مرآة الكاهن
قصّة: صبري رسول
اقرَأْ فَأْلكَ عن حياتك التَّعيسة يا بني، كي تعرفَ ما يخبِّئه لك الزَّمان من مفاجآت، فحظُّك المرسوم في مرآة الكاهن سيظهر لك. أمي لم تنقطع عن ترديد طلبها هذا على مسامعي خلال سنواتٍ طوال.
يقفُ المرءُ أمامَ مرآةِ الكاهن الجبلي يحبسُ أنفاسَه، يجمّد نظراته، فيقرأ حظه، يرى ما يتمناه، أو ما قد يحدثُ له في قادم الأيام، وقد لا تتحقّق الأمنية، لكنَّها تظهر شفافةً على سطح المرآة، ويقرأُ الكاهن تعويذاتِهِ ماسحاً يدَه على ظهر الباحثِ عن فأْلِه، ينفخ على وجهه، ثمّ يدسّ ما يمنحُهُ له المتمنيُّ في حزامِ معطفه.
الشَّاب الباحثُ عن عشقٍ ضائعٍ، لا يجد بداً من اللّجوءِ إلى كاهن الجبل، وكشفِ صفحتِهِ المجهولة في دنيا العشق، فبعدَ أنْ ينهشَهُ اليأسُ، ويفقدُ الأمل، يلجأ إليه، ليرى ما تبثّه المرآةُ على بريقِ سطحِهِ المصقول، تتعلّق أنظارُهُ بوجهِ الكاهن الغارقِ في عمق الماضي. وجهٌ لا أحدَ يملكُ العلومَ الكافيةَ لفكِّ الغموضِ المنقوشِ في ملامحِ هذا الوجهِ الخالي من تعبيرات الفرح والحزن، والألم، والحنان، واليأس، والأمل. الابتسامةُ الكسيحةُ الوحيدةُ على شفتَيه تغيّرُ ملامحَ الشَّاب، مع بقاء غموض وجه الكاهن على ما هي عليه، فتخضرُّ خفقاتُ ضلوعِهِ، يمعّن النّظر في انعكاسِ الصُّورة فيها، فيرى فتاتَهُ ميّاسةً في بستانٍ خرافيٍّ، تلوّحُ له بإشارةٍ تنمُّ عن شوقِها له ورغبتِها في العيش معه. يدسُّ على عجلٍ ورقةً نقديّةً في عبِّ العجوز، وينصرفُ مسرعاً على جناحِ الأمل.
الأمّ المكلومة بعد أنْ يبحَّ صوتُهَا المختنقُ بكاءً على طول غيابِ ابنها، لم تجد ما يتعلّق به قلبُها سوى تعويذات الكاهن، ومرآته الكاشفة، تجمعُ بضعة فرنكاتٍ من مبيعاتِ منتوجها من البيضِ واللّبن، وتذهبُ خفيةً من زوجها السَّاخر من الكاهنِ المشعوذ وقراءته الطَّالع للمراهقينَ والنِّساء وفاقدي الأمل من تحقيق أمنياتهم. تُظْهِرُ المرآةُ بوضوحٍ أكثر من انبثاقِ النُّورِ الأصفر الفاتح بعد ساعات الفجر، قامة ابنها بملامحه لحظةِ وداعه، تُظهِره قادماً من عمق المسافات المجهولة، يحمل فرحاً لأمه؛ فتضعُ الأمّ فرنكاتِها في يد الكاهن، وتخرجُ مسرعةً إلى بيتها.
المزارعُون ومالكو الأراضي لم يجدوا سبيلاً لتخفيف ألم خوفهم من انحباس المطر، وبخل السَّماء، بعد أن كلَّت عيونُهم في تحديقها ومراقبتها لسحبٍ تجرُّ ذيلها النَّاشف مع رياحٍ مغبرَّة، غير المرآة الكاشفة لحالة مزارعهم، وحين تضعُها الكاهنُ أمامهم، يكتشفونَ حقولاً وبساتين ومزارعَ تضمخُ بالاخضرار، موحيةً بموسمٍ وفيرٍ يخلّصهم من خوفَ الشّح وضيق الحال.
أصبحَ الكاهن ومرآته القارئة في خاصرة الجبل مزاراً لكلّ مَنْ فقدّ أمله في تحقيق أمنياته، يرونها تتحقَّقُ في عمق المرآة، واضحةً شفافةً كقوة الضَّوء. هذا جعل أمّي تدوّخني صباح مساء طالبةً مني زيارة المشعوذ وقراءة الطالع في مرآته، ونزولاً عند رغبتها، وافقتُ على الأمر، مشترطاً أنْ نصطحبَ معاً، ليقرأَ كلٌّ منّا فألَه.
بدأتُ أولاً، نظرتُ إلى وجه الرجل الطَّاعن في السّن، لم ألمح أي تغييرٍ في سحنته الجامدة، وهو يقرّبُ إليّ سطحَها العميق، ارتجفَ قلبي، وتعلَّق شيءٌ غير محسوس في حلقي، منعني من ابتلاع الرّيق، شجَّعتني أمّي: انظرْ بقوّة ما يظهر لك، واعرف مصيرك يابني! وعندما استوى سطح المرآة أمام نظري، رأيتُ بحراً هائجاً، أمواجُهُ زاحفةٌ ترتفع كالجبال، في جانبٍ آخر كان ثمّة ما يشبه فوّهة جحيمٍ، تلفظُ إعصاراً من النَّار، تلتهمُ كلّ شيء، أما عاصفة الغبار تلتفُّ حول الأمواج والنيران تبتلعهما، وتزدادُ سرعة رياحِها لتغطّي السمّاء وتحجبَ كل شيء، وتحجب معها أربعةً من مكوّنات الكون.
تراجعتُ خائفاً أمامَ دهشة أميّ، لم أتمكّن من نقلِ ما رأيتُه إليها، اكتفيتُ بإشارة صوتيّة إليها لقراءة طالعها.
وقفتْ أميّ صامتةً، لا تنظرُ إلى جهةٍ محددةٍ، والكاهن يقرّبُ سطحها إليها، استرقْتُ النَّظر إلى صورٍ وأشياء لم تنكشفْ لي بوضوح، لكنّها بدتْ لأمي سوداء قاتمة، أكثر من كثافة الظلام، لأنّها لا تبصرُ ظاهر الحياة، فاختنقَتِ الحياةُ في حلقي، كسواد العتمة في حياة أمي عند فقدِها البصر.
في 4/7/2010
تعليق