يد و قلم
أذكر أني حلمت حلما مزعجا صار يؤرقني لليال عدة .. كان كابوسا بكل ما تحمله الكلمة من معنى . عزفت عن الأكل .. وعافت نفسي كل شيء . لا أستطيع محو صورة الصبي الذي انهار أمامي و أنا أؤنبه على عدم التزامه بالزي المدرسي و إهماله لواجباته المدرسية على غير عادته .. حدق في لحظة .. اغرورقت عيناه بالدموع .. نكس رأسه وهو ينظر وجلا إلى رفقائه الذين كتموا ضحكاتهم خوفا من العقاب .. ذكرني منظره بصبي آخر عنفته على رفضه الانصياع إلى أمري بالوقوف أمام السبورة .. لأكتشف في ما بعد أنه كان خجلا من أن تبدو فتحة سرواله من الخلف وبروز أصابع قدميه من حذائه المطاطي أمام زملائه .
طاف بذهني كل هذا كلمح البصر .. لكني لم أشأ أن أتنازل عن موقفي من إهماله لاقتناعي بضرورة عقابه ولو بيسر حتى يكون عبرة للآخرين .. رغم أني كنت أحبه لهدوئه و شغفه بالتحصيل و الدرس .
تناولت المسطرة الخشبية بينما مد يده الصغيرة وهي ترتجف .. كانت محمرة من البرد ، لأننا كنا في أواسط شهر يناير البارد . كانت ليلة حاكوزة التي يتمناها كل صغير ليتلقى الهدايا بدل قبضة من الفاكهة الجافة التي يضعونها تحت الوسادة .
كان موقفي حرجا و تمنيت لو أن مسؤولا أو غيره يقتحم علينا الفصل ليشغلني عما كنت بصدده .. ربما كنت سأجد متسعا من الوقت لأنسى أو أتناسى ذلك الأمر .. لكن لا شيء حدث و لا أحد حدثته نفسه بزيارة الفصل ..
كانت يداه تنظران إلي بضراعة كعينيه الصغيرتين .. رفعت المسطرة قليلا حتى لا تكون الضربة قاسية و نزلت برفق عليها .. لكنه أزاح يده بحركة غير إرادية .. تعالت بعض الضحكات الخافتة .. تصنعت الغضب و توعدته و الجميع بالويل و الثبور .. و أمسكت بيده الصغيرة كي لا يعاود الكرة .. وفجأة لفت نظري شحوب وجهه النحيل و جحوظ عينيه الضيقتين .. ثم انهار أمامي جثة هامدة ..
لم ادر كيف حدث هذا ولماذا حدث . بل لم أعد أدري أين أنا ولا ما أفعل .. اختلط علي الأمر و اسودت الدنيا أمام عيني ولم أع بعد شيئا ، إلى أن وجدت نفسي جالسا على حافة السرير وقلبي ينبض بعنف بينما كان جسدي يتصبب عرقا ..
حمدت الله أنه لم يكن سوى حلم و نهضت إلى الحمام متمتما بكلمات الشكر .. تمنيت لو لم يكن ذلك اليوم يوم إجازة و أخذت أستدني الوقت كي ألتحق بعملي لأربت على كتفيه أو أحضنه . ولم لا وقد اعتدت على معانقة صغاري كل صباح لنبدأ الدرس في جو بهيج .
بعد انتظار شاق جاء اليوم المنتظر و كأنني انتظرت دهرا . ها أنذا رفقة أحبائي .. لكن صبرا .. أين هو؟ ولماذا لم يلتحق بعد بمقعده الشاغر؟ و جاءني الجواب سريعا من الوجوه الباكية التي علاها الوجوم . تمنيت لو أقبض على عنق ذاك السائق المجرم الذي حرمه أعز ما يملك .. قيل لي إن يده الصغيرة كانــت تمسك ، وهو ملقى في وسط الطـريق ، بقلم زاهي الألــوان . رباه .. هــو القلم الذي أهديته إياه يــوم حرر أحسن إنشاء بين التلاميذ .. نفس اليد التي كنت أهم بضربها .. ولو في المنام .
ربما أخبرني البعض في ما بعد كيف انحنيت وأنا محاط بثلة من تلامذتي على الجسد المسجى في وداعة ، وكيف لثمت اليد الصغيرة وهي ترقد في صمت و سكينة على الصدر الصغير وقد توقفت أنفاسه بينما كان قلم زاهي الألوان يرقبنا على أريكة بالقرب منا .. قبل أن ينطلق الموكب الجنائزي وقد علا النحيب و الزغاريد .
تعليق