عاد من جولته اليومية . كان يوما شاقا، فأغلب الناس الذين استقلوا سيارة الأجرة التي يملكها ، اختاروا أبعد الأماكن ليقصدوها ،كأنهم يتقصدون إتعابه . عدة رحلات طويلة صامتة ، اعتاد فيها أن يكون حجرا، يتقمص شخصية أحد جدران غرفته الباردة، ويجلس كمسمار مثبت فيها، قد تخرج منه كلمة إن سأله أحدهم سؤالا. لكن أغلب الزبائن مصابون بالبكم أو بالغرور..!
يبتلع ريقه عند كل مفترق، يتحسس الجفاف في حلقه، حتى كاد يفقد قدرته على الكلام نهائيا ، عموما هي لن تفيد ، هكذا كان يقول لنفسه ساخرا ..!
يبتلع ريقه عند كل مفترق، يتحسس الجفاف في حلقه، حتى كاد يفقد قدرته على الكلام نهائيا ، عموما هي لن تفيد ، هكذا كان يقول لنفسه ساخرا ..!
هذه الليلة تغلغلت في حضن الخريف، في موته، سكونه الذي لا ينذر بالخير ولا بالطمأنينة . أطفأ محرك السيارة، وقبل أن يغادرها أخذ يتفقد ، إن كان أحدهم قد نسي فيها شيئا ، فلمح دمعة مرمية هنا ، وفرحة هناك ، وعلى المقعد تجمعت لمسات المحبين، وتلك الأم سقطت قبلتها لطفلها على الأرض . هناك من نسي بعض أحلامه وأنفاسه ، وآخر ترك وشوشاته مع أقربائه ، وكأنه أراد أن يغيظه في ذلك الحديث . قطرات من الأمل ملأت السيارة ، وقطرات يأس ،وصندوق ذكريات في الزاوية..!
كيف لم ينتبه قبلا إلى كل تلك المفقودات والأطياف؟!
اكتشف أن كل راكب عرفه ترك في السيارة شيئا من أثره، فإن يكونوا على قيد الحياة ، يعني أن رحيقا سينبثق منهم دوما، وندى سيقطر أينما تواجدوا..!
تمعن فيما عثر عليه ، شعر بغصة قوية، أدار ظهره ونزل من السيارة ، نسي أن يقفلها، توجه بخطى متباطئة نحو غرفته الصغيرة . لم يكن أحد متواجدا لاستقباله . الفراش جثة مرمية على الأرض .الوسادة كانت ملقاة على ظهرها فاغرة فاهها ، لا تتحرك ، لا تتنهد . حتى الجدران غزاها شحوب الموت .. !
ألقى نظرة ذابلة هنا ونظرة هناك ، تخيلها قبرا يدخله بقدميه، وجد نفسه متقوقعا في الزاوية، يكلم نفسه في الزاوية الثانية ، في الثالثة يطرق رأسه بالجدار ، وميتا في الزاوية الرابعة ...!
كان يشعر أن الرياح قد تحمله في أي وقت . لم يكن مبال بأمر الرحلة ، لكنه تمنى لو أن منديلا يلوح له وقتها ..!
دون تفكير سحب آخر خطواته ، ليعود إلى الخارج كانت سيارته تهمس له من بعيد . ابتسم بطرف عينه ، صعد إليها ، رمق مقاعدها ، فرمقه كل ما تركه الناس فيها . غافلته دمعة ، ثم ثانية وثالثة إلى أن تفجرت السدود ، فأخذت الأنهار مجراها نحو خديه ، سقت حزنهما فنبت الألم على الضفاف!
هو الغريب القادم من مكان آخر، من عالم مختلف، من جنس منقرض . لفظته الأماكن ، حتى تلك القنبلة التي أخذت أفراد عائلته في ذلك اليوم المشؤوم، رفضته ..!
أليس الوحيد الذي نجا في تلك السنة السوداء؟ لم لم تقتله الحرب كغيره؟ لم أرادته حيا وسط جثث؟ هل أرادته أن يتذوق طعم الموت حتى يدمنه، أن يتعثر بالأرواح المتصاعدة ليشاركها إحدى خطوات الرحيل ،فيموت معها ألف مرة !
أليس الوحيد الذي نجا في تلك السنة السوداء؟ لم لم تقتله الحرب كغيره؟ لم أرادته حيا وسط جثث؟ هل أرادته أن يتذوق طعم الموت حتى يدمنه، أن يتعثر بالأرواح المتصاعدة ليشاركها إحدى خطوات الرحيل ،فيموت معها ألف مرة !
ضرب قبضته بمقود السيارة بقوة ، وتمتمت شهقاته التي ما عاد يقدر على أسرها:
-أنا الشاهد الباقي على جرائمها تلك فكيف تركتني حيا؟ ألا تخاف أن أدينها ، ولو بكلمة؟ أم أنها تعي أنها هي نفسها المحاكمة؟ حكمت عليّ بالأعمال الشاقة الدائمة ، بردم كل ما فات، ردم ذاكرتي، وماضيّ .. لم لم تكرمني كباقي الشهداء ؟
أصابه الجنون، رفع رأسه ، تابع بشن الهجوم عليها كأنها أمامه، أطلق عليها من غضبه القنابل ، رشقها بحجارة نيرانه ، طوقها بالإتهامات ، حاصرها . لكنها عاندت ، لم تمت بسهولة . ثار أكثر ، توحّش ، أطلق صرخات همجية ، ثم أدى دون وعي العملية الإنتحارية ..!
تشقق المدى لتنبثق من شقوقه الشمس، كانت ساطعة ، نشيطة كعادتها، أيقظت المواعيد فتجمع بعض الناس حول السيارة، طرقوا على النافذة .."أوصلنا يا أنت" .. لم يسمعهم ولم يسمعوه .تجمع عدد أكبر من الناس ، انتبهوا لأول مرة أنهم لا يعرفون اسمه مع أنهم عاشروه سنينا ، حزّروا بعضهم، ولكنهم لم يفكروا طويلا، فالمواعيد لا تنتظر ...!
.
.
1/12/2010
1/12/2010
تعليق