تداعياتُ رجل لا يجيدُ الموت ..
أحرّك جفنيّ الثقيلين بصعوبة. أرفعهما كأنما أرفع ستائر من حديد . أفتح عيني . ترتطم نظرتي بسقف الغرفة ذي الطلاء الأبيض و نقوش الجبس المتداخلة . أحملق في الثّريا المتدلّية. أحاول جمع شتات ذاتي.
بالكاد أستطيع تحريك رأسي يمنةً ثم يسرة .
ترى كم الساعة الآن ؟ النور مضاء . يبدو أنّه الليل . أو بداية الليل . لون السماء من خلف زجاج النافذة المقابلة لسريري ينبئني أنّه الغروب. النهار يحتضر إذن . و أنا لا أزال هنا أخرس كالظل , وحيدا كتحفة أثرية . حزينا , أتوهّج برغبات صامتة , مكبوتة ، مستحيلة . صرت أخشي الاستيقاظ خاصة في الليل إذ يتوثّب عقلي كفرس جموح , يركض بي في كل الاتجاهات ..أسافر داخل نفسي , أوغل في غيابات روحي و أصغي إلى الصخب الذي يهزّ أعماقي و لا يسمعه غيري. تهاجمني الأسئلة مثل خفافيش سوداء بشعة لعينة . هل كان يجب أن يحدث ذلك لأكتشف حقيقة الحياة ؟
لا أذكر أين قرأت أنّه " لكي تفرح عليك أن تحزن أولا "..هل علينا أن نموت أولا لكي نحيا ؟.
أنتِ معي ؟ آه ..شكرا أنك لا تزالين هنا . أعرف كم أرهقتك .أرهقتكم جميعا . لم يَدُر في خلدي يوما أني سأنتهي هكذا.. جسدا متيبّسا , جاف الموارد , مفصولا عن الحياة , ملقىً على كتف الموت .
يا الهي ! من يزيح كثبان الرمال الجاثمة فوق ركبتيْ و صدري ؟ أهو ثقل الموت أم ثقل الخطايا ؟
" طهور إن شاء الله " يردّد كل من يزورني و أمي تتمتم من بين دموعها " جعله الله كفارة الذنب يا ولدي ".
هل معنى هذا أننا حين لا نكفّر عن ذنوبنا يتولّى الزمن المهمة عنا ؟
أتابعك بعينيّ . تتّجهين صوب النافذة . تحكمين غلقها . ترخين الستائر البنية السميكة , ثم تأخذين مكانك قربي على الكرسي . أتأملك مليّا . تبدين مختلفة كأني أكتشفك لأول مرّة . لم أرك أبدا بمثل هذا الوضوح و الصفاء , حتى في لحظاتنا الحميمة . الآن يمكنني رؤية تضاريس وجهك . التجاعيد الدقيقة حول عينيك أراها و الخال الذي يتوسط خدك الأيسر . كم آنت جميلة ! هل قلت لك يوما أني أجدك جميلة و أني أحب فيك تقطيب جبينك حين تغضبين ؟ لا , لم أقل ذلك يوما . أبدا . كنت بارعا في إخفاء مشاعري و تغليف أحاسيسي , و تأجيل كل قطوف الفرحة لمواسم أخرى لم تأت أبدا .هل أنتِ حاقدة عليّ ؟ حتى إنك لا تنامين بجانبي على السرير. لكنّي أتفهم ذلك .
غريبة..الآن صرت متفهّما و كنت أثور لو تأخّر الأكل خمس دقائق أو لمحتُ على قميصي بقعة غفلَتْ عن فركها يداك الجميلتان .
يغصّ صدري بالأسف. يطوّقني الندم . يغرقني طوفان من الحزن و المرارة . لا أحسّ بأيّ ألم, غير أنّي أشعر بالحمّى هنا داخل رأسي أما جسدي فمتصلّب كالصّخر, متخشّب و ثقيل , كجذع شجرة ضخمة غمرتها المياه . كانت أمي تقول أنّ الرأس سلطان الجسد .أكيد . لكن رأسي الآن سلطان منزوع الصلاحيات و بلا حاشية ! و إلا كيف يعجز عن إصدار الأوامر, و كيف أصدّق أنّي صرت بحاجة لمعجزة فقط لكي أحكّ ذقني !
تجلسين في سكون. تطالعين الجريدة .يتناهى إلى سمعي ضجيج الكائنات في الخارج . إنّه لشيء رهيب أن تنقلبَ حياتك رأسا على عقب بينما تستمر الحياة من حولك كأنّ شيئا لم يكن . أنت تبتسمين. أبناؤنا يذهبون إلى المدرسة كل يوم. الشمس تشرق كل صباح. ساعة الحائط تدق ببلادة. و أنا هنا, معلّق بين الموت و الحياة. أراقب الوقت يتمطّى كهرّ كسول. أنتظر و الانتظار أبشع صورة للموت .
غدا عملية جراحية ثالثة. الأمل كبير أكدّ الأطباء . بعدها سأدخل مركزا لإعادة التأهيل و أبدا من الصفر ..الحركة و الكلام و المشي . لا أدري كيف سأستطيع التشكّل من جديد و مدّ الجسور ثانية بين رأسي و جسدي ؟
حالفني الحظ و نجوت بأعجوبة. السائق الذي رافقني في المهمة تطاير جسده مع السيارة و تناثر أشلاءً . قفز إلى الضفة الأخرى و ارتاح .
أحيانا أتخيّل أنّي مكانه , مسجىً في القبر . أتصور الغرفة تضيق و تضيق حتى لتكاد جدرانها تطبق على ضلوعي, و السقف يهبط شيئا فشيئا حتى ليكاد يلامس ذؤابة أنفي . ينتابني شعور فظيع. أحس بالرعب .ثم أحمد الله أن جعل أكبر مزايا الموت شلل التفكير و الإحساس .
يُفتح باب الغرفة. يدلف ابننا الأوسط مسرعا . يبادرك متسائلا :
- كيف حاله الآن ؟
- الحمد لله . المهم أنه حيّ .. و أنه معنا .
تقفين متجهةً إلى الباب ..
_ ابق مع أبيك .سأعود حالا .
نعم . ابق معي . اجلس بجانبي على السرير. هل أنت خائف ؟ ألمح في وجهك ظلال الفزع . تفضّل الجلوس على الكرسي ؟ كما تشاء . أهو عتاب ما أقرأ في نظرتك أم حيرة و استغراب؟ أنت لا تصدّق حتى اللحظة أن أباك المتسلّط الجبّار مرميٌّ بلا حراك كدمية مشوّهة بلهاء تستدرّ الشفقة . ها أنا أحاول أن أبتسم لك ولكن دمعة تنفلت من عيني اليمنى غصبا عني. أترى . أنا أبكي . لست وحشا . كنت قاسيا معك صحيح .أردتك أن تكون قويا حتى لا تآكلك ذئاب الغاب . دائما آمنت أنّ القوة و القسوة وجهان لعملة واحدة . مدير الشركة اختارني للمهمة .كان علينا الفوز بالمشروع بأيّة طريقة . قال لي " أنت رجل صلب . لا يليق بهذه المهام سواك . " صلب ؟ أعرف أنّه يقصد " خبيث و فطن و يجيد المداهنة ." قال أيضا إنّه يثق في قوة شخصيّتي و قدرتي على الإقناع .
آه , يا ولدي , كم أحتاج الآن لمن يقنعني بأنّ ما أمرّ به مجرّد كابوس سأستفيق منه مع خيوط الفجر الأولى .
أتدري ؟ حين كنت في مثل سنّك تقريبا كنت صبيا شقيا, مشاغبا . دخلت يوما على جدّتك و أنا أركض .
سألتني فزعة: " ما بك ؟ لمَ تركض هكذا ؟ " أجبتها و أنا أفتعل التقاط أنفاسي اللاهثة « أمي..ك..ك..كان الموت يطاردني , غافلته و هربت منه."
نكتة سخيفة , أليس كذلك ؟ و لكن , مع أنّ الموت جادٌ و لا يعرف الدّعابة , لا أفهم الذي يفعله معي ؟ أم أنني سيء إلى هذا الحدّ ؟ حتى الموت لا أجيد الوصولَ إليه ؟
تعودين إلى الغرفة .ستناولينني الدواء ؟ نعم هات الحبّة المنوّمة . ارحميني من فاجعة اليقظة و سخرية الوقت . أقراص النوم أروع ما اخترعته الإنسانية !
أخرس كالظلّ من جديد, بائس و وحيد كتحفة أثرية, أحملق في الثريّا المتدليّة و في نقوش الجبس المتداخلة .أتابع دقات قلبي الضعيفة و أنفاسي الوئيدة كقافلة أنهكها المسير, ترتخي أجفاني الآن .إنّي أغرق في اللاشيء.
تعليق