السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
قــراءة فــي قصيــدة
نشيــد آخــر المتصــوفة
لمنيــر الرقــي
حياتنا سطور مكتوبة على قارعة الطريق أو أحرف وجدت نفسها على قارعة السطر
هي الكتابة تكتبنا على صفحات بيضاء تستأصل منا أجمل أو أقبح ما فينا أو لعل القبح و الجمال يتواصلان و يتكاملان فتعزف لنا الكلمات سنفونية الحياة التي عشناها أو التي لم نعشها بعد , أو التي هي كامنة فينا تنتظر وقت رحيلها عنا لتعانق الحرف و تتهادى على السطر فتكون إبل صحرائنا و نكون الحادي الذي يرافق مسيرها و يرتل الحرف على وقع خطاها
هذا ما خطه قلم الشاعرمنير الرقي في هذه القصيدة التي تعزف لحن الحياة الإنسانية أو لنقل تطربنا بوشوشات بحرنا الداخلي الذي يزخر بما لم تشاهده عين و لا سمعته أذن لكن أفصحت عنه كلمة كانت طائر النورس الذي خرج لنا من أعماق الشاعر محملا بجواهر من كلام لا تشبهنا لكنها مرآة شفافة نرى فيها أنفسنا فتنعكس الصورة و تبوح لنا بكلمات ليست كالكلمات و بمعاني عاشت فينا الغربة و الشتات فهي منا و إلينا لكنها توارت وراء حجاب و خيرت الإغتراب على المواجهة و الكمون على الظهور مخافة أن تغتالها نظراتنا القاصرة على فهم كنه وجودها و على إدراك جمالها
و لأننا قساة عراة نشوه الكلمات قبل إغتيالها و نتركها أشباحا هائمة تبحث عن مأوى بعد أن لفظها قاع بحرنا الزاخر بالحياة حملها الموج على عاتقه و ألقاها على أعتاب حياتنا
فشتان بين ما يلفظه البحر و بين ما يلقيه بين أيدينا نورس الشعر
حاورتني كلمات القصيدة فكان هذا همسها الدافيء الذي أبى قلمي إلا أن يخطه على بياض صفحاتي لتكون إمتدادا لبحر الشاعر فنطرب لمده و زجره و نتفاعل مع سكينته و غضبه و تمتلأ العين بجمال ألوانه و نغمض الجفن على سحره
رغم ما يتسور محراب القصيدة من ألم و معاناة إلا أننا نجد مسحة شفافة من الجمال تغشاها و تتسلل ما بين السطور لتنسج نفسها و تكون رداء ناسك متعبد في محراب الحب و العشق و الوجد
ربما هو هذا الإحساس بتواصل الجمال و القبح و الظلمة و النور ما جعلني أسمع بأذن عاشقة وواعية لهمسات حب دافق و كأنها سيول تتهادى من عمق البحر لتسقى جدب الأرض العطشى حد التشقق للحب و الوصال
و هذا العطش يعبر عنه الشاعر بحرقة و كأنه في صحراء قاحلة يكتنفها السراب و الفقر من الماء والذي هو نبع الحياة .و هذا القفر هو ما يعيشه صاحب القصيدة بكل كيانه ووجوده الإنساني
فالشاعر في هذه القصيدة كأنه الحادي الذي يرتل ترانيم روحه المعذبة فهو نشيده الزاهد في كل ملذات الحياة التي تعيش في نفسه والتي رغم غناها فهي تذيقه الهوان ربما لأنه يريد أن يكون آخر المتصوفة ليقطع ما بينه و ما بين حياة أذاقته مرارتها و عرت له قبحها فأكتشف لعبة الخيال الذي يفترش الغواية و يلتحف بالسراب
قُومَا إليَّ و علّلانِي ***لا تَدْريان بما أُعاني
نفسي دعَتْني فصبّحتْني ***جَنَتْ فبِتّ على هوان
شَبّتْ جمالا بَدا زلالا *** فمَا رواني الذي غَواني
ثم استعرَّتْ وقد تعرَّتْ *** كانت سرابا وقد سباني
مَدَّتْ شرابا طفا حُبَابًا *** كانت تَرانِي ولا أَرَانِي
تقول هلاّ ترُومُ مَهْلاً *** و واعدَتْنِي هوًى عَدَاني
يفصح النص عن معانات الإنسان الواعي بحزن و ألم دفين داخله لا يستطيع التخلص منه و كأنه جبل راسخ يجثم على كيانه فيسحقه وجع لا يدري مصدره و لا مآله سوى أنه يعيش حاله و لا يستطيع التخلص من معانات تزلزل كيانه فتتشقق أرضه و تخرج هذا المخزون الإنساني من ألم دفين مصدره الغواية و التي أدركتها النفس فكدرتها فلا هي مستمتعة بالحياة و لا هي قادرة على دفن ما فيها من موت فكأن النفس سبية بيد الغواية تعيش التناقض الصارخ : الموت و الحياة السجن و الحرية القبح و الجمال في نفس اللحظة لينتفي الزمان و المكان و تبقى المعانات هي قوت النفس اليومي .
حتى يصل الشاعر إلى هذا التعبير بالكلمة المُجسِدة للصورة لا بد أن يكون له وعي متقدم أو لنقل قد تخلص من الجاذبية الأرضية و قطع أشواطا عموديا حتى يستطيع أن يرى الأشياء مكتملة غير مجزئة و لا مشوهة و يعبر عن الصورة الحقيقية لنفسه كيف هي ؟ و كيف يجب أن تكون بمعنى لا يستطيع أن يميز بين الأشياء حتى يرى بأم رأسه الشيء و ضده ليقدر على التمييز بين الحقيقة و الخيال و الذي هو مرتبط بالواقع فعندما يكون الإنسان في صحراء قاحلة يبحث فيها عن الماء فكل كيانه متوجه نحو قطرة منه فيتمثل له السراب في كل خطوة يخطوها لهذا يرتبط الخيال بالواقع في ذهن الشاعر و تكون الحقيقة غائرة داخله لا يستطيع إستخراجها إلا بعد أن يُجَهز لها أدواتها
و إدراك الحقيقة لا يكون حتى تتجلى الصورة الكامنة في هذا الداخل الإنساني أمام نظر القلب فالرسم الحقيقي للحقيقة كامن في فطرة الشاعر و هذا ما يجعله في سباق محموم يبحث عن وجود غائب حاضر في زمان موجود مفقود هي مفارقة يعيشها الإنسان في كل لحظة في حياته فهناك من هو مدرك لوجودها فيعيش معاناته وهو واعي و هناك من إحتضنته ملذات الحياة فأسكرته و عاش التيه و العطش وهو مثمول و فاقد للوعي و الإدراك بوجوده كإنسان فاعل له رسالة مقدسة على مستوى محيطه الصغير و الكبير
و حين هُمّ الفؤادُ غَمًّا *** وعِيلَ صبْرِي الّذِي بَرَانِي
وحين رام الفؤادُ وصْلا *** رأيتُ نصْلا وقد رماني
رنت بطرفِ العُيُونِ هزْءًا *** وقيل: "الآن قد تراني
خلعتُ ثوْبِي تَعَالَ قُربِي *** فأنْتَ خِلِّي الذي دَعَانِي".
وعي الإنسان بوجوده يكسبه قدرة على مشاهدة الحقيقة و التي لا تفصح عن نفسها حتى تتجلى للفرد كل مكوناتها بمعنى ما نعيشه في حياتنا ليس هو الحقيقة بل جزء منها لا تكتمل هذه الحقيقة حتى نشاهد الجزء الآخر وهو كامن في عمق بحر الإنسان وعلى أرضه التي فطره الله عليها و هذا ما أفصحت عنه القصيدة
رنت بطرفِ العُيُونِ هزْءًا *** وقيل: "الآن قد تراني
هذه الرؤية للحقيقة تجعله يعيش مقام الخلة وهو عند الصوفية يعنى أن الحقيقة تتخلل وجود الإنسان فيراها بعين البصيرة و يعيشها بكيانه المادي و المعنوي وهو التوحيد في أسمى تجلياته فيعيش الإنسان حالة من الخشوع لا يعرفها غيره لأن ظاهره يتطابق مع باطنه فتكون السعادة و التي لا تحول و لا تزول مدى
حياته
حياته
رأيْتُ قُبْحًا قد زاد ضَبْحًا *** رأيْتُ مسْخًا بِلا كِيَان
رأيتُ نفْسِي قَرِيبَ رَمْسِي *** و ألبَسَتْنِي أسًى كَسَانِي
كرِهْتُ رُوحِي فقُلتُ رُوحِي *** إذنْ ونُوحِي قد آن آني
رأيت فيَّ الجمَال غِيّا *** فأيْن يَبْغِي الفِرارَ جَان
عندما يرى الإنسان حقيقة نفسه و تتجلى له مكوناتها و أبعادها الثلاثة يستطيع أنذاك أن يميز بين الواقع و الخيال و ما يجب أن يكون ....تصدمه الحقيقة و يحزنه وضعه وحاله و مآله و يرى بأم رأسه القبح و الجمال ليشهد على نفسه و يختار سبيله فليس له إلا التخلص من نفسه الباغية و تجريدها من هواها فكل ما كان يعيشه أو يتبناه من مفاهيم للحب و الجمال هو سراب من صنع خياله
ما قرأته هنا هو قصيدة تنبض بالحياة و كأنها تتحدث عن نفسها و ليس هناك من كتبها فهي تحكي مأساة
الإنسان مع نفسه و معاناته التي ألقت به في غياهب جبه فأصبح لا يرى إلا ما تيسر له رؤيته في الظلام الدامس لا ينقذه من هذا الجب إلا سعيه بالفكر و الساعد بمعنى لا بد أن يسلك طريق طهارة النفس بالفكر أولا وبإرساء قواعد جديدة لحياته و كبح جماح الخيال و الحد من قدرته على الغوص في بحر الملذات المحرمة و التأمل و سبر أغوار الماضي و الحاضر فتنشط حركة الفكر و تجعل الإنسان في سباق مرير مع نفسه فكلما دعته تريث و أعمل فكره في أقواله و أفعاله و كبح جماحها إذا دعته إلى الهلاك
الإنسان مع نفسه و معاناته التي ألقت به في غياهب جبه فأصبح لا يرى إلا ما تيسر له رؤيته في الظلام الدامس لا ينقذه من هذا الجب إلا سعيه بالفكر و الساعد بمعنى لا بد أن يسلك طريق طهارة النفس بالفكر أولا وبإرساء قواعد جديدة لحياته و كبح جماح الخيال و الحد من قدرته على الغوص في بحر الملذات المحرمة و التأمل و سبر أغوار الماضي و الحاضر فتنشط حركة الفكر و تجعل الإنسان في سباق مرير مع نفسه فكلما دعته تريث و أعمل فكره في أقواله و أفعاله و كبح جماحها إذا دعته إلى الهلاك
فتتطابق الحركة الداخلية على مستوى الفكر و الحركة الخارجية لتقويم و تهذيب سلوك الإنسان حتى يسترجع إنسانيته المولودة لكنها مفقودة في حاضره و مستقبله و ذلك على المستوايين الفكري و العملي
فصِرْتُ أعْدُو ولسْتُ أعْدُو *** كأنّ سَعْيِي إلى مَكَانِي
فلسْتُ أدْرِي أكنْتُ أمْشِي *** أم السّبِيلُ الذي مَشَانِي
يا صاحبيَّ لهَوْتُ دهْرِي *** فصَارَ أمْرِي ككل فان
المعانات بالنسبة للإنسان الواعي تجعل الحزن يستولي على مشاعره فيعيش الندم و يتذكر كل أفعاله التي أوصلته إلى حالته تلك و يعمل جاهدا على تقويم نفسه و تهذيب سلوكه بالإعتراف أولا بأعماله المشينة ثم بالإقلاع عنها و تعويضها بخير منها وهي مجاهدة مريرة تأخذ من الإنسان الوقت و الجهد الفكري و الجسدي حتى يستطيع تجاوز نفسه و ردعها عن غيها و التحكم في ميولها
و مجاهدة النفس تثمر معرفة بها و وعيا تدريجيا بما هي عليه و بما يجب أن تكون عليه فالإعتراف هو سيد الأدلة على النفس لأنه يجعلها أمام صورتها القبيحة و في المقابل يضع أمامها صورتها الجميلة إذا ما أراد الإنسان أن يقتنع بها و يسعى إلى إكتسابها لهذا نجد هذا السيل من الإعترافات و كأن الشاعر يجلد نفسه لكنه في الحقيقة وعي بمعاناته و أسبابها التي خلفت له هذا الحزن و الأسى و الذي إقترن به دون قران و لايتقشع عنه حتي يدرك و يسبر اغوار نفسه و كل ما خفي في طياتها و أحتفظت به ليوم غفلة
و هذا الوعي بالحقيقة يفتح للإنسان بابا آخر ألا وهو مآله المحتوم في يوم تنشر فيه الصحف و تقرأ على الملآ فالشاعر يفتح عينا على ما بنفسه و أخرى على مآلها و بين هذا و ذاك يبقى له إختيار و سلوك طريق الخلاص
و هنا لا بد له أن يعيش مقام الفناء والذي هو نفي و إثبات و كأن أرضه تضيق عليه لتتسع و يمرض ليصح و يحزن ليفرح فتصبح له نظرة أخرى للأشياء ليست كما كانت عليه فتتغير المفاهيم و تتجلى على حقيقتها فيعيش الفناء و البقاء الموت و الحياة
و للصوفية مفاهيم فلسفية وجودية خاصة فالفناء هو الموت المعنوى بمعنى تموت في السالك الدنيا و ملذاتها و لا يقتني منها إلى ما يقيم أوده مع بعض الضروريات الملحة حتى يحافظ على حياته و يتخلص من عالم الرسوم المغذية للخيال حتى لا تثبت فيه إلا الحقيقة فهو موت الصورة قبل موت الجسد
يتبع
تعليق