ألسنة اللهب (قصة قصيرة)

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • مختار عوض
    شاعر وقاص
    • 12-05-2010
    • 2175

    ألسنة اللهب (قصة قصيرة)

    ألسنة اللهب
    .
    .
    .

    كان لسان اللهب يلتهم أشياء في داخلها بقدر ما يشعرها بالدفء حتَّى أن هذا اللهب قد حول حياتها إلى سلسلة من العذابات تتخللها لحظات قليلة من الأمل؛ فالليل طويل، والفراش بارد، والوحدة ذئب ينهش المشاعر، وبرامج التليفزيون – على كثرة قنواته- صارت مملَّة وسخيفة، والمسلسلات والأفلام في قنواته المتخصصة باتت محفوظة متشابهة حتى أنها تستطيع إكمالها لنفسها بعد عدة مشاهد من بدايتها، والقراءة –التي كانت متعتها الكبرى قبل زواجها قصير العمر- لم تعد قادرة عليها.. أصبحت تملّها كما تملّ كلَّ شيء في حياتها، وإذا هي فكرّت في قضاء بعض وقتها في إعداد بعض الأكلات التي تتقنها فالنتيجة معروفة مسبقًا.. لا شهية لتناول الطعام بمفردها.. إنها تعيش وحيدة تماما في شقتها الكبيرة المثقلة بالأثاث التي لا يزورها فيها أحد تقريبًا؛ فأبواها قد تُوفِّيا قبل زواجها بسنوات ، وأختها الكبرى تعيش الآن مع زوجها مهندس البترول في إحدى دول الخليج وهي لا تراها إلا في إجازات الصيف السنوية، ولكن لماذا لا توطِّد علاقاتها وتتبادل الزيارات مع بنات خالتها المتزوجات في نفس المدينة التي تعيش فيها؟ صحيح.. لماذا؟ لكن الإجابة جاءتها محمَّلة بقائمة الشبهات الكفيلة بصدِّها عن مجرد الاستطراد في الفكرة؛ إذ كيف لها ألا تعمل حسابًا لغيرة بنات خالتها منها والشك في أنها تطمع في أزواجهن وهي العارفة بطباعهن؟
    الغريب أن ساعات عملها في المدرسة التي تمثِّل فرصتها الثمينة في التخلِّص من ذئب وحدتها لم تكن تمرُّ هي الأخرى على أفضل حال؛ فهي وإن كانت تُبعد شبح هذا الذئب إلا أنها كانت كفيلة بإشعال نار من نوع آخر في جسدها وروحها.. نار لا تجد ما تأكله سوى مشاعر متأججة ورغبات كُتب عليها أن تظل حبيسة جدران قلبها؛ فالزميلات (وكلهن متزوجات) لا يكدن يجتمعن في أوقات فراغهن حتَّى يبدأن في الحديث حول أدق خصوصيات عش الزوجية غير مراعين لمشاعرها ولظروفها، والزواج.. لماذا لم تفكر في الزواج من آخر بعد أن خذلها زوجها ومضى إلى حيث لا يعود الرجال؟
    لقد فعلت في سبيل ذلك الكثير، وإنها لم تألُ جهدًا في عرض نفسها في سوق الزواج غير متشددة في ذلك الأمر.. بل إنها كانت مستعدة لقبول ابن الحلال حتى لو كانت يداه خاليتين إلا من الستر، ولكن أين تجد ابن الحلال أو تجد الستر وغول العنوسة يغرز أنيابه في جسد مجتمع تهدده أزمة مالية طاحنة؟ وتتحكم فيه أسعار الشقق الباهظة والعادات البالية التي تغالي في طلب المهور؟؛ هذا غير مشكلة البطالة التي تعصف بالشباب عصفًا فتكون النتيجة اتجاههم إلى السفر لأوروبا وأمريكا والاقتران بالعوانس هناك من أجل الحصول على حقِّ الإقامة في تلك البلاد.
    لا مفرَّ إذًا أن يتناوبها ذئب الوحدة في شقتها ونار رغباتها المحترقة في المدرسة، على أن نارًا أخرى كانت تترصدها في طريق عودتها اليومية من عملها.. كانت هذه النار تحمل في لهيبها بعض الدفء، وهي عندما خرجت في هذا اليوم من أيام الشتاء الباردة من مدرستها في طريقها المعتاد وأصبحت في ذاك الشارع القريب بدأت ألسنة اللهب تحرق داخلها ولكنها تشعر بها تلفح وجهها فتجلب الدفء.. هي لم تصل لمصدر النيران بعد، ولكنها تدرك أنها ستمرُّ بها بعد نحو عشرين مترًا وها هي تستشعر لهيبها قبل أن تصل إليها أو تراها.. إنها الآن في الشارع الذي يفضي آخره إلى الشارع الجانبي الذي تسكن فيه، وقد اعتادت عند مرورها أن ترقبه قابضًا بيمناه على مصدر اللهب ذي الخرطوم المتصل بأنبوبة الغاز الطويلة بينما تطعم يسراه النار أعواد القصدير التي يستخدمها في لحام المعادن، وما أن تصبح في مدى رؤيته حتى تترك كلتا يديه ما تقبضان عليه فتلتقي عيناهما في حوار خاص ترافقه ابتسامة تولد على وجهيهما رافضة أن تموت فتشعر بالخجل الشديد وتبحث قدماها عن الطريق في صعوبة بالغة وتكاد تتعثر في خطواتها التالية، وما إن تدخل شقتها حتى تتجه إلى مخدعها وتروح في أحلامها التي تقتات من حطام ذكرياتها الجميلة من زواج لم يدم أكثر من شهور قلائل، ثم تبدأ دوَّامات الأسئلة:
    هل سأل عني فعرف أنني أرملة أم لم يسأل؟ وإن كان قد فعل فلماذا لم يتقدم لطلب يدي حتى الآن؟ بل لماذا لم يحاول الاقتراب مني؟ وهل هو متزوج أم لا؟ وإذا كان متزوجًا وطلبني للزواج.. هل أوافق؟
    أسئلة كثيرة لم تستطع سعاد أن تعرف لها إجابات محددة، فقررت أن تكون أكثر إيجابية منه حتَّى تضع حدًّا لسلبيته.. أجل ستتوجه إليه غدًا وتطلب منه الحضور لبيتها لتركيب إطارات حديدية لنوافذ شقتها؛ فهي برغم أن شقتها في الطابق الثاني ونوافذها ليست بحاجة مُلحَّة لمثل هذه الإطارات لكنها الحيلة الوحيدة التي يمكنها اللجوء إليها حتى تستطيع أن تتحدث معه.. والأهم أن يتعرف إلى وضعها وظروفها.. ثم إنها ستكون فرصة له لفك عقدة لسانه.
    وعلى مدى يومين متتاليين تمرُّ سعاد لتجد ورشة اللحام الصغيرة في الشارع الرئيسي مغلقة؛ إذًا لا مفرَّ من أن تسأل عنه بعض جيرانه، ولشد ما كانت صدمتها حين أتاها الجواب حاملا خبر زفافه...

  • محمد فطومي
    رئيس ملتقى فرعي
    • 05-06-2010
    • 2433

    #2
    نصّ عميق الدّلالات و الأبعاد الانسانيّة.
    راقتني شموليّة الطّرح و الّلغة الـ"السّهلة،الممتنعة".
    أرى أنّك لم توظّف كثيرا ما تتمتّع به من قدرة عالية على التّكثيف.كأنّك في بعض المواطن قد سقطت في الشّرح.
    عموما أشكرك على النصّ الجميل.
    مدوّنة

    فلكُ القصّة القصيرة

    تعليق

    • مختار عوض
      شاعر وقاص
      • 12-05-2010
      • 2175

      #3
      المشاركة الأصلية بواسطة محمد فطومي مشاهدة المشاركة
      نصّ عميق الدّلالات و الأبعاد الانسانيّة.
      راقتني شموليّة الطّرح و الّلغة الـ"السّهلة،الممتنعة".
      أرى أنّك لم توظّف كثيرا ما تتمتّع به من قدرة عالية على التّكثيف.كأنّك في بعض المواطن قد سقطت في الشّرح.
      عموما أشكرك على النصّ الجميل.
      أخي الكريم الأستاذ / محمد فطومي
      شكرًا لحضورك وتبقى الملاحظات مما يسعدني منك ومن جميع المارين بنصوصي عموما..
      أما عن لماذا قصَّرت في التكثيف فلأني أتصور أن القصة القصيرة تحتاج لبناء جو عام، ورسم شخصيات، ثم إن هذا النص - على وجه الخصوص - اعتمد على رسم شخصية بطلته من الداخل ومن هنا لجأت لما يشبه الديالوج الداخلي فإن كنت لا توافقني فعليَّ أن أعيد التفكير من جديد ممتنًّا لتوجيهك ونصحك..
      تقبل محبتي وامتناني الكبيرين لشخصك الكريم.

      تعليق

      • إيمان الدرع
        نائب ملتقى القصة
        • 09-02-2010
        • 3576

        #4
        الزميل العزيز : مختار عوض:
        نصّ راصد لقلب امرأة في لحظات حرمان حقيقيّ ...
        وظروفٍ اجتماعيّة شاقّة ...أحالتْ قلبها إلى يبابٍ..
        يلتمس الغيث الرّطب ...ولو بحلم... لتعطّشها إليه ظنّته حقيقة..
        أعجبتني اللّغة المعبّرة القويّة ...وذاك التوغّل في الإحساس بعمقٍ نابضٍ..
        حيث سلّطتَ الضّوء على عالمٍ المرأة حين تعيش لحظة الاغتراب ، والوحدة، والقهر ، والحرمان، والظّلم
        لك أطيب أمنياتي ...وتحيّاتي..

        تعيش وتسلم يا ااااااوطني ...يا حبّ فاق كلّ الحدود

        تعليق

        • ميساء عباس
          رئيس ملتقى القصة
          • 21-09-2009
          • 4186

          #5
          مختار الجميل
          أسعد الله كل أوقاتك
          قصة جديدة النبض وجروحها تنز
          أعجبتني البداية كثيرا
          ثم ولوجك إلى عدة مآتم تع في حياتنا
          نص صارخ
          إلى متى ؟
          حقا كل ها إلى متى
          دائما جميل
          بوركت أيها المتألق
          الخاتمة التقليدية لم أحببها عزيزي لاأدري
          ربما أي كلام أتوقعه لاأستسيغه
          دعواتي وأمنياتي
          ميساء
          مخالب النور .. بصوتي .. محبتي
          https://www.youtube.com/watch?v=5AbW...ature=youtu.be

          تعليق

          • عائده محمد نادر
            عضو الملتقى
            • 18-10-2008
            • 12843

            #6
            الزميل القدير
            مختار عوض
            ولأني أعرفك تماما سأكون صريحة معك جدا
            أحببت روح النص وجدا ولكن
            جاء السرد شارحا أحيانا وبطيئا أخرى
            النهاية جاءت روتينية وبشكل كبير
            وبغض النظر عن كل هذا أعجبني سبر أغوار روح البطلة وداخلها وخاصة تلك التي تتعلق بمشاعرها
            ليتك جعلت الخاتمة هي الرفض
            هل فكرت كيف سيكون صداه على المتلقي حين يصدم البطل البطلة وهو يرفضها لأنه يحب أخرى مثلا
            ولا تقل لي أن الرد جاء بزواجه لا
            لا أقصد بهذه الطريقة بل أقصد أن يقولها صراحة وووو
            ولي تصور تام بأن الوسيلة لن تخذلك وأنت الأديب الذي نعرف قدرته
            مودتي ومعذرتي منك
            وعشمي بك أنك تفهم القصد
            ودي الأكيد لك
            الشمس شمسي والعراق عراقي ..ماغير الدخلاء من أخلاقي .. الشمس شمسي والعراق عراق

            تعليق

            • مصطفى الصالح
              لمسة شفق
              • 08-12-2009
              • 6443

              #7
              [align=center]صدمتني صديقي العزيز مختار

              لا يحق لك ان تفعل بي هذا

              لم اتوقعك بهذه القسوة

              تمد لنا خيط الاسترسال ونستمتع باللحظات والكلمات ثم .. فجاة

              تقطع الحبل لنقع في فخك على ظهورنا كالمصارع المهزوم!

              لن اقول لك ماذا تسمى فعلتك هذه

              كنت مدهشا

              تحيتي وتقديري
              [/align]
              [align=center] اللهم صل على محمد أفضل الخلق وعلى آله وصحبه أجمعين

              ستون عاماً ومابكم خجــلٌ**الموت فينا وفيكم الفزعُ
              لستم بأكفائنا لنكرهكم **وفي عَداء الوضيع مايضعُ

              رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ

              حديث الشمس
              مصطفى الصالح[/align]

              تعليق

              • مختار عوض
                شاعر وقاص
                • 12-05-2010
                • 2175

                #8
                المشاركة الأصلية بواسطة إيمان الدرع مشاهدة المشاركة
                الزميل العزيز : مختار عوض:
                نصّ راصد لقلب امرأة في لحظات حرمان حقيقيّ ...
                وظروفٍ اجتماعيّة شاقّة ...أحالتْ قلبها إلى يبابٍ..
                يلتمس الغيث الرّطب ...ولو بحلم... لتعطّشها إليه ظنّته حقيقة..
                أعجبتني اللّغة المعبّرة القويّة ...وذاك التوغّل في الإحساس بعمقٍ نابضٍ..
                حيث سلّطتَ الضّوء على عالمٍ المرأة حين تعيش لحظة الاغتراب ، والوحدة، والقهر ، والحرمان، والظّلم
                لك أطيب أمنياتي ...وتحيّاتي..
                المبدعة الراقية الأستاذة
                إيمان الدرع
                شكرا لطلتك الجميلة التي خلت من نقد أبتهج به..
                أخشى أن أصدقك وأصدق نفسي فأراني قاصا منافسا لك!!
                تقبلي امتناني ومودتي.

                تعليق

                • مختار عوض
                  شاعر وقاص
                  • 12-05-2010
                  • 2175

                  #9
                  المشاركة الأصلية بواسطة ميساء عباس مشاهدة المشاركة
                  مختار الجميل
                  أسعد الله كل أوقاتك
                  قصة جديدة النبض وجروحها تنز
                  أعجبتني البداية كثيرا
                  ثم ولوجك إلى عدة مآتم تع في حياتنا
                  نص صارخ
                  إلى متى ؟
                  حقا كل ها إلى متى
                  دائما جميل
                  بوركت أيها المتألق
                  الخاتمة التقليدية لم أحببها عزيزي لاأدري
                  ربما أي كلام أتوقعه لاأستسيغه
                  دعواتي وأمنياتي
                  ميساء
                  أشاطرك الرأي ميساء الراقية المبدعة..
                  وسأصدقك القول، ولديَّ شاهد على ذلك تصادف أن كان معي على الهاتف وقت كتابتها فقلت له:
                  لديَّ نهايتان؛ إحداهما تقليدية، والأخرى مما يجذب القارئ.. ولكنني أفضِّل التقليدية لأنني لا أحب لأبطالي السقوط.. نعم كانت النهاية الأخرى قادرة على إحداث أقصى ما يمكن من جذب لانتباه القارئ ومن ثم إرضاءه فنيا، لكنني يا صديقتي أبحث في كتابتي عن الارتقاء بأرواح شخوصي وأربأ بهم - كما ذكرت - عن السقوط..
                  أشكر حضورك الجميل مثل قلبك..
                  ولك من أخيك الود والتقدير.

                  تعليق

                  • مختار عوض
                    شاعر وقاص
                    • 12-05-2010
                    • 2175

                    #10
                    المشاركة الأصلية بواسطة عائده محمد نادر مشاهدة المشاركة
                    الزميل القدير
                    مختار عوض
                    ولأني أعرفك تماما سأكون صريحة معك جدا
                    أحببت روح النص وجدا ولكن
                    جاء السرد شارحا أحيانا وبطيئا أخرى
                    النهاية جاءت روتينية وبشكل كبير
                    وبغض النظر عن كل هذا أعجبني سبر أغوار روح البطلة وداخلها وخاصة تلك التي تتعلق بمشاعرها
                    ليتك جعلت الخاتمة هي الرفض
                    هل فكرت كيف سيكون صداه على المتلقي حين يصدم البطل البطلة وهو يرفضها لأنه يحب أخرى مثلا
                    ولا تقل لي أن الرد جاء بزواجه لا
                    لا أقصد بهذه الطريقة بل أقصد أن يقولها صراحة وووو
                    ولي تصور تام بأن الوسيلة لن تخذلك وأنت الأديب الذي نعرف قدرته
                    مودتي ومعذرتي منك
                    وعشمي بك أنك تفهم القصد
                    ودي الأكيد لك

                    أعلم يا أختي الفاضلة أنها الخاتمة..
                    كان في ذهني خاتمتان (ليست إحداهما الرفض حتى أكون صادقا معك)، وقد اخترت هذه الخاتمة التقليدية مؤثرًا ألا ألجأ للأخرى -رغم جاذبيتها- حتى لا أجعل نهاية بطلتي السقوط.. ربما أكون غاوي فشل!!
                    المهم أنني - كما قلت في مشاركتي السابقة - أرفض لأطفالي السقوط..
                    فأرجو أن تقبليني أخيتي كما أنا، وتقبلي من أخيك كل الود والتقدير لملاحظاتك القيمة..
                    مودتي وتقديري.

                    تعليق

                    • عائده محمد نادر
                      عضو الملتقى
                      • 18-10-2008
                      • 12843

                      #11
                      المشاركة الأصلية بواسطة مختار عوض مشاهدة المشاركة
                      ألسنة اللهب


                      .
                      .
                      .

                      كان لسان اللهب يلتهم أشياء في داخلها بقدر ما يشعرها بالدفء حتَّى أن هذا اللهب قد حول حياتها إلى سلسلة من العذابات تتخللها لحظات قليلة من الأمل؛ فالليل طويل، والفراش بارد، والوحدة ذئب ينهش المشاعر، وبرامج التليفزيون – على كثرة قنواته- صارت مملَّة وسخيفة، والمسلسلات والأفلام في قنواته المتخصصة باتت محفوظة متشابهة حتى أنها تستطيع إكمالها لنفسها بعد عدة مشاهد من بدايتها، والقراءة –التي كانت متعتها الكبرى قبل زواجها قصير العمر- لم تعد قادرة عليها.. أصبحت تملّها كما تملّ كلَّ شيء في حياتها، وإذا هي فكرّت في قضاء بعض وقتها في إعداد بعض الأكلات التي تتقنها فالنتيجة معروفة مسبقًا.. لا شهية لتناول الطعام بمفردها.. إنها تعيش وحيدة تماما في شقتها الكبيرة المثقلة بالأثاث التي لا يزورها فيها أحد تقريبًا؛ فأبواها قد تُوفِّيا قبل زواجها بسنوات ، وأختها الكبرى تعيش الآن مع زوجها مهندس البترول في إحدى دول الخليج وهي لا تراها إلا في إجازات الصيف السنوية، ولكن لماذا لا توطِّد علاقاتها وتتبادل الزيارات مع بنات خالتها المتزوجات في نفس المدينة التي تعيش فيها؟ صحيح.. لماذا؟ لكن الإجابة جاءتها محمَّلة بقائمة الشبهات الكفيلة بصدِّها عن مجرد الاستطراد في الفكرة؛ إذ كيف لها ألا تعمل حسابًا لغيرة بنات خالتها منها والشك في أنها تطمع في أزواجهن وهي العارفة بطباعهن؟
                      الغريب أن ساعات عملها في المدرسة التي تمثِّل فرصتها الثمينة في التخلِّص من ذئب وحدتها لم تكن تمرُّ هي الأخرى على أفضل حال؛ فهي وإن كانت تُبعد شبح هذا الذئب إلا أنها كانت كفيلة بإشعال نار من نوع آخر في جسدها وروحها.. نار لا تجد ما تأكله سوى مشاعر متأججة ورغبات كُتب عليها أن تظل حبيسة جدران قلبها؛ فالزميلات (وكلهن متزوجات) لا يكدن يجتمعن في أوقات فراغهن حتَّى يبدأن في الحديث حول أدق خصوصيات عش الزوجية غير مراعين لمشاعرها ولظروفها، والزواج.. لماذا لم تفكر في الزواج من آخر بعد أن خذلها زوجها ومضى إلى حيث لا يعود الرجال؟
                      لقد فعلت في سبيل ذلك الكثير، وإنها لم تألُ جهدًا في عرض نفسها في سوق الزواج غير متشددة في ذلك الأمر.. بل إنها كانت مستعدة لقبول ابن الحلال حتى لو كانت يداه خاليتين إلا من الستر، ولكن أين تجد ابن الحلال أو تجد الستر وغول العنوسة يغرز أنيابه في جسد مجتمع تهدده أزمة مالية طاحنة؟ وتتحكم فيه أسعار الشقق الباهظة والعادات البالية التي تغالي في طلب المهور؟؛ هذا غير مشكلة البطالة التي تعصف بالشباب عصفًا فتكون النتيجة اتجاههم إلى السفر لأوروبا وأمريكا والاقتران بالعوانس هناك من أجل الحصول على حقِّ الإقامة في تلك البلاد.
                      لا مفرَّ إذًا أن يتناوبها ذئب الوحدة في شقتها ونار رغباتها المحترقة في المدرسة، على أن نارًا أخرى كانت تترصدها في طريق عودتها اليومية من عملها.. كانت هذه النار تحمل في لهيبها بعض الدفء، وهي عندما خرجت في هذا اليوم من أيام الشتاء الباردة من مدرستها في طريقها المعتاد وأصبحت في ذاك الشارع القريب بدأت ألسنة اللهب تحرق داخلها ولكنها تشعر بها تلفح وجهها فتجلب الدفء.. هي لم تصل لمصدر النيران بعد، ولكنها تدرك أنها ستمرُّ بها بعد نحو عشرين مترًا وها هي تستشعر لهيبها قبل أن تصل إليها أو تراها.. إنها الآن في الشارع الذي يفضي آخره إلى الشارع الجانبي الذي تسكن فيه، وقد اعتادت عند مرورها أن ترقبه قابضًا بيمناه على مصدر اللهب ذي الخرطوم المتصل بأنبوبة الغاز الطويلة بينما تطعم يسراه النار أعواد القصدير التي يستخدمها في لحام المعادن، وما أن تصبح في مدى رؤيته حتى تترك كلتا يديه ما تقبضان عليه فتلتقي عيناهما في حوار خاص ترافقه ابتسامة تولد على وجهيهما رافضة أن تموت فتشعر بالخجل الشديد وتبحث قدماها عن الطريق في صعوبة بالغة وتكاد تتعثر في خطواتها التالية، وما إن تدخل شقتها حتى تتجه إلى مخدعها وتروح في أحلامها التي تقتات من حطام ذكرياتها الجميلة من زواج لم يدم أكثر من شهور قلائل، ثم تبدأ دوَّامات الأسئلة:
                      هل سأل عني فعرف أنني أرملة أم لم يسأل؟ وإن كان قد فعل فلماذا لم يتقدم لطلب يدي حتى الآن؟ بل لماذا لم يحاول الاقتراب مني؟ وهل هو متزوج أم لا؟ وإذا كان متزوجًا وطلبني للزواج.. هل أوافق؟
                      أسئلة كثيرة لم تستطع سعاد أن تعرف لها إجابات محددة، فقررت أن تكون أكثر إيجابية منه حتَّى تضع حدًّا لسلبيته.. أجل ستتوجه إليه غدًا وتطلب منه الحضور لبيتها لتركيب إطارات حديدية لنوافذ شقتها؛ فهي برغم أن شقتها في الطابق الثاني ونوافذها ليست بحاجة مُلحَّة لمثل هذه الإطارات لكنها الحيلة الوحيدة التي يمكنها اللجوء إليها حتى تستطيع أن تتحدث معه.. والأهم أن يتعرف إلى وضعها وظروفها.. ثم إنها ستكون فرصة له لفك عقدة لسانه.

                      وعلى مدى يومين متتاليين تمرُّ سعاد لتجد ورشة اللحام الصغيرة في الشارع الرئيسي مغلقة؛ إذًا لا مفرَّ من أن تسأل عنه بعض جيرانه، ولشد ما كانت صدمتها حين أتاها الجواب حاملا خبر زفافه...

                      إذن زميلي
                      لنحاول نهاية قريبة من النهاية الأصلية التي كتبتها
                      توجهت سعاد لورشة اللحام الصغيرة, تحمل العزم بين ثنايا روحها, وحلمها يتراقص بين عينيها.
                      دهشت حين وجدت الورشة مغلقة
                      داهمت رأسها الوساوس , بأنه ربما كان مريضا
                      سألت جيرانه بلهفة
                      أحست بألسنة اللهب تحرق داخلها, وهي تسمع جاره يجيبها مبتسما:
                      _ اليوم زفافه, سيدتي.

                      أرجوك زميل مختار أن لا تنزعج من تدخلي فهو نقاش ليس إلا ومحاولة لتقريب الرؤى وتبادلها بيننا
                      ودي الأكيد لك
                      الشمس شمسي والعراق عراقي ..ماغير الدخلاء من أخلاقي .. الشمس شمسي والعراق عراق

                      تعليق

                      • نادية البريني
                        أديب وكاتب
                        • 20-09-2009
                        • 2644

                        #12
                        أخي الفاضل مختار
                        قرأت برويّة ما خطّته أناملك وما فجّرته رؤيتك للواقع.
                        وجدتك تقتحم عالم هذه الأنثى لتسبر أغوارها وتستبطن أعماقها،امرأة تبحث عن الدّفء ولمّا وجدته فقدته بأسرع ممّا تصوّرت.
                        أعجبتني بنية النّص وهذه المقاربة الذّكيّة لألسنة اللّهب التي وردت على المجاز حينا وعلى الحقيقة حينا آخر.بحثت عمّن يطفئ اللّهب الدّاخليّ فوجدت من يضاعف تأجيج هذه النّيران.
                        كان السّرد مسترسلا لكن بالإمكان تجاوز بعض التّفاصيل.
                        يمكن أن تكون الخاتمة أكثر دهشة كما ذكر بعض الإخوة الكرام
                        دمت بخير أخي الكريم

                        تعليق

                        • مختار عوض
                          شاعر وقاص
                          • 12-05-2010
                          • 2175

                          #13
                          المشاركة الأصلية بواسطة مصطفى الصالح مشاهدة المشاركة
                          [align=center]صدمتني صديقي العزيز مختار

                          لا يحق لك ان تفعل بي هذا

                          لم اتوقعك بهذه القسوة

                          تمد لنا خيط الاسترسال ونستمتع باللحظات والكلمات ثم .. فجاة

                          تقطع الحبل لنقع في فخك على ظهورنا كالمصارع المهزوم!

                          لن اقول لك ماذا تسمى فعلتك هذه

                          كنت مدهشا

                          تحيتي وتقديري
                          [/align]
                          شكرا لحضورك الطيب أخي الكريم..
                          تعرف أنني دخيل مبتدئ في مجال القصة القصيرة، ولقد كان لإخوتي وأخواتي كتاب هذا الفن الجميل الفضل كل الفضل في تشجيعي؛ لذلك فإنني ممتن لحضورك ولحضورك الزملاء متقبلا - بكل الحب - نصائحهم الغالية، لذلك أحمد الله أن راقتك؛ أما عن القسوة والصدمة فأعتذر عنهما..
                          تقبل فرحي بمداخلتك وأنتظر انتقاداتك دائما لأنها - لا شك - تكون حافزا للتقدم..
                          مودتي لك.

                          تعليق

                          • مختار عوض
                            شاعر وقاص
                            • 12-05-2010
                            • 2175

                            #14
                            المشاركة الأصلية بواسطة عائده محمد نادر مشاهدة المشاركة
                            إذن زميلي
                            لنحاول نهاية قريبة من النهاية الأصلية التي كتبتها
                            توجهت سعاد لورشة اللحام الصغيرة, تحمل العزم بين ثنايا روحها, وحلمها يتراقص بين عينيها.
                            دهشت حين وجدت الورشة مغلقة
                            داهمت رأسها الوساوس , بأنه ربما كان مريضا
                            سألت جيرانه بلهفة
                            أحست بألسنة اللهب تحرق داخلها, وهي تسمع جاره يجيبها مبتسما:
                            _ اليوم زفافه, سيدتي.

                            أرجوك زميل مختار أن لا تنزعج من تدخلي فهو نقاش ليس إلا ومحاولة لتقريب الرؤى وتبادلها بيننا
                            ودي الأكيد لك
                            أسعدني اهتمامك وسرَّتني عودتك زميلتي..
                            لقد أثمر حوارنا وهاهي عودتك جاءت هذه المرة محملة بالخير الكثير..
                            أعلن موافقتي على هذا التصور للخاتمة بما شمله من روح القص والحوار بلمستك الراقية..
                            تقديري وفرحي بحضورك زميلتي عائدة.

                            تعليق

                            • مختار عوض
                              شاعر وقاص
                              • 12-05-2010
                              • 2175

                              #15
                              المشاركة الأصلية بواسطة نادية البريني مشاهدة المشاركة
                              أخي الفاضل مختار
                              قرأت برويّة ما خطّته أناملك وما فجّرته رؤيتك للواقع.
                              وجدتك تقتحم عالم هذه الأنثى لتسبر أغوارها وتستبطن أعماقها،امرأة تبحث عن الدّفء ولمّا وجدته فقدته بأسرع ممّا تصوّرت.
                              أعجبتني بنية النّص وهذه المقاربة الذّكيّة لألسنة اللّهب التي وردت على المجاز حينا وعلى الحقيقة حينا آخر.بحثت عمّن يطفئ اللّهب الدّاخليّ فوجدت من يضاعف تأجيج هذه النّيران.
                              كان السّرد مسترسلا لكن بالإمكان تجاوز بعض التّفاصيل.
                              يمكن أن تكون الخاتمة أكثر دهشة كما ذكر بعض الإخوة الكرام
                              دمت بخير أخي الكريم
                              أستاذتنا وأختنا الراقية
                              نادية البريني
                              لا أظنني أستطيع التعبير عن فرحي بحضورك وسعادتي بقراءتك الكاشفة الموغلة في عمق النص بل وفي عمقي ككاتب له.. أسعدتني قدرتك على الإلمام بالنص من جميع جوانبه والإشادة بكل من نواحي قوته ونواحي ضعفه.. لقد كنت دقيقة التعبير بدرجة مذهلة..
                              فتقبلي ودي وتقديري اللائقين بقلمك الراقي وذائقتك المبدعة..
                              كوني بالقرب دوما سيدتي فنصوصي في حاجة لمثل قلمك المبدع.

                              تعليق

                              يعمل...
                              X