ .. إنه جميل يا حبيبتي .
    ـ ما دامت الحكاية هكذا .. فلماذا نختلف حول الاسم ؟؟ .. لماذا لا نطلق عليه اسم جميل ..
    ـ جميل !!
    ـ أي نعم .. جميل ابن جميلة .
    ـ إن الاسم يجب أن يكون تجاريا .. لتسويقه في العالم أيضا .. وليس للاستهلاك المحلي فقط .. يجب تسويقه عالميا .
    ترد جميلة بصوت عال ، وقد ضاقت بمراوغة سامي :
    ـ لماذا ؟؟ .. نحن نعيش هنا .. فما دخل العالم بنا ؟؟ .. وماذا يعني لنا العالم طالما أنه ابننا وسيعيش معنا ؟؟ .. وما هذه المصطلحات التي ترددها .
    ـ أقصد أنه يجب ألا يوحي بانتماء بصورة مباشرة ، فهكذا يكون أسهل له في التكيف مع الجميع .. هنا وفي العالم .
    ـ يا لك من ملعون .. خبيث .. حتى في هذا تخطط لمصالحك فقط .
    ـ اتفقنا ؟؟ أظنك موافقة .. قولي حبيبتي إنك موافقة .. هيا .
    ـ اتفقنا .
    ـ هكذا بسرعة !!
    ـ ولم لا ، إذا توفرت النية الحسنة ، فمن الممكن لكلا الطرفين الاتفاق بسرعة حول كل المواضيع .. أنا موافقة .
    ـ إنك دبلوماسية على ما يبدو .. وربما وراء موافقتك ما يخفى علي الان فهمه وتفسيره .. لكن سأفهمه لاحقا .. فلا بأس .
    ـ ليس وراء موافقتي شيء .. لكن المشكلة .. أقصد مشكلتكم .. أنكم تريدون كل شيء .. كل شيء مهما صغر حجمه وقيمته .. والطمع والجشع يسيطر على عقولكم وقلوبكم .. حتى في تسمية المولود .
    ـ دعكِ من هذه الأمور ودعينا نفكر بالمولود .
    ـ ولكني قد أنجب انثى .. وليس شرط الحمل أن يكون ذكرا .. فربما جاء المولود بنتا .
    ـ أعرف ذلك .. ولكني أرجو ان يكون المولود ذكرا .
    ـ يبدو أنكم مثلنا تحبون الذكور .. ولا تحبون الاناث .. لماذا ؟؟ .
    ـ إن النفس البشرية واحدة .
    ـ لقد اعتقدت أنكم تختلفون عنا .. وعندكم البنت أفضل من الولد .. لكن الظاهر أنكم تختلفون عنا في أمر الطمع وحب التملك فقط .
    ـ إن الانسان في جوهره لا يختلف عن أخيه الإنسان .. فلا تقولي نختلف عنكم .. فنحن مثلكم تماما .. إن كل ما في الأمر ، هو أن الظروف والتربية تقود الانسان للسير في مسار معين .. ولكن في النهاية نجد أن الرغبات .. والطموح .. والهواجس .. وكل المركبات النفسية للبشر لا تختلف عن بعضها البعض في شيء .. ولولا هذا الصراع بيننا على البلاد .. لكنا بألف خير .. وَلَما عانينا نحن ولا أنتم .. ولا قامت الحروب بيننا .
    ـ ولماذا تغير الحديث إلى اتجاه آخر ؟؟ .. وما علاقة وضعنا أنا وأنت بكل هذا ؟؟ .. وهل هذا ينطبق على موضوع حوارنا ؟؟
    ـ إن العالم ذكوري وكل قول آخر هو مجرد رياء .. والحوار كله دروب وطرق تؤدي في النهاية إلى نفس النتيجة .
    ـ لكن ذلك ليس دقيقا .
    ـ بطبيعة الحال هناك استثناءات خفيفة .
    ـ ولكن كما قلت لك : قد أنجب انثى .
    ـ ما رأيك في أن نطلق عليها إذا كان الأمر كما تقولين اسم راحيل ؟؟
    وهنا تسأل جميلة باستغراب :
    ـ ماذا ؟؟ .. حتى البنت تريد أن تسميها بأسمائكم أنتم ؟؟ .
    ـ إنه اسم له أكثر من دلالة .. إنه اسم ينتمي إلى بيت النبوة فينا ، منذ القدم .. وأنتم أيضا تؤمنون بأنبيائنا .
    ـ ماذا تقصد ؟؟ .. انه اسم يخصكم أنتم.. ولا علاقة للاسم بالنبوة .
    ـ إنني واثق من ذكائك .. إنها أرضنا .. لذا يجب أن تكون الاسماء من اختيارنا .. وفقط من اختيارنا .
    ـ يا لك من خبيث .. حتى الاسم أوجدت له علاقة بالأرض .. ومن قال انها أرضكم .. إنكم تحلمون .. لقد ورثنا الارض أبا عن جد .. ثم لماذا لا تتكيفون مع الواقع الجديد .. وماذا يمنعنا من التداخل جغرافيا واجتماعيا .. لماذا لا تندمجون مع هذا المحيط حولكم ؟؟ .
    ـ إنك واهمة جدا يا حبيبتي .. الواقع نحن من نخلقه .. ونحن من أوجد الواقع الجديد .. لذا عليكم أنتم أن تقبلوا بالواقع الذي صنعناه نحن .
    ينظر الى بطن جميلة ويبتسم :
    ـ لكن حبيبتي سأوافقك على ما قلت .. بعدما تداخلنا جسديا .. وصار بيننا شراكة لا يمكن فضها بحال .
    ـ لماذا تلغز الكلام دوما ؟؟
    ـ أوليس صحيحا ؟؟
    ـ لذلك يجب أن تتواضعوا في طموحاتكم .. وتكفوا عن الطمع .
    ـ لا حياة من دون طموحات عريضة ، ثم ماذا أغضبك في اقتراحي حول التسمية فيما لو كان المولود أنثى .
    ـ إن واقع الحال في أحشائي يحتم أن تكون الارض لكلا الطرفين .. وليس لطرف دون طرف .. يحتم قسمتها بالتساوي بيننا .. حتى وهو ابننا .. لأن لي حقا فيه .. كحقك تماما بغير نقصان .. وما يملكه فلي فيه النصف .. ألستُ أنا أمه ؟؟ .. بل أكثر .. لأنني من رعيته تسعة أشهر في أحشائي .. وهي الأساس الذي أنت غائب عن الرعاية خلالها .
    تصمت قليلا ويبدو عليها ضيق ، ثم تردف :
    ـ أوَنسيتَ ؟؟
    يهز سامي رأسه مبتسما ، بينما تستمر جميلة في حديثها :
    ـ إن صيغة التعايش موجودة ، لقد تداخلنا على جميع الأصعدة .. وليس كجسدين فقط .. إن المولود الآتي قرر تداخلنا عبره أيضا .. إذ لولاه .. ربما كان الوضع مختلفا .. ولما كنا كما نحن .
    ـ صحيح ولكن الغرب لن يسمح لنا بذلك .
    وتسأل باستغراب وضيق من تشعبه في الكلام :
    ـ ماذا ؟؟ .. وما دخل الغرب فينا ؟؟ .. وفي ابننا وأحلامنا ؟؟ .. ألا تعرف سوى حشر الغرب ؟؟ .. حتى بيننا تحشره ؟؟ .
    ـ إنها حرب الحضارات .. حضارتكم وحضارتهم .. وهم يطلبون ثمن تثبيت تواجدنا هنا .. والثمن ليس كما تحلمين حبيبتي .. إنه ثمن باهظ لكم ولنا .. إنه نحن أو أنتم وليس سواه .
    ـ أي ثمن ؟؟ .. وما هذا الكلام الذي لا أفهمه ؟؟ .
    ـ الثمن هو إشعال نار الحروب دائما .. لإيجاد المبرر لمواصلة تدخل الغرب من أجل إجهاض كل تطور في العالم العربي .. انهم يريدونكم أن تظلوا ضعفاء .. غير قادرين على شيء :
    تكاد تصرخ في وجهه ، وهي غير مصدقة ما تسمعه :
    ـ يعني أنتم الخشبة التي يقفز عليها الغرب إلى العالم العربي ؟؟!!
    ـ بالضبط .
    ـ أعتقد أنك تبالغ .. بل مؤكد إنك تبالغ .
    ـ كان عليّ ألا أكشف السر .. ولكن الحب .. هذه القوة الروحية التي تسيطر على الإنسان وتنقله إلى أجواء طفولية .
    ـ إنك تهذي على ما يبدو .
    ـ قد يكون ذلك صحيحا .. لكن أظن الوقت تأخر كثيرا .. وعلي العودة .. يجب أن أذهب حبيبتي .
    ـ ما زال الوقت مبكرا .. ابق قليلا ..
    ـ سأعود حبيبتي غدا أو بعد غد .. فلا تقلقي .. هاتي قبلة .. وانتبهي لابننا .. وفي المرة القادمة اخبريني ما نحتاج لشرائه للمولود .. لقد بقي شهران على خروجه إلى الدنيا .. كم أنا متلهف لاحتضان ابننا .
    ـ سأخبرك .. لكن لا تغب طويلا .. فأنا بحاجة لمن يقف بجانبي .. لقد بدأ يتعبني كثيرا .. تماما كما أتعبني أبوه .
    ـ هههههه .. آآآآآآآآآه يا حبيبتي .. كم أحبك يا جميلة .
    ـ تحبني أم تحب المولود ؟؟ .. أم تحبني لأجله ؟؟ ..
    ـ بل أحبكما معا .. كلاكما حبيب إلى قلبي .. ما أطول الشهرين ؟؟ .. ليتهما يوم واحد .. يجب أن أذهب .. إلى اللقاء حبيبتي .
    ـ إلى اللقاء حبيبي .
    ـ ماذا ؟؟ .. تقولين حبيبي .. آآآآآآآآآآآآآه .. كم أنت حبيبة على قلبي يا جميلة .. أحبك حبيبتي .. اسمعيني الكلمة مرة أخرى .. ما أجملها منك .
    ـ أحبك حبيبي .. أحبك حبيبي .. حبيبي .. هل تأكدت الان ؟؟.
    ـ نعم حبيبتي .. نعم يا اجمل حبيبة .. أحبك .
    يقبلها ويغادر المكان ، وتعود جميلة إلى البيت ، ويعاودها الشعور بالغثيان والقرف من الوضع الذي هي عليه ، وأحست أن انسجامها مع سامي زاد عن حده ، وأنها أصبحت دمية في يده يقلبها كيف يشاء ، وظلت تفكر في كلمة " حبيبي " التي قالتها له ، فهي لا تقبله حبيبا مهما كان ، ولكن ضعفها ألجأها إلى شيء من الحيلة لترضيه ، وتحقق ما تصبو إليه .

    ******************



    " أعتبر نفسي مسؤولاً عما في الدنيا من مساوئ ما لم أحاربها "

    تعليق

    • هادي زاهر
      أديب وكاتب
      • 30-08-2008
      • 824

      #17
      جميلة وسعدى تسهران وحدهما ، وتسرح سعدى وتحلق بخيالها بعيدا ، تفكر في حبيبها الذي غاب ولن يرجع ، واللحظات التي قضتها معه ، وما آل اليه حالها بعده ، ويدور الحوار التالي الذي تبدأه جميلة :
      ـ سعدى .. يا سعدى .. أين سرحتِ أخيتي .. مالك يا بنت .. ردي .
      ـ هااااااااا .. لا تؤاخذيني أخيتي .. حالي منذ غاب حبيب القلب .. ما عاد كما كان .. يا حسرتي على زهرة شبابه .. مضى وتركني لماذا ؟؟ .. لماذا لم يأخذني معه ؟؟ .. لمن أبقاني بعده ؟؟ ..
      وتجهش سعدى بالبكاء ، وتبكي جميلة لبكائها الذي يقد الصخر ، وتحاول جميلة تهدئتها :
      ـ حبيبتي .. أخيتي سعدى .. الميت لا تجوز عليه إلا الرحمة .. ويقال إن كثرة البكاء على الميت حرام .. ترحمي عليه أخيتي .. وادعي الله أن يجعله من أهل الجنة .. فهذا أفضل بكثير من بكائكِ عليه طول الوقت .
      ـ ليس الأمر بيدي يا جميلة .. ليس بيدي يا أخيتي .. رحمه الله وعفا عنه .. حبيب قلبي الغالي .. كان قد نوى في نفس الاسبوع أن يأتي مع أبيه ليخطبني .. مرتين نوى أن يخطبني .. وفي المرتين وقع أمر منعه .. لكن هذه المرة ليس سجنا ويخرج منه .. هذه المرة سجنه القبر إلى يوم القيامة .. يعني لن يأتي ولن يخطبني .. لن يكلمني ولن يضحكني .. ولن يقرصني حتى يلفت انتباهي اذا سهوت عنه .. لن يسرق قبلة من خدي .
      تتحسس خدها ، وموضع القبل التي كان يطبعها حبيبها عليه ، وتتنهد بحسرة وألم وتتابع :
      ـ وأهل البلد كأنهم كانوا ينتظرون موته .. سبحان الله .. ثلاثة بعد موته طلبوا يدي من أبي .. وأبي يراني كالهم على صدره .. يريد أن يزيحني ليرتاح مني .. وأنا لم يعد باستطاعتي الرفض أكثر .. رغم أنهم ليس فيهم مثل حبيبي .. أخيتي .. حتى ابن راعي العجال طمع فيِّ .. ويريد خطبتي .. ماذا أعمل يا جميلة ؟؟ .. وحتى المختار .. الشايب العايب يريدني زوجة .. رغم أنه متزوج وزوجته ليس فيها أي عيب .. ماذا أفعل ؟؟ .. ارشديني .. ارشديني إلى حل .. وضع البنت ليس كوضع الشاب .. البنت منا ما لها حق أن ترفض طلب الرجل .. كأنه منْزل من السماء .. رغم أن الرجل والمرأة متساويان .. من قال بأني يجب أن أكون مثل السلعة بيد الرجل .. بنت جيراننا أتاها خاطب .. ولم يعجبها العريس .. وتجرأت ورفضت .. اتهموها أنها عاشقة وتحب .. وهي طوال عمرها لم تكلم أحدا غير إخوتها .. بنت أبي مطاوع زوجوها غصبا عنها .. وبعد شهرين طلقها زوجها ورماها مثل البهيمة .. ورجعت إلى بيت أهلها لتخدم الكبير والصغير .. وتتجرع الذل والمهانة بصبر وصمت حتى تستر حالها .. رغم أنها في بيت أبيها .. بنت الحاج سعيد الذي مات قبل سنوات .. رفضت العريس .. قتلوها بعد ما أشاع أهل العريس عنها إشاعة قبيحة .. وهي بريئة منها .. كانت أطهر من المطر .. وألبسوها الاشاعة وشوهوا سمعتها .. وقتلها أخوها .. قال : جلبت العار .. أي عار .. إنهم هم العار .. وأنا صرت أخاف يا جميلة من الأيام القادمة .. خائفة أن يكون مصيري كمصير أية واحدة منهن .. ويا سواد عيشتي بعدها .. هذا العصر لا يختلف عن سابقه .. الرجل حاكم متسلط والمرأة مجرد سلعة تباع وتشترى .. ليس لنا قيمة يا جميلة .. يريدوننا فقط للفراش والحمل والولادة والشغل .. لا يسألوننا عما نحب .. أو نكره .. لا يسألوننا هل أعجبنا العريس أم لا .. كلامهم أوامر منْزلة من السماء .. أما نحن فعلينا الطاعة بدون تردد .
      ـ اهدأي أخيتي سعدى .. اهدأي وسيفرجها ربنا .. ثم هل تنوين البقاء بلا زواج ؟؟.. أخيتي الزواج ستر للبنت .. وأنت في وضعك طبيعي
      أن الناس يتكلمون عنكِ ويطلبون يدك .. ثم أنت يجب أن تتزوجي .. فالذي مات لا يرجع .. وكما قال المثل أخيتي : الحي أبقى من الميت .

      ـ ما رأيك أنتِ يا جميلة ؟؟ .. يعني هل ترين أني على خطأ ؟؟ ..لكن أنت عرفته وعرفتِ أخلاقه وطيبته .. ولهفته عليَّ .. وتعرفين الذين طلبوا يدي بعده .. ليس فيهم واحد مثله .. فكيف أقبلهم ؟؟ ..
      ـ يا سعدى .. يا حبيبتي أخيتي .. الرجل لن تعرفيه حتى تجربيه .. وما أدراكِ أن يكون واحد منهم مثله .. أو يفوقه في الطيبة والأخلاق .. ثم حين تعاشرين غيره ستنسينه .. ولن تبقى منه غير ذكرى طيبة .. وسيفرح لك في قبره .. لأنه كان يهمه سعادتك .. وانت ستترحمين عليه كثيرا .
      ـ اكيد هذا الكلام يا جميلة ؟؟ .. أم تريدين تعزيتي ومواساتي أخيتي ؟؟ .
      ـ اسمعي مني أخيتي .. ما أقوله لكِ هو الصحيح .. الميت لا تجوز عليه غير الرحمة .. والحياة يجب أن تستمر .. بنا أو بغيرنا .. الحياة عجل ويدور .. والزمن في حالة سير بلا توقف .. وغدا ستكبرين أكثر .. ومن يطلبك اليوم لن يعود ليطلبك غدا .. سوف يبحث عن فتاة أصغر منك .. سوف يراك كبيرة وغير مناسبة له .. اسمعي نصيحة أختك .. أول خاطب يقرع بابكِ افتحي له .. ومن يدري .. فمن الممكن أن تكون سعادتك معه .. وماله ابن راعي العجال ؟؟ .
      ـ هكذا !!.. تريدون التخلص مني .. أتبيعونني رخيصة ؟؟.. حتى ابن راعي العجال صار مناسبا لي ؟؟ .. لماذا ؟؟ .. هل أنا عنَّسْتُ.. ألاف يتمنونني .
      ـ يا سعدى المهم أن يكون الشاب جيدا وعلى خلق .. وليس مهما ابن من .. والآن هيا إلى النوم .. صار الوقت متأخرا .. والأيام كفيلة أن تنسيك كل الذي مضى .. نامي أخيتي .. تصبحين على خير .
      ـ وأنت من أهل الخير يا جميلة .. ايه يرحمك الله ويغفر لك يا حبيبي .. لقد كنت نعم الرجل .. عشت بطلا .. ومتَّ بطلا .. يرحمك الله .
      تنامان بجانب بعضهما ، وفي أثناء نوم سعدى ، يأتيها حبيبها في الحلم ، وعلامات الغضب بادية على وجهه ، ويشيح عن سعدى بوجهه ، وسعدى تحاول النظر في وجهه ، لكنه يشيح عنها ، وتظهر على وجهها أثناء نومها حركات غريبة ، وشفتاها تتمتمان بصوت غير مسموع ، وتدخل في حوار مع حبيبها في الحلم :
      ـ حبيبي مالك .. أدر وجهك إلي .. ليست عادتك .. مالك حبي ..لماذا أنت غاضب مني .. لماذا يا حبيب قلبي ؟؟ .. هل أنا أخطأت حتى تزعل ؟؟ .. والله أُغضبُ الدنيا إلاكَ .. تلفت إلي حبيبي .. لا تدر وجهك عني .
      ـ زعلان منك يا سعدى كثيرا .. لأنك لا تحبينني .. زعلان منك .. كثيرا زعلان .. لا تظلي بدون زواج .. يجب أن تتزوجي يا سعدى .. إن كنت تحبينني فعليك الزواج .
      ـ انا لا أحبك حبيبي ؟؟ .. كيف لا أحبك يا عمر سعدى ؟؟ .. وما الذي أوصلني إلى هذه الحالة غير حبك ؟؟ .. والله أحبك يا حبيبي .. والله أحبك يا عمر سعدى .. حتى إني رفضت كل الذين طلبوا يدي بعدك .. لكي أظل وفية لحبك .. حلفت أن لا أتزوج بعدك .. ولا أرضى رجلا بعدك حبيبي .
      ـ غلط .. غلط يا سعدى .. أنا لا يرضيني كلامك وقرارك .. واذا كنت تحبينني فتزوجي .. يجب أن تتزوجي يا سعدى .. يجب أن تتزوجي ..
      ـ حاضر حبيبي .. لا تزعل .. إن كان هذا يرضيك .. سأقبل أي عريس يطرق الباب .. لكن أنت يا عمر سعدى لا تغضب مني .
      في هذه الاثناء صار صوت سعدى يرتفع ، وأفاقت جميلة على صوتها ، وأرادت إيقاظها ، لكنها تركتها وجلست تستمع اليها ، وتسمع كلامها
      أثناء نومها ، واستمر الحلم :
      يجب أن تتزوجي يا سعدى .. ابن راعي العجال .. طيب ومناسب لك .. وسعادتك ستكون معه .. اقبليه وتزوجيه .. لا تبقي بلا زواج يا سعدى .. وإلا سأغضب منك ولن ترني بعد هذه المرة اطلاقا ..
      ـ حاضر .. حاضر حبيبي .. سأقبله عريسا .. فقط لا تغضب مني بالله عليك .. سأقبله عريسا وزوجا لي .
      لم تصبر جميلة كثيرا وصارت توقظ سعدى من النوم ، وسعدى تردد الكلمات الاخيرة " سأقبله عريسا وزوجا لي " وتتابع جميلة إيقاظها ، فتصحو وهي تردد " سأقبله عريسا .... " ، وتسألها عما رأت في المنام ، ومن الذي كانت تحدثه في منامها :
      ـ بسم الله عليكِ يا سعدى .. خيرا .. اللهم اجعله خيرا .. من كنتِ تكلمين أثناء نومك يا سعدى ؟؟ .. تعوذي من الشيطان وسمي باسم الله يا سعدى .
      تستيقظ سعدى فزعة من نومها ، خائفة مما رأت في نومها :
      ـ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم .. بسم الله الرحمن الرحيم .. يا رب اجعله خيرا .. اسقِني أخيتي شربة ماء .. يا لطيييييييييييييف .. ما هذا الحلم ؟؟ .. رأيته في المنام معرضا عني .. وغاضبا مني .. وحين سألته قال لي أن أتزوج ابن راعي العجال .
      تنهض جميلة وتحضر كوب ماء ، وتقدمه إلى سعدى وتتابع الكلام :
      ـ من هذا الذي رأيتِه يا سعدى وقال لك هذا الكلام ؟؟..
      ـ يعني من يكون ؟؟ .. ليس غيره .. حبيب قلبي .. غاضب مني ..ثم إن حالتي هذي التي وصلت إليها .. أليست بسبب حبي له .. ولأني لا أفضل عليه مخلوقا .. وغاضب مني أيضا ؟؟ .. ويشيح بوجهه عني ؟؟ .
      ـ استهدي بالله يا سعدى .. أرأيتِ .. ما قلته لك هو الصحيح .. يجب أن تقبلي وتتزوجي أخيتي .. وهذا الحلم بشارة خير .. بشرنا الله بالخير دوما .. اشربي الماء ولنعد للنوم .. تصبحين على خير خيتا .. هاتي قبلة من خدودك .. أسعدك الله وأسعد خدودك .. آه ما أطيبك يا أخيتي .. هاتي قبلة هاتي .
      تميل على سعدى وتقبلها ثم تنام ، وتشرب سعدى الماء ، وتجلس في الفراش تفكر في الحلم وما رأت ، وما جرى لها خلاله ، وبعد وقت تنام هي الأخرى بجانب جميلة ، وفي الصباح يستيقظ البيت ، وتحضر جميلة الفطور ، وتتناوله مع ابنها وأختها ، بعدها تغادر سعدى عائدة إلى بيتها ، وتظل جميلة مع ابنها ، وتمضي نهارها في أعمال البيت والاعتناء بالطفل .

      *****************









      " أعتبر نفسي مسؤولاً عما في الدنيا من مساوئ ما لم أحاربها "

      تعليق

      • هادي زاهر
        أديب وكاتب
        • 30-08-2008
        • 824

        #18
        موعد لقاء جميلة بسامي فات ، وجميلة بدأت تتململ ، وهي تنتظره ، وهذا اليوم اصطحبت ابنها معها ، وتركته يلعب ، والحمار مربوط إلى شجرة قريبة ، وهي جالسة ، وممسكة رأسها بيديها ، والوقت يمضي ، وبدأ القلق يساورها أن لا يأتي سامي ، وخشيت أن يكون اكتفى منها ، وسيهجرها ويتركها ، وداهمتها أفكار سوداء ، ومرت أمام مخيلتها مشاهد سوداء قاتمة :
        ـ لقد تركني سامي .. لن يأتي اليوم ولا في أي يوم بعد .. لقد أخذ ما تمناه .. دنس شرفي وحملت منه .. وجعلني جاسوسة له .. وتوصل بواسطتي إلى أغلب الثوار في البلد والمنطقة .. أي حقيرة أنا .. لماذا خضعت وسقطت في وحل الخيانة ..لو أنني أخبرت عدنان من أول لحظة .. وكشفت له أمر اغتصابي من سامي .. ربما كان صدقني .. وأراحني منه .. لا .. لا .. عدنان ماذا كان بامكانه أن يفعل ؟؟ .. ربما قتلني أو طلقني على أقل تقدير .. يا لي من ساقطة .. لقد وافقت سامي على فعل كل الامور الخسيسة .. أنا لا أستحق الحياة .. موتي أشرف ألف مرة من حياتي في مستنقع الخطيئة والخيانة .. لا .. لا .. لم يكن بإمكاني فعل شيء أمام اصرار سامي وتهديده لي بالفضيحة .. لكن سامي يحبني .. وفرحته حين قلت " أحبك" كانت كبيرة.
        يظهر سامي فجأة على مقربة من جميلة ، بلباسه التنكري الذي اعتاد ارتداءه كل لقاء ، ويراقب جميلة وابنها ، ومعه صرة كبيرة فيها ملابس للمولود المنتظر ، أحضرها كما وعد جميلة ؛ وبدأ يراقب الوضع ، وجميلة ممسكة رأسها بيديها ، سارحة بهواجسها ، والطفل يلعب في المكان ، ويغني كيفما اتفق ، دون تدقيق في الكلام ، لكن النغم يخرج متقنا ، وكانت كلماته تخرج مهشمة كثيرا ، بالاضافة إلى لثغة ، وقلب السين والصاد ثاء والراء لاما والجيم ذالا والقاف والكاف تاء وهكذا :



        بدي ألوح عالمدلثة
        وأذيب ثهادة تبيلة
        جج

        وأتعلم أتُّب إثمي
        وأثيل دتُّول تبيل





        ويستمر في غنائه الألثغ ، فالراء انقلبت لاما ، والكاف تاء ، والجيم ذالا والسين والشين والصاد ثاء ، لكنه لا يبالي بهذا ، فما يهمه هو اللعب ، ويقبل سامي على جميلة ، ويبادرها همسا ، لكنه همس مسموع :
        ـ سلام حبيبتي .. تأخرت عليكِ .. أنا آسف يا روحي .
        تجفل جميلة في البداية ، لكنها تطمئن بعد تأكدها من سامي :
        ـ سامي !! .. والله شغلتني عليك .. ما الذي أخرك عني .. ألا ترى كيف أحوالي ؟؟ .. الجنين أتعبني .. قريبأ سيخرج إلى الدنيا .. أليس ابنك أيضا ؟؟ .. تعبانة يا سامي .. تعبانة .. لم يعد فيِّ حيل .. أريد أن أرتاح .. أم أنك لا يهمك حالي ؟؟ .. أنت تعلم أنه ليس لي أحد إلا الله ثم أنت .. لماذا تتأخر علي كثير ؟؟ .. لم يعد فيي حيل .. ولماذا أبثك همي .. فأنت لا يهمك شيء سوى مصلحتك .. حتى لو كانت في موتي .. تريد المولود فقط .
        ـ لا يا جميلة .. كيف لا يهمني حالك يا روحي ؟؟ .. صار لي سبع شهور برفقتك .. فهل سأتخلى اليوم ؟؟ .. ألستُ انسانا أنا أيضا ؟؟ .. ألا أحس بكِ ؟؟.. لا حبيبتي .. لا أريد سماع هذا الكلام مرة ثانية .. خذي وانظري ماذا أحضرت لك معي من المدينة .
        ـ ما هذا الذي في الصرة يا سامي ؟؟ ..
        ـ افتحيها وانظري بنفسك .
        ـ لا أريد فتحها قل لي ماذا فيها ؟؟ .
        ـ ثياب للمولود .. اشتريتها بنفسي رغم أني لا أعرف ما يلزمه .. لكن اشتريتها .. وأنت فصليها كيفما شئتِ .. واعملي االمطلوب للمولود .. لكن قبل أنسى .. لماذا أحضرتِ ابنك معك ؟؟ .
        ـ وماذا أفعل ؟؟ .. اختي نامت عندي الليلة وفي الصباح عادت إلى بيتها .. وما أحببت أن أثقل عليها كل مرة .. قلت أدعها تذهب وأنا أصحبه اليوم معي يلعب ويشم هواء عليلا في الوعر .. ثم هو ما زال طفلا صغيرا ولا يعرف شيئا .. لا تنشغل به .. لن يعرف شيئا .. خاصة وأنت تلبس ثياب الفلاحين .
        ـ لكن حبيبتي عملنا سري .. ولا يجب أن يكون غيرنا أنا وأنتِ .. فلماذا أحضرت ابنك معك ؟؟ .
        وأثناء الحديث يقبل الطفل وهو يغني :
        ـ " ما بحمي الدال غيل الثوال " يقصد ( ما بيحمي الدار غير الثوار ) .
        وعندما يقترب ويرى سامي يسرع إلى حضن أمه ، فتحضنه أمه ، وتحاول طمأنته إلى وجود سامي :
        ـ لا تخف يا خالد .. هذا جدك إبراهيم .
        ـ من ذدي ابلاهيم يا أمي ؟؟
        ـ جدك إبراهيم .. الذي يذهب إلى أبيك .. ويحضر لك الحلوى .
        تنفرج أسارير الطفل وتظهر عليه علامات الارتياح لوجود سامي ( جدو ابراهيم ) ، وهنا يبادر سامي بالكلام موجها الخطاب إلى الطفل :
        ـ كيف حالك جدو ؟؟ .. مبسوط ؟؟ .. أم أن ماما تزعلك ؟؟ .. إذا كانت تزعلك أخبرني .
        ـ لا .. لا تذعلني .. ماما أحثن أم .. تحضل لي ملبثا ولاحة وتل ثيء .
        ـ هههه .. مليح كثير .. لكن إذا أزعلتك ماما .. فقط قل لي .. فلن أعطيها الملبس والراحة .. وسوف أعطيك وحدك.. ونأكلها أنا وأنت فقط .. وهي لا ..
        ـ لا .. لا أليد.. ماما أحثن أم .. وهي تحضل لي ملبثا ولاحة .
        ـ أنت ذكي جدو .. ذكي كثيرا .. ماذا كنت تغني .
        ـ " ما بحمي الدال غيل الثوال " .
        ـ من علمك أن تغني هكذا يا جدو ؟؟ .
        ـ أنا تعلمت من الاولاد في الحالة " الحارة " .. تُل يوم نغني .. لأن أبي بطل .. وحبثه اليهود .. وتالت أمي ثنذهب ونذوره في الثذن .
        ـ وماذا تحب أن تصير عندما تكبر يا جدو ؟؟ .. مثل أبيك ؟؟ .. أم مثل أمك ؟؟ أم مثلي أنا ؟؟ .
        ـ ثأثيل مثل أبي .. بطلا .. أثتري بلودة وأتخ اليهود .
        ـ لماذا يا جدو .. اليهود لا يكرهوننا .. لماذا تريد أن تطخهم ؟؟ .
        ـ لأنهم حبثوا أبي .. وأنا منذ ذمان ما لأيْتُ أبي .. لماذا ذِدو ؟؟ تُل الأولاد عندهم أب .. لكن أنا أبي في الحبث .. ثحيح يا أمي ؟؟ .. أليثَ تل الأولاد عندهم أب وأنا أبي في الثذن ؟؟ .
        ـ جميل يا جدو .. لا تزعل .. خذ ملبسا .
        ـ هيييييييييييه .. ملبث .. ملبث .. آخذ يا أمي؟؟ .
        ـ خذ بُنيَّ .. جدك إبراهيم يحبك .. خذ واذهب تابع اللعب .
        يدخل يده في جيب القمباز ، ويخرج منه بضع سكاكر ، ويقدمها للطفل ، فيأخذها وينطلق ليتابع لعبه وغناءه ، ويعود سامي للحديث مع جميلة :
        ـ ما هذا يا جميلة ؟؟ .. أين ربيتِ ابنك ؟؟ .. ما هذا التعليم ؟؟ .
        ـ ما زال صغيرا يا سامي .. وهذي الأغاني تعلمها من أولاد الحارة .. ثم لماذا تضايقت ؟؟ .. دعك منه ولننشغل بحالنا .
        ـ حاضر .. حاضر حبيبتي .. هل نفذت ما اتفقنا عليه ؟؟ . أم مقصرة كالعادة ؟؟ .. فأنت في المدة الأخيرة أصبحت تقصرين كثيرا .. لستِ كما كنت في البداية .. يظهر أن الجنين أثَّر على صحتك كثيرا .. لا بأس غدا تلدين وتعود إليك صحتك .
        ـ نفذته كله .. كما اتفقنا .. لكن انا قصدي حالنا يعني حالتي .. المولود سوف يخرج قريبا .. هما شهران .. يعني اغمض عينا وافتح عينا .. تجده يصيح ويبكي .. أين تريد أن ألده ؟؟ .. أنا أحب أن ألده عندكم في المستشفى .. وليس في بلدنا على يد الداية .. فكر معي حتى نرتب حلا كيف تأخذني إلى المستشفى ..
        ـ هذا أمر بسيط يا جميلة .. لا تفكري كثيرا .. ما زال الوقت مبكرا حتى تلدي .. وخلال الشهرين تتغير أحوال وتتبدل .
        ـ أحب أن ألد في مستشفى .. الولد الأول أولدتني الداية في البيت .. وكانت يدها ثقيلة علي .. لولا عناية الله كنت قضيت ساعة الولادة .. وأخاف هذه المرة أن يحدث لي ما حدث في المرة الأولى .
        ـ ولماذا لا تلدين في القرية .. الداية لا تختلف عن المستشفى .. واذا أخذتك إلى المستشفى فالكل سيسأل .. وأنت لا تقدري على تكاليف المستشفى .. والكل سيشك بأمرك .. من أين لها المال للمستشفى ؟؟ .. من أين ؟؟ .. وما أدراها بالمستشفى وزوجها مسجون ؟؟ .. وتخيلي وضعك بعد هذه الأسئلة .. مؤكد أن البلد كلها ستعلم بعلاقتنا .. وساعتها سيخرب كل عملنا وتخطيطنا .. أنا رأيي أن تلدي في بلدكم .. حتى لا تثيري شكوك الناس حواليكِ .. فاتركي الوضع طبيعيا .. وكما ولدتِ ابنك الأول .. تلدين الثاني .. فالولادة الثانية أسهل بكثير من الأولى .
        ـ حاضر .. حاضر كما تريد .. لكن غدا سينْزل أهل البلد إلى المرج .. لقد بدأ موسم الحصاد .. أمس بعث المختار الناطور وأبلغ البلد أننا غدا سنذهب إلى المرج كي نحصد .. وفي موسم الحصاد كل البلد تذهب إلى المرج وتحصد .. حتى من ليس لديه أرض يذهب ويحصد عند غيره .. وأجرته من الغلة .. وأنا سأذهب وأشتغل .. حتى لا يشك أحد فِيَّ وكيف أعيش في هذا المستوى من الغنى وزوجي مسجون .. وأنت تعلم أن بلدنا فقيرة .. ولن يتوقف كلام أهل القرية إن رأوا حالتي وأنا بلا عمل .
        ـ لماذا تشتغلين حبيبتي ؟؟ .. ولماذا البلد كلها تذهب إلى المرج وتحصد ؟؟ .. هل كل أهل البلد يملكون أرضا وحصادا ؟؟..
        ـ لا .. ليس كل أهل البلد يملكون أرضا وحصادا .. لكن كما قلت لك .. عندنا من ليس لديه أرض وحصاد .. يذهب ويحصد عند غيره بأجر.. حتى يجني المؤونة ..
        ـ وكيف سأراك في فترة الحصاد ؟؟ .. المرج ليس مثل الزيتون .. المرج مكشوف للجميع .. وليس بإمكاني المجيء إلى هناك .. وإلى البلد .. حتى لو جئت فصعب أن نلتقي .. ثم أنت لا تحتاجين إلى العمل .. أنا أنفق عليك وعلى بيتك .. ولا أدعك تحتاجين شيئا ..
        ـ المسألة ليست هكذا .. فحتى الآن لم ينفد المصروف الذي أعطيتني إياه .. والذهب لم ينفد .. لكن لا أريد أن يحس أحد بوضعي في البيت .. لأن زوجي مسجون .. واذا لم أشتغل .. ورأوا حالتي ميسورة ولست محتاجة .. فسيقولون ويقولون .. وألسنتهم لا تبقي ولا تذر .. ونحن في غنى عن كلامهم .. دع حالنا مستورا .. وكما وافقتك بشأن الداية والولادة .. يجب أن توافقني في أمرالشغل والحصاد .. فأنا أعلم بأهل بلدنا وكيف يفكرون .
        ـ حاضر يا جميلة .. حاضر .. لكن يجب أن نفكر في طريقة أراك فيها .. فأنا لا أحتمل غيابك عني .
        ـ عندي رأي .. اسمع .. لماذا لا تعمل بياع عنبر وقرمش ؟؟.. وتأتي إلى البلد على حمار وخرج .. وتبيع عنبرا وقرمشا وملبسا .. وأشياء للزينة للبنات .. وهكذا أستطيع رؤيتك كل يوم .. أو حتى بإمكانك المجيء إلى المرج عند الحصادين .. وتبيع القرمش وغيره بقمح وشعير ..ما رايك ؟ .
        ـ والله فكرة حلوة يا جميلة .. سأعمل بياع قرمش وعنبر .
        ـ والآن.. سأعود للبيت قبل غروب الشمس .. والولد جاع .. وهذا طفل وغير معتاد على الجوع .
        ـ حاضر حبيبتي .. وأنا يجب أن أمضي .. صار الوقت متأخرا .. سلام حبيبتي .. إلى اللقاء جميلتي .

        يغادر سامي ، وتحمل جميلة ابنها وتركبه على الحمار ، وتسير بجانب الحمار عائدة إلى البيت ، وحين تصل ، تحضر إليها سعدى ، وتنام عندها .

        *******************





        " أعتبر نفسي مسؤولاً عما في الدنيا من مساوئ ما لم أحاربها "

        تعليق

        • هادي زاهر
          أديب وكاتب
          • 30-08-2008
          • 824

          #19
          موكب الحصادين انطلق منذ الفجر صوب المرج ، فهذا أول أيام الحصاد ؛ الاصوات على الطريق تشق الفضاء ، والموكب يسير بهمة ، رجالا ونساء ، البعض يركب الدواب ، والبعض يسير ، وترتفع بين الحين والحين أصوات حماسية تغني من وحي المناسبة ، فالحالة تبعث شعورا بالنشوة ، وتبرز عنصر الوحدة والتكاتف ، حتى وإن كان قسم من الناس ذاهبا ليشتغل عند غيره وليس في أرضه ، وينطلق صوت رجل جهور يغني ويلوح بالمنجل :



          منجلي يا منجلاهْ
          ما جلاه الا بعلبهْ



          راح للسايغ جلاهْ
          ريت عالعلبهْ عزاهْ





          منجلي مسنون حدهْ
          منجلي بينادي زندُهْ



          تعالوا وشوفوا حصدهْ
          وزنده والله ما سلاهْ





          ويمضي غناء الرجل الحماسي ، بينما تظهر جميلة وسعدى ، في حوار وكلام ؛ جميلة راكبة الحمار وابنها في حضنها ، وتمسح عرقها الذي بدأ يتصبب منها في ساعات الصباح نتيجة حر الصيف وثقل الحمل ، وسعدى تسير بجانبها وتحدثها :
          ـ يعني يا جميلة أصبحت تشكين الحر ؟؟ .. كيف بك في الشغل ؟؟ .. وساعات الظهر .. أو حتى قبل الظهر .. أي وقت الضاحية .. من الممكن أن لا تقدري أن تحصدي أو تغمري أو تفعلي أي شيء .. ويمكن أن يغمى عليك .. وهاتوا رشوا الماء على جميلة .. شدي حيلك يا جميلة .. فأنت ما زلت في الشهر السابع .. يعني الوضع خفيف عليكِ .. شدي حيلك أخيتي .. واذا احتجتِ مساعدة فأنا أساعدك .. ولن أتركك حتى تتعبي .
          ـ والله يا سعدى لا أدري مالي اليوم .. أصبحت يائسة.. وأحس بحالي كأني اليوم سوف ألد .. أحس بطني مثل الحجر يابسة .. وحين كنت في البيت قبل أن نخرج .. أحسست بمخاض خفيف .. لكن قلت .. الولادة ليس هذا وقتها .. والطلق جاء مرة ولم يعد .
          ـ ألست تقولين أنك في الشهر السابع .. أي بقي شهران على الولادة .. ولم يحن الوقت .. فلماذا تحملين جبال هموم على ظهرك .. توكلي على الله .. ولن يكون إلا الخير .. وافرضي جاءكِ المخاض .. ووقعت المعجزة .. أي تلدين بعد سبعة أشهر .. كل النساء يعرفن التوليد .. ولا تحتاج المسألة أن تهتمي بها كثيرا .
          ـ ايه يا سعدى .. أتريدين أن يصيبني ما أصاب أم عبدالله المحصودة .. التي جاءها المخاض في عز الحصاد .. وحين بدأت تلد على الغمار ماتت وقضت بشربة ماء كما يقول المثل .
          ـ من أم عبد الله المحصودة ؟؟ .. لم أسمع باسمها من قبل .
          ـ امرأة من البلد .. والقصة حدثت قبل اكثر من عشر سنين .. وأنت يومها كنت لا تعرفين الحصاد .. رحمك الله يا ام عبدالله .. طلبت روحها الرحمة .. لكن يا سعدى أم عبدالله المحصودة كانت في شهرها .. وليس مثلي سبعة أشهر .. يومها ولدتْ بنتا مثل القمر .. وعندما قطعت الداية السرة .. الله أعلم .. سمعتهم يقولون غلطت الداية .. وقصت شيئا آخر مع السرة .. وكان هذا سبب موتها .. لكن .. الله أدرى وأعلم بالحقيقة والصواب .. وعاشت البنت.. وزوج أم عبدالله تزوج بعدها امرأة من بلد آخر .. ورحل مع البنت وباقي عائلته وسكن في بلد امرأته الجديدة .. ومن ذاك الوقت لم يعد إلى البلد ولا جاءت أخبار عنه .
          ـ جميل .. لكن لماذا أسموها المحصودة ؟؟ .
          ـ لأنها يا سعدى كانت تحصد .. والموت حصدها .. من هنا أسموها المحصودة .. رحم الله ترابها .. وأحسن إليها .. كانت امرأة طيبة .
          ـ اهاااااا .. فهمت .. رحمها الله .
          ـ وانت يا سعدى .. قولي لي .. هل من جديد في أمرك ؟؟ .
          ـ لا قديم ولا جديد .. فالحال على ما هو عليه.. لكن أمس وأنا جالسة أمام البيت .. ساعات الضاحية .. بعدما أطعمت البقرات .. وهذا وقت سفادها.. والثور الأبرق الكبير .. وثب على العجلة .. ولم تحتمله .. وسقطت على الارض .. والثور فوقها .. ( يظهر عليها الخجل ) وماذا سأروي لك يا جميلة .. كانت ساعة لا أحسد عليها .. حيث كنت وحدي حين جرى ما جرى .
          ـ قولي يا سعدى .. فهذه القصص تفتح الشهية .. قولي يا بنت .. غدا ستتجوزين وستجربين .. آآآآآآآآآآه .. لا أهنأ للمرأة إلا حضن زوجها .. يدللها وينغنغها .. ويمسد ويمسح عليها وتتغنج له .. آآآآه يا سعدى .
          ـ ماذا أقول ؟؟.. وثب على العجلة .. وأولجه فيها .. وبدأ ثغاء العجلة يدوي في الأركان .. ما زالت بكر وصغيرة .. وكاد أن يقتلها .. أنا رأيت هذا المنظر وطار عقلي .. ويلي العجلة هابطة على الارض .. وويلي حيث لا أحد معي يساعدني .. صرت أنادي وأصيح .. ساعدوني .. ساعدوني .. وكان وقت عودة راعي العجال وابنه من الوعر .. وكما رجونا أبي أن يقبل ويعيد بقراتنا إلى القطيع معه .. لأنه منذ أتى ليخطبني لابنه ..منعه أبي من أخذ بقراتنا معه .. وصار الشغل والحلب على سعدى ..
          ـ جميل .. وماذا جرى بعد ذلك يا سعدى ؟؟ .. أكملي أخيتي حبيبتي .. قصتك تشرح الصدر .. قولي .. هيا قولي .
          ـ راعي العجال تظاهر أنه لم يسمع وتابع طريقه .. لكن ابنه وقف ولم يتحرك .. وانتظرت أن يقترب ليساعدني بازاحة الثور عن العجلة .. لكنه كان يتفرج عليَّ وعلى الثور وكيف يولج في العجلة .. والتي تكاد تموت .. فانا لم أحتمل وصرخت عليه .. قرب ساعدني يا غراب البين .. أهذا وقت فرجه ؟؟ .. أما تستحي على حالك ؟؟ .. وما رأيته إلا وقفز من فوق السلسلة وجاء عندي .. وصرنا نشد الثور حتى نزيحه عن العجلة .. ودون أن يشعر لمست يده صدري .. والمنحوس تظاهر أنه لا يدري بالأمر .. وظن انه ممسك ذيل الثور .. وهو ممسك نهدي .. وشد .. وصحت صوت عاليا.. آلمني المنحوس .. لا يدري .. ه .. منحوس وأزعر .. ما صدق أنه اختلى ببنت .. ولولا النهار لكان وثب عليِّ مثل الثور .. المهم .. أزحنا الثور عن العجلة .. لكن بعد أن قضى حاجته منها .. ووقفنا أنا وابن الراعي .. وعيوني تنظر في عينيه .. وكانت عيناه قويتين .. ولم أستطع أن أطيل النظر إلى عينيه .. استحييت .. وحين رآني مستحيية مد يده ورفع لي رأسي .. وقبلني .. فشعرت برعشة غريبة تسري في جسدي .
          ـ ماذا يا سعدى ؟؟ .. قَبَّلك ؟؟ .. وكيف سمحتِ له ؟؟ .. مالك مجنونة ؟؟ .. كيف طاوعتِه ؟؟ .
          ـ استري عليِّ .. هل تريدين فضحيتي ؟؟ .. لم أدر ما جرى لي ساعتها .. وليست أكثر من قبلة في الخد .. وبعدها طار كالعصفور .. واختفى .. وما الذي أغاظكِ ؟؟ .. أنسيتِ أيام لقاءاتي في بيتك أنا وحبيب قلبي ليلا ؟؟ .. وانت كنت ترتبين السهرة وتتركينا مع بعض .. كم كان يقبلني حبيب قلبي ؟؟ .. وكم كنت أقبله ؟؟.. أنسيتِ الحلم الذي حلمته في بيتكم ؟؟ .. حين جاءني في المنام وقال لي تزوجي ابن راعي العجال ؟؟ .
          ـ لا .. لا .. ما نسيت شيئا .. لكن أنت لم تفهميني جيدا .. انا قصدت كيف سمحتِ له أن يقبلك نهارا ؟؟.. وفي الظهيرة الحمراء !!.. لو أن أي شخص مر ورآكما لكانت فضيحة .. أنا قصدي إن مثل هذه الأمور تمارس في السر .. ثم يا ليت يأتيك عريس ويخطبك يا سعدى .. والله هذا أمر يفرحني .. حتى لو كان ابن راعي العجال .
          ـ أتعرفين يا جميلة ؟؟.. يظهر أنني كنت جاهلة .. ويمكن محبتي لمن مات منعتني من رؤية غيره .. حتى بعد موته .. لكن حين التقت عينا ابن راعي العجال بعيني .. أحسست أنه رجل وملء ثيابه .. الرجولة تطفر من عينيه .. وفي عينيه كلام كثير .. وحين مد يده على خدي ورفع رأسي .. أحسست انه لا يريد رأسي مطأطئا إلى الأسفل .. يريد أن يكون رأسي مرفوعا .. وبيني وبينك قلبي حن له ورقص في صدري .. لكن ما استطعت اظهار كل هذا .. لأنها أول مرة نتلاقى وجها لوجه .. وعيب من أول مرة أن تكشف البنت نفسها .. رغم أني كنت أستبعد الفكرة في البداية .
          ـ صحيح يا سعدى .. صحيح .. ماذا أقول .. رزقك الله من يسعد قلبك .. وصلنا يا سعدى .. وصلنا .. امسكي الحمار حتى أنزل .
          تمسك سعدى رسن الحمار وتوقفه ، وتنْزل جميلة وابنها عنه ، وتسحبه سعدى وتربطه بحجر كبير ، ثم تتجه هي وجميلة ، ويبدأ الجميع الحصاد ، كل بمنجله . وتتصاعد صيحات الحماس من الحصادين الذين انتشروا في قطع الارض المتجاورة . هذا ينادي على من يأتيه بالماء ، وآخر يغني ، وامرأة تنادي بنتها لتعينها على حمل الغمار ، والنسيم يتلاعب بسنابل القمح والشعير ، التي صُبِغَتْ أصفر كالذهب ، فتتماوج على طول الأرض وعرضها ، وتظهر الأرانب تعدو هنا وهناك ، والصقور في السماء محلقة ، والحجل يشنف الآذان كلما طار رف على السفح القريب ، والشمس فوق الكل ترسل حرارتها ، لتجبر الحصادين على التخفف من الملابس ، ويظهر الرجال الكبار بلا قنابيز ، فقط القمصان والشراويل البيضاء والسوداء ، وعلى رؤوسهم عقدت الكوفيات كالعمائم ، والمرج يموج بالحركة والحركة بركة ، وهذا العام عام خير كثير ، فالموسم غلال .
          لقد حان موعد الرجادة بواسطة وضع الغمار في القوادم على الحمير والبغال ، ونقلها إلى البلد ، وهي مهمة يقوم بها الرجال إلا في حالة عدم وجود رجل ، فتقوم المرأة بالرجادة ، وبدأت الطريق تمتلئ بالرَّجَّادة ، هذا ذاهب بالحمل الى البيادر ، وذاك عائد الى المرج للتحميل ، وينتهي اليوم الاول .
          " أعتبر نفسي مسؤولاً عما في الدنيا من مساوئ ما لم أحاربها "

          تعليق

          • هادي زاهر
            أديب وكاتب
            • 30-08-2008
            • 824

            #20
            المكان بيت المختار ، والليل أسدل ستاره على البلد ، و " اللوكس " الجديد يشع نوره داخل مضافة المختار ، وقد غصت بالحضور من البلد ، وأغلب الحضور يحدق في " اللوكس " الذي اشتراه المختار حديثا ، وهو اللوكس الوحيد في القرية حتى تلك اللحظة ، فما زالت القرية تعيش على السرج والقناديل ، ودخول اللوكس يعد تطورا ؛ المختار يجلس في صدر الديوان وحوله الرجال ، والناطور يصب القهوة السادة على الحضور ، بينما ينطلق صوت المختار :
            ـ مساكم الله بالخير يا إخوان .
            يرد الجميع بصوت واحد :
            ـ مساك الله بالخير والنور يا مختار .
            ـ صلوا على النبي يا جماعة الخير واسمعوني .. اللهم صلِّ على الحبيب الهادي .. صلى الله عليه وسلم .
            ـ تفضل قل يا مختار .
            ـ قبل أن أقول .. أحببت أن أعرف كيف كان الحصاد اليوم ؟؟ .. وكيف الموسم ؟؟ .. أنا مررت من المرج كثيرا ورأيت الموسم .. ما شاء الله غلال هذه السنة .. من قبل شهرين مررت وما شاء الله .. المرج كان بساطا أخضر يموج مع الريح .. وقبل أيام مررت من هناك .. ورأيت السنابل .. وفركت بضع سنبلات .. وكلها ملآنة حبا .. تبارك الله .. السنة غلال .
            يجيب أحد الحضور :
            ـ صدقت يا مختار .. الحمد لله .. الموسم غلال .. والقمح والشعير ما شاء الله .. ارتفاع قدر ذراعين عن الأرض .. بركة .. طرح الله البركة في الغلة .. منذ زمن لم تؤت الأرض غلالا كهذه السنة .. الحمد لله .
            تظهر على وجوه الجميع الموافقة على كلام الرجل ، ويتابع المختار :
            ـ الحمد لله .. اسمعوا يا جماعة الخير .. أنا أحببت أن أشاوركم في أمر .. مع أنه خاص .. فكما تعلمون ابني محمد خطبنا له من الموسم الماضي بنت خاله .. وقد نوينا بعون الله أن نكمل ونفرح به .. لكن أهل البلد هذه الايام انطلقوا إلى المرج والحصاد .. واحترنا هل نزوجه في هذا الوقت أو ننتظر حتى ينتهي الحصاد.. لذلك يا اخوان أطلب منكم أن تشاركوني الرأي وتقترحوا عليَّ .. ونسأل الله أن يسهل أمورنا .
            أحد الحضور :
            ـ لماذا التأجيل يا مختار ؟؟ .. العرس فرح .. والأفراح لا تؤجل .. رأيي أن تعجل بالفرح وليس تأجيله .. ثم إن التعاليل تكون ليلا .. والزفة يوم واحد ليس أكثر .. ولن يحدث شيء إذا لم نذهب يوما واحدا للحصاد .
            رجل آخر :
            ـ صحيح يا مختار .. ما قاله أبو زيدان صحيح .. وخير البر عاجله .. التأجيل في مثل هذه الحالة .. ليس صحيحا .. والرأي الأول والأخير لك .. لكن ما تطلبه من أهل البلد ينفذ بلا تأخير .. وابشر بالخير .. وما نقدر عليه باذن الله فلن نقصر .. وإذا لم نقف إلى جانب مختارنا .. فبجانب من سنقف ؟؟ .. والعرس عرس البلد والولد ولدنا كلنا .. ابشر يا مختار .
            ـ حيَّى الله أصلك يا أبا حسين .. شهم وأصيل والله .. تسلم والله تسلم .. لكن مع تقديري لكلامك الذي هو على راسي .. أحببت أن أسمع رأي الجميع .. وكما قال المثل " ما خاب من استخار ، وما عثر من استشار " .. والمشورة يا جماعة الخير ليست عيبا .. بالعكس .. المشورة في هكذا أمور مطلوبة .. وابني هو ابن كل واحد فيكم يا إخوان .
            أحد الحضور ينتخي للمختار :
            ـ لعيونك يا مختار .. فنحن ذبائحك .. العرس عرسنا والولد ابننا .. وابشر بالذي نقدر عليه .. وباذن الله لن ترى منا الا ما يسر خاطرك .
            ـ بارك الله بك يا أبا احمد .. ما فيك مبخون يا وجه الخير .. حيَّى الله أصلك وأدام عزك .. لكن يا جماعة .. كما تعرفون أنا لدي معارف كثر .. من بلدنا وغير بلدنا .. وبما أني مختار البلد .. فعلاقاتي ليست فقط مع أهلنا .. لا .. علاقاتي أيضا مع أولاد عمنا ( اليهود ) .. وأنتم تعرفون حاكم اللواء والقائم مقام .. مثل هذه الشخصيات لنا علاقات معها .. وكم شرفوني هنا في البيت .. وأكلوا من خيرنا .. وكله خير الله .. وكم ساعدونا وحلوا لنا مشاكل في الدوائر الرسمية .. ثم الجماعة أصحابي .. وما ردوا لي طلبا .. أدخل عليهم في المكاتب مثلما أدخل بيتي .. ونويت أن أدعوهم إلى العرس .. وقبل يومين كانوا في ضيافتي هنا .. وتغدوا عندي .. والله كان غداء يؤرخ .. سدر محمر .. دجاج بلدي ورغفان الطابون .. بالمختصر كان غداء ليس له مثيل .. وتكلمنا معا وحدثتهم عن العرس .. ونيتي في اقامة عرس كبير .. ودعوة البلاد عليه .. والجماعة لم نر منهم الا الخير .. حتى إن أحدهم أصر أن يحضر معه بارودته .. وكل بيت عتابا من الحدَّاء .. سيجيبه بطلق بارود .. لأنه كما أخبرني أصله شامي .. أي أنه صاحب طرب وأوف وعتابا مثلنا .. والجماعة يا إخوان.. بصراحة لم يقصروا معنا .
            يدور الحوار ويطول ، ويرسو الجميع على رأي واحد في نهاية المطاف ، وهو عدم تأجيل العرس ، بل التعجيل باقامته ، ويتم تحديد موعده بعد شهر ليتسنى للعائلة تجهيز ما يلزم للفرح ودعوة الشعراء الذين سيحيون حفل العرس ليلا ونهارا ، وفي هذه الاثناء يستأذن الناطور بالعودة الى بيته ، فقد دب النعاس في رأسه ، وعليه النهوض مبكرا مع الفجر ؛ ويودع الحضور ويخرج عائدا إلى بيته ، ويستمر السمر في بيت المختار ، وتتعدد مشارب الكلام ، ويحظى اللوكس الجديد بنصيب من الحديث عنه ، وعن ثمنه ، وكيفية شرائه ، ثم يبادر أحد الحضور :
            ـ أكرمك يا مختار الله .. لكن عندي سؤال صغير .
            ـ تفضل يا أبا مهاوش .. قل يا أخي ..
            ـ تصريح الشغل ماذا جرى فيه .. هل أحضرته لنا أم لم يحصل شيء ؟؟ .
            ـ الصحيح يا أبا مهاوش .. الخواجا أبراهام وعدني خلال أسبوع أن يكون التصريح عندك .. والتأخير الذي صار ليس منه .. التأخير لأن التصاريح يجب أن تصدر في العاصمة .. وبعد أسبوع يصل التصريح .. واذا احتجت شيئا يا أبا مهاوش فالبيت بيتك .. ليس بيننا مقسوم الا الذي حرمه الله .
            ـ أكرمك الله وأعزك يا مختارنا .. يا بركتنا .
            ـ الناس لبعض يا أبا مهاوش .. والذي عندي هو لك .. لا تستحي بالله عليك .. وأي شيء تحتاجه .. فقط اطلب .
            ـ تسلم والله يا مختار .. والله إنك كفو .. ويشد الظهر بك .
            رجل آخر يوجه الكلام للمختار :
            ـ وقضيتنا يا مختارنا أين صارت علومها .. ترى أخي ما زال خلف الحدود .. ونريد عودته للبلد .. كلم صاحبك .. لعله يستطيع اعادته .
            ـ ما نسيتك يا أبا خليل .. لا تظن أني ناسي بلدنا .. تكلمت معه قبل أسبوع .. وتحدثنا في الموضوع وموضوع أبي إلياس أيضا .. وكل الذين خلف الحدود .. والرجل انتخى لي وما قصر .. لكن طلب رؤيتكم حتى يعرف التفاصيل بدقة .. ووعدني أن يعيد الجميع إلى البلد .
            ـ أدام الله عزك يا مختارنا .. وأبقاك لعمل الخير .
            ويطول الكلام .. وتكثر الطلبات من المختار .. ثم ينفض السامر ، ويعود كل إلى بيته ، وتنام القرية .
            كان هذا حال معظم القرى في خمسينات وستينات القرن العشرين ، من حيث تعامل السلطة مع العرب ، فالحكم ما زال حكما عسكريا ، رغم حمل العرب الهوية الزرقاء منذ بداية الخمسينات ، وكان العمال العرب في تلك الفترة لا يعملون إلا بتصريح رسمي ، رغم حمل الهوية ، فتراهم يصطفون طوابير للحصول على التصاريح ، ومن لا يحصل على التصريح ، لا يمكنه العمل إلا سرا وبعيدا عن أعين رجال المخابرات ، وكم من رب عائلة طورد وصودرت لقمة عيشه بسبب اخبارية عنه ، ولم يكن المخبر سوى أحد أبناء جلدته ، من طبقة المختار .. ممن باعوا الضمائر وسقطوا في وحل الخيانة ، أعمق من سقوط جميلة ، وكم من متسلل عبر الحدود الشرقية أو الشمالية ، عاد إلى البلاد ليرى بيته الذي غادره وتم الابلاغ عنه للسلطات وكان مصيره السجن أو الطرد مجددا أو الموت رميا بالرصاص .. وكم من زوج قضى خلف الحدود دون أن يرى أهله أو يمتع نظره برؤيتهم .
            ************




            " أعتبر نفسي مسؤولاً عما في الدنيا من مساوئ ما لم أحاربها "

            تعليق

            • هادي زاهر
              أديب وكاتب
              • 30-08-2008
              • 824

              #21
              مضى شهر ، وبعد أيام قلائل سيزف ابن المختار ، ويقام له عرس كبير ، وسيكون حديث الناس لزمن طويل ، ويقام العرس ، ويكون مكان التعليلة على بيادر البلد ، وتوقد المشاعل والمواقد ، والبدر في قمة اكتماله ، فقد كانت الاعراس تقام ليلة البدر ، لانعدام الاضاءة في جميع القرى تقريبا ، فكان الناس يحددون مواعيد الأعراس في ليلة البدر ، والمشاعل تضيء المكان ويظهر صف السحجة ، والمواقد توضع فيها بكارج ودلات القهوة السادة ، والشعراء يطربون الحضور ، ويتمايل الصف طربا ، وفي بيت العريس ، تقام تعاليل النساء ، ويحضر الطبيخ والذبائح ، والغناء والزغاريد تشق أجواز الفضاء ، والمدعوون من أهل البلد يشاركون في العرس ، هذا يسوق ذبيحته ، وذاك بصحبة زوجته التي حملت جرة زيت ، أو كيس أرُز ، وما شابه مما يعين أهل العرس ويخفف عنهم من التكاليف ؛ وأقيمت التعليلة على البيادر ، وتوافد أهل البلد جميعا ، وحضر القائم مقام والحاكم العسكري بلباسه العسكري ، وصال الشعراء وجالوا في السهرة ، وحظي الحاكم العسكري بنصيب وافر من التبجيل والتكريم والمديح ؛ فقد أوصى المختار الشعراء أن لا يقصروا في المديح لضيوفه ، والذين لم يبخلوا باطلاق الرصاص تكريما للمختار وما يسديه لهم من خدمات ، وفي اليوم التالي الزفة ، وبالغ المختار في اكرام المدعوين ، فكان الطعام عبارة عن مناسف , وهي صواني كبير وفيها الأرز مطبوخا وفوقه ذبيحة كاملة ، وكل صينية عليها ذبيحتها ، وبعد الغداء حمام العريس في بيت اشبينه ، وهو من طبقة المختار ، ومضى موكب الرجال صوب بيت الاشبين وغناؤهم يشق الفضاء ، وبعد الحمام أقيمت زفة كبيرة للعريس ، ومضى يوم العرس وزف ابن المختار إلى عروسه ، وكان العرس وما أنفق فيه ، وما جرى من مطارحات الشعراء واطلاق الرصاص حديث الناس مدة طويلة .. بين مادح وقادح .. بين معجب بكرم المختار وذام له على تبذيره ، بين مشجع للمختار لأنه جمع البلد على صعيد واحد وبين شاتم له ولاعن له ، لكونه يتجسس على أبناء جلدته .
              *****************











              سامي على حصانه بين الحصادين في المرج كالعادة ، ينادي على بضاعته ، وينظر هنا وهناك ليرى جميلة ، فحضوره وتنكره وكل ما يقوم به ، لأجل أن يظل بجانبها ويستقي منها المعلومات ، لكن جميلة ليست بين الحضور ، وهي التي كانت بين الحصادين حتى الأمس فيهمس في سره :
              ـ ترى أين جميلة ؟؟ .. أينها اليوم ؟؟ .. لا أراها بين الحضور .. من سأسأل عنها ؟؟ .. وكيف سأسأل ؟؟ .. سيشكون فيَّ إن سألت عنها .. ماذا أفعل ؟؟ .. هل ولدت أمس أم الليلة ؟؟ .. أم وقع لها مكروه ؟؟ .
              تقبل صبية عليه ، تحمل غمار قمح ، وتريد شراء بعض الحلوى ، فيبيعها ، ويأخذ غمار القمح منها ثمن الحلوى ، وتمضي عنه ، ويظل في حالة تفكير ، وبينما هو على حاله ، تقبل سعدى من بعيد وهي تحمل غمارين كبيرين ، وتريد شراء حلوى :
              ـ مرحبا يا عمي .
              ـ أهلا يا ابنتي .. عوافي .. تفضلي .. هه يا ساتر .. تحملين غمارين اليوم .. الظاهر جرى أمر خير عندكم .
              ـ الصحيح يا عمي .. أطعم الله كل من يشتهي .. .. واليوم عندنا فرح لا يوصف .. أسعد الله جميع الناس وأفرحهم كما أفرحنا اليوم وأسعدنا .
              ـ آمين يا عمي .. لكن لماذا اليوم انت التي جئت تشترين ؟؟ .. كانت أختك تشتري كل مرة .. لا أراها معكم اليوم .. وأنت فرحانة .. أكيد لديكم فرح قريب .. أو خبر فرحكم بعودة غايب .
              ـ خير وبركة يا عمي .. أطعمك الله لأولادك .. وأطعم كل الخلق .. تلك أختي جميلة .. وبالأمس ولدت صبيا مثل القمر .. أليس هذا الخبر مفرحا ؟؟ .. ألا يستحق منا أن نفرح ونرقص أيضا ؟؟.
              ـ والله خبر مفرح .. يا ليته مبارك .. والله خبر مفرح .. أتدرين يا ابنتي .. حلواكم اليوم على حسابي .. ولن آخذ ثمنها منكم .. هذا الخبر فاتحة خير اليوم .. وأحس ان الرزق سيكثر اليوم بسبب خبرك .. هذا فأل خير وسعد عليَّ اليوم .
              ـ لا يا عمي .. كيف على حسابك ؟؟ .. لن آخذ حلوى بغير ثمن .
              ـ لا والله يا عمي .. لقد حلفت بالله .. الحلوى اليوم على حسابي .. وأنا مثل أبيك .. يا عمي لا تفشليني .. وإلا فلن أعود إليكم .. انتهى الأمر .. أنا حلفت .. واليمين مضى .. خذي بارك الله لكم بالمولود .. خذي .
              يدخل يده في الخرج ويخرج كميات كبيرة من الحلوى ، حتى كاد يفرغ ما في الخرج في فستان سعدى التي خجلت من قسمه وحلفه ، ورضيت بأن تكون الحلوى على حسابه ، فألقت الغمارين ، ورفعت طرف فستانها وصار سامي يلقي الحلوى فيه ، وهي تطلب منه التوقف ، وهو يلقي ، حتى ضمت فستانها وأغلقته على بطنها ، وهنا توقف سامي قائلا :
              ـ كفاية .. والله يا عمي لولا الحياء .. وخوفي من كلام الناس .. لأفرغت لك الحمل كله .. بارك الله لكم في مولودكم يا عمي .. سلمي لي على الوالد .. وائذني لي الآن .. سأسعى خلف رزقي من باقي الحصادين .
              يدير رأس الحصان ويمضي ، وتظل سعدى في حالة دهشة وفرح مما جرى ،
              ثم تعود إلى أمها وتقص عليها ما جرى ، وتضحكان كثيرا ، رغم أن الأم تبدي الرفض في البداية لفعل البائع ، ولكنها تقبله بعدما أقنعتها سعدى أنها يئست من عرض الثمن عليه ، وهو أصر على عدم تقاضي الثمن .
              مضى يومان ولم يحضر سامي على الحصان الى السهل ، وتساءل الحصادون عنه ، لكن لم يهتم أحد بأمره ، وفي اليوم الثالث حضر على الحصان ، لكن ليس الى المرج ، بل إلى القرية ، وصار ينادي ، حتى وصل أمام بيت جميلة ، فأوقف الحصان ، وصار ينادي ويمط صوته لتسمعه جميلة من الداخل ، وما هي إلا لحظات حتى كانت جميلة تجر نفسها خارجة من البيت ، تحمل المولود في حضنها وقد غطته جيدا كي لا تصيبه حرارة الشمس ، وطفلها الثاني متعلق بثيابها ، وما إن وصلت إليه حتى بادرها الكلام :
              ـ مرحبا يا جميلة .. مرحبا يا روحي .. حبيبتي جميلة .. والله فرحت كثيرا للخبر .. اقتربي كي أرى الولد .. أكاد أطير من الفرح .. والله إنه أجمل وأحلى خبر سمعته .. ما أسعدني بك يا جميلة .. اسرعي أريني ابني حبيبي .. هيا يا جميلة أكاد أفقد صبري أريني إياه .. والدنيا لم تعد تسعني من الفرح .. لولادة ابني .
              تقترب جميلة ، وترفع الغطاء عن وجه المولود ، وتدنيه من سامي ، الذي ينحني من فوق الحصان ويقبله ، وتتابع كلامها :
              ـ أهلا سامي .. منذ يومين انتظرك حتى تأتي إلي .. تعبانة يا سامي .. أحتاج من يساعدني .
              ـ لقد أخبرتني أختك قبل يومين في المرج .. ومن فرحتي أعطيتها نص الحلوى التي في الخرج .. ولولا خوفي من الكلام .. لكنت أعطيتها الحمل كله .. ألم تحضر لك بعض الحلوى مما أعطيتها ؟؟ .
              ـ لا .. لم تحضر لي شيئا .. يظهر أنهم أكلوا الحلوى في المرج .. فأنا منذ يومين هنا في البيت .. وما رأيت أختي منذ أول أمس . أنا طلبت منها أن لا تأتي وتبقى لتساعد أهلي في الحصاد .. وبامكاني تدبر أمري لوحدي .. لكن لا بد اليوم أن تأتي إلي بعد عودتها من المرج في المساء لتنام عندي .
              ـ أنت غالية عليَّ كثيرا يا جميلة .. وأصبحت الآن أم ابني .. والله إني فرح جدا .. ولا يمكنك تصور فرحتي بكِ وبابننا .
              ـ حسنا .. الولد سمِّه كما اتفقنا .. وأنا موافقة حبيب قلبي .. وحتى انظر إنه يشبهك كثيرا .
              ـ يا حبيبتي يا جميلة .. لولا خوفي أن يمر أحد .. لكنت نزلت وضممتك أنت والولد لصدري ، وطرت بكم إلى القمر والشمس .. آآآآآآآآآآآآآآه .. فرح جدا يا جميلة .. سعيد حبيبتي .. ولا أظن انسانا على وجه الأرض مثلي .
              ـ سامي اسم حلو .. لكن لا تطل مكوثك هنا .. ربما مر أحد ورآنا .. سيظن الناس سوءا .. وأنت تعلم نوايا الخلق .. لا يظنون غير السوء .. هات اعطِني بعض الحلوى .. حتى أقدم لمن يأتون مهنئين بالمولود .. بالأمس زارتني جارتنا لتهنئتي .. ولم يكن عندي أي صنف من الحلوى لأطعمها .
              ـ تكرم عينك حبيبة قلبي .. خذي كل الحلوى ووزعيها على أهل الحارة .. دعي الناس كلهم يأكلون .. أحضري ماعونا نضع فيه الحلوى .
              تنطلق جميلة إلى داخل البيت ، وتضع المولود على الفرشة ، وتتناول سطلا من الجانب وتخرج إلى سامي ، ويبدأ بملء السطل حلوى من الخرج ، حتى يملأه ، ويتابع الكلام :
              ـ احضري سطلا ثانيا .. دعي البلد تأكل حلوى يا جميلة .
              ـ لا .. هذا يكفي .. وإلا فسيشكون في الأمر .. هذا السطل لن يشكوا فيه ..لأنه سطل والأمر عادي .. يكفى يا سامي يكفي .
              ـ حاضر حبيبة قلبي .. مثلما تحبين .. لكن أمنيتي الآن حاجة صغيرة .
              ـ اطلب يا روح جميلة .. اطلب يا سندي .
              ـ أريد تقبيلك يا جميلة .
              ـ هنا تريد تقبيلي ؟؟؟ .. والناس يروننا ؟؟.. مالك يا سامي ؟؟ .. أجننت ؟؟ .. ألا ترى هذا الولد كيف يتعلق بثيابي .. مالك !!!! .. لا .. لا .. يا سامي .. اصبر قليلا .. أسبوعا أو أسبوعين .. حتى أستطيع أن أتحرك وأخرج .. ثم أنا نفساء .. فلا تفكر أن تقترب مني أربعين يوما .
              ـ آآآآآآآآآآآآآآآه يا جميلة .. أحبك يا جميلة .. ولا أصبر على فراقك .. وأتمنى لو أنك عندي في بيتي .. أرعاكِ أنت وابننا .. وأخدمك بعيوني .. أخدمك بروحي .. أحبك يا جميلة .. يجب أن أفكر في حل .. حتى آخذك لتعيشي معي في بيتي .. حتى ولو تشتغلين في بيتي .. لكن هذا أمام الناس فقط .. حتى تظلي معي .
              في هذه الأثناء يمر رجل على الطريق متوجها صوب الجامع ، لكنه منهمك بتسبيحه وتهليله ، ويلاحظ سامي وجميلة الرجل فيغيران الكلام ، إلى مفاصلة حول السعر ، والكمية التي أخذتها جميلة ، من الحلوى ، ويقول سامي ان كل نوع من الحلوى له سعر خاص :
              ـ يا عمي يرحم الله والديكِ .. لا تعذبيني ..ليس لي خلق .. هذا السطل سعره ليرة ونصف الليرة .. تريدين شراءه تفضلي .. لا تريدين اعيديه .. ودعيني أتابع طريقي .. أطلب رزقي .
              ـ لا أدفع لك أكثر من ليرة .. يا عمي لا تغلي السعر علينا .
              ـ والله أتعبتِني يا عمي .. خذيه وهاتي ليرة .. الأمر لله .. ماذا نعمل .. طوال حياتي لم أصادف امرأة مثلك تفاصل في السعر .
              الرجل على الطريق يختفي في أحد الأزقة ، ويتابع سامي وجميلة حديثهما قليلا ، ثم يمضي سامي ، وتعود جميلة ومعها سطل الحلوى .
              " أعتبر نفسي مسؤولاً عما في الدنيا من مساوئ ما لم أحاربها "

              تعليق

              • هادي زاهر
                أديب وكاتب
                • 30-08-2008
                • 824

                #22

                تمر أيام الحصادر والبيادر ، وينقطع خلالها سامي عن الحصادين ، لانشغاله بجميلة وتلبية طلباتها طوال فترة الرضاعة والنفاس ، وكان حريصا على اطعامها وتغذيتها بصورة جيدة ، حتى ترضع المولود وينمو بصورة صحيحة ، وكان كثيرا ما يحضر لها معه ساندويشا أو أكثر من اللحمة المشوية ، ويضعه في كيس خاص ، يناولها إياه ويمضي أو يتوقف للحديث حسب الحالة تلك اللحظة ، حتى اعتاد الناس على مرور سامي من أمام بيت جميلة والتوقف عنده كمحطة للبيع ، وصار الأطفال ينتظرون سامي يوميا أمام بيت جميلة في ساعات الظهيرة ، ليشتروا منه القرمش والعنبر ، وفي أحد الأيام يحضر سامي كالعادة ، ويشتري الأطفال منه ، ويبقى مع جميلة لوحدهما ، ويدور بينهما الحوار التالي :
                ـ يا جميلة يا حبيبتي أنا تعبت لكثرة ما جئت إلى بلدكم .. وما عدت أتحمل أكثر .. يجب أن نجد حلا للقائنا غير البلد .. يعني بصراحة أريد أن تكوني معي لكن ليس هنا في البلد .. أريد أن نربي ابننا في حالة أفضل .. فكري معي لنجد حلا.
                ـ أي حل تريدني أن أفكر فيه معك .. أنت تعرف وتفهم وضعي كله .. وتعرف أني لا أقدر .. لأني نفساء حتى الآن .. يعني لا أستطيع أن أمشي وأتحرك كالسابق .. اصبر قليلا فقط .. حتى تنتهي مدة النفاس .. وبعدها ربنا يفرجها .. اصبر قليلا .. صبرت كثيرا وما بقي إلا القليل .
                ـ يا حبيبتي يا جميلة افهميني .. وضعك أنا أفهمه وأعرفه .. لكن قصدي شيء آخر .. فليس قصدي أن نتلاقى كالسابق .. هذي اللقاءات انتهينا منها .. لم تعد تفيدنا .. يجب أن تكوني معي وبجانبي .. يعني في بيتي .. ثم أنا لا أريدك أن تشتغلي أكثر .. أنت أم ابني .. يعني زوجتي .
                ـ يا رجل .. مالك ؟؟ .. ماذا أصابك اليوم ؟؟ .. كيف أكون معك في بيتك ؟؟ .. أتريد أن يقتلني أهل البلد ؟؟ .. كيف أترك البلد وآتي إلى بيتك ؟؟ .. هااااااا .. كيف ؟؟.
                ـ لهذا السبب قلت لك فكري معي في حل .. يا جميلة تعبت من الوضع .. ولست مرتاحا .. أنا سني كبرت .. وما عدت شابا.. وما عدت أتحمل السفر كثيرا .. يجب أن تعيشي معي في بيتي .. تخدميني وأنفق عليكِ وعلى الأولاد .. يجب أن نستقر .. تعبت من الطواف والسفر إلى القرية ذهابا وإيابا .. لا يمر يوم إلا وآتي إليكم .. وفي أغلب الأحيان آتي لرؤيتك فقط .. ولا يعني هذا أني مللت منك .. بل أريدك معي إلى الأبد في بيت واحد .
                ـ والله حيرتني يا سامي .. قل رأيك .. عسى أن أفهم بالضبط ما المطلوب .. حتى الآن لا أفهم كثيرا عليك .
                ـ ما رايك يا جميلة أن آتي بالسيارة إلى البلد هنا .. وآخذك يومين في الأسبوع تشتغلين عندي في بيتي .. تنظيف وغسل ثيابي وتحضير أكل وكل أعمال البيت .
                ـ كيف ؟؟؟ .. وماذا مع الأولاد ؟؟ .. أين أتركهما يا سامي ؟؟ .. ومن يقبل أن يعتني بهما ؟؟ . ومن سيهتم بأمرهما مثل أمهما ؟؟ .. أتريد أن يتشرد أولادي منذ اليوم ؟؟ .
                ـ لا يا جميلة .. أعوذ بالله .. حبيبتي الأولاد في عيوني .. محبتهم لا تقل عن محبة أمهم .. مالك ؟؟ .. سنجد حلا لكل صغيرة وكبيرة .. المهم أن توافقي على اقتراحي .
                ـ كيف أوافقك على اقتراحك ولا أحد يعرفك غيري في البلد ؟؟ .. وماذا سيقول من يراني معك ؟؟ .. الحال لا يطمئن يا سامي .
                ـ ما رأيك أن تشتغلي أنت وأختك .. أنت عندي .. وأختك سنجد لها عملا في بيت آخر .. وهكذا يظل الأمر مستورا .. والشغل يكون مثلا يوم الاثنين والجمعة .. يوم الاثنين أعيدك إلى البيت قبل الظهر .. ويوم الجمعة تحضرين الأولاد وأنا أعيدكم إلى البيت .. وتطبخين ونأكل كلنا في بيتي .
                ـ حسنا .. دعني أشاور أهلي .. لأني وحيدة في بيتي .. وأشاور أختي عسى أن توافق على العمل .. ويمكن أن لا يسمح لها أبي.. اصبر بضعة أيام .. وأنا أحاول اقناع أبي عسى أن يوافق .
                ـ حسنا .. سأرجع بعد يومين .. وتخبرينني بما جرى .. وبعدها نرى ماذا يمكننا أن نفعل .. وأرجو أن يوافق الوالد .. والآن سأمضي .. هل ينقصك شيء حبيبتي؟؟ .. لأحضره لك معي .
                ـ ولا ينقصني شيء .. فقط احضر لي ساندويش لحمة .. لأني أحببت مذاقها .. أو احضر اثنين .. أريد أن أتغذى .. جسمي ضعف بعد الولادة .. ويجب أن أعيد صحتي .. وأريد كتبا أسلِّي نفسي .. أو صحيفة عربية .. فالوحدة قاتلة .
                ـ تكرم عيونك حبيبتي .. سأحضر لك ثلاثة .. وليس اثنين .. وسأشتري لك رواية أو كتابا .. وإن وجدت صحفا عربية فسأحضر لك .. هيا دعيني أمضِ .. سلام حبيبتي .
                ـ مع السلامة .
                يدير سامي عنق الحصان ويمضي حتى يغيب عن الأنظار ، وتبدأ جميلة التخطيط لاقناع أبيها وأختها بالعمل عند سامي ، وتقرر زيارة بيت والدها في الغد ، لكنها تتذكر أن الغد هو بداية شهر أيلول ، وهو اليوم الأول الذي سيذهب ابنها فيه إلى المدرسة ، فقد صار عمره خمس سنوات ، وغدا سيذهب إلى صف البستان ، وعليها اصطحابه إلى المدرسة ، التي تقع على مسافة من بيتها ، وهي غير بعيدة عن الجامع وسط البلد ، وما زالت المدرسة في نفس البناية وسط البلد ، منذ تعلمت هي فيها ، والمدرسة عبارة عن غرف صغيرة متلاصقة تم استئجار بعضها وإضافة البعض الآخر لتستوعب الطلاب الجدد ، والذين يزيدون في العدد مع بداية كل سنة دراسية ، فالقرية رغم صغرها إلا أنها تكبر يوما عن يوم ، وعدد الطلاب يزداد باستمرار ؛ فكرت جميلة في الأمر ، وقررت تأجيل الذهاب إلى بيت والدها يوما آخر ، لأن دخول ابنها إلى المدرسة جعلها تشعر بنشوى وفرح ، فهو سيتعلم حيث تعلمت أمه مدرسة ، وعادت بها الذاكرة إلى أيام المدرسة وكيف كانت تتمتع بذكاء حاد ، وذهن متوقد ، وأن شهاداتها كلها من الصف الأول حتى الثامن كانت مميزة جدا ، وأنها كانت متفوقة على جميع الطلاب والطالبات معها ، لكن يظل كله في نظرها ناقصا كونها لا تحمل شهادة ، وتذكرت كيف كان بعض الآباء يحرمون بناتهم من التعليم في ذلك الوقت ، وكيف أن أباها كان هو الذي يشجعها على التعليم ، وأن عجزه كان سببا من ضمن الأسباب التي وقفت حائلا أمام متابعتها التعليم الثانوي في المدينة ، ومع مضي الوقت كانت تشعر في قرارة نفسها كأنها هي التي ستجلس على مقاعد الدراسة لتتعلم ، ونامت وهي تحلم بصباح الغد ، وأتى الغد ، وتصطحب ابنها إلى المدرسة ، وقد ألبسته ملابس جديدة ، جعلته يشعر كأنه في يوم عيد ، ومرت في الطريق على بيت والدها ، ونادت على سعدى لترافقها إلى المدرسة ، ولم تتأخر سعدى ، وانطلقتا صوب المدرسة ، وتحدثتا في أمور كثيرة ، وأسرت جميلة لسعدى بأمر العمل ، فلم تعارض سعدى ، لكنها اشترطت عليها اخبار أبيها وموافقته ، ووصلتا الى المدرسة ، ودخلت جميلة بصحبة ابنها ، وبقيت سعدى تنتظر خارجا ؛ دخلت جميلة مع ابنها إلى الصف ، وأسلمت ابنها للمعلمة ، وجرى حوار قصير بين جميلة والمعلمة حول المدرسة والطلاب والتعليم ، ثم عادت جميلة أدراجها ، والفرح يعلو وجهها ، وبكى ابنها بعد تركه بين الطلاب ، لكنه سرعان ما تأقلم معهم وانسجم ، حيث كان قسم منهم من أبناء الجيران والحي ، وفي طريق العودة كانت جميلة وسعدى منسجمتين في الحديث والكلام ، ولا يقطع الكلام غير القاء تحية الصباح على امراة هنا او هناك ، أو سؤال عابر من احدى النساء ، أو الانسجام في حوار نسائي أمام أحد البيوت ، وأخيرا وصلتا إلى البيت ، ودعت جميلة أختها للدخول فدخلت ، وأعدت جميلة القهوة ، وجلستا لارتشافها ، وخلال ذلك طلبت منها جميلة تهيئة الجو عند والدها والبدء باقناعه ليوافق على ذهابهما للعمل ؛ وأصرت عليها أن تزين لوالدهما الأمر لئلا يرفض ، وأن تكثر من ذكر حالة الفقر التي يعيشونها في البيت ، وأن العمل فيه ربح مادي سينتشهم من حالة الفقر ؛ وافقت سعدى ، ورشفت آخر رشفة من فنجان قهوتها ، ثم نهضت وودعت جميلة وانطلقت عائدة إلى البيت .
                " أعتبر نفسي مسؤولاً عما في الدنيا من مساوئ ما لم أحاربها "

                تعليق

                • هادي زاهر
                  أديب وكاتب
                  • 30-08-2008
                  • 824

                  #23



                  الوقت مساء ، وسعدى جالسة مع أبيها وأمها ، وتحاول اقناع أبيها ليوافق على ذهابها للعمل مع جميلة في بيت الخواجا :
                  ـ ها يا أبي ماذا قلت ؟؟ .. الرجل ليس سيئا .. ولا خوف منه ما دمت أنا جميلة مع بعضنا البعض .
                  ـ يا ابنتي استهدي بالله .. لم يحدث مثل هذا في بيتنا من قبل.. كيف تريدين أن أوافق بسرعة ؟؟ .. وهذا خواجا أيضا .. يعني يهودي .. وفي بيته وبيت جاره .. لا يا ابنتي لا .
                  تتدخل الأم في الحوار مساندة سعدى :
                  ـ وماذا في ذلك .. جميع بنات الناس يعملن في الكيبوتسات .. في الخضار وغيره .. هل أعد لك ؟؟ .. بنات أبي سليم كل يوم تقلهن السيارة .. بنات أبي عطية يذهبن مع أخيهن في سيارة خواجا كل يوم .
                  ـ اسكتي يا حاجَّة .. هداكِ الله .. كانت سعدى في البداية .. والآن أنت أيضا .. أنا لم أقنع واحدة فكيف أقنع اثنتين .. هدانا الله جميعا للخير .
                  ـ يا حاج .. اذكر الله .
                  ـ لا إله إلا الله .
                  ـ هل عمل البنت عيب ؟؟ .. أو أنه مجلبة للعار ؟؟ .. أليس أغلب أهل البلد يرسلون بناتهم للعمل عند اليهود في الكيبوتسات وفي مزارعهم ؟؟ .
                  ـ صحيح .. لكن هل هذا يفرض عليَّ أن أرسل بناتي للعمل أيضا ؟؟ .
                  ـ ليس يفرض يا حاج .. لكن الفقر كالكفر يا حاج .. وأنت أدرى .. إن حالنا يا حاج يصعب حتى على الكافر .. والمؤونة في البيت تكاد تنفد .. ثم هل نسيت الأيام التي مرت علينا ولم يكن لدينا حتى كسرة خبز ؟؟ .. وهل نسيت كم صديق وقريب وبعيد طرقت أبوابهم لاقتراض بعض المال لشراء حاجات للبيت وعدت خالي الوفاض كسيف البال .. مع أنك لم تبخل على أحد بشيء .. أنسيت كيف كان رد مختار البلد حين طلبت منه بضع ليرات .. وكيف ردك يومها .. أنسيت كل هذا يا حاج ؟؟ .
                  ـ لا .. لم أنس شيئا يا حاجَّة .. والله كدت يومها أن أموت بحسرتي على تغير المفاهيم عند الخلق .. كان الناس طيبين قبل هذا الزمان .. وكانوا يعطفون على بعضهم .. ماذا أصاب الخلق .. ارحمنا يا الله برحمتك .
                  تعود سعدى للكلام محاولة كل جهدها اقناع والدها كي يوافق على ذهابها للعمل مع جميلة :
                  ـ يا أبي .. الرجل سيأخذنا بسيارته ويعيدنا بها إلى البيت .. يعني معززات مكرمات .. وأختي جميلة سيكون أولادها معها .. والرجل دفع لنا أجرا كبيرا .. دعني أذهب لأشتغل يا أبي .. على الأقل ننفق على البيت .. والشغل ليس عيبا يا أبي .
                  ـ يا ابنتي القصة ليست أن الشغل عيب أو غيره .. القصة من هذا الخواجا ؟؟ .. ومن أين عرفته أختك جميلة ؟؟ .. وكيف توصل إلينا ؟؟ .. وماذا سيقول أهل البلد عني ؟؟ .
                  ـ الرجل يا أبي لا يعرفنا .. القصة أنه جاء إلى البلد يبحث عمن تقبل العمل في بيته .. يظهر أنه غني أو موظف كبير .. وليس عنده من يقوم بعمل بيته .. والله أعلم بظروفه .. وقد التقى صدفة بجميلة .. وهو يتكلم العربية مثلنا بالضبط .. وكلَّمها .. وجميلة قالت له ارجع بعد يومين حتى أشاور أهلي .
                  ـ حسنا .. امهليني يوما .. واطلبي من جميلة حين يرجع أن تدعوه إلي .. دعيني أتحدث معه حتى أعرفه بالضبط .. فمن الممكن أن يكون نصابا أو كذابا يا ابنتي .. نحن حتى اليوم ما زلنا مستورين .. ولا أريد في آخر العمر أن يقع أمر ويكون سبب موتي يا ابنتي .
                  ـ أبعد الله الشر عنك يا أبي .. سلامة عمرك .. في الصباح سأخبر جميلة .. حتى تدعوه حين يرجع .. وأنت ستكلمه وترى رأيك بعدها .
                  ـ توكلنا على الله .. والحين انهضي واحضري لنا ما نأكله .. أحس بالجوع يقرص أحشائي .. ويكاد يصرعني .
                  ـ حاضر يا أبي .. تكرم عينك .. سأحضر لك الأكل وبعدها سأذهب للنوم والمبيت عند أختي جميلة .
                  ـ حسنا يا بنيتي .. وفقك الله وسترك في الدنيا والآخرة .. وهناك موضوع سأتحدث معك فيه .. وآخذ رأيك .. لكن لندعه للغد .. فهو موضوع يخصك أنت وحدك يا سعدى .. وفيه الخير لك يا ابنتي .
                  تنطلق سعدى لتحضير الطعام لأبيها ، بينما ظل أبوها وأمها يتحدثان :
                  ـ ها يا امرأة .. هل أخبرتِها عن ابن راعي العجال أم لا .. والله الجماعة أخجلوني بالواسطات والجاهات .. أنا رأيي إذا وافقت البنت أن نبارك .. وربنا يتمم بخير .. لكن إن رفضت .. حتى لو حضر الملك من شرق الاردن فلن أوافق .. وأنت تعرفين طبعي .. لن أجبر ابنتي على أمر لا ترضاه .. هكذا تصرفت حين تزوجت جميلة أيضا .. أنا لست مثل بقية الناس يا حاجَّة .. بناتي قطع مني .. ويهمني أن يكون زواجهن برضاهن وليس غصبا عنهن .. هكذا يقول الدين والشرع أيضا .
                  ـ رأيك صحيح يا حاج .. وفقنا الله للخير .
                  ـ غدا شاوريها وخذي رأيها .. وإياك أن تضغطي عليها لتوافق .. وإياك أن تستغلي طيبتها وطاعتها لوالديها من أجل الاقناع .. دعيها تقتنع برضى تام .
                  ـ حاضر يا حاج .. سأفعل بإذن الله .. والله الموفق للخير .
                  تقبل سعدى ومعها الأكل ، تضعه أمام أبيها ، وتعود فتحضر الماء ، وتستأذن من والديها للمبيت في بيت أختها جميلة ، فيأذنان لها ، وتنطلق صوب بيت جميلة ؛ تصل وتطرق الباب ، فتفتح له جميلة وتدخل ، وتجلسان تتسامران ، وتقص على جميلة رد أبيها وطلبه رؤية الخواجا قبل الموافقة ، وتبتسم جميلة ، فالأمور على ما يبدو تسير على ما يرام .
                  *************



                  " أعتبر نفسي مسؤولاً عما في الدنيا من مساوئ ما لم أحاربها "

                  تعليق

                  • هادي زاهر
                    أديب وكاتب
                    • 30-08-2008
                    • 824

                    #24

                    الساعة العاشرة صباحا ، تقف فجأة سيارة أمام بيت جميلة ، ويترجل منها سامي ، وتسمع جميلة من الداخل صوت السيارة فتعرف أنه سامي ، وتخرج لملاقاته ، ويتحدثان وتبلغه طلب أبيها رؤيته ، وحتى لا تكشف أمر اتفاقها معه ، تنادي على صبي بالجوار ليرشد سامي الى بيت والدها ، وتوصي سامي بما يجب عليه قوله حتى يوافق والدها ، ويركب الصبي في السيارة مع سامي ، وما هي الا لحظات حتى كان سامي يطرق الباب :
                    ـ يا الله .. يا ساتر يا كريم .. يا حاج عبد الله .
                    ويأتي صوت والد جميلة وسعدى من الداخل :
                    ـ تفضل .. من بالباب ؟؟ .. انظري من بالباب يا سعدى ؟؟
                    ـ حاضر يا أبي .. لقد جئت .. جئت .. من الذي بالباب .. تفضل .. من يطرق الباب .. تفضل ادخل .
                    لكن الباب لا ينفتح ، فتتجه سعدى وتفتح الباب ، وتقف تتأمل في وجه سامي ، فلم يسبق أن التقته بثيابه النظيفة ؛ لقد التقته في المرج وهو يبيع القرمش ، لكن الواقف أمامها لا يشبهه ، ثم قالت :
                    ـ تفضل .. أهلا وسهلا .. هذا ضيف يا أبي .. رجل يظهر أنه غريب .
                    ـ شكرا يا عمي .. هل الوالد موجود ؟؟ ..
                    ـ موجود تفضل .. تفضل ادخل ..
                    ـ شكرا .
                    يدخل سامي ، ويسلم على والد سعدى :
                    ـ السلام عليكم يا حاج .
                    ـ وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته يا ضيفنا .. شرفتنا .. البيت بيتك .
                    ـ أنا يا حاج سأعرفك بنفسي في البداية .. أنا اسمي سامي .. والتقيت منذ يومين بابنتك جميلة .. وسألتها إن كان بالامكان ايجاد فتاتين ليعملن عندي في البيت .. وطلبت مني مهلة يومين .. واليوم حين رجعت .. مررت حتى اخذ الجواب منها .. فأخبرتني عنك وعن طلبك رؤيتي .. وأرسلت معي ولدا أرشدني إلى البيت ..
                    ـ نعم .. نعم .. فهمت عليك .. يعني أنت الخواجا سامي ..
                    ـ نعم يا حاج أنا الخواجا سامي .. ولا بد أن نتعرف بصورة صحيحة .. أنا يا حاج يهودي عراقي .. تربيت بين العرب .. وتعلمت معهم .. ودرست وعرفت عاداتكم كلها .. لذلك لم أتأخر حين أبلغتني ابنتك بطلبك .. بناتك يا حاج في الحفظ والصون .. ويمكنني اعتبارهم بناتي .
                    ـ أكرمك الله يا خواجا .. لكن المسألة أن هذي أول مرة تخرج فيها بناتي للعمل خارج القرية.. فلم يسبق أن خرجت بناتي إلى العمل .. وكلامك وإن كان يطمئن .. إلا أنني في حالة لا أحسد عليها من هذا الطلب ولا أعرف ماذا أجيبك ..
                    ـ لا تخف يا حاج .. صلِّ على النبي .. صلى الله عليه وسلم .
                    ـ اللهم صلِّ على روح النبي .. أنت يهودي يا خواجا ونبيكم موسى .. فهل دينكم متسامح إلى هذا الحد ؟؟ .
                    ـ أنا يهودي .. لكن الواجب على الانسان العاقل أن يحترم كل الأديان والأنبياء .. أم أن كلامي خطأ ؟؟ .
                    ـ حيَّى الله أصلك يا خواجا سامي .. تشبه العرب كثيرا حتى كأنك رجل من العرب .. ولا يظهر عليك أنك يهودي .. وكل الناس خير وبركة .. يا سعدى .. اعدي لنا قهوة حلوة ..
                    يبتسم سامي له ، بينما ترد عليه سعدى من الغرفة الأخرى :
                    ـ حاضر يا أبي .. القهوة على النار .. دقيقة واحدة وتكون عندك .
                    ـ أتدري يا خواجا .. قلبي ارتاح لك .. وصدري انشرح لك .. ولن أفشلك بإذن الله .. لكن البنات أمانة في عنقك .. أنت رجل شهم ولا أخاف عليك .. لكن البنات بحاجة لمن يحميهن .. ويحافظ عليهن .. وأنا ليس عندي أولاد غير البنتين .. وحالي الآن كما ترى من العجز .
                    ـ بناتك في عيوني يا حاج .. ولن يكون إلا الخير .. وأنا يا حاج أعمل في وظيفة محترمة .. وليس عندي من يقوم على خدمة بيتي .. بعدما توفيت امرأتي .. رحمها الله .. وليس عندي أولاد .. والوظيفة لا أستطيع تركها ولا الاهمال فيها.. والبيت بحاجة لمن يعتني به .. وسوف احتاجهن يومين في الأسبوع الثلاثاء والجمعة .. وقد أخبرتني جميلة أن عندها ولدين .. وتكرم يا حاج الأولاد أيضا بامكان جميلة احضارهم معها حتى يظلوا جنبها يوم الجمعة .. والولد الذي يتعلم .. أنا سأحضر يوم الثلاثاء الساعة الثامنة والنصف بعد ما ترسله إلى المدرسة .. وأعيدها قبل عودته إلى البيت .
                    تحضر سعدى القهوة ، وتضعها أمام أبيها ، وينشغل بصب القهوة لسامي ، بينما تقول سعدى :
                    ـ يوم الثلاثاء يمكن للولد أن يعود إلى بيتنا هنا .. هذا بيت جده .. وليست هناك مشكلة .. ويظل هنا عند أمي وأبي حتى نعود .
                    ـ لا أريد أن أضايقكم .. وما تأمرون به أفعله .. خذوا راحتكم .. المهم عندي أن وضعي في بيتي لا يتغير .. لأنه يزورني ضيوف في مناصب رفيعة .. والذي مثلي يفترض أن يكون منظما في كل شيء .. والأجر يا حاج .. اطلب وتكرم عينك .. لن أفشلك .
                    ـ أكرمك الله يا خواجا سامي .. تفضل القهوة .
                    يتناول سامي فنجان القهوة ، ويردف والد سعدى :
                    ـ يا خواجا سامي هذه أول مرة تخرج البنات من بيتنا لتشتغل .. وليس لنا خبرة في مثل هذه الأمور بتاتا.. لكنني أسمع من الذين يرسلون بناتهم للعمل في الخضار في " الكيبوتسات ".. أن الأجرة ثلاث ليرات في اليوم .
                    ـ تكرم عينك يا حاج .. أنا سأدفع لهن خمس ليرات في اليوم لكل بنت .. وأكلهن وشربهن في العمل على حسابي وفي بيتي .. اتفقنا ؟؟
                    ـ اتفقنا يا خواجا سامي .. لكن لن أوصيك عليهن .. هذه أول مرة يخرجن خارج البيت للشغل .
                    ـ من عيوني يا حاج .. لا تحمل هما .. والآن اسمح لي .. يجب أن أعود إلى عملي .. وغدا الجمعة .. سأكون هنا في الساعة الثامنة صباحا .. يا الله .. السلام عليكم ،
                    يضع فنجان القهوة على الصينية ويتجه خارجا .
                    ـ وعليكم السلام .. مع السلامة يا خواجا .
                    تبتسم سعدى ، وتسرح بخيالها ، بينما جلس والدها يحدث نفسه ، ويفكر في الواقع الجديد الذي حل عليه ، فهو معروف بتاريخه الثوري ، ومشهود له بحرب اليهود والانجليز قبل قيام الدولة ، والآن هذا الواقع الذي أناخ على صدره :
                    ـ ماذا أفعل يا ربي ؟؟.. كيف سأتصرف ؟؟.. لقد وافقت على ذهابهن إلى العمل .. ولكن العمل عند اليهود .. فأي حال هذه ؟؟ .. كيف رضيت بهذا يا حاجّ عبد الله ؟؟ .. أنسيت من أنت ؟؟ .. أنسيت سمعتك في البلاد .. ألست من رفاق الشيخ عز الدين ؟؟ .. ألم تكن تجلس في الصف الأول في جامع الاستقلال في حيفا تصلي خلف الشيخ عز الدين القسام .. ألم تكن أول الحضور لسماع خطبه الثورية ؟؟.. ألم تشارك في الثورة ضمن جماعته ضد الانجليز ؟؟؟.. والآن توافق على ذهاب بناتك للعمل في بيوت اليهود !!.. وبسهولة وبساطة !! .. كأنك لا تعرف عادات البلد !! .. لكن لماذا تأنيب الضمير ؟؟ .. لقد تغير الزمن .. حاربتهم زمنا طويلا .. واليوم أنت تحت حكمهم وتحمل جنسيتهم .. لم يتوقف الأمر عليّ.. جميع أهل البلد يرسلون بناتهم للعمل عند اليهود .. ولا يعترض أحد على ذلك .. وإن العمل ليس عيبا ولا عارا .. والحال الذي أنت فيه والفقر الذي ترزح تحته .. ليس مما أنزل الله .. ويمكن التغلب عليه .. والعيش في حال أفضل .. وخمس ليرات أجرة البنت .. هذه أجرة عالية .. وتساعد على انتشالك من بين أنياب الفقر .. لقد صدقت الحاجَّة في كلامها أمس .. فجميع من حاولت الاستدانة منهم ردوني كسيف البال .. كأن الخير انقطع من الدنيا .. انتهى الأمر يا حاجّ .. ليس في خروج البنات إلى العمل أي مانع .. ثم إلى متى ستظل يا حاج عبد الله تحمل السلم بالعرض .. لم يعد الزمن كما كان سابقا .. لقد تغير كثيرا .
                    ينادي على سعدى ، وهي غارقة في أحلامها ، تفكر في الغد وركوب السيارة ، ولا تصحو إلا على صوت والدها يناديها ، وحين لم تنتبه ، رفع صوته ، حتى أجفلت :
                    ـ نعم يا أبي .. جئتك .
                    ـ مالك يا بنت .. ألم تعودي تسمعين ؟؟ .. يا لطيف .. ما هذه البنت .
                    ـ بلى أسمعك يا أبي .. أسمعك .
                    ـ تعالي إلي هنا .. أريدك في أمر هام .. تعالي .
                    ـ حاضر يا أبي .. جئتك .
                    تتقدم حتى تصل إلى والدها ، فيشير لها بالجلوس بجانبه ، وتجلس :
                    ـ خيرا يا أبي .. تفضل قل كلي آذان صاغية .
                    ـ خيرا يا ابنتي .. إن شاء الله لا يوجد إلا الخير .. لن أوصيك يا ابنتي .. يجب أن يظل رأسي مرفوعا رغم عجزي الجسدي.. إياكِ ثم إياكِ أن تقومي بأي عمل تكون عاقبته ندما .. في العمل أنت وأختك غريبتان .. فحذار يا ابنتي مما يشين .
                    ـ أنا ابنتك وأنت من رباني .. ورأسك إن شاء الله سيظل مرفوع .
                    ـ وهناك موضوع آخر.. ويجب أن تعرفيه .. والرأي فيه يعود لك.. لأنه يخصك أنتِ وحدك .
                    ـ قل يابا .. ورأيك على رأسي من فوق .. أنت تاج رأسي يا أبي .
                    ـ راعي العجال يا ابنتي .. بعث إلي جاهات ووسائط كثيرة .. ويريدك زوجة لابنه .. وأنا خجلت لكثر ما وجَّه إلي الناس .. فقلت أشاورك .. والذي تقولينه لن يكون غيره .. لن أجبركِ على أمر لا يريدينه .. واذا رأيتِ الموضوع مناسبا لك فعلى بركة الله .
                    تسكت سعدى وتطأطئ رأسها خجلا من والدها ، وينتظر والدها أن يسمع الجواب ، لكنها تظل ساكته .
                    ـ مالك يا ابنتي أجيبيني .. قولي لي ما رأيك .
                    ـ الرأي رأيك يا أبتِ .. والذي تراه وترضاه لي فأنا راضية به .. ولا أخرج عن طاعتك يا أبي .
                    ـ بارك الله بك يا ابنتي .. لكن أحب أن أسمع رأيك .
                    ـ يووووووه يا أبي .. قلت لك ما تراه وتقبله فأنا أقبله .
                    ـ يعني موافقة يا ابنتي ؟.. على بركة الله .. سأبلغ الجماعة .. ليحضروا .
                    تنهض سعدى بسرعة وتختفي في الغرفة الثانية ، وتبدأ بالرقص لوحدها ، فأخيرا جاء العريس ، الذي أوصاها حبيبها الميت بقبوله ، وها هو أبوها بنفسه يعرض الأمر عليها ، يا لها من فرحة ، ترقص ما شاء لها الرقص والفرح ، وتنسى العالم كله إلا التفكير بالعريس ، وتظل في نشوتها حتى يخطفها النعاس من بين يدي الفرح وتنام ، ولا تستيقظ إلا على صوت أمها تناديها صبيحة اليوم التالي للذهاب إلى العمل ، فقد حضر الخواجا سامي ليأخذها وأختها ، وتنهض سعدى عجلة ، وَتُصَبِّحُ على والديها ، وتنطلق مع الخواجا في سيارته إلى بيت جميلة التي كانت تنتظر أمام بيتها ، مع طفليها ، وينطلق سامي بمن معه صوب المدينة إلى بيته ، وطوال الطريق كانت جميلة وسعدى تتبادلان الحديث عن العمل وكيف سيكون وأين ستعمل كل منهما ، والنظر عبر النوافذ الى الشارع والسيارات المقابلة والمحاذية في نفس الاتجاه ، ويمرون في الطريق على حادث تصادم ، شاحنة مع سيارة صغيرة ، كانت قد انحرفت عن مسلكها المقابل واصطدمت وجها لوجه مع الشاحنة ، والمنظر تقشعر له الأبدان ، فجميع من في السيارة الصغيرة قتلوا على ما يبدو ، والمارة يحاولون المساعدة ، لكن من مات مات وانتهى ، ويتوقف سامي وينْزل مسرعا وتبقى جميلة وسعدى والأولاد بانتظاره ، وتريانه من داخل السيارة وهو يتحدث مع شرطي المرور في المكان ، ولا تفهمان عما يتحدثان ، لكنهما تدركان أن الكلام ليس إلا عن الواقع الماثل أمام الجميع في هذه اللحظة ، وبعد دقائق يعود سامي الى السيارة وحالته قد تغيرت ، فالمنظر الذي رآه مؤلم ، ويتابع السير وهو يشرح لهما عن الحادث ومن تسبب به ، وعن تأخر الاسعاف في الحضور والشرطي الذي يمنع الناس أن يساعدوا المصابين أو نقل القتلى الى المستشفى ، ويبدو عليه الغضب لتصرف الشرطة ، وأخيرا وصل الجميع إلى بيت سامي ، ونزلوا من السيارة ، وحملت جميلة سامي الصغير ، بينما حملت سعدى الطفل الكبير وساروا عدة أمتار حتى دخلوا البيت ، وجلسوا يستريحون بعض الوقت ، ثم يبادر سامي بالكلام :
                    ـ اعتبرن البيت بيتكن .. لا بيت رجل غريب .. فهنا سوف تعمل جميلة .. وأنت يا سعدى ستعملين في بيت الجار اسحاق .. هو رجل كبير في السن وله زوجة .. لكن كلاهما هرم ويحتاجان من يقوم على خدمتهما بعدما غادرهما جميع أولادهما .. وتزوجوا جميعا .
                    تقاطعه سعدى قائلة :
                    ـ وهل بيته بعيد من هنا ؟؟ .. إذا كان بعيدا لا أريد .. لأني أريد العمل قريبا من جميلة .. وإذا احتجت شيئا آتي بسرعة إليها .
                    ـ طبيعى يا سعدى .. بيت الجار إسحاق ليس بعيدا .. فهو على بعد عشرين مترا فقط .. فقط انتظري لحظات لأشرح لجميلة ما يجب فعله .. وبعدها سآخذك إلى بيت الجار إسحاق .
                    وبدأ يشرح لجميلة وضع البيت ، ويريها المطبخ ، ويغسل غلاية البن ويشعل الغاز ويضعها على النار ، ويتابع معها حتى يريها جميع الغرف ، وتعود إلى حيث تجلس سعدى ، بينما يتوجه سامي إلى المطبخ ويكمل اعداد القهوة ، ويحضرها ، ويعود إليهما ، ويصب القهوة للجميع ويبدأون ارتشافها ، ويبدأ سامي الكلام :
                    ـ والآن .. أرجو أن تدركا أن أباكما قد أوصاني جدا عليكما .. لذا أنتما الآن من العائلة كما نقول عندنا .. والأكل سيكون هنا عندي في البيت .. بعد أن تنهي العمل يا جميلة .. تُعدين لنا الغداء .. وهكذا سيكون الحال كل يوم تأتيان فيه للعمل .. وأرجو أن تخبريني عما نحتاج إليه لأشتريه الآن قبل أن أذهب إلى عملي .
                    *************
                    " أعتبر نفسي مسؤولاً عما في الدنيا من مساوئ ما لم أحاربها "

                    تعليق

                    • هادي زاهر
                      أديب وكاتب
                      • 30-08-2008
                      • 824

                      #25
                      كان سامي طوال الوقت يحاول عدم لفت انتباه سعدى إلى ما بينه وبين أختها جميلة ، وأن لا يثير اهتمامها بأي شيء ، لذا كان حريصا أن يظهر جديا في كلامه ، دون أي فعل يثير الشك ، وفي نهاية المطاف ، أبلغته جميلة ما تحتاج من الخضار واللحوم لاعداد الغداء ، فنادى على سعدى وخرجا ليوصلها إلى بيت الجار إسحاق ، وبعد أن أفهمها وعرَّفها بالجار وزوجته ، وما يجب عليها ، ودع الجميع وانطلق إلى السوق ليشتري ما طلبت منه جميلة ، ولم ينس أن يشتري حليبا وما يحتاجه الصغير ، حتى أنه اشترى له سريرا خاصا لينام فيه طوال اليوم ، واشترى حلوى كثيرة للصغير الثاني حتى لا يشعر بضيق ، واشترى أيضا ألعابا له ، ثم قفل راجعا ؛ ولأن كمية المشتريات كانت كبيرة ، فقد اضطر أن ينادي جميلة من الداخل لتساعده في انزال المشتريات ، وبعد ان أصبح كل شيء في الداخل ، جلس على كرسي في الصالة ، وطلب من جميلة أن تحضر له الطفل ، فتحضره له من داخل غرفة نومه ، فقد وضعته على سرير سامي ، وحين يأخذه يطلب منها اعداد القهوة مجددا لهما ، ليتحدثا في أمرهما الحالي وفي الأيام المقبلة ، فها هي الآن في بيت والد طفلها ، وهو يريدها أن تعيش معه ؛ تذهب جميلة لتعد القهوة ، ويبقى سامي يلاعب ابنه ، أما الصغير الثاني فقد تعلق بأمه ورافقها إلى المطبخ ، وبعد دقائق كانت جميلة قد انتهت من اعداد القهوة ، وحضرت وجلست بجانب سامي على الكرسي الثاني ، ثم سكبت القهوة ، وقدمت لسامي فنجانا وصبت لنفسها فنجانا ، وراحا يرشفان القهوة معا ، ثم قال سامي :
                      ـ أين خالد ؟؟ .
                      ـ لقد ذهب إلى الغرفة المجاورة .. ليلعب بالألعاب .
                      ـ جميلة حبيبتي .. هل أعجبك البيت ؟؟ ..
                      ـ نعم إنه بيت كبير وواسع .
                      ـ يجب أن تعلمي حبيبتي أنني لم أفعل ما فعلت وأحضرتك لكي تشتغلي حقيقة .. بل لأجل أن تكوني معي في بيتك الجديد أنت وابننا .. وأستطيع أن ألبي احتياجاتكما معا .. ولتكوني بقربي أيضا حبيبتي .. فأنا أريد أن يكبر ابننا تحت كنفي وفي رعايتي ورعايتك معا .. وليس في القرية .
                      ينحني عليها ويقبلها ويضمها إلى صدره ، فتحس جميلة بدفئه وحنانه ، ولا تمنعه من شيء ، ثم يتابع :
                      ـ وكذلك حبيبتي .. أريد أن أكون مع زوجتي بدون خوف من رقيب علينا .. ولا خجل من أن يداهمني أحد كأنني لص .. وهذا البيت ملكك .. ومنذ اليوم أنت سيدة البيت .. وإن أحببتِ سأحضر لك من تخدمك وتقوم على تلبية طلباتك .. أحبك يا جميلة .. أحبك يا أم سامي .
                      ـ لا..لا .. لالزوم لذلك .
                      ـ حبيبتي يا جميلة .. آآآآآآآآآآآه كم أحبك يا حبيبتي .. انظري إلى ابننا ما أجمله .. إنه يشبهنا.. فيه شبه مني ومنك يا جميلة .. ما أجملك يا بني يا حبيبي .
                      ـ أنفه يشبه أنفك يا سامي .. وعيناه تشبهان عيني أنا .. انظر .
                      يعانق سامي جميلة مدة طويلة جدا ، كأنه لا يريد أن يفلتها من بين ذراعيه ، وهي تضمه وتعانقه ، وصوت القبل يسمع بوضوح ، كأنهما عاشقان التقيا بعد فراق طويل :
                      ـ حبيبتي جميلة .. خذي الولد .. وضعيه في سريره لينام .. ولا تبخلي عليه بالرضاعة أو الحليب الصناعي .. فهو متوفر .. وبامكاني شراء ما يحتاج .. ثم ابدأي باعداد الغداء لنا .. ودعي التنظيف والمسح .. لا ترهقي نفسك .. فعندي من تقوم بهذا .. لقد طلبت منهم في المركز فتاة لتنظف البيت عندي .. وكل أسبوع سوف تحضر وتنظف .. فلا تشغلي نفسك بالتنظيف .. فقط أعدي لنا الغداء .. وأنا سأخرج وأعود بعد ساعتين .
                      تأخذ جميلة الطفل وتذهب به إلى سريره ، تضعه فيه وتهز السرير قليلا حتى يغفو الطفل ، ثم تعود إلى سامي ، وقد نهض ليخرج ، وترتمي في حضنه ، وتقبله بلهفة وشوق ، ويقبلها بالمثل ، فهي في مكان غريب ولا تعرف غير سامي ، ولخوفها من المجهول تفعل مع سامي ما تفعل وتحاول ارضاءه ، ولم تعد تساورها الشكوك حول علاقتها بسامي ، أو تسأل عن شرعيتها ، وما عاد يهمها إلا أن تنعم بعيش رغيد ورفاهية ، ولا تشتكي العوز ، وما دام سامي يوفر لها كل هذا فهو المطلوب ؛ يودعها ويخرج وتظل هي في البيت وحدها .
                      *************
                      " أعتبر نفسي مسؤولاً عما في الدنيا من مساوئ ما لم أحاربها "

                      تعليق

                      • هادي زاهر
                        أديب وكاتب
                        • 30-08-2008
                        • 824

                        #26
                        تجلس جميلة على الكرسي ترشف قهوتها وتسرح بخيالها وتستعرض في ذاكرتها ما مر عليها من أحداث حتى وصلت إلى ما هي عليه الآن :
                        ـ ماذا تريدين أكثر يا جميلة .. سامي صدق معك ولم يتركك .. وما تخلى عنك .. وها هو يدخلك بيته ويهبك كل ما لديه فقط لتكوني راضية .. لم تتمتع امرأة بمثل ما تتمتعين به الآن .. حتى بيت المختار لا يصل إلى مستوى هذا البيت لا من جهة المظهر ولا الحالة الداخلية له .. أين كنتِ يا جميلة وأين صرتِ .. أنت الآن تعيشين عيشة الملوك .. إياك أن تتنازلي عنها في لحظة .. ولو أدى بك الأمر إلى اتباع سامي وتلبية كل ما يريد ..هههه .. وماذا سيريد أكثر .. لقد أخذ أعز ما أملك .. صحيح أنه كان متوحشا حين اغتصبني .. لكنه بعدها ظهر إنسانا رائعا ولا يهمه إلا رضاكِ يا جميلة .. ألستِ أم ابنه سامي ؟؟.. لكن يا جميلة .. أنت عربية وهو يهودي .. والزواج محرم بينكما حتى يتبع أحدكما الآخر .. وأنت محرم عليك اتباع غير دينك .. فكيف رضيت بهذا ؟؟ .. كيف صبرت وسكتِّ على كل هذا .. أين عقلك يا جميلة ؟؟ .. لقد استدرجك سامي وأوقعك في شباكه .. وأنت لست أكثر من خائنة وعميلة .. تتجسسين على أهلك وشعبك لصالح اليهود .. وهذا الذي أنت فيه ليس إلا ثمن خيانتك لأهلك ووطنك .. أنت ساقطة يا جميلة .. لا تستحقين الحياة .. موتك أفضل من حياتك .. لقد رأيت بعينك كيف قتلوا حبيب أختك سعدى .. ورأيت قبله اعتقال وسجن زوجك .. زوجك عدنان الشريف الوطني .. كيف حاله الآن ؟؟ .. لقد سجنوه لأنه أحب أهله وبلده .. وأنت الخائنة التي أبلغت سامي عنه وعن جماعته .. تبا لك يا جميلة .. آآآآآآآآآآآآآه .. ما أتعس حظك يا جميلة .. كيف استطعت فعل كل هذا .. أنسيت أنك ابنة الحاج عبد الله ؟؟ .. ألم تري مكان الرصاصة في ساقه أكثر من مرة وهو يتوضأ ؟؟ .. ألم تسأليه عن سبب ذاك الجرح وقال لك إنه ثمن الحرية .. وكنت لا تدركين مرمى كلامه .. وشرح لك أنه بسبب مقاومة المحتلين الذي اغتصبوا البلاد من أهلها وقلبوا اسمها من فلسطين إلى إسرائيل .. أنسيتِ كل هذا يا جميلة من أجل سعادتك أنت ؟؟ .. أيتها الخائنة .. موتي فالموت أشرف لكِ .. لست جديرة بالحياة .. آآآآآآآآآآآآه .. آآآآآآآآآآآآآآآآآه .. أي حال وقعتِ فيه يا جميلة ؟؟ .. وماذا بيدكِ لتفعليهِ ؟؟ .. أنت امرأة ضعيفة لا حول لكِ ولا قوة .. وما حصل لكِ أمر مقدر .. لا ذنب لكِ فيهِ .. وكله بسبب اغتصابكِ .. ولو أنكِ كشفت حقيقة اغتصابك أليس من المحتمل أن أهلك قتلوك ساعتها ؟؟ .. من كان سيصدق أنكِ اغتصبتِ ؟؟ .. ثم البلاد .. إذا كان الحكام الذين من المفترض أنهم يحاربون بجيوشهم قد سكتوا ولم يفعلوا شيئا سوى التفرج .. فماذا يمكن امرأة مثلك أن تفعل ؟؟ .. إنه قدركِ في الحياة يا جميلة .. ولا فائدة من معاندة القدر .. فامضي في طريقك دون النظر إلى الوراء .. وهذا المسمى الضمير .. لا حاجة لكِ به .. كل ما تحتاجينه هو العيش الكريم وتربية أبنائك على أحسن وجه .. علميهم ليصبحوا أطباء أو محامين .. ولا تلتفتي إلى أمر سوى هذا .. الماضي مات .. والميت دفنه أولى وأفضل .. فلا تبعثي الميت من قبره كل مرة .. إنتهينا أنت ولدت اليوم .. وكيف تقتلين المسمى الضمير ؟؟ .. أنسيت أنك ابنة الحاج عبد الله ؟؟ .. أنسيت حديث سعدى صباحا في السيارة وكيف انقلبت حالة أبيك لمجرد سماعه طلب خروجكما للعمل ؟؟ .. ألا يستحق والدك أن تحافظي على شرفه وسمعته ؟؟.. وماذا لو علم أي مخلوق بما جرى لك ووصل الخبر إلى مسامع والدك ؟؟ .. لا شك أنه سيموت مباشرة بعد سماع الخبر . خائنة .. ساقطة أنت يا جميلة .. لقد حكم القدر عليك أن تعيشي مهانة .. فارضي بالمهانة صاغرة .. ولبي حاجات سامي .. هكذا فقط يمكنك الاستمرار في الحياة .. أو موتي ولا حل سوى ذلك .. فمن كانت مثلك فالموت أولى بها .. والحياة كثيرة عليها .. لا شفاء من الخيانة إلا بالموت .
                        ويقطع عليها الحال صوت ابنها الكبير ، يناديها ويشد بثوبها ، فقد حاول أن يقضي حاجته ، ولم يعرف أين يقضيها ، فالوضع هنا مختلف عن القرية ، فهناك كان يُنْزل سرواله ويقضيها في العراء ، لكنه هنا محبوس بين الجدران ، ولجهله المكان واشتداد الوضع عليه فقد قضاها في سرواله ، وحين ضايقته الرائحة أسرع وتعلق بأمه ؛ رأت جميلة حالة ابنها ، وأحست بشيء من القرف من الرائحة التي عبقت في المكان ، فنهضت مسرعة به إلى الحمام ، حيث قامت بنَزع ملابسه وتشطيفه ، ثم الباسه ثيابا أخرى ، وتنظيف المكان من الغائط ، وقامت بفتح الشبابيك ليدخل هواء جديد إلى المنْزل ، وانطلق خالد مرة أخرى إلى الغرفة المجاورة وانهمك باللعب ، بينما انهمكت هي باعداد الغداء والطبيخ ، وما هي إلا سويعات حتى كانت قد انتهت من الاعداد ، وجلست بانتظار سامي .
                        الساعة الآن الثانية ظهرا ، وصوت السيارة في الخارج مسموع ، لقد عاد سامي ، وها هو يدخل البيت ويبدأ بقبلة على خد جميلة ، التي تكاد في سرها ترقص فرحا لهذه المعاملة المفرطة في الرقة من سامي تجاهها :
                        ـ مرحبا حبيبتي .
                        ـ أهلا .. تأخرت .. أم أن العمل يتطلب كل هذا الوقت ؟؟ .. تعال وانظر ماذا طبخت لك .
                        تصطحبه إلى المطبخ ، وبمجرد دخوله المطبخ تنفتح شهيته للروائح المنبعثة من الطبيخ ، ويبدأ برفع غطاء الطنجرة وغمس اصبعه في الأكل ثم يلحسه بشهية مفرطة ، ويعيد غطاء الطنجرة ، ويتجه إلى المقبلات ويلحس منها بشهية أيضا :
                        ـ الله .. الله يا حبيبتي ما أروعك .. وما أشهى هذه الروائح .. منذ زمن بعيد جدا لم أشم مثل هذه الروائح .. منذ كنت في بيت أهلي في بلاد الرافدين .. هذه أول مرة أشم رائحة الطبيخ في بيتي منذ قدمت إلى البلاد .. ما أطيب طبيخك .. ما أسعدني بكِ يا حبيبتي .. تعالي أقبل رأسك .. تعالي يا أم سامي .. آآآآآآآآآآآآآه ما أطيبك .
                        تقترب جميلة ويقبل رأسها وخدودها وشفتيها .. في شوق ولهفة وشعور بالامتنان :
                        ـ حسنا حبيبتي .. أعدي لنا المائدة .. وسأذهب لأحضر أختك سعدى من بيت الخواجا إسحاق .. فقد انتهى يوم عملها وعلي احضارها .. وبعد الغداء أعيدكما إلى القرية . يااااااااااااااااااااااااااه .. ما أسعدك يا سامي بجميلة .. لحظات حبيبتي وأعود .. وقبلة أخرى .. أمممممممممممممممم .. أحبك يا جميلة .
                        يخرج سامي متجها الى بيت الخواجا إسحاق ، وتنهمك جميلة في إعداد المائدة ، وما هي إلا دقائق حتى يعود بصحبة سعدى ، والتي تمسك أجرة يومها بيدها ، خمس ورقات نقدية من فئة الليرة ، ولا تكاد تصدق أن هذه النقود هي أجرة يوم واحد ، فالعمال في القرية لا يوجد فيهم من تصل أجرته حتى لو اشتغل من الفجر إلى الليل هذا المبلغ ، وما إن تدخل سعدى حتى تركض إلى جميلة وتضمها من الخلف وتبدأ بتقبيلها ، وهي تلوح بالنقود ، وتطلق ضحكة خفيفة وتعاود التقبيل ، وكأنها تريد شكر جميلة على تدبير الشغل لها ، و تقول بصوت خفيف :
                        ـ جميلة حبيبتي يا أختي انظري .. خمس ليرات .. انها نقود حقيقية وليست مزورة .. إنها نقود يا جميلة .
                        ـ مبروك عليك يا سعدى .. إنها أجرتك وثمن تعبك .. أنت تستحقينها .
                        ـ يا جميلة .. هل في قريتنا أي عامل تصل أجرته هذا المبلغ ؟؟ .
                        ـ لا أعرف يا سعدى .. الآن اتركيني .. وهيا لنتناول غداءنا قبل العودة إلى القرية .
                        تتركها سعدى ، ويظهر سامي وهو ينشف يديه بعد غسلهما ، ويجلس الجميع لتناول الغداء ، وبينما راح سامي يأكل بالشوكة والسكين ، راحت جميلة وسعدى تغمسان الأكل وتأكلان دون استعمال مكملات الحضارة الوافدة ، ويضحك سامي قليلا ، وتضحك جميلة وسعدى لهذا الفرق في الأكل ، ثم ما يلبث الجميع أن يتأقلموا مع الوضع ، ولا يتحرج أحد من الآخر ، ويدور الحديث خلال الأكل ويشرح سامي ما صادفه في نهاره ، ويمزج حديثه بما يشوق ، ويتذكر تاريخه ويروي شيئا من بطولاته السابقة ، وحين ينتهون من الأكل ، تأخذ جميلة وسعدى الصحون إلى المطبخ ، وتجليانها ، وتعدان القهوة ، ثم يشرب الكل القهوة ، وتغسلان الفناجين بعد ذلك ؛ وحان وقت الرجوع إلى القرية ؛ يمد سامي يده إلى جيبه ويخرج نقودا ويدفع لجميلة أجرتها ذاك النهار على مرآى من سعدى ، ثم تحضر جميلة طفليها ، ويخرج الجميع متجهين إلى السيارة للعودة ، ويقفل سامي البيت ، وفي الطريق تروي سعدى لجميلة ما مر عليها ذاك النهار ، وكيف أن العمل لم يكن صعبا ، وأن الخواجا إسحاق كان لطيفا معها ، وأنه يتكلم العربية بطلاقة ، ولا يخطئ بكلمة ، وتروي لها عن شاب في العمارة المقابلة كان دائم النظر إليها من إحدى البلكونات ، وكثيرا ما لوح لها بيده ، وأنها تظن أنه عربي ، كما توحي ملامحه بذلك ؛ وصلوا القرية ، وفي طريق الدخول كان الأطفال يرافقون السيارة ، حتى توقفت أمام بيت سعدى ، وما إن توقفت السيارة حتى انتشر الأطفال ، وهنا قال سامي مخاطبا سعدى :
                        ـ تفضلي يا سعدى .. ها قد وصلنا البيت .. ولا تنسي أن تبلغي سلامي للوالد .. ويوم الثلاثاء في نفس الموعد انتظريني .
                        ـ حاضر يا سيد سامي .. سأبلغ والدي سلامك .. وسأكون في الموعد المحدد بانتظاركم .. تصبحون على خير .
                        تنْزل سعدى ، ويتابع سامي السير ، حتى يتوقف أمام بيت جميلة :
                        ـ وصلنا حبيبتي .. ما أصعب أن أتركك لوحدك وأعود .يا ليتني أجد حلا يا حبيبتي .. سأصبر .. لكن هناك طلب .. حاولي أن يبقى ابنك عند والديك يوم الثلاثاء .. لنأخذ راحتنا في البيت .. ولا يعكر حبنا شيء .. احضري ابننا فقط .. وابنك الثاني علميه العودة من المدرسة إلى بيت والديك .. ولينتظر هناك حتى تعودي .. ولا أظن الأمر صعبا .. وأنا أريد الجلوس مع زوجتي لوحدنا ..فهل سأحرم من هذا أيضا ؟؟ .
                        ـ امض قبل أن يراك الناس واقفا .. ويَشُكُّون بأمرنا .. فأنت تعرف القرية وأناسها وسرعة انتشار الشائعات فيها .
                        ـ حاضر حبيبتي .. إلى اللقاء .. إلى اللقاء يا أجمل حبيبة .. وانتبهي لابننا جيدا .. وخذي هذا الكيس الصغير .. فقد اشتريت بعض الحاجات له ولأخيه .. خذي جميلتي .. خذي حبيبتي .
                        تأخذ منه الكيس ، وينطلق سامي عائدا ، وتظل جميلة واقفة حتى يغيب عن الأنظار ، ثم تمضي إلى داخل البيت ، حيث تعد الفراش لابنيها ، وتضعهما فيه وتجلس عند رأسيهما حتى يناما ، وبعد ذلك تنهض وتخرج لتفقد الدواب وتقديم العلف لها وحلب البقرة ، وبعد أن تنهي العمل تعود إلى البيت ، وتندس في الفراش بجانب ابنيها ، وتسترجع في ذاكرتها أحداث النهار من صباحه حتى لحظتها الراهنة ، وتظل إلى أن يغلبها النعاس وتنام .
                        أما سعدى فانها حالما وصلت البيت ودخلت ، وجدت والديها بانتظارها ، قلقين عليها ، فلم يعتادا على غيابها عن البيت من قبل ، وتدخل عليهما والفرح على وجهها ظاهر ، والنقود في يدها ، وما إن تر والديها حتى تبادرهما بالسلام :
                        ـ السلام عليكما .
                        ويرد الأبوان بصوت واحد :
                        ـ وعليكِ السلام .
                        ثم يبادرها الأب بالكلام :
                        ـ لقد تأخرتِ يا سعدى .. فالوقت قارب على المساء .. لماذا تأخرتِ يا ابنتي ؟؟ .. هل حصل شيء ؟؟ .
                        ـ لا يا أبي لم يحصل شيء .. لكن بلد الخواجا سامي بعيدة قليلا .. وهذا السبب في التأخر .. أما العمل فقد أنهيته بعد الظهر بقليل .. وتغدينا أنا وجميلة في بيت الخواجا سامي .. إنه كريم يا أبي مثلنا .. لقد أصر على أن نتناول الطعام عنده كل يوم نذهب فيه إلى العمل .. إن أخلاقه عالية يا أبي .. ولا يشبه اليهود .. بل إنه يشبهنا نحن العرب في عاداته .
                        ـ حيَّاه الله يا ابنتي .. لكن نحن عرب ولنا عاداتنا وتقاليدنا .. وأخشى من كلام الناس .. فلسنا بحاجة إلى كلامهم .. وأنا سني كبرت .. ولم أسمع في حياتي أية كلمة ناقصة .. ولا أحب أن أسمع بعد هذا العمر .. لذلك في المرة القادمة أبلغي الخواجا سامي أني لا أريد أن تتأخري في العمل حتى هذا الوقت .. ويجب أن تكوني في البيت عندي مع العصر على أكثر تقدير .
                        ـ حاضر يا والدي سأفعل إن شاء الله .. سأبلغه ما طلبتَ .. والآن .. تفضل يا والدي هذه أجرة اليوم الأول .. خمس ليرات.. تفضل .. والخواجا سامي يبلغك سلامه .. فقد طلب مني أن أبلغك سلامه .. إنه طيب يا أبي .. وهيبته تبعث الأمان في النفس .. وأخلاقه رفيعة .
                        يأخذ الأب النقود ويبدأ بتفحصها بدهشة واستغراب ، كأنه غير مصدق ما ترى عيناه :
                        ـ ما هذا يا سعدى ؟؟ .. إنها خمس ليرات حقيقية يا ابنتي .. ليست مزيفة .. هل يعقل هذا يا ابنتي ؟؟ .. لا يوجد في القرية من قبض أجرة كهذه منذ وجدت القرية .. أكاد لا أصدق ما أرى .
                        ـ لما لا تصدق يا أبي ؟؟ .. أنا سعدى بنت الحاج عبد الله .. يعني بنت رجل لا يشبهه أي رجل في القرية .. أنا بنت الشيخ الحاج عبد الله .
                        تتدخل الأم :
                        ـ نعم يا ابنتي أنت بنت رجل .. ونعم البنت والوالد .. أبوك يا سعدى رجل لا يشبهه رجل يا ابنتي .. حقيقة وليس كذبا ودجلا .
                        تضحك سعدى ، وتعانق أمها ، ويضحك الوالد ، ثم ما يلبث الجميع أن يضحكوا ، وتتابع الوالدة :
                        ـ هل أنت جائعة يا سعدى ؟؟ .. هل أعد لك شيئا تأكلينه يا ابنتي ؟؟ .. أكيد أنت الآن جائعة .. حتى لو تغديتِ في بيت الخواجا سامي .. فمؤكد أنك الآن جائعة .
                        ـ لا .. لا يا أمي لست جائعة .. لقد أكلنا عند الخواجا سامي حتى شبعنا .. وكان الأكل لذيذا جدا .. لكن الأمر المؤكد عندي الآن .. هو أنني بحاجة للنوم .. تصبحان على خير يا أغلى أبوين .. سأذهب للنوم .
                        ـ وأنت من أهل الخير يا ابنتي .. في حفظ الله ورعايته .
                        رد الأبوان بصوت واحد ، وما زال الوالد يتأمل النقود بدهشة ، ثم ما لبث ان طواها ودسها تحت الفرشة ، والتفت الى زوجته قائلا :
                        ـ ما قولك يا امرأة في هذا الوضع الجديد ؟؟ .. هل هو صحيح أم خطأ ؟؟ .. لم تخرج أية بنت من عائلتنا للعمل قبل اليوم .. لقد فكرت في الأمر بالأمس طويلا .. حتى بعد أن وافقت على خروجهما للعمل .. لست مرتاحا للأمر يا امرأة .. ووضعنا غير مريح .. فأنا الحاج عبد الله .
                        ـ وما له وضعنا يا رجل ؟؟ .. ليس العمل عيبا .. وقضية عدم خروج أية بنت من العائلة للعمل قبل اليوم .. فسببه أنه لم يتيسر لأية بنت عمل مثلما تيسر لسعدى .. ومن حديث سعدى عن الخواجا سامي يظهر أنه رجل محترم وأخلاقه عالية .. ولا يعيبه شيء .. وكونه يهوديا فهذا لا يعيبه .. فكل ما يهمنا هو كيف يعامل ابنتينا .. ولا تنس أن جميلة ابنتنا أيضا .
                        ـ لا .. لم أنس .. لكن أنا قصدت أمرا غير الذي فهمتِ .. هل نسيتِ أننا من قرية ؟؟ .. والاشاعة فيها تنتشر كالنار في الهشيم .. ماذا سيقول الناس غدا حين يعلمون بالأمر ؟؟ .. من المؤكد أنهم سيقولون ويقولون .. ولن يرحمونا .. أنا الحاج عبد الله .. وهذا مكان الرصاصة ما زال كما هو في ساقي .. أنا كنت رفيق الشيخ عز الدين القسام زمن الثورة .. أنسيتِ هذا .
                        يكشف عن ساقه فيظهر مكان الرصاصة :
                        ـ انظري .. انظري جيدا .. وأنت تعرفين سبب هذه الرصاصة .. وسبب بقائها في رجلي حتى اليوم .. سيقول الناس : الحاج عبد الله الذي كان مع الثوار وحارب الانجليز واليهود يرسل الآن بناته للعمل عند اليهود .. وأكثر من ذلك .. إن من يأخذ البنات للعمل خواجا يهودي .. يعني الحاج عبد الله يرى الخواجا يصطحب بناته إلى العمل ويسكت .. سيقولون المال أغراه وسكت .. لقد باع ضميره ونسي وطنه الذي جاهد من أجله عمرا .
                        ـ ماذا أصابك يا حاج ؟؟ .. ما هذا الكلام الذي تقول .. أنت عاقل يا حاج .. فما هذا الكلام الغريب ؟؟ .. هل نسيت أن الزمن تغير ؟؟ .. وأننا اليوم محكومون للدولة ؟؟ .. يعني دولة اليهود يا حاج .. وهل نسيت أن كثيرا من اليهود يأتون كل أسبوع لزيارة المختار ويذبح لهم الذبائح .. ويقيم لهم الولائم .. هل نسيت هذا يا حاج ؟؟ .. وهل نسيت عائلة الغريب التي وفدت على القرية بعد الاحتلال وحادثة اغتصاب بنت من بناتها بعد ما قامت الدولة .. والكل يومها قال إن اليهود اغتصبوا البنت ثم تبين أن المختار كان أحد الذين اغتصبوا البنت .. وتم التكتم على الأمر لعلاقته مع الدولة .. واستغل حاجة والد البنت وفقره وتمت الصلحة ودفع مبلغا لوالد البنت .. وتزوجها عاما ثم طلقها .. ورحلت العائلة عن البلد الذي وفدت عليه لحمايتها .. هل نسيت كل هذا يا حاج ؟؟ .. يعني الأمر كما يقال حاميها حراميها .. مختار يفترض فيه أن يحمي أهل البلد .. وهو من بدأ بهتك عرض البنات .. ووجد من يحميه أمام الناس .. ويفرضه علينا مختارا بالقوة .. أليس كذلك يا حاج .. وهذا الخواجا سامي جاء إليك وطلب منك إرسال ابنتيك وتعهد لك بحمايتهما .. وفعلا فقد أكرمهما .. وأعادهما معززتين مكرمتين .. وبشهادة ابنتك سعدى .. وهو يهودي .. أليس هذا اليهودي أفضل وأشرف من المختار الذي من دمنا ولحمنا ؟؟ .
                        ـ صحيح .. والله صحيح يا امرأة .. لكن الناس لا ترحم .. على كل حال نحن متوكلون على الله وهو كفيل بدفع السوء عنا .. وحمايتنا من ألسنة الخلق .. فهو عليم بنا وبحالنا .. وأن الحاجة والفقر هما ما دفعنا لاخراج البنات للعمل .. يا ربِّي توكلنا عليك في كل شأننا فلا تخذلنا يا أرحم الراحمين .. أنت ملاذنا وحصننا الذي نحتمي به .. لا تخيبنا يا رب العالمين .. ونسألك الستر في الدنيا والآخرة .. وأن ترحم شيبتي ولا تذلني في آخر العمر.. هيا يا امرأة .. النعاس غلبني .. احضري لي اللحاف سأنام .
                        ـ حاضر يا حاج .
                        تنهض الزوجة وتمضي ؛ ثم تعود ومعها اللحاف ، وتغطي زوجها ، وتستدير وتحضر لحافا آخر وتندس في فراشها ، وتسرح بخيالها والحال ، وتشفق على حال زوجها وما هو فيه من الضيق ، وتقارن هذا مع الفقر الذي يرزحون تحته ، وتظل شاردة الذهن فترة غير يسيرة ، ثم تنام .
                        ************
                        " أعتبر نفسي مسؤولاً عما في الدنيا من مساوئ ما لم أحاربها "

                        تعليق

                        • هادي زاهر
                          أديب وكاتب
                          • 30-08-2008
                          • 824

                          #27
                          الليل يخيم على القرية ، وكالعادة يسهر المختار في مضافته ، وحوله الرجال من القرية ، وقد ترامى إلى سمع بعض الرجال حديث من أطفالهم ممن رأوا جميلة وسعدى في سيارة سامي وهما عائدتان إلى القرية ، وقد رأى البعض هذا الأمر فضيحة ، فسارع إلى بيت المختار ليخبره وليتشاور الجميع في هذا الأمر الغريب ، وما إن يستتب المجلس بالجميع ويطوف الناطور بالقهوة السادة على الجميع ، ويطيب الأنس لهم ويجري الحديث ويتشعب وتكثر الشجون ، والحديث ذو شجون ، حتى يستأذن أحد الحضور بالكلام فيؤذن له :
                          ـ يا مختارنا الكريم والكلام للجميع .. صلوا على رسول الله .
                          يرتفع صوت الجميع بالصلاة على الرسول .
                          ـ اليوم سمعت خبرا .. أجارنا الله وعافانا من هكذا خبر .
                          ينصت الجميع كأن على رؤوسهم الطير ، ويبدو المختار وقد احمر وجهه وانتفخت أوداجه ، وجحظت عيناه في وجه المتحدث منتظرا سماع الخبر ، ولما طال صمت الرجل بادره المختار :
                          ـ أي خبر يا رجل ؟؟ .. قل ولا تسكت .. لقد فاجأتنا فتكلم .
                          ـ الخبر يا مختار .. فضيحة .. ولا يمكن السكوت عليه .. ولولا أن من أبلغني هو طفلي الصغير لأذعت الخبر في القرية كلها لتزيل عنا العار الذي سيلحق بنا كأهل بلد .. لكنني بحاجة إلى التأكد حتى يكون كلامي يقينا .. وأريد من الحضور هنا .. ممن بلغه ما بلغني أن يؤكد كلامي قبل أن نتصرف أي تصرف ، ربما نكون فيه على خطأ أو نظلم الناس بغير دليل .. فالحكم على الناس بلا دليل حرام وفيه إثم .
                          يكاد المختار ينفجر من الغيظ ، ويطلب منه التكلم :
                          ـ تكلم يا رجل .. لقد زدت همي .. فقل ما الأمر وما هو الخبر ؟؟ :
                          ـ لقد أبلغني ابني الصغير أنه رأى اليوم ابنتي الحاج عبد الله في سيارة أحد الخواجات يدخل بهن إلى القرية وليس معه غيرهن .. أي إن بنات الحاج يركبن مع اليهود بدون خجل ولا حياء .. وفي عز النهار .. فليؤكد كلامي من بلغه ما بلغني .
                          يسارع بعض الحضور إلى تأكيد الكلام ، وأنهم بلغهم ما بلغه وبنفس الدقة ، والمصدر هم الأطفال كذلك ، وتظهر علامات الاستنكار على وجوه الحاضرين بلا استثناء ، وكان أكثرهم تميزا في هذا المختار نفسه ، والذي لم يستطع السكوت :
                          ـ يا جماعة الخير .. يا وجوه الخير .. وحدوا الله .
                          يرتفع صوت الجميع بذكر الله .
                          ـ هذا الأمر ليس هينا يا إخوان .. بل فيه عار كبير .. ولا نعلم إن كان هناك سوى ما ذكرتم .. ولا نريد أن نتهم الحاج عبد الله قبل أن نتأكد منه شخصيا .. فحتى الآن ما زال الخبر مصدره الصغار .. والصغار كما تعلمون لا يُعَوَّلُ عليهم في مثل هذا .. وأيضا لا يمكن تكذيب الخبر .. فالأطفال لا يعرفون الكذب والاتهام زورا .. ومن المؤكد أنهم حَدَّثوا بما رأوا بأعينهم .. لكن يظل هناك مجال للبحث والتقصي قبل الاتهام .. ولدي اقتراح في هذا الشأن .. أرجو أن تسمعوه أولا ثم ليقل كل منكم رأيه .
                          ـ يهز الحضور رؤوسهم ، ويطلب البعض من المختار أن يقول اقتراحه .
                          ـ اقتراحي يا وجوه الخير أن أركب في الصباح فرسي وأتوجه إلى بيت الحاج عبد الله وأتحقق من الخبر منه شخصيا .. فإذا ثبتت صحة الخبر ففي مساء الغد نتشاور هنا في المضافة فيما يجب أن نفعله .. ما رأيكم ؟؟ .
                          يوافق أغلب الحضور على رأي المختار إلا من بث الخبر فإنه يعترض :
                          ـ ولماذا تذهب إليه يا مختار ؟؟ .. ألم تقل قبل قليل إن الأطفال يحدثون بما رأوا .. وأنهم لا يعرفون الكذب والاتهام .. أي أن الخبر صحيح .. وهذا يعني أن الحاج عبد الله ديوث ومنافق ولا يغار على عرضه .. والواجب يحتم علينا التبرؤ منه ومقاطعته .. فمن رضي أن تركب بناته مع اليهود فهو خائن ويهودي لا يعرف العيب ولا الحرام .. اللهم استرنا ولا تفضحنا يا رب .. من يقبل العار في بيته وأهله يجب أن ننبذه من بيننا .. وإلا فغدا ستصبح بناته دلالات على بنات البلد .. وسيصبح ما نسمعه عن المجتمات الأخرى حقيقة بيننا هنا .. وفعلا يمارس في مجتمعنا وبيوتنا .
                          يقاطعه المختار :
                          كثَّر الله من أمثالك .. وبارك فيك .. هكذا يكون الرجال وإلا فلا .. وهذه الغيرة المطلوبة منا جميعا حفاظا على أعراضنا .. لكن اقتراحي ليس بعيدا عما تطلب .. إلا بنقطة صغيرة .. وهي أن يكون العقاب بعد تأكيد صحة الخبر من الحاج عبد الله نفسه .. لئلا تكون له حجة بعد الاقرار .. فهل أدركت ما أعنيه ؟؟ .. أنا أتفق معك تماما .. وقولي الذي قلته عن الأطفال يعني أنني مقتنع بالخبر وصحته .. لكن كما ورد في القرآن الكريم : ( ولكن ليطمئن قلبي ) .. ولا يضيرنا إن انتظرنا حتى مساء الغد .. ما دمنا نهدف إلى المصلحة العامة والحفاظ على أعراضنا .. ثم هناك أمر هام وهو أن الحاج عبد الله صاحب تاريخ مشرف وكلكم تعرفون هذا .. وكلكم تعرفون قصته والرصاصة التي لا تزال حتى اليوم في ساقه منذ أصيب وهو يحارب مع الثوار .. ونشر الخبر الآن بصورة مفاجئة سينعكس سلبا علينا جميعا .. وسنتهم كلنا بأننا نسعى إلى تشويه صورة الحاج عبد الله .. لذا أرى أن ننتظر حتى نتحقق منه شخصيا .. وبعدها لكل حادث حديث .
                          ـ موافق على كلامك ورأيك يا مختار .. يا صاحب الرأي السديد والعقل الرشيد .
                          وينفض السامر من بيت المختار ، كل يودع ويمضي عائدا إلى بيته ، وتنام القرية هادئة ناعمة البال ، وها هو الفجر ينشق معلنا ميلاد يوم جديد ، والحاج عبد الله أدى صلاة الفجر في الجامع مع الامام وعدد من المصلين لا يتجاوز أصابع اليدين ، وعاد إلى بيته وأوقد النار في الكانون وبدأ يعد القهوة السادة كعادته ، وزوجته فرغت من صلاتها وخبزت في الطابون وعادت ، والنهار قد ارتفع ، وأعدت الفطور لزوجها ، وهو عبارة عن صحن زيت وشاي وصحن لبنة بيتية وزيتون مخلل ، وبدأ الحاج عبد الله يتناول الفطور مع زوجته ، ويلحق كل لقمة برشفة من الشاي ليسهل عليه مضغ الخبز ، فقد تساقطت أسنانه منذ زمن ، وما زالت سعدى في نومها ، ولم يشأ الوالد أو الوالدة إيقاظها وتركاها تنام حتى تصحو لوحدها ، وبينما هما يتناولان الفطور يسمعان طرقا على الباب وصوتا ينادي :
                          ـ يا حاج عبد الله .
                          يرد الحاج عبد الله بصوت مرتفع :
                          ـ تفضل .. من بالباب ؟؟ .. تفضل بالدخول .
                          ينهض ويحمل عكازه متكئا عليها ، ويتجه صوب الباب ويفتحه ، وحين يرى المختار وفرسه مربوطة قريبا من الباب ، تصيبه الدهشة ويدرك أن هناك أمرا كبيرا ، فلم يسبق للمختار أن جاءه في مثل هذه الساعة ، بل لم يسبق له أن زاره منذ سنوات طويلة ، لكنه يتمالك نفسه ويبتسم في وجه المختار ، ويبدأ بالترحيب به :
                          ـ يا مرحبا بك يا مختار .. أهلا وسهلا .. زارتنا البركة .. تفضل .
                          يتظاهر المختار بالشرف والحياء ، ويطلب من الحاج عبد الله أن يتقدمه إلى الداخل ، ثم يقول وهو داخل خلف الحاج عبد الله بصوت مرتفع :
                          ـ يا الله .. يا ساتر .
                          يتابع الحاج عبد الله كلامه :
                          ـ تفضل يا مختار .. لا تستح فلا غريب في الدار .. وهذه الحاجة بمثابة أختك .. تفضل .. البيت بيتك .. والله زارتنا البركة يا مختار .. ابن حلال يا مختارنا .. حماتك تحبك .. حضرت وقت الفطور ولا بد أن تشاركنا .
                          يدخل المختار ، ويلقي التحية على زوجة الحاج عبد الله ، ثم يجلس بجانب الحاج على الفرشة ، وتنهض الزوجة وتمضي ثم تعود ومعها كوبا من الشاي تقدمه للمختار داعية إياه للمشاركة في الفطور ، ويدعوه الحاج كذلك ، ويعتذر المختار وأنه قد تناول فطوره قبل الحضور ، لكنه أمام إلحاح الحاج عبد الله ، لا يجد بدا من المشاركة في الفطور ، ويبدأ بتناول الفطور مع الحاج ، بينما غابت الزوجة لبعض شأنها ، ولم تعد حتى سمعت زوجها يناديها لترفع الطعام ، فقد شبعا ، وتحضر الزوجه وترفع الطعام وتمضي به خارجة من الغرفة ، وبعد دقائق تعود وتجلس بجانب زوجها الذي انهمك بصب القهوة السادة للمختار ، ويدور الحديث في شتى الأمور والأحوال ، ويمضي الوقت ، ثم يطلب المختار الاذن بمحادثة الحاج عبد الله لوحده ، وتنهض الزوجة وتمضي بعد أن أشار لها زوجها بذلك ، لكنها كانت تسمع الكلام من الغرفة الأخرى ، ويبدأ المختار كلامه :
                          ـ يا حاج عبد الله .. أسعد الله صباحك بالخير والبركة .. ووقانا وإياك السوء والعثرات .. وأسبغ علينا جميعا ستره .. وحفظ علينا أعراضنا .
                          أحس الحاج عبد الله بريبة في صدره ، وشعر كأنه فهم سبب قدوم المختار إليه في هذا الوقت المبكر ، لكنه تظاهر بعدم الانتباه وقال :
                          ـ آآآآمين .. آآآآمين يا رب العالمين .. أكمل الكلام يا مختار .. كأن هناك أمرا هاما .
                          ـ أنت يا حاج عبد الله من خيرة أهل البلد .. بل وكل البلاد من شمالها إلى جنوبها .. ومن نهرها إلى بحرها .. وتاريخك يشرف أهل البلاد جميعا .. وسمعتك ما زالت كالذهب لا تشوبها شائبة .. ومن يستطيع انكار ما قدمت في سبيل الوطن .. وتضحياتك الجسيمة في سبيل عزة الجميع .
                          ـ بارك الله بك يا مختار .. كلك ذوق وأدب .. وهذا يدل على طيب معدنك وكرم أصلك .. لم نقدم غير الواجب .. وهناك من قدم أكثر مني بكثير .. وماذا أساوي أنا أمام من قدم روحه واستشهد في سبيل الوطن .. إنه أشرف مني بآلاف المرات .. وأفضل مني .. ولا أستحق أن أذكر بجانبه .
                          ـ لا لا .. لا يا حاج عبد الله .. لكل ثوابه .. وأنت قدمت الكثير .. وكثيرون عجزوا عن بذل ما بذلتَ أنت .. فلا تستهن بنفسك وبما قدمتَ .. إنك أحد أبطال هذا الشعب .. ومن قدم ما قدمتَ فالواجب علينا أن نضعه على رؤوسنا تقديرا وعرفانا له .. إن من يواجه كتيبة جند بمفرده وبسلاحه الفردي .. ويصاب ويظل صامدا دون ضعف ولا هرب .. حتى يقضي على الكتيبة المعادية .. فهو بلا شك بطل يفتخر به على مر التاريخ .. أتعلم يا حاج عبد الله أنني أحسدك على تاريخك المشرف هذا .. بل وأتمنى لو أنني قدمت عشر ما قدمتَ أنت ومن هم مثلك .. حقا إنك فخر لنا وللأمة .. من محيطها إلى خليجها .
                          ـ الحقيقة يا مختار إنك تخجلني بما تسبغ علي من ألقاب وصفات .. ولا أراني أستحقها .. فكل حر شريف كان سيفعل ما فعلته وهو يرى بلاده تضيع .. آآآآآآآآآآآآآآه يا بلد .. حرام أن تضيعي ويستوطنك الشذاذ .. آآآآآآآآآآه يا بلد .. فتحت الجرح يا مختار فاسمع مني بيتا من العتابا :
                          أووووووووووووووووف :



                          بِلادي أجْمَلِ الْبُلْدانِ وَاللهْ
                          يا رَبِّ الْكونِ يا خَلاَّقِ يا اللهْ



                          بِلادي كَعْبَةِ الْمُشْتاقِ وَاللهْ
                          تِعودِ بْلادِنا وْيِخْسى لِغْرابْ





                          وما إن يفرغ الحاج عبد الله من انشاده حتى تطلق زوجته من الداخل زغرودة مدوية ، ويطلق المختار على إثر الزغرودة ضحكة طويلة ، ويشاركه الحاج عبد الله الضحك ، لكنه ضحك ممزوج بمرارة ، ثم يتابع الحاج عبد الله :



                          بِلادي ضَيَّعَتْها مْلوكِ وِعْروشْ
                          خَسارَهْ يا بَلَدْ باعوكِ بِقْروشْ



                          بِيومِ الْمَعْرَكِهْ وْتَجْييشِ لِجْيوشْ
                          وْقِبْضوا الْمالِ أَنْذالِ الْعَرَبْ





                          يا مختارنا الكريم .. لقد فتحت الجروح القديمة .. آآآآآآآآآآآآآه يا بلد .. لقد ضيعكَ الحكام وقبضوا الثمن .. خسارة يا فلسطين أن يكون مصيرك هذا المصير .. آآآآآآآآآآآه .. لكن ما باليد حيلة .
                          ـ هون عليك يا حاج عبد الله .. لم أقصد إثارة الشجون .. ولا فتح الجروح .. إنما هو حديث خطر لي عند رؤيتك .. هوِّن عليك .
                          ـ لا عليك يا مختار .. هي مجرد زفرات أخرجتها حتى لا تظل حبيسة في الصدر .. فخروجها يريحني .. وبقاؤها في صدري ربما يفجره .. ويقتلني .
                          ـ المهم يا حاج عبد الله .. لندخل في الموضوع الذي جئتك من أجله .
                          ـ تفضل يا مختار .. هات ما عندك .. فمثلك لا يمل من حديثه .
                          ـ صلِّ على رسول الله يا حاج .
                          ـ اللهم صلِّ على الحبيب محمد .. صلى الله عليه وسلم .
                          ـ كنت الليلة في بيتي في المضافة .. وكان الرجال من القرية عندي .. وكما تعلم فالمضافة للجميع وليست لي وحدي .. رغم أنه بيتي .. وبعدما شربنا القهوة السادة وتحدثنا في أمور كثيرة .. طلب أحد الحضور الاذن بالكلام .. وروى لنا قصة سمعها من ابنه الصغير .. وأكد جميع من الحضور صحة القصة .. وكلهم قالوا إنهم سمعوا القصة من أبنائهم .. والقصة يا حاج عبد الله لا تَسُرُّ .. وهي تخصك أنت وبيتك .. ولمكانتك عندي وعند أهل البلد .. طلبت من الجميع التريث حتى نستفسر منك عن صحة الخبر .. فلعل ما سمعوه مجرد أوهام من الأطفال .. والأطفال كما تعلم لا يُعَوَّلُ على رأيهم .. ووافق الجميع على رأيي واقتراحي .. وها أنا قد جئتك بنفسي لأسمع منك صحة أو عدم صحة القصة .
                          في هذه الأثناء تنهض سعدى من نومها ، وتظل في غرفتها لعدم استطاعتها الخروج والمرور من أمام المختار الجالس بجانب أبيها ، وتقرر البقاء لتسمع القصة دون أن يعلم أحد بأمرها ، وأمَّا أمها فقد جلست وأسندت رأسها إلى الباب حيث هي وأرهفت السمع لتعرف القصة أيضا ، وأمَّا الحاج عبد الله فإنه أصيب بدهشة واعترته حالة استغراب لما يسمع من المختار ، لكنه تمالك نفسه وقال للمختار :
                          ـ تفضل يا مختار قل ما عندك .. ولا تنقص شيئا .. هات اسمعني القصة .
                          ـ القصة يا حاج عبد الله .. والله إنني خجلٌ منك .. ولا أعرف من أين ولا كيف أبدأها .
                          ـ قل يا مختار .. ولا تخجل .. فأنت من أهل الدار .. ولا داعي للخجل .
                          ـ فوضت أمري لله .. سأقول يا حاج عبد الله .. سأقول .. وأرجو أن تكون القصة غير صحيحة .. فأنت معروف عنك الغيرة والمحافظة على الأعراض .. ونعلم كلنا مدى شهامتك وكبريائك .. القصة يا حاج .. أن الأطفال بالأمس رأوا ابنتيك في سيارة خواجا يهودي وهو داخل إلى القرية .. وليس معه سواهن .. ومثل هذا الأمر لم يحدث مطلقا في القرية .. فهل القصة صحيحة يا حاج عبد الله ؟؟ .. أم أنها من نسج خيال الأطفال ؟؟..
                          ـ لا حول ولا قوة إلا بالله .. يا مختار .. أولا القصة صحيحة .. لكن أرجو أن تسمع مني حتى النهاية .. وسوف تجد لي العذر في الأمر .. وأنت رجل عاقل وحكيم يا مختارنا .
                          نعلو الدهشة وجه المختار ، وتجحظ عيناه ، لكنه يطلب من الحاج عبد الله سرد القصة .
                          ـ الحقيقة يا مختار .. وكما تعلم فإني شيخ هرم .. لم أعد كما كنت في السابق .. ولا أستطيع العمل والكد .. ولا يوجد من ينفق على البيت .. والبقرات ليس هناك ما نجنيه منهن في هذه الشهور .. وعلينا الانتظار حتى الربيع .. والحال لا يحتاج للشرح .. وبناتي يا مختار .. جميلة وسعدى .. جميلة لا تجد من يعولها بعد سجن زوجها .. وهي وحيدة نعينها قدر المستطاع .. وقد طلب منها الخواجا أن تعمل عنده في بيته وليس في البيارات أو غيرها .. فاشترطتْ هي عليه موافقتي على ذهابها .. واشترطتْ أيضا أن ترافقها أختها سعدى حتى تكون في أمان .. وطلبتْ منه الحضور إلي ليطلب هذا مني .. وفعلا حضر إلي وطلب وألح وتعهد بالمحافظة على البنات .. ومعاملتهن كبناته .. وظل يلح علي حتى وافقتُ .. وأمس كان اليوم الأول من أيام العمل .. فهو يأخذهن بسيارته ويعيدهن إلى البيت أيضا .. وكما قلت لك .. الحال لا يحتاج إلى شرح .. وهذا سبب قبولي بخروج البنات للعمل .. فهل في هذا أي خطأ ؟؟ .
                          ـ ماذا تقول يا حاج ؟؟ !! .. ماذا تقول ؟؟ .. نعم هناك خطأ .. بل هناك عار وفضيحة .. كيف تسمح أن تخرج بناتك بصحبة يهودي .. ليس من ديننا ولا من قومنا ؟؟ .. كيف تقبل هذا على نفسك يا حاج .. نحن في القرية لا نقبل أن تخرج البنت مع ابن القرية لوحدها .. وأنت تقبل بخروجها مع يهودي !! لا إله إلا الله !! أستغفر الله العظيم !! هل وصل بك الحال يا حاج أن تخرج على عاداتنا وتقاليدنا ؟؟ .. وتدنس شرف قريتنا ؟؟ .. إن جميع أهل القرية يعتبرونك قدوة لهم في الشهامة والغيرة على العرض والمحافظة على الشرف .. فكيف سينظرون إليك بعد اليوم ؟؟.. كيف ؟؟ .. أجبني يا حاج .. أجبني .
                          تطل الزوجة برأسها والغضب يعلو وجهها ، وتستأذن من زوجها لتقول رأيها وترد على المختار ، فيأذن لها :
                          ـ يا مختار .. اسمعني جيدا .. من قال إن الشغل للبنت عيب ؟؟ .. ومن قال إن شغلها عند اليهودي محرم أو أنه خروج على العادات ؟؟ .. ثم يا مختار .. نحن أولاد بلد واحد ونعرف بعضنا جيدا .. فهل رأيتم على بناتنا ما يعيب ؟؟ .. هل رأيتموهن يفعلن منكرا في سيارة اليهودي ؟؟ .. أم أنهن راكبات في السيارة فقط ؟؟ .. يا مختار .. قاتل الله الظن .. قاتل الله من يحاول قطع لقمة العيش عن الخلق .. ومن يتصيد الأخبار ويلفق ويشوه سمعة الناس .
                          تخرج سعدى من غرفتها في هذه الأثناء وعلامات الدهشة والاستغراب على وجهها ، ويبدو عليها استنكار الحديث كله ، فتطلب حق الكلام ، وهي التي لم تكلم رجلا في حضرة أبيها منذ ولدت ، فيعترض المختار عليها من منطلق أن العادة جرت بعدم تكلم البنت في حضرة الرجال ، لكن سعدى لم تأبه لهذه العادة وأصرت على حقها في الكلام ، وإبداء رأيها كغيرها ، لأن الحديث يدور حولها وحول أختها جميلة ، لكن حديثها رغم إصرارها يخرج على استحياء :
                          ـ أرجو منك يا أبي أن تغفر لي جرأتي هذه .. ولولا أن الأمر متعلق بي وبأختي ما كنت تكلمت أو طلبت الاذن بالكلام .. لكنها سمعتي يا أبي .. وسمعة أختي .. ونحن بناتك وأنت تعرفنا جيدا .. وتعرف أخلاقنا وحفاظنا على سمعتك وسمعتنا وشرفنا .. يا أبي معاذ الله أن نسمح لأحد أن يدنس طهر ثوبك .. أو يدنس شرفك وعرضك .. نعم يا مختارنا الكبير كنت أنا وأختي في سيارة اليهودي .. وكنا نعمل عنده في بيته .. هذا اليهودي لم يتعرض لنا بأية كلمة سوء .. ولم يحاول حتى رفع نظره في وجوهنا .. هذا اليهودي يا مختار .. احترمنا كأننا بناته وأكثر .. ولم نذهب للعمل عنده إلا بعد أن حضر وطلب الاذن من أبي وأذن أبي في ذلك .. ولا سلطة لغير أبي علينا .. وهو وحده من يقرر ذهابنا أو عدم ذهابنا إلى العمل .. ولا عيب في العمل طالما كان شريفا .. ثم يا مختارنا المحترم .. هل عمل بنات الناس في الكيبوتسات ومزارع اليهود مباح ؟؟ .. بينما عملنا أنا وأختي غير مباح ؟؟ .
                          يرد عليها المختار وتبدو عليه علامات الضيق والانفعال الممزوج بالغضب:
                          ـ اسمحوا لي بالرد على الكلام الذي يساق كأنه اتهام لي .. أولا أنا يا جماعة لم أتهمكم في شيء ولم أتهم ابنتكم لا سمح الله .. كل ما في الأمر أن حديثا سمعناه وخبرا تناقله أهل القرية .. ونعتقد أن فيه مضرة لكم .. فأحببت ابلاغكم والتأكد من صحته .. ومحاولة ثنيكم عن المضي في هذا الطريق .. للبنت الحق في العمل الشريف .. ولكن ليس عند اليهود .. وليس من عاداتنا أن تركب بناتنا في سيارة اليهودي لوحدها .. فاليهود يهود يا جماعة .. ماذا جرى لعقولكم .. هذا خروج على عاداتنا وتقاليدنا التي ورثناها أبا عن جد وليس من المعقول مخالفة ما تعارف عليه قومنا من سالف الزمان .. وعلى يد من ؟ .. على يديك أنت يا حاج عبد الله !!! .
                          ـ وهل العادات يا مختارنا الكبير شرع الله حتى لا نخرج عليها ؟؟ .. كم عادة تمارس في القرية ولو حاولنا اخضاعها للشرع لخالفت الشرع .. العادات يا مختار هي مجرد تصرفات اتفق عليها الناس دون النظر إلى موافقتها أو مخالفتها للشرع .. وهي ليست قرآنا منْزلا حتى نتقيد بها .
                          ـ اسمع يا مختار .. أنت تعرفني أنا الحاج عبد الله ومن صغري .. وتعرف سيرتي بين الناس .. ثم العادات والتقاليد ليست شريعة ولا دينا حتى تتحكم في أمورنا الحياتية .. ولو وجدت في عمل بناتي خروجا على الشرع لما وافقت .. ولا أظن أن هناك من لديه غيرة على حدود الله وشرعه مثل الحاج عبد الله في القرية .. ثم إن الحاجة والعوز تلجئ المرء إلى أمور لم يكن ليقدم عليها لو كان في بحبوحة من العيش .. وأنا لا يوجد عندي من يعينني بعد الله إلا ابنتي .. وابنتي الأخرى لا معيل لها الا الله .. ونحن نساعدها ما استطعنا .. خاصة وأن زوجها .. أنت تعرف أين زوجها يا مختار وتعرف سبب وجوده حيث هو .. إنه في السجن يا مختار .. أم نسيت هذا الأمر ؟؟ .. فلا عيب ولا حرج علي في هذا .. وكما قال المثل : كاد الفقر أن يكون كفرا .. نعوذ بالله من الكفر .
                          ـ يا حاج عبد الله .. لقد أبلغتك ما عندي .. والرسالة وصلتك .. فلا تعتب علي غدا إن بلغك ما تكره .. وقد كان بالامكان أن يساعدك أهل القرية .. أو أنا لو أنك طلبت المساعدة .. وأنت تعرفني لم أتخلف عن مساعدة أي محتاج في القرية .. والحمد لله الخير كثير .. لكنك اخترت أن تخالف عاداتنا وتقاليدنا وتخرج عليها بهذه الصورة المثيرة للشبهات .. وبنات البلد اللواتي يعملن عند اليهود لا يذهبن بمفردهن إلى العمل بدون وجود رجل معهم من القرية .. ثم أنت تعرف الناس .. يتلقطون الأخبار ويزيدون .. والخبر الصغير يصبح قصة بينهم .
                          ـ أنا شاكر لكرمك ونصحك يا مختار .. ولا حاجة بي إلى شيء لا منك ولا من أهل القرية .. أنا محتاج إلى رحمة ربي فقط .. والحمد لله فقد كفاني هم السؤال وذله .. ولن أتراجع عما قررته ومضيت فيه فلا تتعب نفسك .. ولو كانت بقية نخوة فينا لما انتظرت أنت ولا أهل القرية حتى تروا بناتي عائدات من العمل لتأتي وتعرض المساعدة .. كان أمامكم وقت طويل .. وكل القرية كانت ترى حالتي ومعيشتي .. وعجزي .. ولم يمد أحد منكم يد العون .. وحتى في أيام الحصاد هذا العام قبل فترة قصيرة .. كنتم ترون عجزي وعدم استطاعتي العمل .. ورغم ذلك آليت على نفسي الخروج .. فهل كلف أحدكم نفسه وقال يجب أن نعين الحاج عبد الله ؟؟ .. لم يحدث هذا أبدا .. ولو أني قبلت منك الآن العون فغدا سيتحدث جميع أهل القرية أن المختار قدم المساعدة والمؤونة للحاج عبد الله .. أي أن المساعدة ستكون للشهرة والثمن هو أن أطأطئ رأسي كلما رأيتك .. وأنا لا ولن أطأطئ رأسي إلا للخالق .. فلا تتعب نفسك يا مختار .
                          ينهض المختار مسرعا ويتجه نحو الباب ، ويتبعه الحاج عبد الله ؛ يفتح الباب ويخرج المختار دون أن يودع الحاج عبد الله ، وفي الخارج يحل رباط فرسه ويركبها ، ويقف الحاج عبد الله بالباب ينظر إلى المختار مستغربا تصرفه وقيامه من مجلسه بهذه الصورة ، ويلتفت إليه المختار قائلا :
                          ـ تذكر يا حاج عبد الله أني أبلغتك بالأمر .. ولا تلومَنَّ إلا نفسك وحدها .. الرسالة أوصلتها إليك وأنت حر في تصرفاتك .. والناس في القرية أحرار في كيفية تعاملهم معك .. ولا سلطان لي عليهم .. السلام عليكم .
                          ـ بقي سؤال أخير يا مختار .. هل مسموح لبنات الناس أن يعملن ؟؟ .. أم أن الأمر متعلق بكون ابنتنا رفضتك حين تقدمت لخطبتها ؟؟ .
                          يدير المختارعنق الفرس بسرعة ، وتظهر عليه أمارات الغضب والحقد على الحاج عبد الله ، ويمضي ، ويظل الحاج عبد الله واقفا بالباب ، ثم يدخل البيت وهو في حالة من الحنق والغضب :
                          ـ لا حول ولا قوة إلا بالله .. ماذا أصاب الناس ؟؟ .. ولماذا يتدخلون في حياتي ؟؟ .. أنا الحاج عبد الله .. يزاودون علي وعلى سمعتي وشرفي .. هل هو أغْيَرُ مني على عرضي ؟؟ .. أين كانوا وأنا لا أجد لقمة الخبز ؟؟ .. ولماذا لم يمدوا لي يد العون يومها ؟؟ .. الآن قتلتهم الغيرة ؟؟ .
                          تتدخل زوجته :
                          ـ وَحِّدِ الله يا حاج .. ولا عليك منهم .. ليسوا غيارى عليك ولا على بناتك .. ولكنها المظاهر وحب الشهرة ولو بالكذب .. كل ما يفعلونه .. إنما يفعلونه ليقال عنهم إنهم فعلوا وقالوا .. وهذا المختار الذي جاء يدَّعي الشرف والغيرة .. أليس هو من اغتصب الغريبة ؟؟.. وتمت لملمة الموضوع .. بمساعدة اليهود .. فهل أصبح الآن صاحب نخوة وشهامة ؟؟ .. لو كان الحكم غير هذا الحكم لتم اعدام هذا المختار .
                          تتقدم سعدى التي هالها ما تسمع من أمها عن المختار ، وما فعله قديما ، ويغلبها البكاء لأنها أحست أن هناك تهمة موجهة إليها ، وفي شرفها ، فتقترب من أبيها وترتمي بجانبه وتحاول الكلام فتسيل دموعها ويغلبها البكاء ، وتحاول جاهدة الكلام ولا تستطيع ، ويربت والدها عليها ويضمها إلى صدره ، وتذرف عيناه الدموع ، حزنا لما رأى وسمع ، ثم تتمالك سعدى نفسها أخيرا وتقول وهي تجهش بالبكاء :
                          ـ والله يا أبي إنك أطهر وأشرف منهم جميعا .. وبناتك أشرف من كل بناتهم .. وإن أحببت سأتوقف عن العمل ولا أعود .. فاطلب ما يريحك يا أبي وستجدني مطيعة بلا تردد .
                          يقبل والدها جبينها ، ويضمها مرة أخرى إلى صدره ويقول :
                          ـ لا يا ابنتي .. لا يا حبيبتي .. ليس الحاج عبد الله من تثنيه مثل هذه الحثالات عن طريقه .. ولو أنني شعرت بأية شبهة في عملك أنت وأختك لما سمحت من البداية بذهابكما .. لا عليك يا ابنتي .. اطمئني .. والله يقدر لنا الخير .. وهو ولينا .. هذا المختار يا ابنتي أعرفه جيدا .. فهو يتكلم بحكم منصبه .. ويعتمد على من نَصَّبَهُ .. لكن حقيقته أنه جبان وعميل .. ولا يمتلك ذرة من نخوة ولا شهامة .. وما يفعله .. فانه يفعله ليقال فعل المختار .. والمنافقون حوله كثيرون .. لكن يا ابنتي .. وحق من أسكن الروح في الجسد .. لئن بلغني منه ما أكره .. أو حاول إثارة الشبهات حولي .. ليندمن حين لا ينفع الندم .. وأنا الحاج عبد الله .. وليطلب ساعتها من اليهود الذين نصبوه على رقاب أهل القرية أن يحموه .. آآآآآآآآآآخ يا زمن .. كيف انقلبت أيامك ؟؟ .. وكيف صار الحثالات أسيادا ..
                          أوووووووووووووف :



                          عتابا يا زَمَنْ جايِرْ عَلينا
                          أَجُوا لِغْرابْ وِتْعَلُّوا عَلينا




                          بَعِدْ ما الْخِيلِ مِنْ فُوقا عِلِينا
                          وِشُفْنا كْلابِ تِقْضِي فِي الْعَرَبْ





                          تمسح سعدى دموعها وتقول :
                          ـ لا عليك يا أبي .. وإن شاء الله لن يصير إلا الخير .. ولا تهتم لا بالمختار ولا بغيره .. والخواجا سامي رجل محترم كما تدل عليه هيئته وتصرفاته .. وسأدعوه يوم الثلاثاء لزيارتك هنا في البيت وتبحث الأمر معه .
                          ـ حسنا يا ابنتي .. لكن الآن تناولي فطورك ولا تفكري في الأمر .. فلن يستطيع المختار فعل شيء .. فأنا أعرفه جيدا .. إنه جبان جدا .. وليس عنده غير الصوت العالي والتهديد .. لكنه لا يستطيع تنفيذ التهديد لأنه أضعف من ذلك .
                          تلتفت إليها أمها وتمسح على رأسها وتربت على كتفيها ثم تقبل جبهتها وتقول :
                          ـ دعينا من المختار وسيرته يا ابنتي .. فمثله لا يأتي منه إلا الغم والهم .. تناولي فطورك يا سعدى ولا تفكري في الأمر .. وما يقدره الله يكون .
                          يسمعون طرقا على الباب ، فتنهض سعدى مسرعة ويسمعون صوت جميلة من الخارج تنادي :
                          ـ يا سعدى .. يا سعدى .. أما زلت نائمة ؟؟ .. افتحي الباب .. الشمس في كبد السماء .. افتحي يا سعدى .. صار الوقت ظهرا .. لم تغيري عادتك .. كسولة وتحبين النوم كثيرا كما أنت .. لم تتغيري يا سعدى .. هيا افتحي الباب .
                          ـ حاضر يا جميلة حاضر .. لقد جئت .. لا تصرخي .. كلنا نسمعك .. ههههههه .
                          تفتح الباب فتدخل جميلة ومعها ابنها خالد بسرعة ، فقد أحست بالبرد يلسعها ، وتسرع نحو أبيها وأمها :
                          صباح الخير يا أبي .. صباح الخير يا أمي .
                          وتنحني وتقبل يد والدها ويد أمها ، ويجيبها والدها :
                          ـ صباح النور والرضى من الرب الغفور يا ابنتي .. وفقك الله يا جميلة .
                          وترد أمها أيضا بنفس الجمل والكلام ، وتتأمل جميلة في وجه أبيها وأمها وتدرك أن الأمر على غير ما يرام ، فتسأل :
                          ـ ماذا جرى يا أبي ؟؟ .. وماذا حدث ؟؟ .. وضعكم لا يبدو على ما يرام .. فماذا هناك يا أبي ؟؟ .. يا أمي ؟ .. يا سعدى ؟.. ماذا هناك ؟؟ .
                          يجيبها والدها :
                          ـ لا شيء يا جميلة .. لا شيء يا ابنتي .. تناولي الفطور مع سعدى .. وهاتي خالد حبيبي .. لقد اشتقت إليه كثيرا .. تعال يا جدو .. تعال حبيبي إلى حضني .. لقد اشتقت إليك تعال .. آآآآآآآآآآآآآآه ما أجملك وما أطيبك .. تعال أيها الغالي تعال .. أين سامي يا جميلة ؟؟ .
                          ـ تركته نائما يا أبي .. لكن ماذا هناك يا أبي ؟؟ .. لماذا تغير الحديث ؟؟ .. لم تتعود أن تخفي عني شيئا .. فهل تغير الأمر اليوم .. لقد عودتنا على الصراحة يا أبي .. فماذا تخفي ؟؟ .. عيونك تقول إنك تخفي شيئا كبيرا .. ماذا هناك يا أبي ؟؟ .. أرجوك لا تخفِ عني شيئا .
                          تتدخل أمها في الحديث :
                          ـ لا شيء يا ابنتي .. قصة لا تستحق أن نهتم فيها .. مجرد توتر أعصاب .. لعن الله من يتسبب في ازعاج الخلق .. لا تشغلي نفسك يا ابنتي .. هيا كلي مع أختك سعدى ولا تحملي هما .
                          ـ كيف لا أحمل همًّا يا أمي ؟؟ .. كيف ؟؟ .. أفهموني كيف ؟؟ .. حالتكم تقول وقع أمر كبير .. وأنتم تقولون لا تحملي همًّا .. حسنا .. لن آكل حتى أعرف ماذا يضايقكم .. وإذا لم تخبروني فلن أعود إليكم بعد اليوم .. ألست ابنتكم ؟؟ .. قل يا أبي .. قل ما الذي أزعلك .. قولي يا أمي .. قولي يا سعدى .. لماذا تسكتون ولا تتكلمون ؟؟ .. هل أصبحت أنا غريبة عن البيت ؟؟ .
                          ـ يا ابنتي قلنا لك لا شيء .. الأمر لا يستحق .. ولا يستأهل أن تزعلي نفسك .. القصة وما فيها أن مختار البلد أخذه الله عاجلا وأراحنا من منظره .. صار شريفا ورجلا حرا هذه الأيام .. وغير راضٍ هو ولا أهل البلد عن عملك أنتِ وسعدى وركوبكما في سيارة الخواجا .. قال : هذا خروج على عاداتنا وتقاليدنا .. والله لا أعرف أين كان هو وأهل البلد يوم كنا لا نجد كسرة الخبز في بيتنا ..أو يوم كنا لا نجد غير الزيت طعاما.
                          ـ ماذا تقولين يا أمي ؟؟ .. وما شأن المختار بنا ؟؟ .. أهو أبونا أم أخونا ؟؟ .. ثم رضي أو لم يرضَ .. من طلب رأيه ؟؟.. ومن سأله إذا كان يسمح أو لا يسمح .. جهنم تسحبه .. الحقيقة أنه قليل أصل وقليل حياء .. يا أبي .. أنت وأمي لا تحملا هما .. والله الخواجا سامي طلب مني إذا احتجنا أي شيء أن لا أخجل منه وأطلب مساعدته .. وإن شاء الله يوم الثلاثاء سأروي له القصة .. ومؤكد سيجد لنا حلا .. لأنه يا أبي .. يظهر من هيئته أنه يستطيع .. ويمكنه مساعدتنا .. ما رأيك يا أبي .
                          ـ لا يا بنتي .. إياك .. لا لا .. لا أريد أن أسمع منك هذا الكلام .. أنا رأسي تصدعت من كلام المختار .. أتريدين أن يقولوا غدا إن الخواجا اليهودي يحل مشاكل البلد عندنا !! .. ساعتها سمعتنا ستصبح كالوحل .. الناس لا يرحمون .. وألسنتهم كالمقصات .. ولا ينقصني وجع رأس .
                          ـ حسنا يا أبي .. كل شيء إلا أن تزعل .. ما رأيك أن أدعوه عندك وأنتَ تكلمه وتخبره .. يمكن أن تجدا حلا أفضل .
                          ـ حسنا يا ابنتي .. ادعيه يوم الثلاثاء حين تعودون من العمل .. ليأتِ إلي .. قولي له أبي يريدك لأمر مهم .. وإن شاء الله سأكلمه وسنجد حل ..
                          تحضر سعدى الفطور على طبق ، وتبدأ بالأكل وتدعو جميلة ، وتأخذ ابنها من حضن والدها ، وتلقمه الطعام ، وتستدير جميلة إلى الطعام ، وتتناول رغيفا وتبدأ بالأكل مع سعدى ، وخلال الأكل تسأل الأم جميلة :
                          ـ ها يا جميلة .. قبل أنسى .. ماذا تحتاجين يا ابنتي ؟؟ .. مجيئك اليوم صباحا ليس من عادتك .. ماذا ينقصك يا ابنتي .
                          ـ لا يا أمي .. الحمد لله .. لا ينقصني أي شيء .. خيركم عليَّ كثير .. أعانني الله حتى أرد لكم ولو جزءا من معروفكم .. لكن يا أمي .. أمس أحسست أن الخواجا سامي متضايق من الولد معنا .. ويخاف أن يعبث في بيته .. وهذا طفل لا يفهم الصواب من الخطأ .. أخوه رضيع ولا مشكلة معه .. لكن الكبير كثير حركة .. وأخاف أن يخرب حاجة في بيت الخواجا سامي .. ويكون سببا في تركنا للعمل أنا وسعدى .. وسببا في قطع نصيبنا من ليرات الخواجا .. فقلت في نفسي .. سأفهم الولد أن يعود يوم الثلاثاء من المدرسة إليكم وينتظرني حتى أرجع من الشغل .. ما رأيك يا أمي ؟؟ .. وما رأيك أنتِ يا سعدى ؟؟ .
                          ـ وماله يا ابنتي .. أنتِ وأولادك في عيوني .. حسنا .. والصغير ؟؟ .
                          ـ الصغير يا أمي آخذه معي .. لأنه لا يغلبني .. وليس مثل أخيه .. هذا يا أمي لا يمشي ولا يحبو .. فلا خوف منه .
                          ـ حسنا يا ابنتي .. على بركة الله .. لكن .. أنتِ وأختك لن أوصيكما .. بَيِّضوا وجه أبيكما .. وإياكما أن تمدا أيديكما إلى الحرام .
                          ـ أعوذ بالله يا أمي .. نحن تربيتكم .. مالك يا أمي ؟؟ .. الله ما بيننا وبين الحرام .. وربنا أغنانا عنه يا أمي .. وهذا الخواجا أعطانا الأجر عندما أنهينا العمل .. وما يشترى لا يشتهى يا أمي .. والآن اسمحوا لي سأرافق خالد إلى المدرسة .. يالله بإذنكم .. وادعي لي يا أمي .. وأنتَ يابا .. لا تحرمنا بركة دعاك .. وأنت يا سعدى انتظريني حتى أعود لتأتي معي إلى البيت .. قبل أن يفيق سامي .. فقد أرضعته قبل مجيئي ونام .. وأخشى أن يصحو في غيابي ويبدأ بالبكاء .
                          ـ الله يرضى عليكِ يا جميلة .. ويرضى عليكِ يا سعدى .
                          يتمتم الوالد بالدعاء لابنتيه ، بينما تنسل جميلة بخالد خارج البيت متجهة نحو المدرسة .
                          تدخل سعدى إلى غرفتها ، تتناول كتابا كانت قد بدأت تقرأه منذ أيام ، وتعود بها الذاكرة إلى أيام المدرسة ، وتعلمها حتى الصف الثامن فقط ، وتتحسر لكونها لم تستطع اكمال الدراسة حتى الثانوية ، حيث لم تكن في القرية إلا مدرسة ابتدائية ، بينما جميلة أنهت الابتدائية وتابعت الدراسة على يد زوجها عدنان ، حتى أصبحت مثقفة إلى حد بعيد ، أما هي فلا ، وتبدأ بتقليب صفحات الكتاب ، ببطئ مما يدل على انسجامها مع الكتاب والأفكار التي يطرحها مؤلفه " سلامة موسى " ، أما جميلة فإنها وصلت المدرسة ، وأدخلت ابنها إلى الصف ، وتحدثت قليلا مع المعلمة بعض الوقت ، ثم قفلت راجعة حتى وصلت إلى بيت والدها ، طرقت الباب وجاء الرد بالايجاب ، فدخلت ثم اتجهت إلى غرفة سعدى ، فرأتها تقرأ الكتاب ، فلم تصبر بل اختطفت الكتاب منها ، وراحت تقلب صفحاته ، وتدقق النظر في اسم الكتاب والكاتب ، ثم قالت :
                          ـ ما هذا يا سعدى ؟؟ .. من أين حصلت على الكتاب ؟؟ .. لم أره قبل اليوم عندك .. هل اشتريتِه ؟؟ .. أو أهدتك إياه إحدى فتيات القرية ؟؟ .
                          ـ لا .. لا يا جميلة .. لا هذا ولا ذاك .. إنه من حبيب القلب رحمه الله .. لقد أحضره لي قبل استشهاده بأسبوع .. ولم يتسن لي اتمام قراءته .. ووجدت الآن الفرصة سانحة .. فعدت إلى القراءة .
                          ـ وهل تجيدين القراءة على وجهها الصحيح ؟؟ .. أنا أعلم أنك تعلمت حتى الصف الثامن فقط .. بينما أنا أنهيت الصف الثامن وتابعت تثقيف نفسي بنفسي .. وساعدني عدنان كثيرا .. فقد كان يحفظ القرآن .
                          ـ أحاول القراءة بصورة صحيحة .. وأجتهد حتى لا أقرأ خطأ .. لكن ما رأيك بالكتاب .. إنه يتحدث عن المرأة .. أي عني وعنك .. وفيه أفكار عظيمة .. أظنني بحاجة إلى قراءته مرات ومرات حتى أستوعب ما يطرحه المؤلف من الأفكار فيه .
                          ـ لا يزرع الأفكار إلا العظماء يا سعدى .. والآن هيا بنا إلى بيتي .
                          ـ تريثي قليلا.. هل أعد الشاي لنشربه معا ؟؟ .
                          ـ لا يا سعدى .. هناك أعمال المنْزل .. وسامي أظن الآن صوت بكائه وصل آخر الطريق .. هيا بنا .
                          تنهض سعدى وتمضي مع جميلة إلى بيتها .
                          ***********



                          " أعتبر نفسي مسؤولاً عما في الدنيا من مساوئ ما لم أحاربها "

                          تعليق

                          • هادي زاهر
                            أديب وكاتب
                            • 30-08-2008
                            • 824

                            #28
                            الثلاثاء صباحا ، سامي بسيارته أمام بيت جميلة ، يطلق الزامور ، وتخرج جميلة ، فقد عادت للتو من المدرسة بعد أن أوصلت ابنها خالد ، وأبلغته أن يعود إلى بيت جده بعد الدوام ؛ خرجت تحمل ابنها الرضيع ، وركبت في المقعد الخلفي حتى لا تثير الشبهات ، وانطلق سامي إلى بيت والدها ليأخذ سعدى ، وفي الطريق أخبرته جميلة بما وقع من المختار ، وأبلغته نية والدها الجلوس معه بعد العودة من العمل ، وأوصته أن لا يرحم المختار ، ويقطع لسانه حتى لا يعود يذكر أباها أو أختها بشيء ، وأخذت تسرد عليه بعضا من سيرة المختار التي يعرفها أغلب أهل القرية ، ويهز سامي رأسه بالموافقة ، تقف السيارة أمام بيت والد جميلة ، وينطلق صوت الزامور ، وتخرج سعدى ، وتركب بجانب جميلة ، وينطلق سامي بهما إلى بلده وبيته ، وتعيد سعدى الكلام على مسمع سامي ، الذي يتظاهر بعدم المعرفة ، رغم أن جميلة أخبرته ، ولا تنسى سعدى دعوة سامي لزيارة والدها بعد العودة من العمل ، وفي الطريق كانت عيون سامي تراقب جميلة وأكثر من مرة تبسم لها ، وتبسمت له خفية حتى لا تثير انتباه سعدى ، التي انشغلت بالرضيع تلاعبه وتراقب الجو في الخارج ، والغيوم في السماء ؛ وصل الجميع إلى بيت سامي ، ونزلوا ، وأعطى سامي مفتاح البيت لجميلة وانطلق مع سعدى إلى بيت الخواجا إسحاق ، وبعد عودته كانت جميلة تعد القهوة في المطبخ وابنها على سرير سامي ، وأحست بيدي سامي تضمانها من الخلف ، وشفتيه تقبلانها من خدودها :
                            ـ حبيبتي يا جميلة .. ما أجملك وما أحلاك .. وما أقسى البعد عنك .. أحبك يا جميلتي .. أحبك .
                            ـ انتبه يا سامي .. القهوة فارت عالنار .. انتبه يا مجنون .
                            ـ فارت .. لم تفر غير مهم حبيبتي .. أنا فعلا مجنون بكِ .. واليومان الماضيان :انهما سنة .. آآآآآآآآآآآه يا عمري يا جميلة .
                            ـ حسنا سامي .. دعني أجهز القهوة ونشربها .
                            تضع القهوة على صينية مع الفناجين ، وينطلقان إلى الصالون ، وتضع الصينية على الطاولة ويجلسان لارتشاف القهوة ، ويحضر سامي كرسيه بجانب كرسيها ويجلسان، وتصب القهوة لكليهما ، ويرتشفان، ويسألها سامي :
                            ـ جميلة حبيبتي ؟؟ .. ما حقيقة قصة المختار ؟؟ .. وما الذي جرى في البلد عندكم .. فالأمر كما يبدو جديد .
                            ـ ما صار شي .. لكن المختار هذه الأيام صار شريفا ويغار على بنات البلد .. وهو نفسه قبل سنوات طويلة هتك عرض بنت غريبة .. كانت مع أهلها لاجئة في بلدنا .. بعد ما شُرِّدَ الناس .. واليوم يرى شغلنا أنا وسعدى عيبا .. وركبتنا معك في السيارة عارا .. ويقول : لا يصح ولا يجوز أن بنات العرب تركب مع يهودي في سيارة لوحدهن .
                            ـ المختار هكذا يقول ؟؟ .
                            ـ نعم .. هو يقول هكذا .
                            ـ لا تحملوا هما يا جميلة .. حبيبتي جميلة .. غدا سأجعله يأتيكم ويقبل رأس أبيك ويعتذر له .. هذا الكلب صار رجلا .. الظاهر أنه نسي نفسه .. ويجب تذكيره بتاريخه .. يا حبيبتي يا جميلة .. من يقترب منكِ أو من بيتكم سأقطع خبره .. نحن نعرف كل شيء عن بلدكم .. ونعرف النظيف وغير النظيف في بلدكم .. وحتى لا تزعلي حتى أبوكِ نعرف كل شيء عنه .. لكن لا تخافي حبيبتي .. أمَّا المختار وشلته .. غدا سترين حالهم .. فلا تحملي هما حبيبتي .. واليوم بعد الشغل سأجلس مع أبيكِ وأتظاهر كأني ما عرفت شيئا .. وغدا سترين ما سيحدث للمختار .. والآن حبيبتي .. هيا انهضي ولندخل إلى السرير .. كم أشتهيكِ يا جميلة !! .
                            يعانقها ويدخلان غرفة نوم سامي ، ويمارسها طقوس الغرام بحرية ، وبعد نصف ساعة يخرجان إلى الحمام ، يغتسلان ويخرجان ، ثم يغادر سامي وتبقى جميلة لتحضير الغداء .
                            ينطلق سامي بسيارته إلى المركز ، وهناك يتم الابلاغ عما فعل المختار ، ويتم بحث ما يجب فعله مع المختار ، ويشترط سامي أم تتم دعوة المختار بعد يومين ، وأن يكون حاضرا ليقوم بمحاسبته ، ثم يغادر سامي المركز عائدا إلى البيت ، وما إن يصل ويدخل حتى يتجه إلى ابنه ويبدأ بملاعبته ، لكن الطفل كان قد رضع لتوه من جميلة ، وما إن يرفعه سامي حتى يتقيأ الحليب على وجه سامي وصدره ، ولم يتمالك سامي نفسه ، وصرخ ، ثم نادى جميلة التي ظنت أن مكروها وقع ، وما إن رأت حال سامي حتى انفجرت بالضحك ، وتبعها سامي بالضحك ، وما لبث أن ضمها وابنه ، ثم أعطى الطفل لجميلة ودخل الحمام وقام بغسل رأسه كله وتبديل قميصه ، وخرج ، وعادت جميلة فأعطته الطفل ، ومضت في إعداد الغداء .
                            سعدى في بيت الخواجا إسحاق ، مشغولة بتنظيف زجاج النافذة ، وفي البناء المقابل يقف الشاب الذي رأته يوم الجمعة ، تتظاهر سعدى بعدم رؤيته ، لكنها تلمحه طوال الوقت يرسل نحوها ضحكة ، أو يلوح لها بيده ، وهي تضحك في سرها ، ولكثرة ما لوح لها ، أشفقت عليه ، وسحبت منديلها عن رأسها ولوحت له وضحكت ، فكاد الشاب أن يقفز من مكانه ويركض نحوها من فرحه ، لكنها تسمع صوت الخواجا إسحاق يناديها من الداخل :
                            ـ سعدى .. يا سعدى .. أينك يا بنت .
                            ـ نعم يا خواجا .. حاضر جئتك .
                            تضع المنديل على رأسها ، وتمشي إلى حيث الخواجا إسحاق :
                            ـ نعم يا خواجا .. حاضر ماذا تريد .
                            ـ يا ابنتي أشتهي أن أشرب فنجان قهوة من صنع يدك .. لو أنك تتكرمين عليَّ بفنجان قهوة .. وسلمت يداكِ مسبقا .
                            ـ حاضر يا خواجا .. تأمر أمرأ .. على رأسي .. الآن أعد لك القهوة .
                            ـ بارك الله بكِ يا ابنتي .. وحفظك لأهلك .
                            ـ حفظك الله يا خواجا .. وأبقاك .
                            تنطلق نحو المطبخ ، وتعد القهوة ، ولا تتوقف عن التفكير بالشاب ، وماذا سيحصل له الآن بعد دخولها ، فما تفعله ليس أكثر من عبث ، فابن راعي العجال هو العريس المنتظر ، وليس هذا الشاب الطارئ الذي لا تعرف شيئا عنه ، وتنتهي من اعداد القهوة ، وتضعها على صينية وتقدمها للخواجا إسحاق ، وتحضر مع القهوة كوبا من الماء ، ثم تعود إلى النافذة ، حيث ترى الشاب ما زال يقف مكانه ينتظر عودتها ، وما إن يراها حتى يلوح لها من جديد ، فتجاريه وتلوح له أيضا ، ويتضاحكان معا ، ثم ما تلبث أن يأتيها صوته :
                            ـ اسمي سعيد .. وأنتِ ما اسمك ؟؟ .
                            ـ أنا سعدى .
                            ـ من أين أنتِ ؟؟ .. من أي بلد ؟؟ .
                            ـ أنا من بلدنا .. اسمك حلو يا سعيد .. ( وقالت في نفسها ) :" لن أخبره عن اسم بلدنا " ؟؟.
                            ـ وأنتِ اسمك حلو يا سعدى .. وشكلك أحلى .
                            يسمع الخواجا إسحاق الحديث ، فينادي على سعدى ، وحين تأتي إليه يلقي عليها مواعظ في الشرف والأخلاق ، بحكم أنه شرقي مثلها ويعرف العادات والتقاليد العربية جيدا ، ولا يريد أن يقع لها مكروها عنده ، ويوصيها بحسن التصرف ، وتهز سعدى رأسها بالموافقة ، رغم عدم اقتناعها بما قال ، خاصة وأنها لا تهدف من حديثها مع الشاب سوى الاستئناس لا أكثر ، فالعريس ينتظر في القرية .
                            يسمع طرق على الباب وصوت سامي ينادي من الخارج ، وتفتح سعدى له الباب ويدخل ، وتذهب لتلم حاجاتها ، ولا تنسى أن تطل من الشباك وتلوح للشاب مودعة ، وتعود إلى حيث الخواجا إسحاق وسامي ، ويناولها الخواجا إسحاق أجرتها وتنطلق مع سامي إلى بيته ، وهناك يكون الغداء جاهزا ، فيتناول الجميع الغداء ، وتنظف جميلة وسعدى الأواني بعد الغداء وترتبان البيت ، ثم يركب الجميع في السيارة عائدين إلى القرية ، وتحمل سعدى ابن أختها ، وتبدأ بسرد قصتها مع الشاب لأختها وهي تضحك تارة وتتبسم تارة ، وتظهر علامات الفرح عليها ، وتصل السيارة إلى القرية ، وتتجه أولا إلى بيت جميلة ، فتنْزل وتأخذ ابنها من أختها ، وتدخل بيتها ، ثم يستدير سامي بالسيارة وينطلق إلى بيت الوالد ، يطفئ محرك السيارة وتنْزل سعدى ، ثم يلحقها بعد أن تدخل البيت ، ويطرق الباب :
                            ـ يا حاج عبد الله .
                            ـ تفضل يا خواجا سامي .. ادخل لا تستحِ .. البيت بيتك يا خواجا .
                            ـ تسلم يا حاج عبد الله .. حفظ الله البيت وأصحابه .
                            يجلس سامي على كرسي ، ويصب له الحاج عبد الله القهوة السادة ، فيرتشفها سامي ويعيد الفنجان إلى الحاج عبد الله ، ولا يتوقف الحاج عبد الله عن الترحيب بسامي ، وفي تلك الأثناء يلمح ابن جميلة سامي فيركض نحوه ، ويحمله سامي ويجلسه على رجليه ، ويشعر الحاج عبد الله بالحرج لفعل الولد فينادي على سعدى لتأخذه ، وتحضر سعدى وتأخذ خالد مع تقديم الاعتذار لسامي على فعل الولد ، وسامي يحاول اظهار الأمر بسيطا ، ولا يستدعي الاعتذار ، فهو طفل صغير ويعرفه ، حيث مكث يوم الجمعة في بيته ، لذا جاء تصرفه عفويا ، وبعد مضي سعدى بخالد يبدأ الحاج عبد الله بالكلام بعد ترحيب بسامي وشكره على الحضور إليه :
                            ـ نعم يا خواجا سامي .. كيف عمل البنات ؟؟ .. وهل أنت مبسوط من شغلهن ؟؟ .. وهل سبَّبْنَ لك أية مشاكل ؟؟ .
                            ـ والله يا حاج عبد الله .. ونعم التربية .. بناتك حفظهن الله لك .. همة ونشاط وإخلاص في الشغل .. الحقيقة هكذا تكون التربية .. وسلمت يا حاج .. بناتك رفعن رأسك عاليا .. وليس عندي أي نقد عليهن .. أو شكوى منهن .. وما احتجت طوال اليومين اللذين عملتا فيهما لشيء إلا كان حاضرا .. ولم تحوجنني حتى إلى التنبيه لأي خطأ .. لأنه لم يقع أصلا .
                            ـ بارك الله بك يا خواجا .. شهادتك هذه شرف لي .. رفع الله مقامك وأعلى مراتبك .. لكن يا خواجا .. لا تؤاخذني .. أنا دعوتك لأمر آخر .. وقلت ربما يمكنك أن تساعدنا .. أو ربما أجد عندك حلا .
                            ـ تفضل يا حاج تكلم .. والذي أقدر عليه فلن أقصر إن شاء الله .. قل يا حاج .
                            ـ لا أعرف ماذا أقول !! .. وكيف أبدا الكلام !! .. والله إني خجلان من نفسي .. لكن الله يعين .. اسمع يا خواجا .. أنا الحاج عبد الله .. وتاريخي معروف من أوله لآخره .. حين كان الانجليز هنا حاربناهم .. وحين جئتم أنتم حاربناكم في البداية .. والاصابة في رجلي ما زالت حتى اليوم .. لكن انتصرتم وصارت البلاد دولتكم .. وصرنا مواطنين ضمن مواطني الدولة .. وحصلنا على هويات مثلكم .. وأنا يا خواجا سامي أخبرك بهذا الكلام حتى لا تقول الحاج عبد الله يخدعني .. من البداية فضلت قول الحقيقة مثل ما هي .. والبلد هنا كله يعرف تاريخي وأخلاقي .. والحمد لله تاريخي يرفع الرأس ولا يعيبني ولا يعيب بلدي .
                            ـ حاشاك من العيب يا حاج.. أنت رجل شهم وأصيل .. في الحرب كل شيء يقع .. وأي جندي يدافع عن بلده يعمل مثلك .. والحرب انتهت واليوم تغيرت الأحوال .. وكلنا صرنا مواطنين في الدولة .. يعني الماضي انتهى ومات .. لكن ما هي المشكلة يا حاج ؟؟ .
                            ـ المشكلة يا خواجا .. أن المختار عندنا صار اليوم من أهل الشرف .. وصار يزاود علي .. ولا يعجبه عمل بناتي .. وركوبهن معك في سيارتك .. ويهددني بأن البلد ستقاطعني إذا ظلتا تشتغلان وتذهبان وتعودان معك.. وأنا محتار حقيقة .. فمن جهة هذه أول مرة تخرج بناتي للشغل وتركب سيارة مع رجل غريب .. ومن جهة أنا بعمري ما خضعت للابتزاز من أي إنسان .. وعمري ما قبلت التهديد من أي شخص .. وصار فكري مشغولا .. وأفكر أن أوقفهما عن العمل .. لأن تشويه السمعة ليس هينا .. ونحن عرب مثلما تعلم يا خواجا .. محتار يا خواجا محتار .
                            ـ هذه مشكلة بسيطة يا حاج .. لا تستحق أن تفكر فيها .. وحلها إن شاء الله عندي .. لا تحمل هما يا حاج .. وغدا ستسمع أخبارا تسرك .. ولن يقدر أحد أن يقول كلمة عنك أو عن بناتك .. فاطمئن ولا تهتم يا حاج .. وهذا كله قصر ذيل .. ولأن هذا المختار قليل أصل .
                            ـ طمأنك الله يا خواجا .. لكن والله لولا الحاجة ما سمحت أن تخرج بناتي للعمل .. الله المغني عن العمل .. وهو وحده الكافي .. لكن الحاجة تقطع الظهر .. لا أحوجك الله لأحد من خلقه يا خواجا .. وما كفانا الحاجة وضيق ذات اليد حتى طلع لنا المختار .. حسنا .. هذا المختار كان يرانا يوم لم تكن حتى كسرة خبز في البيت .. أين كان يومها .. وليس هو وحده فقط .. بل جميع أهل البلد .. أين كانوا .. آآآآآآآآخ.
                            ـ توكل على الله يا حاج .. ولا تفكر في الموضوع اطلاقا .. وأنا إن شاء الله سأحل المشكلة .. ولن تسمع بعد اليوم أية كلمة لا من المختار ولا من أي فرد في بلدكم .. توكل بالله يا حاج .. أنتَ رجل مؤمن .. والمؤمن لا يتأثر بمثل هذه التوافه .. والآن اسمح لي يا حاج .. يجب أن أمضي .. حتى أصل البيت قبل الظلام .. يا الله .. تصبحون على خير .
                            ـ مع السلامة يا خواجا سامي .. الله معك .. في أمان الله .
                            يخرج سامي ويركب سيارته وينطلق عائدا إلى بيته ، وقد أضمر للمختار شرا ، أما الحاج عبد الله فقد وضع رأسه على المخدة وتغطى بلحافه وغاب في نوم عميق ، وأما سعدى فإنها حالما نام أبوها استأذنت من أمها للذهاب إلى بيت أختها جميلة لتعيد الطفل ، وانطلقت بصحبة الطفل إلى بيت أختها جميلة ؛ وصلت البيت وطرقت الباب ففتحت لها جميلة ، ودخلت سعدى بعد أن ألقت التحية وناولتها الطفل الذي بدأ النعاس يداعب جفونه ؛ أخذت جميلة الطفل ووضعته في فراشه بجانب أخيه وغطته فغاب في النوم ، ثم أعدت الشاي وجلست هي وسعدى تتسامران ، فقالت جميلة :
                            ـ ها يا سعدى .. حدثيني عن الشاب الذي تعرفت عليه اليوم .. كيف هو .. ومن أي بلد ؟؟ .
                            ـ الحقيقة يا جميلة لا أعرف عنه شيئا .. اليوم فقط تعرفت عليه .. وعرفت أن اسمه سعيد .. هو قال : اسمه سعيد .. لكن من نظراته وفرحته حين لوحتُ له بالمنديل .. أحسست أنه ملهوف حتى يتعرف عليِّ .. والخواجا إسحاق سمعني وأنا أكلمه.. وناداني وأعطاني درسا في الأخلاق .. تبا له .. أهذا وقت دروس ومواعظ ؟؟.. حتى اليهودي يراقب حركاتنا ؟؟ .. أففففف .. ما هذا .. الكل يراقبني لماذا ؟؟ .. يعترضون حتى على كلامنا مع الشباب .. وماذا في ذلك ؟؟ .. هل كلام البنت مع الشاب محرم ؟؟ .. ألا يكفي أننا في القرية كالسجينات ؟؟ .. لا نستطيع رفع رؤوسنا عن الأرض كلما سرنا في الطريق ؟؟ .. شاب وتعرفت عليه .. وليس في نيتي أكثر من التعارف والانبساط قليلا .. خاصة أننا نعمل في بلد غريب .. ونحن غرباء فيه .. تبا لهم جميعا .. أنا عريسي تم تحديده .. أي أنني لن أكون لذاك الشاب .. فمم يخافون عليَّ ؟؟ .. وهل أنا طفلة حتى يراقبوني ؟؟ .
                            ـ يراقبك يا سعدى أو لا يراقبك .. لا تهتمي له .. افرحي وانبسطي ولا بأس ولا حرج في التعرف على الشاب .. في المدينة يا سعدى يختلف الوضع عن القرية .. والبنت حتى لو تعرفت على الشاب هناك فليس في الأمر ما يعيب .. المهم أن لا يتعدى الأمر التعارف والانبساط قليلا .. ثم إياك أن تكوني خفيفة .. فالشباب يحترمون البنت المتزنة أكثر من البنت اللعوب اللاهية .. فالبنت من هذا الصنف.. يركضون خلفها .. وبمجرد أن ينالوا منها ما يريدون يمضون عنها .. كأنهم لم يعرفوها من قبل .. انتبهي لنفسك يا أختي ..وما دام العريس جاهزا .. فاقفال الباب في وجه الشاب أفضل ..
                            ـ لا تخافي على سعدى .. أنا تربية أبي .. ثم إن قلبي مع ابن راعي العجال وميلي إليه .. ولا تنسي أن أباه بعث من يكلم أبي حتى يحضر ويخطبني رسميا لابنه .. وهذا الشاب لا أعرف أصله وفصله .. مجرد تعارف وضحك قليل وحديث عابر لن يكون له أثر .. شاب الله وحده يعلم من هو ومن أين .. وابن راعي العجال كل يوم في وجهي وأعرفه وأعرف أصله وفصله .. وهو يريدني ويريد قربي .. فهل أنا مجنونة حتى أفكر في غيره ؟؟ .. ثم إن البنت منا تظل تنتظر حضور العريس لخطبتها والزواج منها .. وعريسي حضر تقريبا .. وأنا عاقلة ولست مجنونة .. والمثل يقول : عصفور في اليد ولا عشرة على الشجرة .. وابن راعي العجال عصفور في يدي .. وأشعر برغبة في ابقاء العصفور في يدي وعدم افلاته .. وهذا الشاب واحد من عشرة على الشجر .. مالي وله .. فلا تخافي .. فلن أتعلق به .. لا .. لا .. لن أتعلق بحبال الهواء .. دعيني متعلقة بابن راعي العجال أسلم .. يكفي أنه طلبني ويريدني ..
                            ـ رأيك سليم وصحيح يا سعدى .. والله إنك عاقلة .. وعقلك يزن جبالا .. القريب أحسن من البعيد .. والذي تعرفينه أفضل من الذي تجهلينه .. والله صحيح .. واثبتي على منحوسك حتى لا يأتيك أنحس منه .
                            ـ جميلة أخيتي .. أخبريني بصراحة .. ولا تخفي عني .
                            ـ ماذا يا سعدى .. وهل أخفيت عنك شيئا .. أو كذبت عليك .
                            ـ لا يا جميلة .. لكن أحب أن أعرف الصحيح .. هل أنا حلوة أم لا ؟ .
                            ـ بسم الله ما شاء الله عليكِ يا سعدى .. يشهد الله إنك حلوة .. وتحلين من المشنقة .. ألم تري نفسك في المرآة ؟؟ .. أنتِ من أجمل بنات البلد .. حبيبتي يا سعدى .. والذي سيحظى بك ويضمك إلى صدره .. فقد انفتح له باب السماء .. ونال السعد والهناء .
                            تضم سعدى إلى صدرها وتقبلها بحرارة ، فتضع سعدى رأسها على صدر جميلة ، وتغمض عينيها ، وتستمتع بحضن جميلة ، وتحس أنه مليء بالحنان والعطف ، فتسترخي ، بينما جميلة تمسد على رأسها وظهرها بلطف ونعومة ، ويمضي الوقت ، وكاد الليل ينتصف ، فتنامان تلك الليلة في بيت جميلة ، وما إن شقشق الفجر حتى نهضت جميلة وبدأت تعد الفطور لها ولأختها وابنها ، وأفاق الرضيع ، فأرضعته وأعادته إلى فراشه ، وارتفع الصبح ، ونهضت سعدى والصغير ، وتناول الجميع الفطور ، ثم مضت سعدى عائدة إلى بيت والدها .
                            " أعتبر نفسي مسؤولاً عما في الدنيا من مساوئ ما لم أحاربها "

                            تعليق

                            • هادي زاهر
                              أديب وكاتب
                              • 30-08-2008
                              • 824

                              #29
                              الشمس في كبد السماء ، تلوح وتختفي بسبب الغيوم المنتشرة ، والطقس بدأ يميل إلى البرودة ، فقد ذهب الصيف وحره ، والشتاء على الأبواب ؛ سيارة شرطة تتوقف أمام بيت المختار ، ينْزل منها شرطي ويتجه إلى باب بيت المختار ، يقرع الباب فيفتح المختار له ، يدعوه للدخول لشرب القهوة السادة ، لكن الشرطي يعتذر ، ويسلم المختار تبليغا بضرورة الحضور صباح الغد إلى مركز الشرطة في المدينة ، ثم يعود إلى السيارة وينطلق خارج القرية ، ويفتح المختار الرسالة ويقرأ التبليغ ، ثم يطويه ويدسه في عب قنبازه ، ويدخل إلى البيت ، ولا يكف عن التفكير في التبليغ المفاجئ من الشرطة ، حيث لم يتعود من الشرطة مثل هذا التصرف ، فدوما كان يحضر إليه رجال المخابرات بالزي المدني ، ولا يكلمونه إلا بالعربية حتى لا يشتبه أحد من القرية بهم ، لكن هذه المرة اختلف الأمر ، ولم يحضر من اعتاد عليهم ، بل حضر شرطي بزيه الرسمي وسلمه التبليغ ومضى ؛ أحس المختار بريبة وصارت الشكوك تتأرجح به يمينا ويسارا ، لكنه لم يهتد إلى سبب حضور الشرطة وتسليمه التبليغ ، وكتم الأمر عمن حوله حتى عن أهل بيته ، وفي صباح اليوم التالي كان يقف في محطة الباصات ينتظر قدوم الباص ليركب ويسافر إلى المدينة ؛ حضر الباص وركب المختار مع من ركب من العمال والمسافرين ، وانطلق الباص متجها نحو المدينة ، وكان يتوقف في مدخل كل قرية يمر بها ، يصعد ركاب وينْزل آخرون ، حتى وصل المدينة ، فاستقل المختار سيارة أجرة ومضت به حتى توقفت أمام مركز الشرطة ، فنَزل منها ودخل إلى المركز ، وفي الداخل أراد أن يدخل مكتب أحد المحققين الذين كان يظنهم أصدقاءه ، لكن الشرطي في الاستقبال استوقفه وسأله عن سبب حضوره ، فأبرز له المختار التبليغ الذي تسلمه ، فأخذه الشرطي منه وطلب منه الجلوس والانتظار ، فحاول المختار الاعتراض وذكر للشرطي اسم أحد المحققين في المركز وأنه صديقه الشخصي ، لكن الشرطي اعتذر له وطلب منه الجلوس والانتظار ، فأذعن المختار وامتثل الأمر وجلس ينتظر ؛ مضت ساعة والمختار ينتظر ، ومر شريط الزمن في رأسه ، وما قدمه للدولة من خدمات ، وما يلقاه الآن من معاملة ، حيث تتم معاملته كأي شخص عادي دون أدنى فرق ، ولم يفق مما هو فيه إلا حين جاءه صوت من الداخل يناديه بصفته واسمه ، فلم يكد يصدق ما يسمع ، وهو من قدم خدمات جليلة للدولة وساعد في القبض على عدد لا بأس به من الثوار والمطلوبين ، وهو من يقوم بالتجسس على أهل القرية ، فقد أخلص في خدمة أسياده منذ البداية ، وكل ما يجري في القرية ويعلم به يوصله إلى المركز بسرعة البرق ولا يتوانى في الأمر ، :
                              ـ يا مختار .. ادخل يا مختار .. ادخل .
                              يحمل نفسه ويدخل ، وما إن يدخل حتى يرى سامي جالسا خلف الطاولة برفقة محقق آخر ، والذي يبادر بالكلام ، بينما سامي يجلس مستمعا :
                              ـ اجلس يا مختار .. تفضل اجلس .
                              ـ حاضر سيدي .
                              ـ ها يا مختار .. صرت شريفا هذه الأيام .. وتمثل أنك شيخ عرب .. يظهر يا صديقي أنك صدقت نفسك أنك مختار وشيخ !! .
                              ـ لماذا يا سيدي ؟.. ماذا صدر عني ؟.. وماذا رأيتم مني وأغضبكم ؟.. وهل أنا مقصر في أي شيء لا سمح الله ؟؟ .
                              ـ لا يا مختار .. لست مقصرا بالمعنى الحقيقي .. لكن عندك تقاعس وتباطؤ هذه الأيام .. ومعلوماتنا تقول إنك تشغل نفسك في أمور غير التي وكلتَ بها .. الأخبار كلها وصلتنا .
                              ـ أخبار ؟؟ .. أخبار ماذا يا سيدي ؟؟ .
                              ـ ههههههه .. يا مختار .. أنت من جماعتنا وتعلم أننا لا نغفل لحظة .. وكما نتعامل معك فإن لدينا عيونا أخرى تعمل وتبلغنا بما يجري في القرية .. هل نسيت هذا .. ولا تنسى أنك تعمل في خدمة الدولة وغيرك مثلك .. ولا أحد فوق قانون الدولة .
                              ـ لا .. ما نسيت .. لكن يا سيدي حبذا لو قصرت الطريق عليَّ وأخبرتني عن سبب استدعائكم لي .. ثم الطريقة التي تم استدعائي بها .. هذه أول مرة تستدعوني بهذه الطريقة .. فهل تراها مقبولة في حقي كمختار بلد أولا وكرجل خدم الدولة ثانيا ؟؟ .. هل تراها لائقة بحقي ؟؟.. هل استغنيتم عن خدماتي وتريدون التخلص مني ؟؟ .
                              ـ لا يا مختار .. لا .. ليس الأمر كذلك اطلاقا .. وأرجو أن تقبل اعتذاري عن طريقة استدعائك .. فأنا من طلب هذا .. وأنت لا يمكننا الاستغناء عنك أو عن خدماتك .. كيف هذا وأنت منذ قيام الدولة مجند معنا وتخدم الدولة كأحد أبنائها المخلصين ؟؟ .. لكن يا مختار .. أحيانا نسلك هذا المسلك وعلى فترات متباعدة .. حتى مع من يخدمنا من أبناء شعبنا .. ثم لا تنس يا مختار أن عندنا المعلومات الكافية عنك أنت أيضا .. وتعلم أن نشر مثل هذه المعلومات يضر بك جدا وبمركزك .. ونحن نحب أن نحافظ على سمعة جنودنا ..أما اذا اضطررنا فأمننا أولى من الجندي .
                              يصاب المختار بالدهشة ، ويبتلع ريقه ، فقد بدأ المحقق يشد له الحبل رويدا رويدا ، وتظهر عليه علامات الارتباك ، ويتابع المحقق :
                              ـ وبإمكاننا يا مختار نشر المعلومات عنك في قريتك .. وسيؤدي هذا إلى فضيحة لك بين أهل بلدك .. وسيقومون بعزلك وانتخاب مختار سواك .. رغم أننا نعين من نريد مختارا .. لكن ربما نفسح المجال ونثبت من يرضونه .. كنوع من الديمقراطية .
                              ـ لا يا سيدي .. يرحم الله والديك .. أرجوك .. كله إلا الفضيحة .. فقط أخبرني ما الذي صدر مني حتى غضبتم مني .. اخبرني ما الذي أوجب كل هذا الزعل ..
                              ـ حاول يا مختار أن تتذكر ماذا فعلت في اليومين السابقين .. حاول أن تتذكر .. وإذا لم تسعفك الذاكرة بالتذكر .. فسنساعدك على التذكر .. لكن الأفضل أن تتذكر وحدك .
                              ـ يا سيدي والله لا أتذكر أني قمت بأي عمل يضر بالدولة أو بأمنها .. وأنا أقوم بعملي على أكمل وجه .. أخبرني أنت .. يمكن أنني نسيت .. أو صدر مني خطأ ولم أشعر بالأمر .
                              ـ اسمع يا مختار .. وظيفتك أن تنقل لنا أخبار البلد وما يجري فيها .. ومن يشاغب ومن يتآمر على أمن الدولة .. غير هذا ليس لك .. وليست وظيفتك أن تحاسب الناس في بلدكم كيف يعيشون .. فهمت أم لا ؟؟.
                              ـ فهمت يا سيدي .. والله فهمت .. لكن أنا لم أتجاوز حدود وظيفتي .. ولم أقصر في خدمتكم .. لماذا تعاملونني هكذا ؟؟ .
                              ـ نحن يا مختار نعاملك كما يجب .. وليس كما تحب أنت .. وقلنا أن لا أحد فوق القانون .. وكل من يتجاوز حدود القانون .. يحاسب .
                              ـ فهمت يا سيدي .
                              ـ من الذي أعطاك الاذن حتى تحاسب الحاج عبد الله وأهل بيته ؟؟.. وتطالب بمنع بناته من الشغل .. من تظن نفسك ؟؟ .. هل تظن نفسك في دولة عربية يا مختار ؟؟ .. هنا دولة إسرائيل .. والقانون وحده يحكم ولست أنت .. والقانون يكفل حرية العمل لكل فرد في الدولة .. بنتا أم شابا .. فمن أنت حتى تمنع بنات الحاج عبد الله من العمل ؟؟ .. هل أصابتك الغيرة لأنهما تركبان مع يهودي في سيارته ؟؟ .. وماذا تسمي عملك معنا ؟؟ .. ثم البنات يكسبن قوتهن بشرف ويساعدن والدهم العاجز .. أهذا حرام ؟؟ .
                              ـ لا .. ليس حراما يا سيدي .. لكن ممكن تسمعني .
                              ـ تفضل .. تكلم .
                              ـ يا سيدي .. هذا الحاج عبد الله من أعداء الدولة .. وإذا لم تصدقوني فاذهبوا وافحصوا رجله .. فالرصاصة ما زالت فيها .. قبل قيام الدولة .. كان يحارب الانجليز ويحاربكم أيضا لأنه ممن يعتقدون أن الانجليز ساعدوكم قبل قيام الدولة .. وانحازوا إلى صفكم ضد العرب .. وأصيب في إحدى المعارك آنذاك .. وظلت الرصاصة في رجله .. وقضية عمل بناته أنا ليس لي دخل فيها .. أنا ذهبت إليه وأبلغته ما يقول الناس عنه .. وهذا كل شيء .. وإذا كان الحاج عبد الله أخبركم غير هذا فهو كذاب .. وهذا يكشف حقيقته اليوم .. وإنه ليس حاجا ولا بطيخا ..
                              ـ اسكت يا مختار .. الحاج عبد الله رجل نظيف وأشرف من كثيرين .. ونحن نعرف عنه كل الذي قلته .. ليس الآن بل منذ زمن بعيد .. أنسيت أن عيوننا في كل ركن وزاوية .. وأن في قريتك من يبلغنا بما يجري سواك .. والحاج عبد الله لم يخبرنا بشيء .. ولم يدخل هذا المركز في حياته .. ورغم أنه حاربنا وأصيب برجله .. إلا أنه إنسان شريف ومستقيم .. ولا يخون ولا يغدر .. لقد حاربنا زمن الحرب .. وبعد قيام الدولة طويت الصفحة القديمة .. ولم نر من الحاج عبد الله أي عمل عدائي .. نحن يا مختار عندنا مصادرنا للأخبار .. حتى أنتَ هناك من ينقل لنا أخبارك في بلدكم .. وحين ذهبتَ إلى بيت الحاج عبد الله .. وصلنا الخبر في نفس اليوم .. ثم يا مختار .. أنتَ اغتصبت بنتا منذ سنين طويلة .. ونحن الذين فرضنا الصلح وسترنا الأمر .. وأجبرنا أباها على قبول الصلحة .. أم نسيت ؟؟!! .. يعني أنت إنسان بلا ...... وتأتي اليوم لتمثل دورا شريفا على إنسان فقير يريد ستر نفسه وعدم مد يده للتسول !!.. على الأقل لو فعلت هذا مع غير الحاج عبد الله ربما عذرناك .. يجب أن تفهم يا مختار أن هذه الدولة .. فقط القانون هو الذي يحكم فيها .. والمطلوب منك .. حين ترجع اليوم إلى بلدكم .. وقبل أن تدخل بيتك .. تذهب مباشرة إلى بيت الحاج عبد الله وتعتذر منه.. وإياك ثم إياك أن نسمع أنك تكلمت بأية كلمة سيئة عنه أو عن بناته .. أنت جندي هنا .. أي عليك الانضباط جيدا .. واترك العواطف والعادات والتقاليد جانبا .. فواجب الجندي أن يكون منضبطا وخاضعا للقانون قبل غيره .. والحاج عبد الله لم يخطئ حتى تحاسبه أنت أو أهل البلد .. وليس عمل البنت محرما حتى وإن ركبت مع يهودي .. أليست هذه دولة اليهود ؟؟.. وقانونها هو الذي يسري على جميع مواطنيها ؟؟ .. وإذا كان الجندي هو أول من يخالف القانون.. وكيف نضبط الأمن بعدها .. واضح يا مختار ؟؟ .
                              ـ واضح .. مفهوم .. مفهوم يا سيدي .
                              ـ هيا يا مختار .. مع السلامة .. انتهت المقابلة .. عد إلى بلدكم وافعل ما طلبت منك .. وعذرا إن ضايقتك صراحتي..لكن القانون هو القانون .
                              ـ حاضر يا سيدي .. حاضر .
                              ينهض المختار ويخرج منكسا رأسه عائدا إلى القرية ؛ وقد امتلأ قلبه حقدا على الحاج عبد الله ، حيث لم يستطع النيل منه ولا أية مرة ، فقد باءت جميع محاولاته بالفشل ، وصل محطة الباص وظل ينتظر حتى وصل الباص ، ثم ركب ودفع الأجرة للسائق ، وجمع طرفي قنبازه ونظر حتى وقع بصره على مقعد خالٍ فاتجه إليه وجلس بجانب النافذه ، وانطلق الباص بالركاب ، وانطلق خيال المختار محلقا ، وعلى وجهه تبدو الحسرة والمرارة لما وصل إليه وضعه عند أولياء نعمته الذين خدمهم بكل طاقته ، والجزاء الذي لاقاه منهم هذه المرة ، وسرح فكره في الأيام التي خلت واستعرض في ذاكرته شريطا طويلا من الأحداث والوقائع التي كان بطلها ، فهذه صفقة بيع أرض واقناع أصحابها بعدم جدوى الاحتفاظ بها ، وأن بيعها سيدر على أصحابها ربحا كبيرا ، وبعد البيع يتسلم عمولته من اليهود الذين سخروه لمثل تلك المهمات ، وهذا مشهد قبض الشرطة على متسللين عادوا من خارج الحدود واتصلوا به ليخبئهم عنده ويبلغهم مأمنهم ، لكنه بالمقابل قام بالابلاغ عنهم ، وتم القبض عليهم وزجهم في السجن ، واستعرض في ذاكرته مشاهد كثيرة ، وكلها تصب في خانة الخيانة والعمالة ، وكيف أن نهاية الخدمة كانت استدعاءه كأي مواطن غيره ، رغم أنه المختار ، نظر من الشباك إلى المروج المترامية والتلال ، ثم تنهد.. تنهيدة مليئة بالحسرة وبصق من الشباك ، كأنه يبصق على نفسه احتقارا على ما قدم لهم وما ناله من الجزاء ، ولكن ما الحيلة الآن فهو ليس أكثر من عبد مأمور ، لا يمكنه المخالفة والخروج على أوامر أسياده ، وحالما وصل القرية اتجه مباشرة إلى بيت الحاج عبد الله ، ودخل بدون استئذان وراح يقبل رأسه ويعتذر له عما بدر منه قبل أيام ، والحاج عبد الله وزوجته وابنته في حالة دهشة وحالة استغراب لما يرونه من المختار ، وبعد أن اعتذر المختار وقبل رأس الحاج عبد الله ، استأذن بالخروج ومضى إلى بيته كسير النفس ، ولم يخرج يومين ، وفي الليلة الثالثة حضر السامرون إلى المضافة ، وكان الحديث كله حول عدم التعرض للحاج عبد الله ، وعدم ذكره هو وبناته بسوء ، واحتدم النقاش حول الأمر لكن المختار فرض رأيه على الجميع بالقوة ، وركز حديثه كثيرا على مواقف الحاج عبد الله الوطنية ، وما قدم في سبيل الوطن .
                              ************
                              " أعتبر نفسي مسؤولاً عما في الدنيا من مساوئ ما لم أحاربها "

                              تعليق

                              • هادي زاهر
                                أديب وكاتب
                                • 30-08-2008
                                • 824

                                #30
                                كان الحاج عبد الله قد أجَّلَ رد الجواب بموافقة ابنته سعدى على الزواج من ابن راعي العجال بسبب المشكلة التي أثارها المختار قبل أيام ، والمشكلة الآن انتهت , فقام برد الجواب لراعي العجال أن ابنته وافقت على الاقتران بابنه ، وما على راعي العجال إلا أن يحضر رسميا برفقة الجاهة لطلب يد سعدى رسميا لابنه ، واتفق معه على القدوم مساء الخميس ، وفعلا حضرت الجاهة في الموعد وتم طلب يد سعدى لابن راعي العجال ، وتمت الموافقة ، وتم تحديد موعد الخطبة بعد أسبوعين ، وسهرت سعدى تحلم بالعريس الذي سيصبح زوجها ، ومزاجه وطباعه ، وما يعجبه وما لا يعجبه ، وهل هي جميلة في عينيه ، وكيف يراها ، وراحت تسترجع صورته من بين الجاهة وكيف كان يسترق النظر إليها ويبتسم لها ، وهي تقدم الشاي له وللجاهة ، وتضحك في سرها ، ثم ما لبثت أن نامت وهي تحلم ببيت الزوجية .
                                اليوم الجمعة ، والصباح يعلو والقرية تصحو ، والساعة تقارب الثامنة ، وها هي جميلة تطرق الباب ومعها ولداها ، تحمل سامي الرضيع ، بينما الكبير يمشي بجانبها ، تفتح لها سعدى فتدخل ، وتجلس عند أبيها وتحضر سعدى الشاي لجميلة وابنيها ، وتسألها إن كانت تريد الافطار فترد جميلة بالنفي ، وأنها قد أفطرت في بيتها ، وما إن ينتهي الجميع من شرب الشاي حتى يسمع زامور سيارة سامي ، وتتم دعوته فيدخل ويقدم له الحاج عبد الله الحلوى ويخبره بأمر الجاهة ، وأن سعدى ستتم خطبتها قريبا ، وأنه منذ اللحظة مدعو لحضور الخطبة ، ثم يخبره بما كان من المختار ، وحضوره إليه واعتذاره له عما بدر منه ، ثم ينطلق سامي وجميلة وسعدى والرضيع بالسيارة إلى بيت سامي بينما يبقى الابن البكر عند جده ، ويصل سامي إلى بيته ، يعطي المفتاح لجميلة فتدخل بسرعة ، ويذهب هو وسعدى إلى بيت الخواجا إسحاق ، ثم يعود إلى البيت فيجد جميلة قد أعدت القهوة لكليهما ، فيجلسان يرتشفانها ، ويطلب سامي من جميلة احضار ابنه فتحضره ويبدأ بملاعبته ، وتخبره جميلة بأن عليه شراء بعض الحاجات للطفل ، من ثياب وغيار ، ثم تفتح معه موضوعا لم تفاتحه به من قبل :
                                ـ سامي.. هناك موضوع يجب أن أخبرك به .. ورجائي أن لا تفشلني .. وتلبي لي طلبي .
                                ـ قولي يا روح سامي .. هل رفضت لك طلب في أي وقت ؟؟ . قولي يا جميلة .. وأنا تحت أمرك حبيبتي .
                                ـ أريد زيارة زوجي عدنان في السجن .. لأني منذ سُجِنَ لم أزره غير مرة واحدة برفقة أبي .. وصار له في السجن مدة .. وحتى أنه لم ير ابنه .
                                يفاجأ سامي بالطلب الغريب ، فلم يتوقع طلبا كهذا ، وهو طلب ما إن سمعه حتى رده إلى أرض واقعه الذي طالما حاول نسيانه وعدم التفكير فيه ، فطوال الوقت كان يظنها قد نسيت عدنان ، وأنه بالنسبة إليها قد مات وانتهى ، لكنه الآن مباشرة أمام الواقع الذي صدمه بقوة :
                                ـ ولماذا تريدين زيارته ؟؟ .. ألست سعيدة معي ؟؟ .. كل طلباتك تنفذ .. ألم تجدي غير هذا الطلب ؟؟ .. أم أنك تشتاقين لزوجك الأول .
                                ـ لا يا سامي .. لكن هل تريد أن يتكلم الناس عني ويقولون : بعد سجن زوجها لم يعد من يردعها .. تأتي وتذهب بدون سائل ولا معترض .. ثم لا تنس أني زوجته في البلد .. والناس كلهم يعرفون هذا .
                                ـ أنت زوجتي أنا يا جميلة .. زوجك الأول انتهى .. سُجِنَ انتهى .. لا تقولي عنه زوجك بعد اليوم أمامي .
                                ـ بالله عليك لا تزعل .. حياتي معك أنا مبسوطة فيها .. ولن أتركك ولن أبعد عنك .. لكن الناس يعرفون أن عدنان زوجي .. وإذا أحسوا اني نسيت زوجي ولا أهتم بأمره فإنهم لن يسكتوا عني .. وسوف يفضحونني في البلاد .. ولا أظن فضيحتي أمرا يسرك .
                                ـ صحيح .. لا يسرني .. لكن أنا زوجك يا جميلة .. والحياة التي أوفرها لك لا يستطيع توفيرها كل أهل بلدك .. أم أن كلامي خطأ ؟؟ .
                                ـ كله صحيح .. لكن نحن نعيش بين الخلق .. وليس لوحدنا فوق هذه الأرض .. والناس يراقبون كل شيء .. فدعنا نكن حذرين أكثر .. وزيارة عدنان لن تضرنا .. وإذا سأل لماذا لا أزوره .. فسأخبره أنهم لا يسمحون لي بالزيارة .. ورتب بمعرفتك بضع ورقات طلب زيارة واختمهن بالرفض .. وهكذا لن يشك أحد في شيء .. ونظل مستورين .
                                ـ حسنا حبيبتي .. ولو أني غير راض عن طلبك .. لكن .. امهليني يومين أرتب الأمر وأحدد لك موعد الزيارة .. ولا تحلمي بزيارته بعدها
                                ـ وهناك سأخبره أن إدارة السجن ترفض الزيارة .. إلا إذا اشتغلنا مع الحكومة .. وطبعا هو سيرفض أن نشتغل مع الحكومة .. ويقينا سيتنازل عن الزيارة .
                                ـ حسنا حياتي .. انهضي وتفقدي ماذا ينقصنا من الحاجات في البيت لأذهب وأشتريها .. اليوم الجمعة .. والحوانيت تقفل الساعو الرابعة لأن غدا السبت .. وهو يوم عطلة .
                                تنهض جميلة وتتجه إلى المطبخ لتتفقد الحاجات الناقصة في البيت ، ويظل سامي يلاعب ابنه ، ريثما تعود جميلة ، وتعود وتذكر له الحاجات الناقصة ، ويعطيها الطفل ، ثم ينطلق خارج البيت متجها بسيارته إلى السوق.
                                سعدى في بيت الخواجا إسحاق كالعادة تقوم بتنظيف البيت ، وبين الفينة والفينة تسترق النظر عبر النافذة ، وترى الشاب في البناية المقابلة يلوح لها تارة ، ويَصْفُرُ لها تارة , لكنها لا تعيره انتباهها ، فقد جاءها العريس ولم تعد بحاجة إلى الغزل والمواعيد أو التعرف على شاب جديد ، وينقضي اليوم وتعود جميلة وسعدى والصغير مع سامي ، وما إن تقف السيارة أمام بيت الحاج عبد الله حتى يمر ابن راعي العجال ، فتراه سعدى وتصيبها حالة من الخجل ، لكنه يواعدها همسا باللقاء ليلا في الحاكورة ، فتهز رأسها وهي تلتفت إلى جميلة وسامي حتى تتأكد أنهما لم يفهما شيئا ، فتلمح ابتسامة على وجه جميلة ، فتبتسم بالمقابل وتنطلق مسرعة إلى البيت ، ويتابع سامي حتى يصل إلى بيت جميلة ، ويقابله هناك أحد الرجال متجها إلى الجامع ، وهذا الأمر لا يترك مجالا لسامي للحديث ، فتنْزل جميلة وابنها ويمضي سامي بعد أن ودعها سرا ، وما إن تدخل إلى البيت وقبل أن تستقر مع وليدها حتى كانت سعدى تطرق الباب ومعها ابن اختها البكر ، فتسلمه لجميلة وترتد مسرعة عائدة إلى البيت ، وعبثا تناديها جميلة لتعود لكنها ترفض وتتابع طريقها إلى البيت .
                                هبط الليل على القرية ، وخيم الظلام ، والقرية ما زالت بعيدة عن الحضارة ، فلم تصلها شبكة المياه ولا الكهرباء بعد ، ولا شوارع معبدة فيها ، رغم كثرة الوعود من الدولة لأهل القرية بالبدء بتنفيذ هذه المشاريع لتنتقل القرية من التخلف إلى التحضر كما يحلو للمؤسسة الحاكمة وصف حال القرى في تلك السنوات ، تنسل سعدى من البيت بهدوء وتتجه إلى الحاكورة خلف البيت ، وما إن تصل السلسلة الحجرية حتى تجد ابن راعي العجال جالسا هناك بانتظارها ، وتراه سعدى وتبادره بخجل وحياء :
                                ـ مساء الخير .
                                ـ مساء النور يا سعدى .
                                قالها وغص بريقه ، فلم يعتد على الكلام معها ، وما لبث أن مد يده وأمسك بيدها ، فأحست برعشة تسري في عروقها واحمر وجهها خجلا رغم أن الظلام يسترها ، ثم جذبها إليه وضمها ، فحاولت الابتعاد عنه لكنه كان قوي الجسد مفتول العضلات ، وليس بامكانها الكلام بصوت مرتفع خشية أن يسمعها أحد في الليل ، ولم يخرج منها سوى أنفاسها التي بدأت تعلو ، وضمها إلى صدره بحرارة وقبلها من شفتيها ، وأحست بدفء فتراخت بين يديه ، بعد ذلك راح كل منهما يتأمل وجه صاحبه ، وعلت الابتسامة وجهيهما ، ثم عانقها وعانقته بلهفة وحرارة ، وكانا كما قال أمير الشعراء شوقي :



                                وتعطلت لغة الكلام وخاطبت



                                عينيَّ في لغة الهوى عيناكِ





                                وطال الصمت بينهما ، وامتد السكوت حتى قطعه :
                                ـ أحبك يا سعدى ، أحبك ويشهد الله أني أحبك .
                                ولفها الخجل وبقيت ساكتة ، ثم قالت :
                                ـ وأنا أحبك ..
                                ـ هاتي قبلة حبيبتي .
                                ـ لقد قبلتني عشرين قبلة .. ألا تشبع من التقبيل .
                                ـ وكيف أشبع منك يا سعدي وهناي .
                                يغافلها ويقبلها من شفتيها ، ويضمها إلى صدره ، وترتخي بين ذراعيه ، ثم يتركها ، فتسأله :
                                ـ أتحبني يا صالح ؟؟ .
                                ـ أحبك يا سعدى .. ولو لم أكن أحبك لما صبرت كل هذه المدة حتى اقتنع أبي أخيرا وحضر إليكم .
                                ـ يعني أنك ستتزوجني لأنك تحبني ؟؟ .. أم لأن أباك اقتنع بزواجك مني ؟؟. أم هناك حاجة تخفيها عني ولا أعرفها .. كما يقول المثل : مثل الأطرش بالزفة .. قل لي من البداية .. إذا كان زواجك مني تلبية لرغبة أبيك .. فما زلنا في أول الطريق .. وأفضل لكل منا أن يذهب في طريقه .. أما إذا أردت أن تتزوجني لأنك تحبني .. فستجدني حبيبتك وخادمتك وزوجتك التي لا تتمنى إلا رضاك بعد رضى ربنا .. وسأسعدك العمر كله .. بإذن الله .
                                يضمها إلى صدره بحرارة وتدمع عيناه فرحا بها ، ثم يقول :
                                ـ يا روحي .. يا عمري يا سعدى .. الله وحده يعلم كم أحبك .. حتى حين كنت مخطوبة .. كنت أنا أحبك .. لكن يومها لم يكن بامكاني النطق بأية كلمة .. لأنك كنتِ مخطوبة .. وكانت غصة بصدري .. وظللت صابرا وأدعو ربنا أن يصبرني .. و استجاب لي ربنا.. مع أني ما تمنيت لخطيبك أن يصيبه أي مكروه .. لكن ربنا مالك الأعمار .. وتوفي خطيبك رحمه الله .. وأنا ظللت أحاول مع أبي حتى اقتنع ووافق أن يخطبك لي .. لأنه كان قد نوى أن يخطب لي بنتا من الحارة الشرقية .. لكن الحمد لله .. اقتنع وخطب لي من أحب .. أحبك يا سعدى .
                                ـ يا حبيب قلبي يا صالح .. أعانني الله لأسعدك العمر كله .. والآن دعني أرجع إلى البيت قبل أن يشعر أحد بغيابي .. لأني جئتك سرا .
                                ـ انتظري قليلا .. على الأقل حتى أشبع من جمالك .. ويهدأ قلبي قليلا .. فلا يزال ينبض بشدة .
                                ـ لا أستطيع يا صالح .. حبيبي .. لا يعلم أحد أني هنا .. أبي وأمي يظنان أني في غرفتي .
                                ـ حبيبتي .. بضع دقائق فقط .. سأخبرك خبرا مفرحا جدا .
                                ـ ما هو حبيبي قل بسرعة .
                                ـ لقد حددنا في البيت موعد الخطبة .. بعد أسبوعين .. ولم يبق سوى أن يتفق أبي مع أبيك على الموعد .. وربما غدا أو بعد غد نذهب إلى المدينة لشراء ما يلزم للخطبة .
                                ـ حبيبي يا صالح .. أريد أجمل الملابس .. وخاتم ذهب .. وسندعو القرية كلها .
                                ـ حبيبتي يا سعدى .. ما أسعدني بك يا حبيبتي .
                                يقبلها ويضمها إلى صدره طويلا .
                                ـ كفى يا صالح .. ألا تشبع .. دعني أذهب .. سينتبهون لغيابي حبيبي .. دعني أرجع قبل أن تقوم القيامة فوق رأسي .. والأيام القادمة سنكون كثيرا معا ونسهر هنا .. أحبك .. دعني أذهب .. وغدا في نفس المكان والزمان .. نجتمع حبيبي .
                                يقبلها ، وتمهله قليلا ثم تبعده ، وتعود فتقبله وتمضي عائدة إلى البيت .
                                ************

                                " أعتبر نفسي مسؤولاً عما في الدنيا من مساوئ ما لم أحاربها "

                                تعليق

                                يعمل...
                                X