(3) الموقف على حقيقته الآن
العناصر الحقيقية للأزمة فى لبنان
محمد حسنين هيكل
1958/6/25
الأهرام المصرية
الذئب الجريح فى الجبل
العناصر الحقيقية للأزمة فى لبنان
محمد حسنين هيكل
1958/6/25
الأهرام المصرية
الذئب الجريح فى الجبل
والآن بعيداً عن "الخديعة الكبرى"، و"ظروفها"، و"حكاياتها" و"مشاهدها"، ما هى العناصر الحقيقية للأزمة فى لبنان؟
لقد كان يجب أن يكون لبنان، ولبنان بالتحديد، أبعد بقعة فى الشرق الأوسط عن الأزمات :
لمجموعتين من الأسباب :
مجموعة منها أن لبنان ، لا يعانى ما تعانيه المنطقة من حوله ، من مشاكل، فمستوى الدخل القومى فى لبنان معقول، ومستوى التعليم العام، أكثر من معقول!
والمجموعة الثانية أن للبنان ظروفاً سياسية يتميز بها، وهذه الظروف تنبع أولاً من طبيعة تكوينه، ثم تستمد قوتها بعد ذلك - خصوصاً فى السنوات الأخيرة - من ميثاق لبنان الوطنى، الذى جمع الطوائف المختلفة، والعقائد والآراء والتيارات، داخل إطار واحد وافقت عليه جميعاً، وارتضته، وحددت على هداه مواقع خطواتها!
بعد هاتين المجموعتين من الأسباب كان يجب أن يصبح لبنان الآن واحة فى طرف الصحراء.
كان يجب أن يبقى بقعة هادئة وادعة، فى منطقة هائجة مائجة، تعيش فترة خطيرة من تاريخها، تكاد أن تكون أقرب شبهاً بلحظات المخاض، حين تحدث معجزة الخلق العظمى، وتخرج حياة من حياة، وتنفصل روح عن روح، ويبرز من أعماق الكيان القديم، كيان جديد وليد.
وكان يجب أن يظل لبنان، أرضاً محايدة فى الشرق الأوسط المضطرب.
بل إن وجود لبنان على هذا النحو، كان ينبغى أن يكون ضرورة أساسية، لو لم توجد بحكم ظروفها، لوجب أن توجد بحكم الحاجة إليها.
لقد كانت سويسرا المحايدة فى وسط أوروبا ضرورة.
وكان لابد للبنان - وظروفه مثالية لذلك - أن يصبح "سويسرا" ثانية فى قلب الشرق الأوسط!
لماذا إذن هبت العواصف الهوج على لبنان، بددت أمنه، وضيعت سلمه، وصبغت بلون الدم، القمم البيضاء الشاهقة من جباله، ثم هى توشك أن تنقله من مكانه فوق خريطة الأرض، من موضع سويسرا فى قلب أوروبا، إلى موضع كوريا فى الطرف الشرقى القصى من آسيا؟!
السبب: بصراحة ووضوح هو:
أن حكام لبنان فى الآونة الأخيرة، فتحوه للحرب الباردة، وجعلوه ميداناً تتصارع فيه القوى وتتصادم.
وبدل أن يكون أرضاً محايدة أصبح ميداناً للقتال.
وبدل أن يكون أرض لقاء بين الجميع، أصبح أرض الخلاف بين الجميع!
أقول حكام لبنان وأحدد.
ولم يكن فى استطاعة غيرهم - ولا فى مقدوره - أن يصنع فى لبنان هذا الذى حل به. ومن عجب أنهم اليوم يحاولون الفرار من مسئولية النار التى أشعلوها وذلك بأن يمدوا أصابع الاتهام إلى الجمهورية العربية المتحدة، لكن فاتهم أن الجمهورية العربية المتحدة، لم يكن فى مقدورها - ولا هو فى صالحها - أن تشتعل النار فى لبنان!
وما هى مصلحة الجمهورية العربية المتحدة فى لبنان؟
هل تريد الجمهورية العربية المتحدة - كما يقول كميل شمعون - أن تضم لبنان إليها؟
أو هل تريد الجمهورية العربية المتحدة - كما يقول سامى الصلح - أن تشد لبنان إلى جانبها فى الصراع بينها وبين حلف بغداد؟
قبل أن نرد على هذين السؤالين، يجب أن نقدم للرد عليهما بسؤال آخر:
- ما هى قيمة لبنان؟
إذا فقد لبنان وضعه الخاص - كأرض لقاء - وسط منطقة تعيش صراع حياتها الكبير، فما هى ميزته؟
سوف يصبح جبلاً، ككل الجبال، جبلاً جميلاً - ربما - على سفوحه زهور برية وعلى قممه عمائم من ثلوج، ولكن الدنيا ملئى بالجبال، والزهور البرية، وعمائم الثلوج!
وإذا ضيع لبنان ميثاقه الوطنى، كضمان للاستقرار فيه، فما هو مستقبله؟
مليون من البشر، يتعاركون ويتصارعون، ولا ينتهى العراك بينهم والصراع، حتى يسقط منهم وسط ضحايا المعركة، أحسن ما كان عندهم وأبقى.
إذن ماذا؟
من غير وضع لبنان الخاص فى وسط المنطقة، ومن غير ميثاق لبنان الوطنى، فى قلبه، لا تصبح للبنان ذاته أى قيمة بل أكثر من ذلك - ولنواجه الحقيقة بجفافها وقسوتها - من غير هذا كله يصبح لبنان غرماً، لا غنماً، ويصبح نقمة ليس فيها أثر للنعمة!
وأى قيمة للبنان على هذا النحو، حتى تسعى الجمهورية العربية المتحدة لتضمه إليها؟
وأى قيمة للبنان على هذا النحو، حتى تحاول الجمهورية العربية المتحدة أن تجنده فى صفها، ضد حلف بغداد، وحلف بغداد، ليس هو العروش الهاشمية الواهية المتداعية، وإنما هو الاستعمار بأساطيله، وقواعده، وجحافله!
كيف فعلها إذن حكام لبنان، ولماذا؟
كيف حولوا جبلهم الجميل العريق من أرض حياد، إلى أرض معركة.. من ميدان لقاء، إلى ميدان قتال؟!
على رأس القائمة هنا، بين حكام لبنان، رجل يصرخ الآن على الجبل، كأنه الذئب الجريح، وهنا مكمن من مكامن الخطر الذى يحلق اليوم فوق الجبل، ويعلق مصيره ومستقبله، بخيط أوهى من نسيج العنكبوت!
لقد جاءت النهاية، ولكن الذئب الجريح، يستجمع كل ما بقى فيه بعد النزيف من حياته، ويدفعها بكل ما يملأ قلبه الآن من يأس وحقد وألم، لكى ينهش الذين يتصور أنهم السبب فى مصيره، نهشة مسعورة مسمومة، حتى ولو كلفته آخر نفس له فى الحياة!
تلك باختصار، هى الصورة الحقيقية الآن لكميل شمعون!
لقد كان "الذئب" يريد أن تبقى السلطة فى يده، وأن يظل - ولو ست سنوات أخرى - رئيساً لجمهورية لبنان.
ولم يكن الذئب مدفوعاً بفكرة أو مبدأ أو إيمان.
وإنما - ككل الذئاب - كان همه أن يخطف ويجرى!
ولم يكن فى أسلوبه وهو يجرى وراء غنيمته استقامة، ولا كان فيها يقين... ولم تكن فيها كذلك شجاعة أو شرف!
كان يريد أن يكون رئيساً للجمهورية، فكيف رتب خطواته إلى ما يريد؟
1 - اعتقد أن تيار القومية العربية قد اندحر فى السويس، وأن الغرب ستكون له السيادة على المنطقة، إلى ما بعد الأبد، وهكذا أعلن فى غير تردد أو مواربة أنه خادمه فى المنطقة ووكيله، وهكذا راح يجعل من لسانه، سوطاً على القومية العربية، وراح يقول - كما قال لدرو بيرسون الصحفى الأمريكى المعروف وقد نشر بيرسون ما سمعه من شمعون:
كان يجب أن تتركوا الغزو الثلاثى ضد مصر يمضى فى طريقه حتى يحقق أهدافه.
2- وتصور أن لبنان لا يهمه غير المال، فباع لبنان لمشروع أيزنهاور، ولم يجد فى تبرير قبوله لمشروع أيزنهاور إلا أن يلوح بالمكاسب الهائلة التى سوف تعود على لبنان من مشروع أيزنهاور، بل إن الحياء لم يمنعه من أن يشير بنصف عين، وغمضة رمش، إلى ما سوف يربحه لبنان من نزول بحارة الأسطول الأمريكى السادس إلى ليالى بيروت الصاخبة الدافئة!
3 - وظن أن اللعبة الطائفية فى لبنان أداة صالحة للاستغلال، وهكذا بدأ بخفة ذئب حقيقى، يلعب على حبلين فى وقت واحد.
قال للمسيحيين: أن تيار القومية العربية هو فى حقيقة قيامه إسلامى، وأن المسيحية المارونية فى لبنان، مهددة بأن تصبح أقلية محصورة، وسط بحر متلاطم من الموج الإسلامى.
وقال للمسلمين: أنه هو - كميل شمعون - خير مارونى يستطيعون الاطمئنان إليه، إنه أبعدهم عن التعصب، أقربهم إلى الفكرة العربية، ثم لم يتورع عن أن يستعمل مع المسلمين من المعارضة، كل القوى التى كان فى مقدوره أن يستعملها.
ابتداءً من أحفاد رسول الله - والرسول براء مما يفعلون - ملوك الأسرة الهاشمية الأطفال، إلى حارس الكعبة وحامى الحرمين، سعود بن عبد العزيز، الذى دعا إليه مرة، وهو فى زيارة رسمية لعمان بعد انقلابها المشهور على القومية العربية، جميع زعماء المسلمين فى لبنان ليقول لهم:
- أريدكم أن تتعاونوا مع صديقى وأخى كميل شمعون!
4- ثم أمن الذئب حركته فى النهاية بأن صنع بيده، بأصابعه، مجلس نواب تحت إذنه ورضاه جاء فيه بأغلبية من الذين شاركت فى خلقهم وفى وجودهم أسباب الرشوة، والتزوير، وجعلت منهم ذئاباً صغيرة جائعة، تريد أن تشبع وتسمن وتقتفى أثر الذئب الكبير!
ولكن الأمور فى الجبل لم تسر على هوى الذئاب، لأن خطواتها ضلت طريقها فى الظلام.
لا تيار القومية العربية اندحر.
ولا مشروع أيزنهاور أغرق لبنان ذهباً.
ولا لعبة الطائفية أفادت.
ولا مجموعة الذئاب الصغيرة التى دخلت مجلس النواب، أثبتت أن لها جدوى، بل إن هذه المجموعة من الذئاب لم تستطع أن تجتمع لتنصر ذئبها الكبير.
لقد تصور أنها ستكون طليعة وثوبه على فرائسه.
أما هى فعرفت مكانها، إنها تسير وراءه، بعد أن ينقض هو على الفريسة، وينهش منها ما يريد، تجىء على أثره لتأكل بقايا اللحم، وتلوك بين أسنانها فضلات العظام!
وبدأ الذئب يحارب معركة مستميتة.
بدأ - كميل شمعون هو الذى بدأ وهذه حقيقة تعترف بها كل سفارة أجنبية فى بيروت حتى السفارة الأمريكية - بدأ شراء السلاح وتوزيعه على عناصر الإرهاب فى لبنان، وأولها الحزب السورى القومى.
وبدأ - وكميل شمعون هو الذى بدأ - صوت الرصاص يدوى فى لبنان!
ثم بدأت الدولة فى لبنان تغتال وتنسف دور الصحف المعارضة، وتضرب الصحفيين الأحرار بالرصاص!
عند هذا الحد، وليس قبل هذا الحد، اضطرت المعارضة فى لبنان إلى أن تحمل السلاح، دفاعاً عن نفسها، دفاعاً عن آرائها ومعتقداتها، ودفاعاً عن نفسها وأرواحها.
وكان الانفجار الكبير فى لبنان.. اندلعت الثورة.
وأصابت شظايا الانفجار، وكان لابد أن تصيب، ذئب الجبل، الذى كان يريد أن يسيطر على الجبل بالخداع، ثم بالإرهاب بعد أن انكشف الخداع.
وأخيراً ما الذى يصنعه الذئب الجريح على الجبل؟
إنه يعرف أن لا أمل له، وأنه قد انتهى.
إنه يعرف أنه لن يكون رئيس جمهورية لبنان الجديد فما الذى يبقيه فى المعركة.
وما هو الهدف الذى يقاتل من أجله؟
شىء واحد!
إن الذئب الجريح يريد أن ينتقم.
لقد جاءت النهاية - وهو يعرفها - ولكن الذئب الجريح كما قلت، يستجمع كل ما بقى فيه بعد النزيف من حياة، ويدفعها بكل ما يملأ قلبه من يأس وحقد وألم لكى ينهش الذين يتصور أنهم السبب فى مصيره نهشة مسعورة مسمومة، حتى ولو كلفته آخر نفس له فى الحياة.
هنا خطورة الذئب الجريح فى اللحظات الباقية له!
إنه يحرض أمريكا، ويحرض بريطانيا، بل ويحرض حتى الملوك الهاشميين الأطفال حتى يسارعوا لنجدته.
إنه يحاول أن يبيع دمه الذى ينزف الآن، إلى الذين حاول من قبل أن يبيع لهم دم لبنان.
إنه يصرخ فى عوائه:
- لقد قتلت من أجل الغرب، فليقف الغرب معى!
ويصرخ:
- لقد قتلت من أجل حلف بغداد، فليقف حلف بغداد معى!
إنه يصرخ فى المسيحيين:
- لقد قتلت من أجل المسيحية.
بل أنه لا يتورع أن يتجه إلى الرياض، ليصرخ لساكن الرياض:
- لقد قتلت من أجل الكعبة لأنى تعلقت بأستارها!
ولم يقتل الذئب من أجل الغرب، ولا من أجل حلف بغداد، ولا من أجل المسيحية أو من أجل الكعبة نزف دمه.
إنما أصيب الذئب بسبب مطامع الذئب!
وليس هذا هو المهم الآن، وإنما المهم:
- هل يجد الذئب من يشترى دمه؟!
تعليق