العناصر الحقيقية للأزمة في لبنان .. الذئب الجريح في الجبل

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • mmogy
    كاتب
    • 16-05-2007
    • 11282

    العناصر الحقيقية للأزمة في لبنان .. الذئب الجريح في الجبل

    (3) الموقف على حقيقته الآن
    العناصر الحقيقية للأزمة فى لبنان
    محمد حسنين هيكل
    1958/6/25
    الأهرام المصرية

    الذئب الجريح فى الجبل

    والآن بعيداً عن "الخديعة الكبرى"، و"ظروفها"، و"حكاياتها" و"مشاهدها"، ما هى العناصر الحقيقية للأزمة فى لبنان؟

    لقد كان يجب أن يكون لبنان، ولبنان بالتحديد، أبعد بقعة فى الشرق الأوسط عن الأزمات :

    لمجموعتين من الأسباب :

    مجموعة منها أن لبنان ، لا يعانى ما تعانيه المنطقة من حوله ، من مشاكل، فمستوى الدخل القومى فى لبنان معقول، ومستوى التعليم العام، أكثر من معقول!

    والمجموعة الثانية أن للبنان ظروفاً سياسية يتميز بها، وهذه الظروف تنبع أولاً من طبيعة تكوينه، ثم تستمد قوتها بعد ذلك - خصوصاً فى السنوات الأخيرة - من ميثاق لبنان الوطنى، الذى جمع الطوائف المختلفة، والعقائد والآراء والتيارات، داخل إطار واحد وافقت عليه جميعاً، وارتضته، وحددت على هداه مواقع خطواتها!

    بعد هاتين المجموعتين من الأسباب كان يجب أن يصبح لبنان الآن واحة فى طرف الصحراء.

    كان يجب أن يبقى بقعة هادئة وادعة، فى منطقة هائجة مائجة، تعيش فترة خطيرة من تاريخها، تكاد أن تكون أقرب شبهاً بلحظات المخاض، حين تحدث معجزة الخلق العظمى، وتخرج حياة من حياة، وتنفصل روح عن روح، ويبرز من أعماق الكيان القديم، كيان جديد وليد.

    وكان يجب أن يظل لبنان، أرضاً محايدة فى الشرق الأوسط المضطرب.

    بل إن وجود لبنان على هذا النحو، كان ينبغى أن يكون ضرورة أساسية، لو لم توجد بحكم ظروفها، لوجب أن توجد بحكم الحاجة إليها.

    لقد كانت سويسرا المحايدة فى وسط أوروبا ضرورة.

    وكان لابد للبنان - وظروفه مثالية لذلك - أن يصبح "سويسرا" ثانية فى قلب الشرق الأوسط!

    لماذا إذن هبت العواصف الهوج على لبنان، بددت أمنه، وضيعت سلمه، وصبغت بلون الدم، القمم البيضاء الشاهقة من جباله، ثم هى توشك أن تنقله من مكانه فوق خريطة الأرض، من موضع سويسرا فى قلب أوروبا، إلى موضع كوريا فى الطرف الشرقى القصى من آسيا‍؟!

    السبب: بصراحة ووضوح هو:

    أن حكام لبنان فى الآونة الأخيرة، فتحوه للحرب الباردة، وجعلوه ميداناً تتصارع فيه القوى وتتصادم.

    وبدل أن يكون أرضاً محايدة أصبح ميداناً للقتال.

    وبدل أن يكون أرض لقاء بين الجميع، أصبح أرض الخلاف بين الجميع!

    أقول حكام لبنان وأحدد.

    ولم يكن فى استطاعة غيرهم - ولا فى مقدوره - أن يصنع فى لبنان هذا الذى حل به. ومن عجب أنهم اليوم يحاولون الفرار من مسئولية النار التى أشعلوها وذلك بأن يمدوا أصابع الاتهام إلى الجمهورية العربية المتحدة، لكن فاتهم أن الجمهورية العربية المتحدة، لم يكن فى مقدورها - ولا هو فى صالحها - أن تشتعل النار فى لبنان!

    وما هى مصلحة الجمهورية العربية المتحدة فى لبنان؟

    هل تريد الجمهورية العربية المتحدة - كما يقول كميل شمعون - أن تضم لبنان إليها؟

    أو هل تريد الجمهورية العربية المتحدة - كما يقول سامى الصلح - أن تشد لبنان إلى جانبها فى الصراع بينها وبين حلف بغداد؟

    قبل أن نرد على هذين السؤالين، يجب أن نقدم للرد عليهما بسؤال آخر:

    - ما هى قيمة لبنان؟

    إذا فقد لبنان وضعه الخاص - كأرض لقاء - وسط منطقة تعيش صراع حياتها الكبير، فما هى ميزته؟

    سوف يصبح جبلاً، ككل الجبال، جبلاً جميلاً - ربما - على سفوحه زهور برية وعلى قممه عمائم من ثلوج، ولكن الدنيا ملئى بالجبال، والزهور البرية، وعمائم الثلوج!

    وإذا ضيع لبنان ميثاقه الوطنى، كضمان للاستقرار فيه، فما هو مستقبله؟

    مليون من البشر، يتعاركون ويتصارعون، ولا ينتهى العراك بينهم والصراع، حتى يسقط منهم وسط ضحايا المعركة، أحسن ما كان عندهم وأبقى.

    إذن ماذا؟

    من غير وضع لبنان الخاص فى وسط المنطقة، ومن غير ميثاق لبنان الوطنى، فى قلبه، لا تصبح للبنان ذاته أى قيمة بل أكثر من ذلك - ولنواجه الحقيقة بجفافها وقسوتها - من غير هذا كله يصبح لبنان غرماً، لا غنماً، ويصبح نقمة ليس فيها أثر للنعمة!

    وأى قيمة للبنان على هذا النحو، حتى تسعى الجمهورية العربية المتحدة لتضمه إليها؟
    وأى قيمة للبنان على هذا النحو، حتى تحاول الجمهورية العربية المتحدة أن تجنده فى صفها، ضد حلف بغداد، وحلف بغداد، ليس هو العروش الهاشمية الواهية المتداعية، وإنما هو الاستعمار بأساطيله، وقواعده، وجحافله!

    كيف فعلها إذن حكام لبنان، ولماذا؟

    كيف حولوا جبلهم الجميل العريق من أرض حياد، إلى أرض معركة.. من ميدان لقاء، إلى ميدان قتال؟!

    على رأس القائمة هنا، بين حكام لبنان، رجل يصرخ الآن على الجبل، كأنه الذئب الجريح، وهنا مكمن من مكامن الخطر الذى يحلق اليوم فوق الجبل، ويعلق مصيره ومستقبله، بخيط أوهى من نسيج العنكبوت!

    لقد جاءت النهاية، ولكن الذئب الجريح، يستجمع كل ما بقى فيه بعد النزيف من حياته، ويدفعها بكل ما يملأ قلبه الآن من يأس وحقد وألم، لكى ينهش الذين يتصور أنهم السبب فى مصيره، نهشة مسعورة مسمومة، حتى ولو كلفته آخر نفس له فى الحياة!

    تلك باختصار، هى الصورة الحقيقية الآن لكميل شمعون!

    لقد كان "الذئب" يريد أن تبقى السلطة فى يده، وأن يظل - ولو ست سنوات أخرى - رئيساً لجمهورية لبنان.

    ولم يكن الذئب مدفوعاً بفكرة أو مبدأ أو إيمان.

    وإنما - ككل الذئاب - كان همه أن يخطف ويجرى!

    ولم يكن فى أسلوبه وهو يجرى وراء غنيمته استقامة، ولا كان فيها يقين... ولم تكن فيها كذلك شجاعة أو شرف!

    كان يريد أن يكون رئيساً للجمهورية، فكيف رتب خطواته إلى ما يريد؟

    1 - اعتقد أن تيار القومية العربية قد اندحر فى السويس، وأن الغرب ستكون له السيادة على المنطقة، إلى ما بعد الأبد، وهكذا أعلن فى غير تردد أو مواربة أنه خادمه فى المنطقة ووكيله، وهكذا راح يجعل من لسانه، سوطاً على القومية العربية، وراح يقول - كما قال لدرو بيرسون الصحفى الأمريكى المعروف وقد نشر بيرسون ما سمعه من شمعون:

    كان يجب أن تتركوا الغزو الثلاثى ضد مصر يمضى فى طريقه حتى يحقق أهدافه.

    2- وتصور أن لبنان لا يهمه غير المال، فباع لبنان لمشروع أيزنهاور، ولم يجد فى تبرير قبوله لمشروع أيزنهاور إلا أن يلوح بالمكاسب الهائلة التى سوف تعود على لبنان من مشروع أيزنهاور، بل إن الحياء لم يمنعه من أن يشير بنصف عين، وغمضة رمش، إلى ما سوف يربحه لبنان من نزول بحارة الأسطول الأمريكى السادس إلى ليالى بيروت الصاخبة الدافئة!

    3 - وظن أن اللعبة الطائفية فى لبنان أداة صالحة للاستغلال، وهكذا بدأ بخفة ذئب حقيقى، يلعب على حبلين فى وقت واحد.

    قال للمسيحيين: أن تيار القومية العربية هو فى حقيقة قيامه إسلامى، وأن المسيحية المارونية فى لبنان، مهددة بأن تصبح أقلية محصورة، وسط بحر متلاطم من الموج الإسلامى.

    وقال للمسلمين: أنه هو - كميل شمعون - خير مارونى يستطيعون الاطمئنان إليه، إنه أبعدهم عن التعصب، أقربهم إلى الفكرة العربية، ثم لم يتورع عن أن يستعمل مع المسلمين من المعارضة، كل القوى التى كان فى مقدوره أن يستعملها.

    ابتداءً من أحفاد رسول الله - والرسول براء مما يفعلون - ملوك الأسرة الهاشمية الأطفال، إلى حارس الكعبة وحامى الحرمين، سعود بن عبد العزيز، الذى دعا إليه مرة، وهو فى زيارة رسمية لعمان بعد انقلابها المشهور على القومية العربية، جميع زعماء المسلمين فى لبنان ليقول لهم:

    - أريدكم أن تتعاونوا مع صديقى وأخى كميل شمعون!

    4- ثم أمن الذئب حركته فى النهاية بأن صنع بيده، بأصابعه، مجلس نواب تحت إذنه ورضاه جاء فيه بأغلبية من الذين شاركت فى خلقهم وفى وجودهم أسباب الرشوة، والتزوير، وجعلت منهم ذئاباً صغيرة جائعة، تريد أن تشبع وتسمن وتقتفى أثر الذئب الكبير!

    ولكن الأمور فى الجبل لم تسر على هوى الذئاب، لأن خطواتها ضلت طريقها فى الظلام.

    لا تيار القومية العربية اندحر.

    ولا مشروع أيزنهاور أغرق لبنان ذهباً.

    ولا لعبة الطائفية أفادت.

    ولا مجموعة الذئاب الصغيرة التى دخلت مجلس النواب، أثبتت أن لها جدوى، بل إن هذه المجموعة من الذئاب لم تستطع أن تجتمع لتنصر ذئبها الكبير.

    لقد تصور أنها ستكون طليعة وثوبه على فرائسه.

    أما هى فعرفت مكانها، إنها تسير وراءه، بعد أن ينقض هو على الفريسة، وينهش منها ما يريد، تجىء على أثره لتأكل بقايا اللحم، وتلوك بين أسنانها فضلات العظام!

    وبدأ الذئب يحارب معركة مستميتة.

    بدأ - كميل شمعون هو الذى بدأ وهذه حقيقة تعترف بها كل سفارة أجنبية فى بيروت حتى السفارة الأمريكية - بدأ شراء السلاح وتوزيعه على عناصر الإرهاب فى لبنان، وأولها الحزب السورى القومى.

    وبدأ - وكميل شمعون هو الذى بدأ - صوت الرصاص يدوى فى لبنان!
    ثم بدأت الدولة فى لبنان تغتال وتنسف دور الصحف المعارضة، وتضرب الصحفيين الأحرار بالرصاص!

    عند هذا الحد، وليس قبل هذا الحد، اضطرت المعارضة فى لبنان إلى أن تحمل السلاح، دفاعاً عن نفسها، دفاعاً عن آرائها ومعتقداتها، ودفاعاً عن نفسها وأرواحها.

    وكان الانفجار الكبير فى لبنان.. اندلعت الثورة.

    وأصابت شظايا الانفجار، وكان لابد أن تصيب، ذئب الجبل، الذى كان يريد أن يسيطر على الجبل بالخداع، ثم بالإرهاب بعد أن انكشف الخداع.

    وأخيراً ما الذى يصنعه الذئب الجريح على الجبل؟

    إنه يعرف أن لا أمل له، وأنه قد انتهى.

    إنه يعرف أنه لن يكون رئيس جمهورية لبنان الجديد فما الذى يبقيه فى المعركة.

    وما هو الهدف الذى يقاتل من أجله؟

    شىء واحد!

    إن الذئب الجريح يريد أن ينتقم.

    لقد جاءت النهاية - وهو يعرفها - ولكن الذئب الجريح كما قلت، يستجمع كل ما بقى فيه بعد النزيف من حياة، ويدفعها بكل ما يملأ قلبه من يأس وحقد وألم لكى ينهش الذين يتصور أنهم السبب فى مصيره نهشة مسعورة مسمومة، حتى ولو كلفته آخر نفس له فى الحياة.

    هنا خطورة الذئب الجريح فى اللحظات الباقية له!

    إنه يحرض أمريكا، ويحرض بريطانيا، بل ويحرض حتى الملوك الهاشميين الأطفال حتى يسارعوا لنجدته.

    إنه يحاول أن يبيع دمه الذى ينزف الآن، إلى الذين حاول من قبل أن يبيع لهم دم لبنان.

    إنه يصرخ فى عوائه:

    - لقد قتلت من أجل الغرب، فليقف الغرب معى!

    ويصرخ:

    - لقد قتلت من أجل حلف بغداد، فليقف حلف بغداد معى!

    إنه يصرخ فى المسيحيين:

    - لقد قتلت من أجل المسيحية.

    بل أنه لا يتورع أن يتجه إلى الرياض، ليصرخ لساكن الرياض:

    - لقد قتلت من أجل الكعبة لأنى تعلقت بأستارها!

    ولم يقتل الذئب من أجل الغرب، ولا من أجل حلف بغداد، ولا من أجل المسيحية أو من أجل الكعبة نزف دمه.

    إنما أصيب الذئب بسبب مطامع الذئب!

    وليس هذا هو المهم الآن، وإنما المهم:

    - هل يجد الذئب من يشترى دمه؟!
    إنْ أبْطـَأتْ غـَارَةُ الأرْحَامِ وابْـتـَعـَدَتْ، فـَأقـْرَبُ الشيءِ مِنـَّا غـَارَةُ اللهِ
    يا غـَارَةَ اللهِ جـِدّي السـَّيـْرَ مُسْرِعَة في حَلِّ عُـقـْدَتـِنـَا يَا غـَارَةَ اللهِ
    عَدَتِ العَادونَ وَجَارُوا، وَرَجَوْنـَا اللهَ مُجـيراً
    وَكـَفـَى باللهِ وَلـِيـَّا، وَكـَفـَى باللهِ نـَصِيراً.
    وَحَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوكيلُ, وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلاّ بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ.
  • mmogy
    كاتب
    • 16-05-2007
    • 11282

    #2
    (4) الموقف على حقيقته الآن
    العناصر الحقيقية للأزمة فى لبنان

    محمد حسنين هيكل
    1958/6/21
    الأهرام المصرية

    " عودة الشبح "!

    هكذا... ولهذا تريد أن تتدخل أمريكا!

    أول المتقدمين، لشراء دم كميل شمعون - ذئب الجبل الجريح - رجل تحمل الأزمة اللبنانية الحالية على جميع جوانبها، بصمات أصابعه!

    رجل كتب مرة، بنفسه، بمحض اختياره، ومن غير أن يلوى أحد ذراعه ليرغمه على الكتابة - كتب يصف أسلوبه فى السياسة الخارجية بقوله، وأنا أنقل حرفاً بحرف عن مقال باسمه فى مجلة لايف:

    "إن أسلوبى فى الحركة، هو أن أدفع الحوادث إلى أزمة مستحكمة، ثم أدفع الأزمة المستحكمة إلى حافة الحرب وهاويتها، وحين يقترب الجميع من الحافة المرعبة ويمسكون أنفاسهم هولاً ورهبة، ويبدؤون على الرغم منهم فى التراجع حتى لا تكون النهاية، أحصل أنا على ما أريد وأحقق أغراضى كاملة!

    وكل ملامح الأزمة اللبنانية اليوم، هى - على وجه القطع واليقين - ملامح هذه السياسة، سياسة جون فوستر دالاس، وزير خارجية أمريكا، وصاحب مدرسة "سياسة حافة الحرب وهاويتها"!

    الأزمة - فى طبيعتها وحقيقتها - أزمة داخلية فى لبنان.

    رئيس جمهورية يريد أن يعتدى على دستور بلاده لكى يبقى نفسه فى الحكم ومع الحكم، مغانم الحكم ومكاسبه.

    ومعارضة تريد للدستور أن يبقى كما ارتضاه جميع اللبنانيين، من غير أن تدوسه المطامع، ومن غير أن تلوثه الشهوات.

    ثم دخلت الأزمة مرحلة حادة، وأصبحت المسدسات ضمن وسائل الإقناع أو الاقتناع، والمسئولية أولاً وأخيراً مسئولية الذين بدءوا بالاحتكام إلى السلاح فى موضوع الخلاف.

    ولم تكن المعارضة - أصلاً - هى التى بدأت بالاحتكام إلى السلاح، فإن الذى لا يجادل فى صحته أحد، إن آخر ما كان يخطر على بال المعارضة من وسائل للدفاع عن الدستور، هو أن تقود مظاهرة أو تنظم إضراباً.

    وكانت الحكومة - فعلاً - هى التى شهرت السلاح، وهى المفروض فيها كما قلت مرة - أنها القوامة على العدل، الحارسة لقدس القانون.

    ومع ذلك، وحتى برغم هذا كله كانت الأزمة ما زالت أزمة داخلية.

    وفجأة جاء دالاس!

    حملة منظمة فى الصحف، وحملة منظمة فى إذاعات السر وإذاعات العلن، وحملة منظمة على ألسنة قطع الأراجوز الصغيرة فى الشرق الأوسط التى تشدها الخيوط، إلى واشنطن وتحركها الأصابع من هناك!

    ثم خديعة كبرى، تمد بالصداقة يداً، وتمد بالتآمر يداً أخرى، وتتكلم لغتين، لغة هناك، ولغة هنا.

    ثم دراما عنيفة عنيفة فى مجلس الأمن، وتهم صاخبة، تستعيض عن قوة الدليل، بقوة الصوت.

    ثم الأسطول الأمريكى السادس يهدر بفرقة كاملة من البحارة 20 ألفاً - مزودين بالأسلحة الذرية الصغيرة - متجهاً بأقصى سرعة إلى شواطئ لبنان.

    ثم اجتماعات مستمرة متلاحقة لهيئة أركان الحرب الأمريكية، ومناقشات وراء مناقشات مع الجنرال نونينج رئيس هذه الهيئة، ثم خطط وخطط.

    ثم اتصالات على قدم وساق، مع الحلفاء، وبريطانيا أول الحلفاء، لتنسيق الجهود وترتيب العمليات!

    تدخل حربى على وشك أن يقع.

    العالم كله يحبس أنفاسه، الدنيا كلها على لغم، نسمة هواء تلمس الزناد، وإذا - فى الفضاء، كل شىء يطير، حطاماً، ركاماً، رماداً...

    سلام على الأرض!

    إيه؟!

    أمن أجل أزمة داخلية فى بلد صغير فى الشرق الأوسط لا يزيد تعداده عن المليون؟

    أو - بعبارة أدق أمن أجل رجل واحد يريد رغم إرادة الغالبية العظمى من شعبه أن يبقى رئيساً لجمهورية لبنان؟

    ومع ذلك - وهنا مبعث العجب ومدعاة الذهول!! - لقد فاتت الفرصة القانونية لتعديل الدستور، حتى يستطيع كميل شمعون أن يجدد مدة رياسته، بل وأعلنت الحكومة اللبنانية دعوتها لمجلس النواب حتى يجتمع يوم 24 تموز - يوليو - لينتخب رئيساً جديداً للجمهورية.

    أزمة إذن - مهما اشتدت - موقوتة المدى عمرها شهر وبضعة أيام.

    ورجل إذن - مهما فعل - أيامه معدودة، بقى من عمره كرئيس لجمهورية لبنان، شهر أيضاً وبضعة أيام.

    إيه؟ مرة ثانية.

    هل فقد صانع الأزمات عقله، وضيع وسط المؤامرات صوابه، حتى يفعل هذا كله فى لبنان؟

    ويفعله من غير عذر ومن غير سبب؟!

    إنه - حتى - لا يقول حجة مقبولة يتمسك بها، ولا يجد مبرراً منطقيا يتحمل أن يتعلق بذيله.

    لقد حاول أن يختلق الدوافع، وخانته كل الدوافع.

    إن المعارضة الوطنية فى لبنان لا تهدد مصالحه بخطر، بل أن هذه المعارضة على استعداد، وقد أعلنت استعدادها صراحة - لأن تصون له كل المشروع، المعقول من مصالحه.
    وحين أعلن مرة أنه مضطر إلى مساعدة كميل شمعون، باعتباره رئيس الجمهورية الشرعى - وأن هذا هو موقفه إزاء كل حكومة شرعية، ضحكت الكرة الأرضية كلها حتى وصلت أصداء ضحكها إلى النجوم، ضحكت وهى تشير إلى الذى يصنعه دالاس بنفسه، مع حكومة شرعية أخرى يرأسها أحمد سوكارنو، ومكانها إندونيسيا!

    إيه مرة ثالثة!

    إن "صورة" الموقف الحقيقية لا تتضح على أساس افتراض أن الأزمة الداخلية - المؤقتة - فى لبنان هى السبب... وإذن فالأزمة الداخلية ليست هى السبب.

    وكذلك "صورة" الموقف الحقيقية لا تتضح على أساس افتراض أن شخص كميل شمعون - وأيامه معدودة - هو السبب...

    وإذن فشخص كميل شمعون ليس هو السبب.

    وأخيراً فإن "صورة" الموقف الحقيقية لا تتضح على أساس افتراض أن المصالح الأمريكية المباشرة فى لبنان، أو المبادئ الأمريكية فى لبنان وغير لبنان - هى السبب... وإذن فلا المصالح الأمريكية سبب، ولا المبادئ الأمريكية سبب.

    إذن ما هى الصورة الحقيقية للموقف؟!

    ومع ذلك دعونا - قبل أن نصل إلى "الصورة" - نلجأ قليلاً إلى "التصور".

    إن "تصور" الموقف فى الشرق الأوسط، سوف يكون دليلنا إلى الصورة الحقيقية فيه.

    إن تصور الموقف فى الشرق الأوسط، يتسلسل فى الخيال على هذا النحو.

    كان الشرق الأوسط منطقة نفوذ للغرب.

    يجب أن يظل الشرق الأوسط، بحكم موقعه الإستراتيجى، وبحكم ثرواته الطبيعية تحت سيطرة الغرب.

    ولكن فى الشرق الأوسط الآن تيار جديد جارف هو القومية العربية.

    القومية العربية تركزت فى نقطتين، تحررتا من كل نفوذ للغرب، هما القاهرة ودمشق - اللتان تكونان - معاً الجمهورية العربية المتحدة.

    الغرب يقاوم.. ويقاوم، والمسألة لديه حياة أو موت.

    الشعوب أيضاً، شعوب المنطقة العربية، تقاوم وتقاوم، والمسألة لديها - كذلك - حياة أو موت.الشعوب كلها تتجه بآمالها إلى القاهرة ودمشق، وحاول الغرب أن يضرب القاهرة ودمشق، ولكن الغرب عجز، وكان عجزه بعثاً جديداً للأمل لدى الشعوب.

    الغرب لم يعد يملك فى المنطقة إلا مجموعة من الحكام، لا يمثلون شعوبهم، بينهم ملوك، مثل فيصل وحسين، وبينهم رؤساء جمهوريات مثل كميل شمعون، وبينهم رؤساء وزارات مثل نورى السعيد وسمير الرفاعى.

    هذا هو "تصور" الموقف.

    والآن ما الذى يحدث إذا سقط أحد "الحكام" الذين يملكهم الغرب فى المنطقة؟

    سوف يكون لهذا رد فعل.

    أولاً إن سقوط أى واحد من هؤلاء سوف يصنع فجوة فى صف الغرب.

    وثانياً إن سقوط أى واحد من هؤلاء سوف يكون تهديداً خطيراً لكل واحد منهم لأن مصيرهم متشابك.

    وثالثاً إن أى تهديد خطير لهؤلاء نصر جديد للقوى الوطنية فى الشرق الأوسط.

    ورابعاً إن أى نصر للقوى الوطنية فى الشرق الأوسط هزيمة - بنفس المقدار أو أكثر - للقوى التى تريد أن تتحكم فى الشرق الأوسط - قوى الغرب.

    وخامساً إن أى هزيمة لقوى الغرب سياسياً معناها أن نفوذه، ومصالحه، فى مهب الرياح.

    وسادساً إن هذا كله يضع هيبة الغرب فى التراب، وكم من معارك كفت"هيبة الدول" لكى تكون سبباً لها مبرراً، وما الحرب الباردة فى حقيقة أمرها إلا حرب ضد"الهيبة"!

    الآن - ربما اتضحت الصورة، وبان المعنى الحقيقى، لسقوط رجل مثل كميل شمعون، من حكام الغرب وأدواته!

    ولكن كميل شمعون، سقط وانتهى الأمر!

    ليكن!

    ولكن الموقف يقتضى الحركة فوراً من جانب الغرب:

    1 - لتخفيف وقع كارثة السقوط.

    2 - حتى لا ينتصر الذين أسقطوه، وحتى لا توجد فجوة فى الصف، وحتى يجيء مكانه واحد يطمأن إليه من وجهة نظر الغرب.

    3 - ولكى لا يكون لسقوطه رد فعل يؤثر على غيره من الحكام الذين يملكهم الغرب فى المنطقة.

    4 - وحتى لا يكون سقوطه نصراً للقوة الجديدة المناهضة لنفوذ الغرب وسيطرته، المطالبة باستقلال المنطقة وتحريرها.

    هل بقى فى جوانب الصورة بعد هذا كله، غيم، أو ظل؟!

    وهذا هو ما يفعله "دالاس" الآن!

    وهذا هو الحافز الذى جعله يجر الدنيا وراءه إلى حافة الهاوية، وإلى شفا الحرب..

    لا هو الأزمة الداخلية فى لبنان.

    ولا هو شخص كميل شمعون.

    وإنما هو المصالح.. مصالح الغرب فى المنطقة وضرورة سيطرته عليها.

    بقى آخرون غير دالاس، على استعداد لشراء دم الذئب الجريح فى الجبل!

    بينهم زملاء الصف الذى يقف فيه كميل شمعون.

    وأول زملاء صف كميل شمعون، ملوك الأسرة الهاشمية الأطفال، فى بغداد وعمان.

    إن الذى يضرب بغداد، هو أنه إذا نجحت انتفاضة وطنية فى بيروت، فسوف يكون لهذه الانتفاضة صداها فى بغداد التى طال سكوتها.

    والذى يعذب عمان، هو أنه إذا فقد الأسطول الأمريكى السادس سره فى لبنان، فسوف يفقد سره فى الأردن أيضاً، ولقد كان الأسطول الأمريكى السادس، هو القوة التى استعملها الملك حسين، فى ثورته على الحكم الوطنى فى الأردن، وكان هذا الأسطول هو الدعامة التى يرتفع عليها عرش الملك "القصير"!

    بقى شبح من الماضى السحيق، هو أيضاً، يفكر فى شراء دم الذئب الجريح فى الجبل.

    هذا الشبح هو: بريطانيا التى ما زالت تعيش فى كابوس السويس المخيف.

    ومنذ شهر واحد كان يبدو أن بريطانيا بعيدة عن الصورة، بعداً شاسعاً، كان كابوس السويس ما زال يتملكها.

    وقبل هذا الشهر كانت بريطانيا، وهى تستعرض ما حل بها ترجعه إلى عدد من الأسباب:

    - لم تقف أمريكا معها فى عدوانها على مصر إلى نهاية المدى.

    - كانت غلطة الاستعانة بإسرائيل لا تغتفر.

    - لم تستطع العراق أن تحمى أنابيب البترول عبر سوريا كما تعهدت قبل العدوان.

    - وقفت قوة الأمم المتحدة ضدها سداً معنوياً حائلاً!

    ثم فجأة، وقع شىء لبريطانيا.

    بدأت تنتعش.. ولاح وكأن خيالها قد حل فيه أمل جديد!

    إن الأمير عبد الإله ولى عهد العراق قد وصل إلى لندن، يحمل مشروعاً جديداً، ونفس المشروع جرى فيه الحديث فى واشنطن بين أيزنهاور وماكميلان.

    المشروع الجديد:

    ماذا تفعل بريطانيا لو سنحت لها فرصة أخرى فى الشرق الأوسط؟

    ستكون أمريكا معها هذه المرة إلى نهاية المدى.

    وبدل الاستعانة بإسرائيل ستكون العراق والأردن رهن الأمر والإشارة.

    وأنابيب البترول فى الحفظ والصون على هذا الأساس.

    أما الأمم المتحدة، فإن القومية العربية أمامها هذه المرة، مشكوة، وليست شاكية!

    وبدأ الشبح يفكر جدياً، فى قصة جديدة، اسمها "عودة الشبح"!

    ولكن كيف؟

    المعلومات لدىّ، شحيحة، ونادرة.

    إنها أشبه بخطاب تمزق إلى قصاصات ضئيلة، وأحاول الآن أن أجمع القصاصات، أرتب الأجزاء إلى جانب الأجزاء، وأبحث عن الحروف حتى تشبك فى الحروف، وتكون كلمة، ويستقيم معنى!

    وهمس فى أذنى قادم من بيروت أثق فى حسن اطلاعه:

    ماذا لو وقع حادث صغير لعدد من أفراد هيئة المراقبة التابعة للأمم المتحدة؟

    واستطرد:

    - ما الذى يمنعهم من "تدبير" مثل هذا الحادث أو غيره... اشتباك مثلاً على حدود لبنان بين سوريين ولبنانيين.. قارب صيد سورى يأسرونه ويملئونه بالأسلحة ثم يصيحون هذا هو الدليل!

    واستطرد:

    - ثم بعدها ينزلون!

    ينزل البحارة الأمريكيون وجنود المظلات الإنجليز.

    ويتحرك جنود فيصل، وجنود الملك القصير!

    والهدف ساعتها..؟

    ماذا سيكون الهدف؟

    هل يكون حى البسطة فى بيروت، حيث يستحكم بعض الثوار، أو هل يكون طرابلس أو الشوف حيث تشتبك المقاومة الوطنية مع فلول الدرك اللبنانى أو عصابة القوميين السوريين.

    لا... إن هذه كلها ليست أهدافاً للأسطول السادس، وجنود المظلات... أما الهدف... شىء آخر.

    الهدف ساعتها سيكون فكرة وليس أرضاً، سيكون تياراً عاماً، وليس مجرد خندق أو بضعه خنادق تستحكم فيها مجموعة من الثوار.

    الهدف ساعتها سيكون القومية العربية كلها.

    ما أشبه الليلة بالبارحة!

    إن الخطة ما زالت هى الخطة، لأن المعركة ما زالت هى المعركة!
    إنْ أبْطـَأتْ غـَارَةُ الأرْحَامِ وابْـتـَعـَدَتْ، فـَأقـْرَبُ الشيءِ مِنـَّا غـَارَةُ اللهِ
    يا غـَارَةَ اللهِ جـِدّي السـَّيـْرَ مُسْرِعَة في حَلِّ عُـقـْدَتـِنـَا يَا غـَارَةَ اللهِ
    عَدَتِ العَادونَ وَجَارُوا، وَرَجَوْنـَا اللهَ مُجـيراً
    وَكـَفـَى باللهِ وَلـِيـَّا، وَكـَفـَى باللهِ نـَصِيراً.
    وَحَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوكيلُ, وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلاّ بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ.

    تعليق

    • محمد برجيس
      كاتب ساخر
      • 13-03-2009
      • 4813

      #3
      [align=center]
      الأخ الكريم / محمد شعبان الموجي
      السلام عليكم و رحمة الله و بركاته

      أولا :-
      لعل الهدف من إعادة نشر هذا المقال
      إنما يندرج تحت قولهم (( ما أشبه الليلة بالبارحة))

      و هذا ما يطيب لي دائما تسميته كتابة المواقف
      و هو ما انادي به دائما .. بل و أشجع على إتخاذه
      منهاجا للكتابة دائما !

      فالكتابة عن المواقف تضمن لها البقاء دائما
      ليكون المكتوب أطول عمرا من كاتبه
      و ذلك لتكرار المواقف دائما ؟

      ثانيا بخصوص الموضوع

      لبنان شأنها كشأن أي بلد عربي
      في الوقت الحالي يريدون إختلاق
      ما يعرف بالفوضى الخلاقة بين أطرافة

      و اعتقد أن لبنان أرض خصبة لذلك
      شأنها شأن العراق و مصر و ربما
      دول الخليج أيضا ..

      فمتى حلت التعددية الثقافية و الطائفية و المذهبية
      هنا مكمن الخطر إذا لم يكن هناك القائد الفذ
      الذي يستطيع إحتواء ذلك .

      المنطقة كلها مستهدفة بلا استثناء !

      و لكن العجيب حقا أن تبدا الفوضى الخلاقة بيد أبناء المنطقة انفسهم
      و يزرعون في عقل كل زعيم انه هو فقط منقذ الأمة و موحد الأوطان

      فترى الذئب كمت تفضلتم بالذكر يعوي بل و يهذي بأنه
      هو و فقط هو من قاتل و حارب لأجل كل الطوائف و الملل

      من اجل المسيحية و الدرزية و الإسلامية و الشيعية
      و المجوسية و الإسلامية و هو بطل معركة البطيخ !
      [/align]
      القربُ من ذاتِ الجمالِ حياتي
      بالعقل لا بالعين ذًقْ كلماتـي

      تعليق

      يعمل...
      X