ألسنة اللهب
.
.
.
.
.
كان لسان اللهب يلتهم أشياء في داخلها بقدر ما يشعرها بالدفء حتَّى أن هذا اللهب قد حول حياتها إلى سلسلة من العذابات تتخللها لحظات قليلة من الأمل؛ فالليل طويل، والفراش بارد، والوحدة ذئب ينهش المشاعر، وبرامج التليفزيون – على كثرة قنواته- صارت مملَّة وسخيفة، والمسلسلات والأفلام في قنواته المتخصصة باتت محفوظة متشابهة حتى أنها تستطيع إكمالها لنفسها بعد عدة مشاهد من بدايتها، والقراءة –التي كانت متعتها الكبرى قبل زواجها قصير العمر- لم تعد قادرة عليها.. أصبحت تملّها كما تملّ كلَّ شيء في حياتها، وإذا هي فكرّت في قضاء بعض وقتها في إعداد بعض الأكلات التي تتقنها فالنتيجة معروفة مسبقًا.. لا شهية لتناول الطعام بمفردها.. إنها تعيش وحيدة تماما في شقتها الكبيرة المثقلة بالأثاث التي لا يزورها فيها أحد تقريبًا؛ فأبواها قد تُوفِّيا قبل زواجها بسنوات ، وأختها الكبرى تعيش الآن مع زوجها مهندس البترول في إحدى دول الخليج وهي لا تراها إلا في إجازات الصيف السنوية، ولكن لماذا لا توطِّد علاقاتها وتتبادل الزيارات مع بنات خالتها المتزوجات في نفس المدينة التي تعيش فيها؟ صحيح.. لماذا؟ لكن الإجابة جاءتها محمَّلة بقائمة الشبهات الكفيلة بصدِّها عن مجرد الاستطراد في الفكرة؛ إذ كيف لها ألا تعمل حسابًا لغيرة بنات خالتها منها والشك في أنها تطمع في أزواجهن وهي العارفة بطباعهن؟
الغريب أن ساعات عملها في المدرسة التي تمثِّل فرصتها الثمينة في التخلِّص من ذئب وحدتها لم تكن تمرُّ هي الأخرى على أفضل حال؛ فهي وإن كانت تُبعد شبح هذا الذئب إلا أنها كانت كفيلة بإشعال نار من نوع آخر في جسدها وروحها.. نار لا تجد ما تأكله سوى مشاعر متأججة ورغبات كُتب عليها أن تظل حبيسة جدران قلبها؛ فالزميلات (وكلهن متزوجات) لا يكدن يجتمعن في أوقات فراغهن حتَّى يبدأن في الحديث حول أدق خصوصيات عش الزوجية غير مراعين لمشاعرها ولظروفها، والزواج.. لماذا لم تفكر في الزواج من آخر بعد أن خذلها زوجها ومضى إلى حيث لا يعود الرجال؟
لقد فعلت في سبيل ذلك الكثير، وإنها لم تألُ جهدًا في عرض نفسها في سوق الزواج غير متشددة في ذلك الأمر.. بل إنها كانت مستعدة لقبول ابن الحلال حتى لو كانت يداه خاليتين إلا من الستر، ولكن أين تجد ابن الحلال أو تجد الستر وغول العنوسة يغرز أنيابه في جسد مجتمع تهدده أزمة مالية طاحنة؟ وتتحكم فيه أسعار الشقق الباهظة والعادات البالية التي تغالي في طلب المهور؟؛ هذا غير مشكلة البطالة التي تعصف بالشباب عصفًا فتكون النتيجة اتجاههم إلى السفر لأوروبا وأمريكا والاقتران بالعوانس هناك من أجل الحصول على حقِّ الإقامة في تلك البلاد.
لا مفرَّ إذًا أن يتناوبها ذئب الوحدة في شقتها ونار رغباتها المحترقة في المدرسة، على أن نارًا أخرى كانت تترصدها في طريق عودتها اليومية من عملها.. كانت هذه النار تحمل في لهيبها بعض الدفء، وهي عندما خرجت في هذا اليوم من أيام الشتاء الباردة من مدرستها في طريقها المعتاد وأصبحت في ذاك الشارع القريب بدأت ألسنة اللهب تحرق داخلها ولكنها تشعر بها تلفح وجهها فتجلب الدفء.. هي لم تصل لمصدر النيران بعد، ولكنها تدرك أنها ستمرُّ بها بعد نحو عشرين مترًا وها هي تستشعر لهيبها قبل أن تصل إليها أو تراها.. إنها الآن في الشارع الذي يفضي آخره إلى الشارع الجانبي الذي تسكن فيه، وقد اعتادت عند مرورها أن ترقبه قابضًا بيمناه على مصدر اللهب ذي الخرطوم المتصل بأنبوبة الغاز الطويلة بينما تطعم يسراه النار أعواد القصدير التي يستخدمها في لحام المعادن، وما أن تصبح في مدى رؤيته حتى تترك كلتا يديه ما تقبضان عليه فتلتقي عيناهما في حوار خاص ترافقه ابتسامة تولد على وجهيهما رافضة أن تموت فتشعر بالخجل الشديد وتبحث قدماها عن الطريق في صعوبة بالغة وتكاد تتعثر في خطواتها التالية، وما إن تدخل شقتها حتى تتجه إلى مخدعها وتروح في أحلامها التي تقتات من حطام ذكرياتها الجميلة من زواج لم يدم أكثر من شهور قلائل، ثم تبدأ دوَّامات الأسئلة:
هل سأل عني فعرف أنني أرملة أم لم يسأل؟ وإن كان قد فعل فلماذا لم يتقدم لطلب يدي حتى الآن؟ بل لماذا لم يحاول الاقتراب مني؟ وهل هو متزوج أم لا؟ وإذا كان متزوجًا وطلبني للزواج.. هل أوافق؟
أسئلة كثيرة لم تستطع سعاد أن تعرف لها إجابات محددة، فقررت أن تكون أكثر إيجابية منه حتَّى تضع حدًّا لسلبيته.. أجل ستتوجه إليه غدًا وتطلب منه الحضور لبيتها لتركيب إطارات حديدية لنوافذ شقتها؛ فهي برغم أن شقتها في الطابق الثاني ونوافذها ليست بحاجة مُلحَّة لمثل هذه الإطارات لكنها الحيلة الوحيدة التي يمكنها اللجوء إليها حتى تستطيع أن تتحدث معه.. والأهم أن يتعرف إلى وضعها وظروفها.. ثم إنها ستكون فرصة له لفك عقدة لسانه.
وعلى مدى يومين متتاليين تمرُّ سعاد لتجد ورشة اللحام الصغيرة في الشارع الرئيسي مغلقة؛ إذًا لا مفرَّ من أن تسأل عنه بعض جيرانه، ولشد ما كانت صدمتها حين أتاها الجواب حاملا خبر زفافه...
الغريب أن ساعات عملها في المدرسة التي تمثِّل فرصتها الثمينة في التخلِّص من ذئب وحدتها لم تكن تمرُّ هي الأخرى على أفضل حال؛ فهي وإن كانت تُبعد شبح هذا الذئب إلا أنها كانت كفيلة بإشعال نار من نوع آخر في جسدها وروحها.. نار لا تجد ما تأكله سوى مشاعر متأججة ورغبات كُتب عليها أن تظل حبيسة جدران قلبها؛ فالزميلات (وكلهن متزوجات) لا يكدن يجتمعن في أوقات فراغهن حتَّى يبدأن في الحديث حول أدق خصوصيات عش الزوجية غير مراعين لمشاعرها ولظروفها، والزواج.. لماذا لم تفكر في الزواج من آخر بعد أن خذلها زوجها ومضى إلى حيث لا يعود الرجال؟
لقد فعلت في سبيل ذلك الكثير، وإنها لم تألُ جهدًا في عرض نفسها في سوق الزواج غير متشددة في ذلك الأمر.. بل إنها كانت مستعدة لقبول ابن الحلال حتى لو كانت يداه خاليتين إلا من الستر، ولكن أين تجد ابن الحلال أو تجد الستر وغول العنوسة يغرز أنيابه في جسد مجتمع تهدده أزمة مالية طاحنة؟ وتتحكم فيه أسعار الشقق الباهظة والعادات البالية التي تغالي في طلب المهور؟؛ هذا غير مشكلة البطالة التي تعصف بالشباب عصفًا فتكون النتيجة اتجاههم إلى السفر لأوروبا وأمريكا والاقتران بالعوانس هناك من أجل الحصول على حقِّ الإقامة في تلك البلاد.
لا مفرَّ إذًا أن يتناوبها ذئب الوحدة في شقتها ونار رغباتها المحترقة في المدرسة، على أن نارًا أخرى كانت تترصدها في طريق عودتها اليومية من عملها.. كانت هذه النار تحمل في لهيبها بعض الدفء، وهي عندما خرجت في هذا اليوم من أيام الشتاء الباردة من مدرستها في طريقها المعتاد وأصبحت في ذاك الشارع القريب بدأت ألسنة اللهب تحرق داخلها ولكنها تشعر بها تلفح وجهها فتجلب الدفء.. هي لم تصل لمصدر النيران بعد، ولكنها تدرك أنها ستمرُّ بها بعد نحو عشرين مترًا وها هي تستشعر لهيبها قبل أن تصل إليها أو تراها.. إنها الآن في الشارع الذي يفضي آخره إلى الشارع الجانبي الذي تسكن فيه، وقد اعتادت عند مرورها أن ترقبه قابضًا بيمناه على مصدر اللهب ذي الخرطوم المتصل بأنبوبة الغاز الطويلة بينما تطعم يسراه النار أعواد القصدير التي يستخدمها في لحام المعادن، وما أن تصبح في مدى رؤيته حتى تترك كلتا يديه ما تقبضان عليه فتلتقي عيناهما في حوار خاص ترافقه ابتسامة تولد على وجهيهما رافضة أن تموت فتشعر بالخجل الشديد وتبحث قدماها عن الطريق في صعوبة بالغة وتكاد تتعثر في خطواتها التالية، وما إن تدخل شقتها حتى تتجه إلى مخدعها وتروح في أحلامها التي تقتات من حطام ذكرياتها الجميلة من زواج لم يدم أكثر من شهور قلائل، ثم تبدأ دوَّامات الأسئلة:
هل سأل عني فعرف أنني أرملة أم لم يسأل؟ وإن كان قد فعل فلماذا لم يتقدم لطلب يدي حتى الآن؟ بل لماذا لم يحاول الاقتراب مني؟ وهل هو متزوج أم لا؟ وإذا كان متزوجًا وطلبني للزواج.. هل أوافق؟
أسئلة كثيرة لم تستطع سعاد أن تعرف لها إجابات محددة، فقررت أن تكون أكثر إيجابية منه حتَّى تضع حدًّا لسلبيته.. أجل ستتوجه إليه غدًا وتطلب منه الحضور لبيتها لتركيب إطارات حديدية لنوافذ شقتها؛ فهي برغم أن شقتها في الطابق الثاني ونوافذها ليست بحاجة مُلحَّة لمثل هذه الإطارات لكنها الحيلة الوحيدة التي يمكنها اللجوء إليها حتى تستطيع أن تتحدث معه.. والأهم أن يتعرف إلى وضعها وظروفها.. ثم إنها ستكون فرصة له لفك عقدة لسانه.
وعلى مدى يومين متتاليين تمرُّ سعاد لتجد ورشة اللحام الصغيرة في الشارع الرئيسي مغلقة؛ إذًا لا مفرَّ من أن تسأل عنه بعض جيرانه، ولشد ما كانت صدمتها حين أتاها الجواب حاملا خبر زفافه...
تعليق