جدران باردة../بسمة الصيادي

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • بسمة الصيادي
    مشرفة ملتقى القصة
    • 09-02-2010
    • 3185

    جدران باردة../بسمة الصيادي

    عاد من جولته اليومية . كان يوما شاقا، فأغلب الناس الذين استقلوا سيارة الأجرة التي يملكها ، اختاروا أبعد الأماكن ليقصدوها ،كأنهم يتقصدون إتعابه . عدة رحلات طويلة صامتة ، اعتاد فيها أن يكون حجرا، يتقمص شخصية أحد جدران غرفته الباردة، ويجلس كمسمار مثبت فيها، قد تخرج منه كلمة إن سأله أحدهم سؤالا. لكن أغلب الزبائن مصابون بالبكم أو بالغرور..!
    يبتلع ريقه عند كل مفترق، يتحسس الجفاف في حلقه، حتى كاد يفقد قدرته على الكلام نهائيا ، عموما هي لن تفيد ، هكذا كان يقول لنفسه ساخرا ..!


    هذه الليلة تغلغلت في حضن الخريف، في موته، سكونه الذي لا ينذر بالخير ولا بالطمأنينة . أطفأ محرك السيارة، وقبل أن يغادرها أخذ يتفقد ، إن كان أحدهم قد نسي فيها شيئا ، فلمح دمعة مرمية هنا ، وفرحة هناك ، وعلى المقعد تجمعت لمسات المحبين، وتلك الأم سقطت قبلتها لطفلها على الأرض . هناك من نسي بعض أحلامه وأنفاسه ، وآخر ترك وشوشاته مع أقربائه ، وكأنه أراد أن يغيظه في ذلك الحديث . قطرات من الأمل ملأت السيارة ، وقطرات يأس ،وصندوق ذكريات في الزاوية..!


    كيف لم ينتبه قبلا إلى كل تلك المفقودات والأطياف؟!


    اكتشف أن كل راكب عرفه ترك في السيارة شيئا من أثره، فإن يكونوا على قيد الحياة ، يعني أن رحيقا سينبثق منهم دوما، وندى سيقطر أينما تواجدوا..!


    تمعن فيما عثر عليه ، شعر بغصة قوية، أدار ظهره ونزل من السيارة ، نسي أن يقفلها، توجه بخطى متباطئة نحو غرفته الصغيرة . لم يكن أحد متواجدا لاستقباله . الفراش جثة مرمية على الأرض .الوسادة كانت ملقاة على ظهرها فاغرة فاهها ، لا تتحرك ، لا تتنهد . حتى الجدران غزاها شحوب الموت .. !


    ألقى نظرة ذابلة هنا ونظرة هناك ، تخيلها قبرا يدخله بقدميه، وجد نفسه متقوقعا في الزاوية، يكلم نفسه في الزاوية الثانية ، في الثالثة يطرق رأسه بالجدار ، وميتا في الزاوية الرابعة ...!


    كان يشعر أن الرياح قد تحمله في أي وقت . لم يكن مبال بأمر الرحلة ، لكنه تمنى لو أن منديلا يلوح له وقتها ..!


    دون تفكير سحب آخر خطواته ، ليعود إلى الخارج كانت سيارته تهمس له من بعيد . ابتسم بطرف عينه ، صعد إليها ، رمق مقاعدها ، فرمقه كل ما تركه الناس فيها . غافلته دمعة ، ثم ثانية وثالثة إلى أن تفجرت السدود ، فأخذت الأنهار مجراها نحو خديه ، سقت حزنهما فنبت الألم على الضفاف!


    هو الغريب القادم من مكان آخر، من عالم مختلف، من جنس منقرض . لفظته الأماكن ، حتى تلك القنبلة التي أخذت أفراد عائلته في ذلك اليوم المشؤوم، رفضته ..!
    أليس الوحيد الذي نجا في تلك السنة السوداء؟ لم لم تقتله الحرب كغيره؟ لم أرادته حيا وسط جثث؟ هل أرادته أن يتذوق طعم الموت حتى يدمنه، أن يتعثر بالأرواح المتصاعدة ليشاركها إحدى خطوات الرحيل ،فيموت معها ألف مرة !


    ضرب قبضته بمقود السيارة بقوة ، وتمتمت شهقاته التي ما عاد يقدر على أسرها:


    -أنا الشاهد الباقي على جرائمها تلك فكيف تركتني حيا؟ ألا تخاف أن أدينها ، ولو بكلمة؟ أم أنها تعي أنها هي نفسها المحاكمة؟ حكمت عليّ بالأعمال الشاقة الدائمة ، بردم كل ما فات، ردم ذاكرتي، وماضيّ .. لم لم تكرمني كباقي الشهداء ؟


    أصابه الجنون، رفع رأسه ، تابع بشن الهجوم عليها كأنها أمامه، أطلق عليها من غضبه القنابل ، رشقها بحجارة نيرانه ، طوقها بالإتهامات ، حاصرها . لكنها عاندت ، لم تمت بسهولة . ثار أكثر ، توحّش ، أطلق صرخات همجية ، ثم أدى دون وعي العملية الإنتحارية ..!


    تشقق المدى لتنبثق من شقوقه الشمس، كانت ساطعة ، نشيطة كعادتها، أيقظت المواعيد فتجمع بعض الناس حول السيارة، طرقوا على النافذة .."أوصلنا يا أنت" .. لم يسمعهم ولم يسمعوه .تجمع عدد أكبر من الناس ، انتبهوا لأول مرة أنهم لا يعرفون اسمه مع أنهم عاشروه سنينا ، حزّروا بعضهم، ولكنهم لم يفكروا طويلا، فالمواعيد لا تنتظر ...!


    .


    .
    1/12/2010
    التعديل الأخير تم بواسطة بسمة الصيادي; الساعة 01-12-2010, 22:57.
    في انتظار ..هدية من السماء!!
  • إيمان الدرع
    نائب ملتقى القصة
    • 09-02-2010
    • 3576

    #2
    صورة منتزعة ...من عمق الوجع ...
    أفلحت إلى حدّ بعيدٍ في إظهارها ...
    وتبيان المعاناة في مشاهد لا تنسى ...
    رائعة يابسمة ...
    تدخلين برؤيتك الإنسانيّة إلى أدقّ التفاصيل...
    فتخرج للنور لوحة تكاد تنطق لشدّة تأثيرها ...
    ومع أطيب أمنياتي ....تحيّاتي ...

    تعيش وتسلم يا ااااااوطني ...يا حبّ فاق كلّ الحدود

    تعليق

    • محمد فطومي
      رئيس ملتقى فرعي
      • 05-06-2010
      • 2433

      #3
      سكبت في نصّك الجديد نهرا من ضيم الغربة و التّلاشي التلقائي و الجبري الذي قد يخنق انسانيّة الذّات البشريّة و توقها الفطريّ للتّواصل مع الآخرين و رغبتها في تحسّس جذوة حرارة.
      كم هو بشع أن نصير أشياءً أستاذة بسمة المبدعة.
      شكرا لك على صدق القصّ الجميل.
      مدوّنة

      فلكُ القصّة القصيرة

      تعليق

      • عائده محمد نادر
        عضو الملتقى
        • 18-10-2008
        • 12843

        #4
        بسمة الصيادي غاليتي
        مع كل نص أجدك تنتزعين مني نظرة اعجاب جبرية
        لأنك بدأت تغزلين الغزل الجميل
        سرد جميل وشفاف
        عبارات رائعة
        وعمق في رؤية القضية
        جميلة أنت بسمة وتصبحين أجمل مع كل نص
        ودي الأكيد لك
        الشمس شمسي والعراق عراقي ..ماغير الدخلاء من أخلاقي .. الشمس شمسي والعراق عراق

        تعليق

        • بسمة الصيادي
          مشرفة ملتقى القصة
          • 09-02-2010
          • 3185

          #5
          المشاركة الأصلية بواسطة إيمان الدرع مشاهدة المشاركة
          صورة منتزعة ...من عمق الوجع ...
          أفلحت إلى حدّ بعيدٍ في إظهارها ...
          وتبيان المعاناة في مشاهد لا تنسى ...
          رائعة يابسمة ...
          تدخلين برؤيتك الإنسانيّة إلى أدقّ التفاصيل...
          فتخرج للنور لوحة تكاد تنطق لشدّة تأثيرها ...
          ومع أطيب أمنياتي ....تحيّاتي ...
          صباح الورد والرقة ..
          الأستاذة العزيزة إيمان الدرع
          كم أسعدني حديثك ..!
          المعاناة موجودة أمامنا وإن توارت خلف وجوه عديدة!
          إنها في كل مكان ..تنتظر من يراها..
          شكرا لك من القلب
          محبتي
          في انتظار ..هدية من السماء!!

          تعليق

          • آسيا رحاحليه
            أديب وكاتب
            • 08-09-2009
            • 7182

            #6
            نصٌ جميل بسمة..
            صحّحي ما يلي .

            فاغرة فاهها،
            إلى أن تتفجرت السدود
            ضرب قبضته بمقود
            محبّتي ..واصلي إبداعك .
            يظن الناس بي خيرا و إنّي
            لشرّ الناس إن لم تعف عنّي

            تعليق

            • ربيع عقب الباب
              مستشار أدبي
              طائر النورس
              • 29-07-2008
              • 25792

              #7
              هذه الليلة تغلغلت في حضن الخريف، في موته، سكونه الذي لا ينذر بالخير ولا بالطمأنينة . أطفأ محرك السيارة، وقبل أن يغادرها أخذ يتفقد ، إن كان أحدهم قد نسي فيها شيئا ، فلمح دمعة مرمية هنا ، وفرحة هناك ، وعلى المقعد تجمعت لمسات المحبين، وتلك الأم سقطت قبلتها لطفلها على الأرض . هناك من نسي بعض أحلامه وأنفاسه ، وآخر ترك وشوشاته مع أقربائه ، وكأنه أراد أن يغيظه في ذلك الحديث . قطرات من الأمل ملأت السيارة ، وقطرات يأس ،وصندوق ذكريات في الزاوية..!

              هنا كان مكمن السحر
              و من هنا كانت روح الإنسان تتفجر
              لتصل بنا إلى الجنون الجميل

              لى عودة لأكتب هنا
              sigpic

              تعليق

              • بسمة الصيادي
                مشرفة ملتقى القصة
                • 09-02-2010
                • 3185

                #8
                المشاركة الأصلية بواسطة محمد فطومي مشاهدة المشاركة
                سكبت في نصّك الجديد نهرا من ضيم الغربة و التّلاشي التلقائي و الجبري الذي قد يخنق انسانيّة الذّات البشريّة و توقها الفطريّ للتّواصل مع الآخرين و رغبتها في تحسّس جذوة حرارة.
                كم هو بشع أن نصير أشياءً أستاذة بسمة المبدعة.
                شكرا لك على صدق القصّ الجميل.
                صدقت أستاذ محمد فطومي القدير ..كم هو بشع أن نتحول إلى أشياء ..
                وأن نعيش في شتاء دائم ..!
                الدنيا ابتعدت عن المنحى الانساني بشكل كبير .. ومن يدري إلى متى ستستمر هذه البرودة ..!
                شكرا لك سيدي على الحضور العطر
                دمت بألف خير
                في انتظار ..هدية من السماء!!

                تعليق

                • بسمة الصيادي
                  مشرفة ملتقى القصة
                  • 09-02-2010
                  • 3185

                  #9
                  المشاركة الأصلية بواسطة عائده محمد نادر مشاهدة المشاركة
                  بسمة الصيادي غاليتي
                  مع كل نص أجدك تنتزعين مني نظرة اعجاب جبرية
                  لأنك بدأت تغزلين الغزل الجميل
                  سرد جميل وشفاف
                  عبارات رائعة
                  وعمق في رؤية القضية
                  جميلة أنت بسمة وتصبحين أجمل مع كل نص
                  ودي الأكيد لك
                  أستاذتي العزيزة دائما أقف صامتة بخجل أمام حضورك البهي
                  لا أدري ما أقوله ...
                  شكرا لك .. شكرا لدعمك الدائم وتشجيعك وشكرا لمحبتك الكبيرة التي أشعر بها دوما
                  تحيتي ومودتي
                  في انتظار ..هدية من السماء!!

                  تعليق

                  • بسمة الصيادي
                    مشرفة ملتقى القصة
                    • 09-02-2010
                    • 3185

                    #10
                    المشاركة الأصلية بواسطة آسيا رحاحليه مشاهدة المشاركة
                    نصٌ جميل بسمة..
                    صحّحي ما يلي .
                    فاغرة فاهها،
                    إلى أن تتفجرت السدود
                    ضرب قبضته بمقود
                    محبّتي ..واصلي إبداعك .
                    شكرا لك أستاذة آسيا على الحضور لجميل والملاحظات القيمة
                    أحب اهتمامك بالنصوص
                    تحياتي الحارة
                    محبتي
                    في انتظار ..هدية من السماء!!

                    تعليق

                    • بسمة الصيادي
                      مشرفة ملتقى القصة
                      • 09-02-2010
                      • 3185

                      #11
                      المشاركة الأصلية بواسطة ربيع عقب الباب مشاهدة المشاركة
                      هذه الليلة تغلغلت في حضن الخريف، في موته، سكونه الذي لا ينذر بالخير ولا بالطمأنينة . أطفأ محرك السيارة، وقبل أن يغادرها أخذ يتفقد ، إن كان أحدهم قد نسي فيها شيئا ، فلمح دمعة مرمية هنا ، وفرحة هناك ، وعلى المقعد تجمعت لمسات المحبين، وتلك الأم سقطت قبلتها لطفلها على الأرض . هناك من نسي بعض أحلامه وأنفاسه ، وآخر ترك وشوشاته مع أقربائه ، وكأنه أراد أن يغيظه في ذلك الحديث . قطرات من الأمل ملأت السيارة ، وقطرات يأس ،وصندوق ذكريات في الزاوية..!


                      هنا كان مكمن السحر
                      و من هنا كانت روح الإنسان تتفجر
                      لتصل بنا إلى الجنون الجميل


                      لى عودة لأكتب هنا
                      مساؤك ساحر أستاذي الغالي
                      يسرني أن القصة أعجبتك.. وأنك تحب هذا الجنون
                      أنتظر عودتك بفارغ الصبر
                      شكرا لك
                      تحياتي الحارة
                      في انتظار ..هدية من السماء!!

                      تعليق

                      • فايزشناني
                        عضو الملتقى
                        • 29-09-2010
                        • 4795

                        #12
                        تشقق المدى لتنبثق من شقوقه الشمس، كانت ساطعة ، نشيطة كعادتها، أيقظت المواعيد فتجمع بعض الناس حول السيارة، طرقوا على النافذة .."أوصلنا يا أنت" .. لم يسمعهم ولم يسمعوه .تجمع عدد أكبر من الناس ، انتبهوا لأول مرة أنهم لا يعرفون اسمه مع أنهم عاشروه سنينا ، حزّروا بعضهم، ولكنهم لم يفكروا طويلا، فالمواعيد لا تنتظر ...!

                        نعم المواعيد لا تنتظر أحداً
                        كم من جدران باردة احتضنت قلوباً تمرغت بأوحال النسيان
                        التصقتا ببعض حتى تشابهتا وكادت تسحقا بعضها
                        جميل وصفك له كيف فطن أو انتبه لبعض اللقى القيمة في سيارته
                        ذكرني ذلك المشهد بحالي وكيف كنت أشم رائحة السجناء وأتابع آثار أصابعهم على الجدران
                        وخيالات وخطوات وأشكال الأعزء في الغرف المنسية
                        كنت يا سيدتي موفقة في نقل الصورة المتشحة بالمرارة والضياع
                        أحييك على عطائك المتدفق
                        مع كل التقدير
                        هيهات منا الهزيمة
                        قررنا ألا نخاف
                        تعيش وتسلم يا وطني​

                        تعليق

                        يعمل...
                        X