يوميات أبو الإلحاد الرقمي..

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • هشام البوزيدي
    أديب وكاتب
    • 07-03-2011
    • 391

    #16
    المشاركة الأصلية بواسطة مصطفى بونيف مشاهدة المشاركة
    ذكرتني بكتاب قرأته ذات يوم عنوانه ( حوار مع صديقي الملحد).
    نصوص جميلة لكاتب جميل يستحق التثبيت.
    أستاذي مصطفى..
    "حوار مع صديقي الملحد" للدكتور مصطفى محمود رحمه الله حوار ممتع مع ملحد من طينة أخرى.. وهؤلاء الذين يحملون فكر الإلحاد مع بقاء أدبهم واتساع صدورهم للنقاش الهادئ موجودون لا شك, لكنهم قلة..
    أما يوميات صاحبنا فهي تحكي مغامرات فصيلة أخرى يعرفها من اطلع على شيء من أمرها.. واسألوا الفيسبوك واليوتيوب.. وأنا أضمن لمن فعل ألا يستثقل نفس كتابتي ولا يستغرب حدة قلمي..
    أستاذي الكريم ما أجمل توقيعك.. وأذكر أني كتبت كلاما مشابها يوما ما..
    وأعبر عن امتناني لتثبيت هذا الموضوع وأهديك اليومية الجديدة التي تأتي قريبا جدا:
    الإلحاد: من الافتراضي إلى الأرضي

    التعديل الأخير تم بواسطة هشام البوزيدي; الساعة 26-03-2011, 12:08.

    [gdwl]اللهم احقن دماء إخواننا في سوريا وفي كل البلاد وأبدلهم من بعد خوفهم أمنا

    لا يحسن أن ينزل على أفضل رسول، أفضل كتاب بلسان مفضول, ومن لم يعقل عن الله تعالى:{‏بلسان عربي مبين} فلا عَقِل.(الزمخشري)
    قد لا توجد لغة سوى العربية, بهذا التناسق الأصيل بين الروح والكلمة والخط, كأنها جسد واحد. (جوته)
    [/gdwl]

    تعليق

    • هشام البوزيدي
      أديب وكاتب
      • 07-03-2011
      • 391

      #17
      7 بين الإلحاد الافتراضي والأرضي

      قرأ أبو الإلحاد الإعلان بإمعان.. كادت عيناه تقفزان من محجريهما.. انفرجت أساريره فرحا.. كاد يطير لهذه البشرى طربا .. سال لعابه للثمرات التنويرية اليانعة التي بدأت تشرق في مخيلته المهترئة.. "إلحاد "كونغرس".. معا يدا واحدة ضد الأديان." دعوة إلى المؤتمر السنوي الأول لملاحدة الشبكة العرب.. وتُظلل الشعار صورة لقبضة حديدية تكسر جدارا عليه رموز دينية.. وفي الخلفية أشباح بشر وحيوانات.. بدأ يحدث نفسه: " قد فعلها الزملاء.. العفاريت فعلوها.. إنهم على وشك نقل معركة التنوير من العالم الافتراضي إلى العالم الأرضي.." تأمل الإعلان فلم ير ألوانا خلا الأبيض والأسود.. تساءل: "عجبا.. لماذا لم يفطنوا إلى قيمة البعد الجمالي؟ هل فاتهم أن الخصوم يدعوننا بخفافيش الظلام؟.. هل نسوا أنهم يعيّروننا بالنازية والفاشية؟ لو كان لي من الأمر شيء لجعلت الإعلان روضة زاهية تتراقص فيها ألوان الطيف.. لا أفهم لماذا جعلوه بألوان إخواننا من عبدة الشيطان؟" أتمنى ألا يكون المؤتمر تحت إشرافهم.. فأنا لا أطيق رموزهم الغريبة وطقوسهم المريبة.. أذكر آخر مرة لقيت فيها أحدهم في القطار في إحدى بلدان الشمال المتنور.. كان منظره أشبه بليل الشتاء الأوربي المظلم.. كان ثوبه كجلد حمار وحشي.. وكان جلده مزركشا كالهر البري.. وَشَم كل بقعة فيه إلا لسانه.. ولعل ذلك أعياه فجعل فيه حلقة كالخلخال لو جعلت في قدم فتاة لناءت به.. كان منظره كريها مخيفا.. ويا ليته صمت.. بل كانت شهوته للكلام أكبر من شهوتي للقفز من النافذة كيلا أرى طلعته الذميمة.. نظر إلي وقال بلغته: "آراب.. آراب؟" فأومأت له أن نعم.. فعاد يسأل: "مسلم.. مسلم؟" فحركت رأسي أن لا.. عندها قهقه بصوت عال فاهتزت الحلقات حول عينيه وفي أنفه وأذنيه.. المجنون لم يصدقني: "أوف كورس يو آر" ارتعبت لمنظره الخبيث حتى كدت أصدق خرافات الجن والشياطين.. ثم بدأ يتكلم ساعة عن العرب والأجانب والموسيقى والتسامح.. كانت حصة تعذيب صينية تقرع فيها كلماته أذني, ممزوجة بقرع الحلقة في لسانه لحافات أضراسه وأسنانه.. لو كان هذا المؤتمر تحت مظلة الزملاء الشياطين فوا حسرة على مستقبل التنوير.." تأمل الشعار مرة أخيرة ثم أرسل رسالة إلكترونية يطلب إلقاء كلمة أمام المؤتمرين وقع في نفسه أن يسميها: "من الإلحاد الافتراضي إلى الأرضي".. وسرعان ما جاءه الرد بالإيجاب.. بدأ يكتب كلمته.. ثم ارتأى أن يرتجلها في حينها حسبما يراه موافقا للحال.. بقي أسبوع ليهيئ أفكاره..

      ثم جاء اليوم الموعود.. استيقظ أبو الإلحاد من نوم متقطع راودته فيه الأحلام و الأماني بقضاء يوم مشهود يلتقي فيه برفاق "الجرب والجذام" ليخطوا معا خطوة جبارة إلى الأمام.. لن يدعوهم أحد بعد اليوم بمجاهيل الشبكة.. إنهم سيأتون ورؤوسهم مرفوعة في عناد وعقولهم مفعمة بيقين الإلحاد.. قطع طريقه وهو يتمرن على كلمته.. يقدم ويؤخر.. ويحلل ويفكر.. يتخير الكلمات والنبرات والحركات المناسبة.. حتى وقف بباب فندق "المريخ جاردن سيتي".. تفكر في اسم المكان: "اختيار موفق يحمل رسالة عميقة.. يبدو أن الزملاء درسوا أمر هذا اللقاء التاريخي من كل الوجوه.. المريخ.. ولِم لا؟ فلو ضيق علينا المتدينون الخناق أكثر قليلا.. فلربما حجزنا مع الزملاء تذكرة ذهاب بلا إياب إلى الكوكب الأحمر حتى نستريح من خرافاتهم.." وجد بعض الزملاء في الإستقبال.. سأله أحدهم عن بطاقة تعريفه.. فلما رأى اسمه قال: "هل معك دعوة؟" قال: "دعوة؟ لا أنا أبو الإلحاد.. سألقي كلمة.." رد عليه قائلا: "ليس عندنا أحد بهذا الاسم على لائحة المحاضرين".. ظن أبو الإلحاد أن في الأمر خطأ فبادر بالسؤال: "كيف؟ لقد تم قبول مشاركتي.. حصلت على رسالة إلكترونية.." أجابه الشاب: "نعم نعم.. لكن تم إخطارنا ببعض التحفظات على سيرتكم الذاتية.. لذا تم شطبكم من لائحة المحاضرين.. قل لي أما زلت ملحدا؟؟" أجابه ممتعضا: "طبعا.. طبعا.. هل هذا سؤال؟ إنني.." قاطعني في هدوء: "معذرة لكنا اطلعنا على بعض مقالاتك المنشورة أيها الزميل.. فوجدنا أنها تنم عن انتكاسة فكرية خطيرة.. طيب قد نسمح لك بالدخول.. بشرط أن تثبت لنا أنك ملحد" كاد شعر رأسه يقف من هذا التحقيق الذي لم يعهد له مثيلا إلا في منتديات المتدينين فقال مستنكرا: "أثبت ماذا؟ وكيف؟.. أنا أقول وأقر وأشهد أني ملحد.. "لا إله والكون مادة والمادة لا تفنى ولا تستحدث من العدم" هل تريدني أن أستظهر لك كتاب أصل الأنواع حتى تصدقني؟" قال الشاب وهو يحرك رأسه: "أنا آسف لكن هذا لا يكفي.. هذا كلام في الهواء أيها الزميل: " البينة على من ادعى" هات بينة.. أو ارجع من حيث أتيت.." لم يصدق أذنيه.." "إنه يحمل على كاهله عشرين سنة من النضال التنويري الإلحادي.. منها عشرة كاملة قضاها وهو متعلق كالذباب بخيوط الشبكة العنكبوتية.. لقد بدأ تعب السنين يدب إلى مفاصل عظامه.. بل إنه أصبح يقضي بعض الوقت أمام المرآة لنتف البياض المتسلل إلى رأسه.. ثم يأتي هذا الصبي المغرور ليشكك في صفاء إلحاده.. قال بنبرة الواثق متحديا: "أيها الزميل.. ابتعد من طريقي.. فلا بد أن أدخل" فحال الرجل بينه وبين باب القاعة وقال في حزم:" لا تتعب نفسك.. عندي أوامر صارمة" حينها تملكه اليأس وتذكر طبقة المنبوذين الهنود.. وتساءل هل يتجه الملحد العربي إلى نفس مصيرهم.. أطرق كأنه يبصر حضيض مهانته.. ثم سمع صوتا معروفا يناديه: "لحود.. أنت هنا يا عزيزي؟ .. ياه مضى زمان طويل" إنه الأستاذ عرقوب مدير تحرير مجلة "زهر العلقم" أخذ بيده فدخلا إلى قاعة المؤتمر كأن شيئا لم يكن..

      رأى ثمة منظرا عجيبا غريبا.. رأى بضع عشرات من الشباب والكهول يجلسون متفرقين هنا وهناك تلفهم سحابة داكنة من الدخان.. ورأى الصفوف الأمامية خاوية.. ورأى المنصة وقد سلطت عليها الأضواء الكاشفة.. ثم رأى بشرا ونسانيس وكلابا وقططا.. بل رأى جحشا أبيض وبغلا أحمر.. كان الجميع يلبسون الثياب.. حتى الدواب!.. حك عينيه وظن أنه أخطأ العنوان.. هل هذا مؤتمر نضال وتنوير أم سوق للبغال والحمير.. رفع بصره فقرأ لافتة المؤتمر كما رآها في الإعلان أول مرة.. جلس وحيدا.. إذ انشغل عنه عرقوب باتصال هاتفي دام حوالي الساعة.. بعدها التفت إليه مستفسرا عن كل ما أشكل عليه من هذه الغرائب.. فأجابه عرقوب متبسما: "عزيزي هذا مؤتمر تأسيسي.. يجمع كل أطياف المشهد الإلحادي.. لا بد أن نقبل بعضنا بعضا مهما اختلفنا.. الصفوف الأمامية محجوزة لبعض الزوار المهمين.. أما ذوات الأربع فإنها في رفقة زملائنا في جمعية: "من أجل ديمقراطية كونية" وهم يدعون إلى تقريب الهوة بين الكائنات المتقاربة جينيا.. فالفوارق بيننا وبين هؤلاء "الزملاء المتخلفين داروينيا" ضيئلة نسبيا.. فبيننا وبين "الشيمانزي مثلا كروموزومان فقط.. تصور.. ربما يتشاور الزملاء حول أوجه الترجيح بين نظريتين تقودهما مدرستان رائدتان اليوم.. إحداهما تهيئ مناهج "تطويرية تأطيرية" للنسانيس لتحفيز قابليتها التطورية.. والأخرى تركز على إرسال رسائل مشفرة لطلب المشورة من الكائنات الفضائية.. نعم لو استطعنا أن نضيف للفئران ستة كروموزومات فحسب, فربما ضممناها إلينا في المؤتمر التالي.. زملاؤنا الديمقراطيون الكونيون أو "الديموكونيون" -كما يحبون أن نسميهم- لهم رسالة واضحة: "إننا مدعوون جميعا لتسريع وتيرة البحث العلمي حتى ندفع عجلة التطور قدما.." في آخر مقال لها نشر على صفحات مجلتي الغراء تذكر الدكتورة أحلام الشحرور إحصائية حديثة تقول: "لو استطعنا تطوير عشرين بالمائة فقط من شعب "الشيمبانزي" الذي يعيش في الشتات حاليا فإنهم سيكونون دعما كبيرا للحركة التنويرية الكونية.. حيث سندخلهم دورات تعليمية مكثفة يتولى تأطيرها كبار المختصين في بيداغوجيا الإلحاد.. رسالتنا باختصار هي إذابة الفوارق الوهمية التي اختلقتها القوى الرجعية بيننا وبين إخواننا في سلسلة التطور الذين نشترك معهم في سلف مشترك.." التفت الأستاذ عرقوب إلى الصف الحيواني وقال: "انظر إلى سيد "أوران غوتان" صاحب ربطة العنق البرتقالية.. أليس وسيما؟.. لكن انظر إلى الحزن يملأ عينيه.. لا أشك في أن الأمل يحدوه في نجاح هذه الجهود التطويرية النبيلة.. أما عن الثياب, فإن الزملاء يرون أن كسوة "زملاء التطور" خطوة في الطريق الصحيح.. حيث أعطت بعد عام نتائج مهمة.. منها أن شعر "الكلاب التي لبست الثياب" بدأ يتساقط.. يا له من تطور ملحوظ!.." حين بلغ هذا الموضع من كلامه بدأت أشغال المؤتمر بإنشاد مقطوعة غنائية ما أن بدأت حتى انخرطت الكلاب في عواء.. إنه يعرف هذه الكلمات.. نعم إنها فصول من: "هكذا تكلم زرادشت" نظمها شاعر الإلحاد المبدع "أبو المجامر".. استمع إلى الترانيم يرافقها النهيق والمواء والعواء.. فكاد أن يغلبه البكاء -من فرط التأثر- لولا أنه تجلد..

      انتهت الافتتاحية الفنية ثم دخل الضيوف المميزون.. يتقدمهم عميد ملاحدة الشبكة بلحمه وشحمه الزميل شقيق بن آوى.. لقد افتتح وحده مائة صفحة "فيسبوك" وعشرين قناة "يوتيوب" وخمسة منتديات.. الزميل يحتفظ في جعبته بمئات المعرفات.. يكتب المقال.. ثم يعلق عليه.. ويمدح نفسه.. ثم يعود بمعرف آخر فيشتمها.. وهكذا دواليك.. إن الزميل يتحرك في الفضاء الإلكتروني وحيدا كالفارس المغوار.. فيحسبه الخصوم جيشا عرمرما.. أخذ الجميع مقاعدهم.. للأسف لم يتمكن أكبر المدعوين من الحضور.. إنه إمام الإلحاد العالمي البروفيسور الذي لم يستطع حفظ اسمه قط.. كل ما يعرفه أنه يسكن جزيرة نائية يلفها الضباب.. إنه ملحد متمرس إذا سئل عن الدين صار كالذئب الشرس.. ما أحوج الزملاء إلى التتلمذ عليه.. بعضهم يدعوه بالقسيس لسعة إلحاده.. لكم كان يود أن يلقاه هنا ليسأله عن تفاصيل نظريته عن الأصول الفضائية للحضارة الإنسانية وأوجه الجمع بينها وبين النظرية النسناسية لسلفه دارون.. هذا إشكال آخر يصيبه بالصداع ولم يجد له بعد جوابا شافيا على الشبكة.. حسنا سيؤجل النظر في هذه المعضلة ريثما يتشرف بلقاء ملحد موسوعي من طينة "دونكي" أظنه اسمه هكذا.. لكن أليس هذا اسم حمار في لغة تلك الجزيرة؟ لا يهم إنه مجرد اشتراك لفظي آخر.. ثم ما المانع من أن يستعير ملحد الأسماء الحيوانية وأن يتقلد الأوسمة البهيمية؟ لا مانع أبدا بل إن نظرة إلى أعضاء المؤتمر يلمس التمازج الأخوي الدارويني بين أبناء "الخلية الواحدة" التي نشأت يوما ما صدفة –كما هي نظرية الإلحاد- ثم ألقت الملخوقات الفضائية عليها برنامجا ذكيا أسماه العلماء بعد اكتشافه "دي إن إيه".. فلماذا لا يدعى البروفيسور "دونكي" أو البروفيسور "حمار" لا أظنه يمانع أبدا.. لكن ربما يمانع الحمار.. لا إشكال أيضا.. حين يتطور ويستطيع الاعتراض نسمع رأيه.. لا بد أن نتحلى بالتسامح في هذه الظروف العصيبة ريثما تتحقق الديمقراطية الكونية التي تنصهر فيها الجراثيم والحشرات والبشر والحيات في بوتقة واحدة فتزول عن الإنسان نظرة الإستعلاء ويخلع عنه أوهام الكرامة والتفرد التي هي آخر الرواسب الدينية..

      بدأ الزميل من حركة "الديمقراطية الكونية" كلمته.. وأرادها أن تبدأ بشيء طريف يلطف الجو المفعم برائحة الدخان وروث الدواب.. فوضع طائر ببغاء على الطاولة أمامه وأشار إليه بإشارة يعرفها فانطلق الببغاء صارخا: "النجدة ملحد.. ملحد.. النجدة النجدة.. لص لص.." فأشار إليه يسكته فلم يسكت فانفجرت القاعة بالضحك فقال معتذرا: "إنما لقنته أن يقول: "أنا ملحد" فإذا بالأمر يختلط عليه فلفق كلمات أخرى تعلمها" كان يتكلم والببغاء لا يكف عن الصراخ.. فلم يستطع أن يتم كلمته.. فانصرف إلى مكانه في الصف الأول معتذرا.. جاء بعده ممثل "النهضة العلمية اللاأدرية" فلما أخذ مكانه صرخ به الببغاء مرة أخرى: "ملحد ملحد النجدة.." فقام المنظمون باصطحاب الضيف المزعج خارج القاعة.. حين بدأ الزميل في إلقاء كلمته: طرح عشرين سؤالا.. ثم قال: من قال "لا أدري" فقد برئ وأنصف.. وأنا لا أدري شيئا فأترك الأسئلة مفتوحة للتصويت العام ثم نزل من المنصة.. شعر أبو الإلحاد بضآلة الزملاء وتساءل أين تلك العروض العلمية الدقيقة وتلك الخطب الإنترنيتية الرنانة؟.. حينها تمنى لو أنه يعرف عنوان العلامة الحبر "جوجل" ليدعوه إلى مثل هذا المؤتمر.. فإن الجعجعة اللفظية التي يهتز بها العالم الإلكتروني للملاحدة ليست إلا قبسا من علومه.. إنهم ملاحدة "القص واللصق".. زال عنه حزنه لمنعه من إلقاء كلمته.. لأنه لو تكلم لقال: "أرى أن الإلحاد الافتراضي حلم جميل يوشك أن يتحول إلى كابوس فظيع حين يغادر به أصحابه أسوار العالم الرقمي.." التفت إلى الأستاذ عرقوب فوجده يغط في نوم عميق.. استسلم هو الآخر لإغفاءة لم ينبهه منها إلا نهيق مفاجئ.. فتح عينيه فإذا به يبصر الحمار يتقدم جحافل التنوير وهي تغادر القاعة في موكب مهيب...

      التعديل الأخير تم بواسطة هشام البوزيدي; الساعة 09-04-2011, 20:21.

      [gdwl]اللهم احقن دماء إخواننا في سوريا وفي كل البلاد وأبدلهم من بعد خوفهم أمنا

      لا يحسن أن ينزل على أفضل رسول، أفضل كتاب بلسان مفضول, ومن لم يعقل عن الله تعالى:{‏بلسان عربي مبين} فلا عَقِل.(الزمخشري)
      قد لا توجد لغة سوى العربية, بهذا التناسق الأصيل بين الروح والكلمة والخط, كأنها جسد واحد. (جوته)
      [/gdwl]

      تعليق

      • هشام البوزيدي
        أديب وكاتب
        • 07-03-2011
        • 391

        #18
        8 صراع الأجيال: نسخة إلحادية

        أطفأ أبو الإلحاد حاسوبه بعد جولة أخرى من تجواله على أمواج الشبكة العنكبوتية, لقد ساءه ما صار يلقاه في منتديات "الجرب والجذام" من زملائه من شبيبة الإلحاد, إنه ملحد مخضرم عاش في الزمن قبل الرقمي وشم رائحة الأوراق وقلب بأنامله الصحائف, إنه ليس من هؤلاء المغرورين من حدثاء الأسنان الذين يملئون الآن نفسه غيظا, إنهم ملاحدة لا جدال في ذلك, لكنهم ملاحدة بأسنان الحليب, ولعلهم إنما ألحدوا بسبب جهود أمثاله من جنود "التنوير" المجهولين, لعلهم كانوا يبقون على تدينهم الموروث لو لم يعاصروا ثورة المعلومات, إنهم ملاحدة الصور والأرقام, لا ملاحدة الحروف والأفكار, إنهم ملاحدة الفيسبوك والتويتر, إنهم ملاحدة الجيل الثالث من الهواتف الذكية, لذا فهم موهوبون في أساليب التدليس التقني وفنون التضليل الإلكتروني, إنهم يجيدون "المونتاج" وإن كانوا مفلسين عند الاحتجاج, تجد أحدهم يبتكر فيديو في خمس دقائق يلخص فيه "مغالطات" المسلمين, لكنه يضمنه فقرات من نشيد الإنشاد أو سفر التكوين! إنهم أهل حماسة لا كياسة, إنهم أهل طيش ونزق, إنهم أهل تنطع وعجلة, لكن حسبنا أنهم يديرون العجلة, عجلة "التنوير الإلكتروني". إنه مستعد للتغاضي عن كل هفواتهم لو سلم هو نفسه منهم, لكن سهامهم أصبحت تناله, وألسنتهم صارت تنهشه.

        ما أشد وقاحتهم ونكرانهم للجميل! لقد أسمعوه اليوم أقذع الشتائم, توقف عن التفكير قليلا وتساءل: "بأي قانون مادي يكون الشتم مذموما من وجهة نظر إلحادية بحتة؟" حدق في الجدار أمامه طويلا وهو يتأمل هذا المعنى الغريب الذي خطر في باله, هل يعقل أن يكون مخطئا في انفعاله؟ ربما كان هؤلاء العفاريت حقا أعمق منه إلحادا على حداثة أسنانهم, الشتم شيء لا وجود له في العالم المادي, هل يمكن أن يكون استنكاره لتلك العبارات القاسية وتلك الكلمات الجارحة مجرد أثر لرواسب مجتمع ما قبل "التنوير"؟ ربما كان الأمر كذلك, وهب أن الشتم مذموم لسبب ما, كأن يكون محظورا بسبب التوافق الاجتماعي على ذلك, فلنتصور أن في "العقد الاجتماعي المادي": بندا يقول: "لا تشتم متنورا بما ليس فيه", ثم خطر له أنه غضب لأنهم شتموه ببعض ما هو فيه, فاستطرد في خواطره: "إذن فليكن البند هكذا: "لا تشتم متنورا أبدا"", ما هذا الهراء؟ كيف نفرض على الإنسان المادي قيدا مثل هذا؟ يجب أن نمحو من قاموس المجتمع المتنور هذه القيود الرجعية التي تكبل حريته بسلسلة طويلة من "افعل ولا تفعل", و هب أن شيئا مثل هذا يوجد بالفعل, ماذا لو رفض أحدهم أن يوقع مثل هذا العقد فضلا عن أن يمتثل له؟ ماذا لو احتفظ لنفسه بحقها في الغضب, وفي ترجمة هذا الغضب في صورة شتائم تنفس الحرارة التي يثيرها ارتفاع نسبة الأدرنالين في جسمه, فهل نلومه على هذه السلسلة من التفاعلات المادية؟ أبدا, هل نلوم الماء لأنه يغلي فوق النار؟ هل نلوم الحجر الساقط من الجبل؟ أبدا لا عتب على المادة ولا ملام, ولا استدراك على سلوكها الحتمي ولا كلام, كل ماهنالك أنها تفعل ما تأمرها القوانين المادية بفعله, و الانسان مادة, والمادة تخضع لتفاعلات لا تملك حيالها شيئا, فالغضب انعكاس لإفراز الأدرينالين, مما يؤدي إلى سلسلة معقدة من التفاعلات تفضي إلى رد فعل يسمى شتما وسبابا وتقريعا ولعنا, هذا كل شيء, لكن المادة تخضع لحتمية قاهرة, فهل يقال مثل ذلك عنه وهو الإنسان الحر؟ لكن هل هو حر فعلا؟

        أحس بالتعب والصداع, وغضب من نفسه وعجب منها كيف تقوده في متاهات سوداء لا يكاد يبصر منها مخرجا, غضب من طوفان الأسئلة التي تنقض عليه من كل حدب وصوب, ولا يكاد يحير لها جوابا, غضب لأنهم شتموه, ثم غضب حين اكتشف أنه لا يستطيع القطع بأن الشتم أمر يستحق أن يغضب لأجله, بل إن تفكيره بلغ به زاوية موصدة لا يكاد يتبين من خلالها إن كان يملك شيئا من أمره, إنه لا يعلم إن كان حرا يملك الاختيار, أم أنه كتلة مادية تزحف على سطح الأرض تحكمها تفاعلات مادية حتمية؟ كل ما يعلمه أنه لا يعلم شيئا, لكنه ما يزال غاضبا, لكنه الآن غاضب على نفسه, يجادلها ويلومها ويسألها: "فيم الغضب؟ " ثم إنه من المشين أن يلوم أحدا على شيء هو فيه, فهو مثلهم شتام سليط اللسان, لكن مهلا, أليس هو نفسه وأقرانه من ربى هؤلاء الصبية وصنعوهم على أعينهم وسقوهم بلبانهم؟ أليس هو من شحذ ألسنتهم وأظفارهم حتى صارت كالأسنة والحراب؟ نعم إنه يقر بذلك, ولكن استعمال ذلك كله يفترض أن يقتصر على إدارة حرب "التنوير" مع المتدينين, ها هو ذا يضبط نفسه مرة أخرى متلبسا باستعمال كلمة ملوثة ميتافيزيقيا: "يفترض" وما للملحد والافتراض؟ الملحد جسم مادي كما أن الزنك والقصدير والفحم أجسام مادية, هل تملك هذه كلها أن تفترض؟ كلا, فلم يفترض إذن وهو ملحد؟ لِم يندم؟ لم يغضب؟ لم يفرح؟ لم يضحك؟ لم يبكي؟ لم يبسم؟ إنه بكل أمانة لا يدري, لكنه يحذر كل الحذر أن يقر مثل هذا الإقرار بين الزملاء وفي منتديات الخصوم, تساءل منكسرا: "متى يصفو لي الإلحاد؟ ومتى أخلصه من كل هذه الشوائب المتراكمة؟"

        إن الزملاء مراتب ثلاث تنصهر كلها في بوتقة الإلحاد دون أن تمتزج تماما, أعلاها وأجدرها بتقديره واحترامه العميقين "طبقة الملاحدة" إنهم علية القوم وزبدة "التنوير" إنهم ملأ المجتمع المادي. إنك تجد أحدهم في منتداه يصرخ فخورا متحديا: "إلي أيها المتدينون, هلموا إلي: "أنا ملحد" إنك مهما قلبت عينيك في هذه الشرذمة القليلة من رواد "الإلحاد الإلكتروني" فلن تجد شيئا اسمه الحياء, لقد تحرروا منه تماما. ودونهم في الرتبة زملاء ألحدوا على استحياء فزعموا أنهم يؤمنون بخالق لا يعرفون له اسما ولا صفة, وهم إنما يريدون هذا الوجود المادي برمته, إنهم يحيدون عن الإقرار بألوهية الخالق فيسقطون في تأليه المخلوقات, فالكون في عرفهم يستحق كل تبجيل وتعظيم, إنهم ضعفاء الإلحاد, يمسكون عصا "التنوير" من الوسط فيتسمون "لا دينيين" إنهم لم يبلغوا بعد أن يقولوا كلمتهم صريحة فيلتحقوا بالكوكبة التي تقود قاطرة "الإلحاد" لكنهم يبقون زملاء جديرين بكل دعم. وفي أدنى مراتب "الإلحاد الافتراضي" زملاء مذبذبون يميلون مع كل هبة ريح, ليس لآرائهم ثبات ولا لإلحادهم أساس إنهم لا يدرون ولا يعلمون ولا يوقنون إنهم رواد اللاأدرية. حينها بدأ أبو الإلحاد يتصور مسائل الخلاف بينه وبين هذه الطبقة, ثم استعرض كل الأسئلة العالقة في ذهنه والتي لو أجاب عنها بإنصاف لقال: "لا أدري", فلو سئل: "ما دليل إلحادك؟" أو "كيف أنكرت خالقك؟" أو "كيف تجزم أن لا حياة إلا هذه الحياة؟" أو "كيف جزمت بأن الإنسان جسد بلا روح؟" لما كان له جواب مقنع سوى أن يقول: "لا أدري" أمر غريب إن الهرم الإلحادي يوشك أن ينقلب رأسا على عقب في رأسه, هل يعقل أنه كان طيلة الوقت يراه مقلوبا؟ لقد كان يرى قمته سفحا, وسفحه قمة, إن أدعياء الإلحاد الخالص في أسفل السلم الإلحادي في واقع الأمر, إنهم في سفح الهرم, إنهم يدعون أمرا لا حقيقة له ولا برهان عليه, إنهم مجرد جعجعة لفظية فارغة, لهذا السبب يكثرون السباب, لهذا السبب يكثرون الضجيج. أحس أنه يوشك أن يحل لغزا طالما حيره, لماذا لا يجيب الملاحدة عن أكبر سؤال للمتدينين: "أعطونا دليلا واحدا على إنكار الخالق." السبب هو أنهم "لا يدرون ولا يعلمون ولا يوقنون." إذن الزملاء في الفرع "اللاأدري" من "حزب التنوير" أقوم سبيلا, إنهم أتوا الأمر من بابه, يقولون "لا ندري" ومن قال: "لا أدري" فقد أنصف ومن كان لا يدري ثم يكابر فلن يأتي بشيء سوى السفسطة والبقبقة اللفظية. أما زملاؤنا "اللادينيون" فهؤلاء يصدق عليهم لقب "منافقي الإلحاد" إنهم متلونون, إنك تعجب من سرعة تقلبهم وتناقضهم, إنهم كائنات حربائية تلبس لكل حالة لبوسها, هؤلاء أولى بأحقر المراتب. تنهد أبو الإلحاد لما بذله من جهد تنويري مضن, وشعر بشيء من الإرتياح, وقال يحدث نفسه: "يجب أن أغير معلومات الديانة في سيرتي الذاتية, فأنا من اليوم "لا أدري" ولست "ملحدا" بالمعنى الذي كنت أعتز به." خف غضبه قليلا ورضي من أسئلته المتكاثرة أن يؤجل النظر فيها كما يملي عليه منهجه الجديد الذي يرفع الشعار الرنان: "لا أدري"...

        التعديل الأخير تم بواسطة هشام البوزيدي; الساعة 09-04-2011, 20:22.

        [gdwl]اللهم احقن دماء إخواننا في سوريا وفي كل البلاد وأبدلهم من بعد خوفهم أمنا

        لا يحسن أن ينزل على أفضل رسول، أفضل كتاب بلسان مفضول, ومن لم يعقل عن الله تعالى:{‏بلسان عربي مبين} فلا عَقِل.(الزمخشري)
        قد لا توجد لغة سوى العربية, بهذا التناسق الأصيل بين الروح والكلمة والخط, كأنها جسد واحد. (جوته)
        [/gdwl]

        تعليق

        • مصطفى شرقاوي
          أديب وكاتب
          • 09-05-2009
          • 2499

          #19
          هل تعِب حماره يا سيد هشام ؟

          أم رأى هذا الحل مؤقت ليرتاح عقله .. فللمرة الأولى نجده لا يستطيع إقناع نفسه وإجبارها على تصديقه هذه المرة فهي من أرغمته هذه المرة على مرادها .... ربما يعود لرشده صاحب الصولات في مرات قادمة تلو المرات... لا يدري

          تعليق

          • هشام البوزيدي
            أديب وكاتب
            • 07-03-2011
            • 391

            #20
            المشاركة الأصلية بواسطة مصطفى شرقاوي مشاهدة المشاركة
            هل تعِب حماره يا سيد هشام ؟

            أم رأى هذا الحل مؤقت ليرتاح عقله .. فللمرة الأولى نجده لا يستطيع إقناع نفسه وإجبارها على تصديقه هذه المرة فهي من أرغمته هذه المرة على مرادها .... ربما يعود لرشده صاحب الصولات في مرات قادمة تلو المرات... لا يدري
            سيدي مصطفى,
            صاحبنا المبتلى بلوثة الإلحاد له عالمان: عالم داخلي هش يموج بالإشكالات التي لو أفصح عنها لمات إلحاده, وعالم خارجي مثل قشرة العقرب توحي بالثقة والقوة, وهذه اليوميات تسعى للكشف عن تفاعل هذين العالمين, لأن الملحد يعيش حالة أشبه بانفصام الشخصية, فهو يطلب المحال, فالإلحاد لن يتحقق له أبدا صرفا كما يصوره دعاته المتطرفون, لكن صاحبنا المذبذب يمر عبر سلسلة معقدة من الإشكالات لا ندري إلى أين تفضي به؟ ربما أفضت إلى موت إلحاده..
            على ذكر الموت.. اليومية التالية تسعى لترجمة الموقف الإلحادي من الموت وأثره على شخصية الملحد..
            شكرا لتعليقك واهتمامك المستمر.

            [gdwl]اللهم احقن دماء إخواننا في سوريا وفي كل البلاد وأبدلهم من بعد خوفهم أمنا

            لا يحسن أن ينزل على أفضل رسول، أفضل كتاب بلسان مفضول, ومن لم يعقل عن الله تعالى:{‏بلسان عربي مبين} فلا عَقِل.(الزمخشري)
            قد لا توجد لغة سوى العربية, بهذا التناسق الأصيل بين الروح والكلمة والخط, كأنها جسد واحد. (جوته)
            [/gdwl]

            تعليق

            • مصطفى شرقاوي
              أديب وكاتب
              • 09-05-2009
              • 2499

              #21
              ننتظر ذلك لنرى ماذا يفعلون في الغرفة الضيقةِ المظلمة , أمَّاذا يقولون عن النعيم بداخل حفرة وأيضاً ماذا عن العذاب ؟ ماذا يظنون في تلك الروح أهي تتقمص أم تتملص أم تنتهي .... لا أدري , أوَّ يدري أبو الإلحاد ليخبر الكائناتِ والجماد !! أم لا يدري ؟

              تعليق

              • هشام البوزيدي
                أديب وكاتب
                • 07-03-2011
                • 391

                #22
                9 موت الإلحاد

                أوى أبو إلحاد إلى فراشه, وحاول أن يغمض عينيه فلم يقدر, لم يطاوعه النوم فتناوم, لكن النوم هجره, حاول أن يتسلى بعد الضباع لعله يمل فينام, حاول أن يصعد بخياله في سلم التطور, تخيل ذوات الخلية الواحدة كيف استطاعت بفضل الجهد التعاوني أن تلتحق بأخواتها فتكون أولى الكائنات الحية, تخيل بعض الزواحف العمياء تتجه لتغطس في المحيط, تخيل كيف نبتت لها خياشيم وزعانف, لكنه فشل في تخيل الحلقات المفقودة, بدأت الأفكار تنهال عليه, اجتهد أن يسترخي دون جدوى, كلما سكن ذهنه وأوشك أن يصير صفحة بيضاء, تسللت إليه هواجس سوداء, إنه يخاف من الوحدة, يخاف من السكون, يخاف من الصمت, الصمت يفتح باب التفكر, والتفكر يستدعي آلاف الخواطر والصور , تهجم عليه كالجيش العرمرم, إذا صدها من الميمنة هجمت عليه من الميسرة, تطرق باب عقله, تغمره ببحر من الأسئلة.

                بدأ يتساءل عن الحياة وعن الموت, لقد وطئت قدماه اليوم أبغض البقاع إلى قلبه, لقد قضى ساعة في المقبرة كأنها سنة, غطى وجهه بالوسادة كأنه يهرب مما علق بذهنه, وتقلب كأنه ينفض عن عقله هذه الوساوس الخانقة, أحس بغبار المقابر يملأ أنفه, بدأ هذا الحوار الداخلي يدور بداخله: "كيف أتخلص من هذه الهواجس؟ مالي والتفكر في الموت ولم أبلغ الأربعين بعد؟ سأعود للعناية بنفسي, سأترك التدخين, سأنظم الشرب, فلأقتصر على كأس أو كأسين في الأسبوع, مات مروان, لقد كان وسيما ممتلئا شبابا؟ سقط فجأة كجذع من خشب أثناء المباراة, توقف قلب مروان قلب هجوم الفريق, مات في الوقت الإضافي, مات وهو يركض في حالة شرود, قال الأطباء: أزمة قلبية, سحقا لهم لماذا لم يكتشفوا ذلك قبل موته؟ قطعة لحم في حجم التفاحة تقذف بك بعيدا إلى العالم الآخر, أعني عالم الموت والفناء, وأي شيء الموت؟ لا شيء, الموت عدم, لكن مهلا لماذا قد أخاف من شيء لا وجود له؟ كيف أخاف من لا شيء؟ تنهد كأنه يدفع من صدره هذا الانقباض الذي يجثم عليه, ثم تساءل: ما زلت أخاف من هذا الشيء الغامض البغيض منذ عقلت, إنهم يقولون إن الموت أخو النوم, لكني أحب النوم فلماذا أكره الموت؟ إذا كنت مجرد مادة صماء, فلماذا أخاف من الموت؟ ربما هي الغريزة الحيوانية الداروينية؟ انظر إلى حيوانات الأدغال, إنك تكاد تقرأ معاني الرعب على وجه الحمار الوحشي المبرقش وهو يعدو بأقصى سرعة لينجو بجلده ولحمه وعظمه وبياضه وسواده من السبع الضاري الذي يلاحقه, إنه يكاد يشعر بأنفاسه الملتهبة تلفح قفاه, أليس هذا خوفا من الموت؟ بلى ولكن ما هذا الخوف أقصد, هذا خوف طبيعي له سبب وجيه, لكن الحمار الأنيق في بذلته المخططة, مثل نجوم السبعينات, لا يخاف حين يكون في سربه في لحظات الأمن والسكينة, ينعم برفقة الأتان وبرؤية الجيل الصاعد من الجحوش ,يقضم العشب الأخضر ويكرع من ماء النهر, هل نتصور حمارا ممددا فوق حشائش السافانا الإفريقية تتصارعه هذه الأفكار الوجودية التي تعصف في رأسي الليلة؟ هل سمعتم بحمار يعاني من الأرق ويدمن المهدئات؟ أنا لا أقصد الخوف الدارويني الذي يصرخ في داخل كل حيوان: "أريد أن أبقى, أريد أن أعيش", إنما أعني هذا الخوف الذي يتملكني الآن, إنه شيء مختلف, إنه شيء غريب, فأنا لا أرى له من سبب, ترى هل يمكن تفسير هذا الخوف "الفلسفي" من الموت بالرجوع إلى مبادئ نظرية التطور؟ لا أدري, لكن التطور يعني الانتقال من طور أدنى إلى طور أعلى وأفضل, وأي فضل في إحساس بالخوف يشل تفكيرك وينغص عيشك؟ أنا كائن مادي قلبا وقالبا, أيقنت أن الروح خرافة, الوعي تفاعلات كيميائية, تفاعلات معقدة لكنها تبقى مجرد تفاعلات, هل يخاف البحر حين تلقي فيه حجرا؟ إنه لا يهتم ولا يتقي, بل ينتظر في هدوء حتى يلامس الحجر صفحته فترتسم عليه أمواج دائرية رقيقة كأنه يبتسم, إنه تعبير البحر عن عدم اكتراثه, هل يترقب البحر سقوط الحجر؟ هل يخاف؟ إنه لا يبالي ولا يأبه بشيء, إنها عظمة المادة, وأنا مادة, ففيم الجزع إذن؟ أمر محير, انظر إلى التلفاز تطفئه وتشغله بزر واحد, الإنسان آلة داروينية متطورة, لماذا لا نعتبر موته مثل إطفاء أي آلة أخرى نعرفها؟ تضغط الزر قليلا فينتهي كل شيء؟ لكن الأمر ليس بهذه البساطة أبدا, حتى من يقف والسكين بيده ليحز شرايينه, أو يحمل كأس السم ليحتسيه, أو يقف على حافة هاوية ليتردى منها, حتى هذا الإنسان المقبل على الإنتحار يشعر أن الأمر لا يشبه أبدا إطفاء جهاز أو تعطيل آلة, لكن لماذا؟.. هل المادة تجزع؟ هل المادة تخاف؟ هل المادة تتردد في فعل ما ينبغي لها فعله؟ أبدا فالمادة في غاية الحزم والمثابرة والبرود, تحية تقدير وإكبار للمادة, المادة لا تعرف لا العواطف ولا الكلام الشاعري الرقيق, فمن أين جاءنا هذا الخوف القاتل؟

                سأعتني بنفسي, لكن ذلك لم ينفع مروان, لقد مات في الثلاثين, إذا كانت الرياضة لم تنفعه فهل تنفعني؟ أنا لا أريد أن أموت, على الأقل أريد أن أعيش كما يعيش الناس سبعين, ثمانين, تسعين, أو مائة سنة, ولم لا؟ تبا, حتى ألف لا تشبع نهمي للحياة! لماذا يسكنني هذا الإحساس برغبتي في البقاء؟ هل هذا هو منشأ فكرة الخلود التي يدندن حولها أهل الأديان؟ أمر مثير للاهتمام أن يكون لهذه الفكرة الدينية مكان في تفكيري وأنا ملحد عريق في الإلحاد, إني أتمنى الخلود وإن كنت لا أفصح عن هذه المُنية, لكنها هنا في أعماق نفسي, إنها في قعر سحيق, لكنها تصرخ بي: "لا تكابر, أنت لن تشبع أبدا من الحياة" واأسفاه, إني أؤمن وأقطع وأجزم بأني لا بد أن أذوق كأس المنية, لماذا أعجز عن تقبل الأمر بكل هدوء كما يفترض بالمادة أن تفعل ما ينبغي لها فعله؟ عجبا, شيء ما داخلي لا يقنع بمطلب دون الخلود, ياه, لو كان ذلك ممكنا؟ إنها فكرة عريقة في القدم, لقد حنط المصريون فراعنتهم, ماتوا ولم يمت أملهم في حياة أخرى, مساكين, كانوا يؤمنون بحياة أخرى, فماذا كان من أمرهم؟ الحياة الأخرى الوحيدة التي نالوها هي حياة خلف الزجاج البارد في متاحف لندن وباريس, لكن الزملاء الملاحدة أنفسهم بدأوا يتساقطون كالذباب ضحايا لهذا النهم الأسطوري للخلود, إن بعضهم دفع كل ما يملك ليدفع التكاليف الباهضة لحجز تذكرة العودة إلى الحياة, النيتروجين هو الكلمة السحرية التي تعزف سيمفونية "أحلام الخلود" في آذان الزملاء المتنورين, كما كان التحنيط البدائي يعزفها في أذن توت عنخ آمون ورمسيس الثاني.

                تخيل أبو الإلحاد نفسه مغمورا بالنيتروجين السائل, ينتظر الجيل الموعود الذي سيفك اللغز المحير لغز الحياة, لغز الموت, لغز الوجود, ليحقق حلمه المنشود, فيهبه تذكرة إياب إلى الحياة التي سيغادرها مكرها, أحس برائحة النيتروجين التي لم يشمها من قبل, لكنه تخيل أنها رائحة باردة, تخيل نفسه ملقى في تابوت زجاجي كأنه ثور أرجنتيني مجمد, وهل يعقل أن يعود بعدها إلى الحياة, إلا كما يتصور أن قطع الديك الرومي في ثلاجته ستتجمع ليصيح من جديد, يا له من حلم جميل, لكنه حلم بعيد المنال, فهو لا يملك الملايين لسد نفقات التحنيط عالي التقنية, ما أشد جشع زملائنا في العالم الجديد, عالم الأفلام والأحلام, يبيعون وعدا معلقا قد تخلفه القرون, ثم يقبضون ثمن الخدمة الموعودة نقدا, هلا أخروا السداد إلى وقت الوفاء؟ هلا اقتدوا في بيعهم للخلود بخصومنا المتدينين؟ إنهم لم يجعلوا العودة للحياة حكرا على الأغنياء دون الفقراء, ولا على البيض دون السود, لقد جعلوا الباب مفتوحا يلجه كل أحد, كل ما هنالك أنهم جعلوا الإنسان يقرر بنفسه كيف تكون جولته الثانية من رحلة الحياة, كأنهم قالوا: "بيتك هناك, فاجعله نعيما أو جحيما" يجب أن أقر لهم رغم اختلافي معهم, أنهم أكثر إنصافا من هؤلاء التجار مصاصي الدماء, إنهم أحفاد شايلوك, إنهم سماسرة يتجرون في الخلود ليراكموا الكنوز, أما أهل الأديان فإنهم ربطوا فكرة الخلود بأمر يستطيعه كل أحد, وليس بكم الأصفار عن يمين الحسابات البنكية, شعر بالفزع مما دار في ذهنه, لقد تزحزح إلحاده, وكاد يركن إلى الإيمان, انفجر ضاحكا, وهو يقول: "لقد فضح الموت الإلحاد" عدنا من حيث بدأنا, اتفق المؤمن والملحد على أن الحياة سر دفين, علق كلاهما الكشف عنه على المستقبل, لا إشكال أن يؤمن المتدين بالبعث والنشور وبالجنة والنار, لكن العجب كل العجب أن يسترزق الملحد المتنور من نفس ما ينكره على خصومه نهار مساء, إن الملاحدة أصبحوا يؤمنون بالبعث, لقد صاروا يبيعون الوهم, إن الملاحدة لم يعودوا ملاحدة, إن الإلحاد صار ملة ودينا وإيمانا, إن الإلحاد أثبت أن الإنسان كائن متدين, لقد أحسنت باعتناق المذهب اللاأدري, فهذا الإلحاد الملفق لا يكتفي بالسطو على شذرات من التراث الديني, بل يستثمرها للسمسرة في بورصته "الشايلوكية". لقد اكتملت أركان الملة "التنويرية" ولم يبق إلا تأسيس كنيسة إلحادية تقدم فيها القرابين والنذور للقسيس "دونكي" بالوسائل التقنية المتطورة.

                شعر أبو الإلحاد بالإحباط, إنه لا يملك ثمن النيتروجين, ولا يملك أن يقتلع من نفسه فكرة الخلود, ولا يملك أن ينام, كل ما بقي له أن يغوص في أحلام اليقظة, تخيل نفسه من خلف ستار القرون وقد استنقذه أبناء المستقبل من مسبح النيتروجين, فتح عينيه فنظر إلى كائنات خضراء تلبس ثيابا بيضاء وتضع الكمامات, وبدل أن يتساءل هل صارت الأرض مستعمرة في قبضة شعب المريخ, تساءل: "كيف له أن يعرف أنه هو الشخص نفسه الذي كانه قبل أن يغطسوه في المحلول النفيس؟ كيف علم الجسد المحنط أنه جسد أبي الإلحاد؟ إنه الآن ممدد في قاعة معقمة في ضيافة المخلوقات التي ينسب لها البروفيسور "دونكي" برمجة حمضنا النووي, فكيف يكون الشخص نفسه الذي كان يوما ما في غرفة حقيرة, ممددا على سرير خشبي متهالك, تتصارعه الهواجس ويكده الأرق؟ ما هو هذا الشيء الذي يدعوه "أنا"؟ هل هو هذه البلايين من الخلايا المتجمعة؟ وكيف عرفت الخلايا أنها تكون كيانا متجانسا حتى تدعو نفسها فجأة "أنا" بدل أن تقول "نحن"؟ من هو هذا "الأنا" الذي يسافر عبر الزمان والمكان ولا يلتبس بغيره أبدا؟ ماهو مفتاح هويتك يا أبا الإلحاد؟ هل يمكن أن نفترض على سبيل التنزل أن هذا "الأنا المجهول" يبقى في صورة ما, وفي بعد آخر لا نعلمه بوسائلنا الفيزيائية والتقنية المحدودة؟ وإذا كان هذا "الأنا" الذي أعنيه حين أقول "أنا" هو منبع هذا الطوفان من الأسئلة التي تكاد تهشم رأسي, فلم لا يظهر حتى أراه وألمسه وأطمئن عليه؟ من "أنا" يا "أنا"؟ هل يعقل أن يكون هذا "الأنا" يسكن بعدا آخر من أبعاد المادة لا نعلمها بعد؟ ربما تعرف المخلوقات الخضراء عنوان هذا "الأنا" وموطنه, فتستقدمه يوما ما لتعيده مرة أخرى في أجساد المحظوظين الذين يحظون بحمام بارد طويل الأمد في حاويات النيتروجين؟ من يدري ربما كان الزملاء الشقر على حق؟ فقد علمني الإلحاد ألا أستهين بأي احتمال مهما دق ورق حتى أشبه المحال." وعلى إيقاع هذا الأمل الضئيل الذي تناهى في دقته حتى كأنه هباء, شعر أبو الإلحاد ببصيص من السكون, فأغمض الجفون, وبدأ النوم يغزو رأسه شيئا فشيئا...


                التعديل الأخير تم بواسطة هشام البوزيدي; الساعة 19-07-2011, 14:55.

                [gdwl]اللهم احقن دماء إخواننا في سوريا وفي كل البلاد وأبدلهم من بعد خوفهم أمنا

                لا يحسن أن ينزل على أفضل رسول، أفضل كتاب بلسان مفضول, ومن لم يعقل عن الله تعالى:{‏بلسان عربي مبين} فلا عَقِل.(الزمخشري)
                قد لا توجد لغة سوى العربية, بهذا التناسق الأصيل بين الروح والكلمة والخط, كأنها جسد واحد. (جوته)
                [/gdwl]

                تعليق

                • هشام البوزيدي
                  أديب وكاتب
                  • 07-03-2011
                  • 391

                  #23
                  10 تأملات داروينية

                  عاد أبو الإلحاد من السوق يتصبب عرقا, دخل بيته وهو يحمل الفقة, اشترى بيضا وباذنجانا وسمكا, و أعد لنفسه فنجان شاي, ثم جلس ينتظر عودة أم الإلحاد لعلها تهيئ له طبقا شهيا من الباذنجان المحشو بالسردين المفروم. إنه طبقه المفضل. لقد وجد هذه الوصفة يوما في قسم الإستراحة في أحد منتديات "الجرب والجذام". ومنذ ذلك اليوم وهو يكاد يشعر برائحة الخنوزة تهجم على أنفه كلما دخل على زملائه الافتراضيين, ربما تنبعث تلك الروائح من بين ركام الشتائم والكلام البذيء, وربما تفوح من الوصفات الغريبة في قسم الإستراحة, فهو رغم إلحاده العميق لا يستسيغ كل ما يروج في المطبخ الإلحادي, كل ما في الأمر أن هذه الوصفة الفريدة وافقت هواه. جلس يتخيل مقادير الزيت والثوم والليمون والبهارات اللازمة لطبقه المنشود, وتساءل كم من الوقت يلزم الصدفة الخلاقة لتهبه طبقه الشهي الذي تنجزه زوجه في أقل من ساعة؟ لا بد أن الصدفة تحتاج زمانا مديدا لهذه الغاية كما هي عادتها, حاول أن يحسب احتمال تكون مثل هذا الطبق اللذيذ بمحض الصدفة, يبدو أنه احتمال ضئيل جدا, لكن الطبيعة تعمل بصبر وأناة, من حسن حظه أنه لا يعتمد على الصدفة في مثل هذه الأمور المصيرية, فإن مصارينه لن تحتمل طويلا. بدأ يحتسي الشاي و يتأمل محتويات قفته, تفكر في غلاء الأسعار وفي ندرة الخضار, سمع أن ارتفاع سعر البنزين هو السبب في ذلك, تخيل كيف سيتحول هو نفسه إلى بنزين بعد ملايين السنين, تساءل هل سينتهي يوما ما محترقا في محرك جرار يحرث الأرض أو في خزان صحن طائر يجوب الفضاء, لكنهم سيستعملون طاقة أخرى على الأرجح, لا يهم, فالمادة لا تفنى ولا تستحدث من العدم, لكنه لو لم يأكل شيئا فإنه يوشك أن يغمى عليه من الجوع, نظر إلى سمكة سردين بجلدها الفضي البراق, نظر إلى عينيها الجميلتين فوجدهما جاحظتين كأنهما تنظران إلى شيء ما, تخيلها كيف كانت تسبح في رشاقة بالغة في أعماق المحيط حين اكتشفت فجأة أنها وقعت في الفخ , وأن الشبكة أطبقت عليها من كل جانب, خاطبها قائلا: "للأسف فإنك خسرت معركة البقاء, إن أسلافك لم يفهموا آليات الانتخاب الطبيعي كما ينبغي, لقد جازفوا بالبقاء في المحيط, ربما ظنوا أن المستقبل مظلم على ظهر اليابسة, ماذا لو كانوا بادروا باستكشاف البر؟ من يدري لو كانوا فعلوا فربما كنت الآن مكاني تلبسين الثياب الأنيقة وتنعمين بالشاي الأخضر الصيني, ولكنت تنظرين إلي في القفة وتعجبين من زعانفي المدببة ورائحتي الغريبة", تخيل نفسه مقليا أو مشويا, يا له من مصير مؤلم, لكن لحسن حظه أنه ارتقى في سلم التطور درجات كافية جنبته هذا العذاب المؤلم, لكن أهل الإسلام يتوعدونه بنفس المصير لأنه كفر بدينهم و اعتنق "ديانة" التطور, تفكر: "إنهم يسمون كل شيء دينا, فليكن كذلك, فماذا ينقمون على التطور؟ لو لم يكن فيه علي من فضل إلا أني لست سمكة سردين فما أعظمه من دين." تمنى لو أنه لقي داروين ليشكره شخصيا على كشفه لأسرار التطور المذهلة.

                  قرر أن يسلق بعض البيض ريثما تعود أم الإلحاد, وضع البيض على النار وهو يتساءل: "ما الذي سبق البيضة أم الدجاجة؟ و ما الذي سبق الآح أم الماح؟ لو كانت الطبيعة تسير وفق تسلسل المعجم لكان الآح أسبق, لكن بحث التطور لم يصل بعد إلى هذه التفاصيل الدقيقة, لكن كيف استطاعت الطبيعة أن تعمل في هذا المجال الضيق؟ شيء عجيب, جلد وعظم, ريش ولحم, جناحان ومنقار, لا بد أن هذا كله استغرق وقتا طويلا, الطبيعة مدهشة, الطبيعة خلاقة, تصنع هذا كله بشيء لا أستطيع أن أصنع منه إلا شيئين لا ثالث لهما بيضا مسلوقا أو مقليا." تخيل أسلافه الأوائل وتساءل: "ما الذي تطور أولا الطعام أم الأسنان؟ اللعاب أم اللسان؟ البلعوم أم المريء؟ المعدة أم الأمعاء؟ ياه, إن الأمر محير فعلا" تصور إنسانا تنبت له أسنان قبل أن تكون له معدة, فماذا يصنع؟ أمر عجيب: "هل يسقط الطعام الممضوغ في البطن لا يمسكه شيء؟ لا بد أن الطبيعة تداركت الأمر بطريقة ما؟ لكن كيف عرفت الطبيعة أننا نحتاج إلى الإحساس بالجوع ثم علمت أن مجاوزة الحد في الأكل مضر في معركة البقاء فوهبتنا الإحساس بالشبع؟ لا بد أن بعض القبائل النهمة انقرضت بسبب التخمة لوجود هذه الثغرة في بنيان التطور, فبادرت الطبيعة بابتكار هذا البرنامج الوقائي الكيميائي الدقيق الذي يضبط الجوع والشبع, لكني الآن أتضور من الجوع." شرع يقشر البيض واقفا ويلتهمه في لمح البصر, لكنه ما يزال جائعا, أخذ رغيف خبز وشرع يقضمه في شره, ثم أخذ قنينة عسل, فشرع يضع منه على الرغيف ويأكل, كان لفرط جوعه لا يجيد المضغ, كان يزدرد الخبز ازدرادا ويسرطه سرطا, وكان صوت أضراسه وبلعه للطعام يقطع سكون البيت, إلى أن حل ضيف غريب, سمع طنينا عند أذنه, إنها نحلة, شعر بالرعب, إنه يخاف من النحل, صار يركض في المطبخ, لكن النحلة تلاحقه, يبدو أنها عازمة على استخلاص بقايا العسل العالق في شواربه, نظر إليها وهي تطير إليه, رفع كلتي يديه يصدها, لكن فات الأوان لقد أحس باللسعة المؤلمة على أنفه, إن حقنة الطبيب ألطف من هذه الوخزة السامة, ما له وللعسل؟ يا ليته صبر قليلا, نظر إلى أنفه وقد تضاعف حجمه, ثم نظر إلى النحلة وهي تجود بنفسها وقال متسائلا: "ماذا استفدت الآن, ها أنت تموتين, عجبا لماذا لم تطوري سلاحا لا يودي بحياتك, يا لها من حماقة, وخزة فيها هلاكك" ثم خيل إليه أنه سمع صوتا يقول له: "بل أنت ما قيمة حياتك؟ أما أنا فحياتي كفاح, وكدحي شفاء, ووخزي سلاح, وأنت فلأي شيء تحيا ولأي شيء تموت يا بن الأربعين؟" حينها أيقن أبو الإلحاد أنه صار يهذي من الجوع, ثم سمع صوتا مألوفا يقول: "عزيزي لحود ماذا جرى لأنفك, ياه كل هذا أنف؟" فأجابها: "أبدا لا شيء, لكني جائع, اشتريت سردينا.." فقاطعته قائلة: "ألم نتفق أنني لا أدخل المطبخ أيام العطل؟ ضعه في الثلاجة إلى الغد." عندها خرج أبو إلحاد يركض كالمجنون ليشتري شيئا يأكله...

                  التعديل الأخير تم بواسطة هشام البوزيدي; الساعة 09-04-2011, 20:24.

                  [gdwl]اللهم احقن دماء إخواننا في سوريا وفي كل البلاد وأبدلهم من بعد خوفهم أمنا

                  لا يحسن أن ينزل على أفضل رسول، أفضل كتاب بلسان مفضول, ومن لم يعقل عن الله تعالى:{‏بلسان عربي مبين} فلا عَقِل.(الزمخشري)
                  قد لا توجد لغة سوى العربية, بهذا التناسق الأصيل بين الروح والكلمة والخط, كأنها جسد واحد. (جوته)
                  [/gdwl]

                  تعليق

                  • هشام البوزيدي
                    أديب وكاتب
                    • 07-03-2011
                    • 391

                    #24
                    الآلهة الإلحادية

                    11 الآلهة الإلحادية

                    تصفح أبو الإلحاد منتدى إسلاميا ذات ليلة, فشده مقال يدعي صاحبه أن الإلحاد دين وإيمان. تبسم وهو ينظر إلى المغالطات تسري في أوصال المقالة, لكنه استمر في القراءة فاستوقفته الخاتمة التالية: "وخلاصة القول أن الملحد صاحب عقيدة شاء أم أبى, فهو يدين بدين, ويعبد إلها بل آلهة, بل إنه يسبحها ويمجدها سرا وجهرا, والطريف أن الملحد يغضب إن أهين معتقده الذي ينكر وجوده, ويستميت في الدفاع عنه, كما يستميت المؤمن الذي ينتسب لدين من الأديان." توقف صاحبنا عن القراءة, وتذكر الشكوك التي ظلت تساوره منذ طرده من منتديات "الجرب والجذام", وتذكر خشيته من انزلاقه من إلحاد عقلاني متنور إلى إلحاد عاطفي متحجر, تذكر اقتباسه اللاشعوري لكثير من مقولات المتدينين, تذكر تدليسه باختراع مصطلحات من قبيل "الغيب العلمي" و"الصدفة العلمية", وأقر في قرارة نفسه أن هذه السقطات توشك أن تنسف بنيان إلحاده نسفا. لكن الذي قرأه في هذه المقالة الجريئة نكأ جراحه القديمة فأزمع في نفسه أمرا. قرر أن يدخل هذه الشبهة الخطيرة إلى "المشرحة" ليكشف عما في أحشائها من التلفيق والتدليس. لا بد أن ينظر في هذه الدعوى العريضة التي يتبجح بها عليه الخصوم, ويفكك أجزائها ويكشف عن مغالطاتها واحدة واحدة حتى يستريح عقله ويخلص له إلحاده ويصفو له كفره.

                    بدأ يرتب أفكاره: "يدعي الزميل المؤمن أننا مثله أهل اعتقاد وإيمان, ودليله أننا نفتقر للدليل على ما ندين به من الإلحاد, فلننظر فيما يرد به حزب "التنوير" على هذه الفرية العظيمة" تفكر طويلا, وقلب وجوه الرأي, واستعرض أهم معلوماته الإلحادية, فلم يجد شيئا ذا بال, لم يجد دليلا علميا دامغا يدحض هذه الشبهة, كل ما في الأمر أن الزملاء يهربون من هذه الورطة بقولهم: "إن الإلحاد نفي محض, فلا يحتاج لدليل." أو يقولون: "إنما يسأل المثبت عن دليل إثباته, فكيف يسأل النافي؟" ومن الطريف أنهم يستشهدون لإلحادهم من قاموس الخصم فيقولون: "البينة على من ادعى" وكأن نفيهم ليس دعوى! وربما أضافوا -إمعانا في الهرب- : "الإلحاد يا عزيزي هو غياب الإيمان, وغياب الدليل هو دليل الغياب, وما يقال بغير دليل, ينقض بغير دليل." تأمل في كل هذه الأقاويل وحك جبهته متسائلا: "لكن أين الدليل؟" وخطر في باله أن افتقار أصل المذهب الإلحادي إلى دليل مادي دامغ يجعله بالفعل "معتقدا" بكل المقاييس, وألح عليه السؤال: "كيف يستمر الزملاء في تفريع المسائل وتشقيق الأقوال إذا كان أساس المذهب هشا بهذا القدر؟" "هل يعقل أن مذهب "التنوير" لا يقوم إلى على عمود واحد هو "الإنكار" و"النفي" و"السلب"؟ "أليس في الإلحاد "إثبات" أو "إيجاب"؟ يا للورطة, فالزملاء لا يستطيعون حتى أن ينفوا وجود وحش لوخ نيس أو الييتي, لأن العلم لا يعترف إلا بالدليل ولا يقيم وزنا للدعاوى المجردة. إذن فلا يزال ثمة احتمال لوجود هذه المخلوقات في مكان ما, بل إن البروفيسور "دونكي" الذي يطلق عليه الخصوم "قسيس الإلحاد" يعتقد وجود كائنات فضائية, وهو على سعة علمه لا يملك شبهة دليل على ذلك, لكنه من أشرس المنكرين لوجود الخالق, فهل خرج من الكون واستقصى أرجائه وتفقد زواياه النائية وأركانه, وتجول في كل العوالم الظاهرة والكامنة حتى يجزم بأمر كهذا؟ ماذا لو كان البروفيسور المشهور مخطئا؟ يسوءني أن أقر أن كل الأدلة تشير إلى أن مذهب الزملاء يعتبر بسبب هذه الثغرة العظيمة دينا يشمل جملة من التصورات والمعتقدات التي تسد النقص الحاصل في فهمهم لهذا الكون الفسيح وأسراره الغامضة. فما دام الإلحاد لا يقدم الدليل على نفيه للخالق فإن هذا -بكل أسف- إيمان غيبي مجرد عن الدليل. لكن الخصم العنيد لا يقف عند هذا الحد الذي يؤسفني أن أقر له به, بل يرمينا بعبادة آلهة, إنه اتهام مضحك, هذا مما يغني إيراده عن رده.

                    دار هذا بخلده, وهم بإطفاء حاسوبه, لولا أنه تذكر أنه قرأ يوما مقالا عن علاقة الإلحاد بعبادة الشيطان, لم يعبأ به يومها كثيرا. قام ببحث سريع على الشبكة فوجد موضوع "كنيسة الشيطان" قرأ عن أنطون ليفي مؤسس هذه الكنيسة, وقرأ عن إنجيله الأسود وطقوسه الخبيثة, كم يبغض هؤلاء الشيطانيين, لكنه حين قرأ أن هذا المعتوه زميل ملحد شعر بالصدمة, لقد وجد ملحدا مشهورا يعبد إلها و أي إله؟ إنه يعبد رمز الشر والرذيلة والفساد في العالم, إنه قطعا لا يؤمن بوجوده, لكن إقراره على نفسه أنه يعبد الشيطان بذيله وقرونه وصمة عار في جبين أهل "التنوير". لكن هذا ليس كل شيء, فهناك زميل آخر متنور يدعى بوبي هندرسن أضاف إلها آخر إلى قائمة الآلهة الإلحادية, إنه "وحش السباجيتي الطائر" لم يصدق عينيه حين قرأ عن ذلك أول مرة, ظنها مزحة إيطالية, لكن الزميل جاد لا يمزح, لقد ألف هذا الفيزيائي الملحد إنجيلا يتضمن وصايا إلهه "المعجون" ويا ليت الأمر اقتصر على الزميل الذي ورطنا في هذا المأزق القاتل, فإن البروفيسور "دونكي" نفسه يستشهد في حماس بالإله الإلحادي الكرتوني "وحش السباجيتي الطائر". على الأقل هذا ما اطلعت عليه في كتابه "وهم الإله". ولا أدري كيف خفي عليه أن من يستشهد بإله يسبح في الصلصة الحمراء ويغمس في الماء المغلي أعظم وهما ممن يؤمن بإله يخلع عليه صفات قد يقبلها العقل. إن المطبخ الإلحادي يمور بالوصفات الغريبة, ويفوح بروائح الخنوزة التي تزكم الأنوف, لكن أن ينزلق الزملاء إلى عبادة المعجنات فهذه فضيحة مدوية, تذكر أنه قرأ يوما في منتديات المتدينين أن عرب الجاهلية كانوا يصنعون أصنامهم مما يتيسر لهم, وربما صنعوها من تمر, فكان أحدهم يعبد إلهه اللذيذ ما دام شبعان فإذا جاع شرع يقضمه في خشوع أهل الجوع حتى يصير معبوده في بطنه, وحتى يفنى المعبود في العابد, وحتى تتحقق وحدة الوجود, فيصير الرب عبدا والعبد ربا, ما أتفه هذه العقول, أإله مأكول؟ أإله يتنقل بين المطبخ والكنيف؟ يجب أن أقر أن إلها يتأرجح الناس بين نفيه وإثباته, و يعجز العقل أن يحيل وجوده, خير من إله مأكول مطعوم مهضوم.

                    تصور الزملاء "المتنورين" وقد قدموا من أرجاء العالم لأداء طقوس "العبادة السباجيتية" ولأمر ما تخيلهم قد تجمعوا في سهول جنوب إيطاليا في يوم مشمس, ووقفوا جميعا في صعيد واحد, وجاء القسيس الأكبر "دونكي" بلحمه وعظمه وشحمه في حلة مهيبة, كالتي يلبسها الطباخون, ويضع على رأسه تلك القبعة العظيمة التي تزيده بهاء, وهو يقول: "أعزائي الزملاء الأجلاء.. يا أهل الأنوار.. يا من تخطيتم الأسوار.. يا أذكياء العالم.. يا زبدة الأرض.. لقد تجمعنا هنا اليوم لنجدد الولاء والطاعة لإلهنا العظيم.. ولنسبح بحمده على إنعامه العميم.. فنضعه في القدر على نار هادئة حتى يستوي في جماله وجلاله.. وحتى ننعم بطيب ريحه ومطعمه.. فلتبارككم "السباجيتي" ولتحمكم "الطماطم" أيها العابدون الأكَلة.. ثم تخيله يقرأ وصفة طبخ إلهه مطرقا ويترنم في خشوع: "إلهنا "وحش السباجيتي الطائر".. جئناك كما أمرتنا فنورنا كما وعدتنا.. وصنعناك كما علمتنا.. فاملأ بطوننا كما عودتنا.. طن من خالص المعجنات.. وطن من الطماطم غير المهجنات.. وأكياس من العطور والبهارات.. لننعم بعطاياك الباهرات.. إلهنا "وحش السباجيتي الطائر" ائذن لنا أن نغمسك في المياة المقدسة.. وأن نرفعك فوق النار المتوهجة.. لتطهرنا من أدران البشرية وتخلع علينا من هبات "السباجيتية".. إلهنا لنشكرنك "بصلصة ناسوتية بنكهة سوفسطائية ولنرشن قدرك العلية ببهارات داروينية.." شعر أبو الإلحاد بالجوع يعتصر أحشائه, وتمنى لو حضر مثل هذا القداس الإلحادي مرة في حياته, تخيل "دونكي" يخلط مقادير إلهه فوق نار هادئة, في سكينة ووقار, ثم يستمر في تلاوة الأوراد الإلحادية ويرتل فقرات من كتابه "وهم الإله" حتى استوى أمامه "إله الوهم" حينها دعا بالأطباق فطار إليه الملاحدة من كل حدب وصوب, فهم إلى معبودهم بالأشواق, فما هي لحظات و دقائق, حتى مزقت السكاكين والأضراس أوصال الإله المطبوخ وتلاشت ألياف المعبود الممضوغ, حين خرست الألسنة وأعملت فيه الأسنان كأنها أسنة, وفني العباد في معبودهم, واستيقنوا وحدة وجودهم, واختلطت المقادير العلية في بطون الرعية, وذابت المعجنات السامية في الأفواه الحامية, وسالت الآلهة "السباجيتية" في الأمعاء الإلحادية, فلا تسل عن الدموع الساخنة التي سالت من حر البهارات الهندية, ولا تسل عن المنامات الشيطانية التي أعقبت التخمة السلطانية, ولا تسل عن القيء والقلس, ولا تسل عن الجشاء والفساء. تذكر أبو الإلحاد ذلك كله واستغرب من سعة الخيال الإلحادي, وخجل من زملائه الذين يوشكون أن يعبدوا "البصل" و"الباذنجان", بعدما عبدوا "الطماطم" و"العجين", توقف عن التفكير قليلا ثم قال يحدث نفسه: "أظنهم بالفعل يعبدون كل شيء, إنهم يعظمون المادة, ويقولون إن الكون أزلي, إنهم يعبدون كل شيء بالفعل. لقد أحسنت بتخفيف حدة إلحادي واعتناق اللاأدرية." أحس بالجوع حتى تخيل أن رائحة صلصة "وحش السباجيتي" بدأت تنفذ إلى أنفه. فرفع صوته يسأل زوجته: "عزيزتي, هل العشاء جاهز؟" فأجابته: "نعم يا لحود, تعال قد أعددت طبق سباجيتي على الطريقة الإيطالية التقليدية" قام إليها مسرعا وهو يقول في نفسه: "سأطير إليك يا طبق السباجيتي الطائر."...

                    التعديل الأخير تم بواسطة هشام البوزيدي; الساعة 09-04-2011, 20:25.

                    [gdwl]اللهم احقن دماء إخواننا في سوريا وفي كل البلاد وأبدلهم من بعد خوفهم أمنا

                    لا يحسن أن ينزل على أفضل رسول، أفضل كتاب بلسان مفضول, ومن لم يعقل عن الله تعالى:{‏بلسان عربي مبين} فلا عَقِل.(الزمخشري)
                    قد لا توجد لغة سوى العربية, بهذا التناسق الأصيل بين الروح والكلمة والخط, كأنها جسد واحد. (جوته)
                    [/gdwl]

                    تعليق

                    • هشام البوزيدي
                      أديب وكاتب
                      • 07-03-2011
                      • 391

                      #25
                      12 فصل لتعليم الإلحاد

                      أحس أبو الإلحاد بالحنق الشديد على زملائه إذ هجروه وتركوه في العراء الإلكتروني عرضة لشبهات المسلمين, مضوا وخلفوه في الفضاء الرقمي المكشوف بلا سلاح, حرموه صحبتهم فخبا دخان الإلحاد من عقله رويدا رويدا, إنه وحيد شريد أعزل, تتنازعه الأخطار الفكرية في فضاء معولم, لقد أصبح يخشي على نفسه الفتنة, استلقى على فراشه, شعر بضيق في صدره, حدق في السقف طويلا, أغلق عينيه لينام فأبت جفونه أن تنطبق, لقد انضم النوم إلى قافلة الذين هجروه فإن أرقه يوشك أن يصير مزمنا, ويبدو أن جسمه طور مناعة ضد الحبوب المهدئة.

                      أطفأ السراج وشرد بعيدا, بدا كأنه يسترد شريط أيامه, أحس أنه عاد طفلا, تذكر الصبا وعاودته ذكريات أيام المدرسة, غاص في ذلك الزمان البعيد, حاول أن يستعيد ذكرياته في ضوء إلحاده, تذكر المقاعد الخشبية, والسبورات السوداء, وسترات المدرسين البيضاء, تذكر آثار الحبر الأزرق على أنامله وتذكر أقلام الرصاص, أحس برائحة تلك السنوات الوديعة, تخيلها سنوات بيضاء, بلون الطباشير, تذكر الفصول المتعاقبة والمواد المختلفة.

                      تذكر مادة الجغرافيا حتى خيل إليه أنه يسبح في أنهار الصين ويتسلق جبال الهيملايا ويتجول في غابات الأمازون, تصور أنه ينظر إلى قطعان الغنم في الأرجنتين ويتسلى بمشاهدة أسراب البطريق في القطب الشمالي, تخيل ذلك كله وتمنى لو يعود كما كان بريئا سعيدا, يركض في دروب الحياة بعقل طفل ويقفز في خفة كنغر أسترالي. تنهد كأنه يتحسر على صفاء تلك الأيام الخالية وتساءل: "أين يقع إلحاده من هذا كله؟" ماذا لو قيل له: "صف لنا الموقع الجغرافي لإلحادك يا أبا الإلحاد؟" فتح عينيه وهمهم: "لا بد أن هذا المذهب العقلاني المتنور يقع في واد سحيق بين المجازفة والتهور, أو في أخدود غائر بين الشكوك والظنون, وربما أفضى بمنتحله -إن أخفق في بلوغ بر الأمان- إلى ما يشبه ما ظنه القدماء حافة العالم. إن الإلحاد جزيرة مغرية فاتنة تسبح فوق مستنقع من الظنون والهواجس والشكوك, إنها مكان فظيع يحده اليأس شمالا والقنوط جنوبا والحيرة شرقا والاضطراب غربا, لاشك عندي في دقة هذه الإحداثيات, فزعماء الإلحاد وقسسه يحطون رحالهم إما في مستشفيات المجانين أو يركبون مراكب اليأس فيقضون منتحرين, لكنهم في كل الأحوال لا يبرحون الجزيرة الملعونة. يبدو أن الملحد يطلّق الأمل في ذات الساعة التي ينسلخ فيها عن مطلق الإيمان." تذكر كيف كتب إسماعيل أدهم : "لماذا أنا ملحد؟" نشر إعلانه الجريء في الأربعينات من القرن الماضي يتبجح "بيقينه الإلحادي", ويفاخر بطمأنينة نفسه وسكينتها, وينادي: "إني وجدت السعادة الروحية التي يدعيها المؤمنون لأنفسهم, إنها هنا, في مذهب الإلحاد." امتعض أبو الإلحاد من هذا النفاق البين: "ياله من مخاتل كذاب, فلم انتحر إذن ولما يجاوز الثلاثين؟" إنه يعلم هذا كله الآن ويخشى أن يبوح بشيء منه لأحد, إنه يصارح نفسه لأنه يفكر بعقل طفل, إنها لحظات صفاء نادرة يستسرل فيها أبو الإلحاد مع شكوكه, إن نفسه تكاد تصرخ بما لا تكاد تهمس به عادة, إنه يدفع إلى ذلك دفعا, فقد هجره الأقران, وقلاه الخلان, ونبذوه كالحذاء البالي, وأوصدوا في وجهه أبواب منتديات "الجرب والجذام", فماذا يصنع إن لم يطلق لافكاره العنان؟ لا شك أنهم يريدونه أن يجن أو ينتحر؟ يجب أن يجتاز هذه المحنة بسلام, إنه يحب الحياة, فكيف ينتحر؟ إن الحرب الأهلية تكاد تندلع في رأسه من فرط الحيرة والاضطراب, ويكاد يحس بالأعاصير الإستوائية المدمرة تعصف بين مخه مخيخه. يجب عليه أن يجد لنفسه حلا. لقد أصبح بالفعل على حافة الإفلاس الفكري, ودخل فيما يشبه الركود الكبير, هل هو مقبل على الجنون؟ غطى وجهه بالوسادة كأنه يهرب من هذا الهاجس المرعب, إن زلزالا عنيفا بدأ يهز أرجاء نفسه بقوة لا يكفي لقياسها سلم ريشتر. استمسك بسريره واجتهد أن يحافظ على البقية الباقية من يقينه الإلحادي وأفكاره التنويرية.

                      تذكر مادة التاريخ, تذكر الإنسان القديم, إنسان الكهوف الذي روض الوحوش, تذكر الحضارات البائدة, والممالك العظيمة, والمدن العامرة, تذكر بابل وسومر, تذكر الحثيين والفراعنة, تذكر الإسكندر وجينكيز خان, وتساءل: "لماذا لم يخل زمان من دين؟ ولماذا لم تخل مدينة من معبد؟ لماذا لا ينفك مجتمع بشري عن إيمان؟ من أين جاءت كل هذه الأديان؟ أحس بجحافل جيش الشك تزحف على رأسه؟ وأحس بهواجس الظنون تراود عقله, وخشي إن استسلم أن يستولي الإيمان على زمام نفسه, فتقلب في فراشه يدافع شكوكه, ويتخيل فصولا أخرى لعلها تزكي كفره وترسخ إلحاده.

                      تذكر مادة الأحياء وندم أنه لم يدرس التطور في صباه, فهو على كثرة ما سمع وقرأ عن التطور, ما يزال يشعر أنه لغز كبير محير؟ تخيل زملائه الافتراضيين في صورة فايروسات إلكترونية متطورة تحمل الأفكار الإلحادية وتترقب الفرصة المواتية لإخراجها من حيز القوة إلى حيز الفعل, ومن العالم الافتراضي إلى العالم الأرضي, تذكر كيف يتسترون في مكر بإلحادهم ولا يبوحون به إلا في منتديات "الجرب والجذام" التي ينزلقون إليها ليلا مثل فئران المختبر البيضاء, تخيلهم في صورة مرض المناعة المكتسبة, يبثون الشكوك في النفوس المطمئنة حتى تغدو متحيرة متذبذبة, مالهم وللعوام, فليتركوا للبسطاء أحلامهم الوردية وقناعاتهم الموروثة, فليكن إيمانهم وهما, أليس خيرا من حاله وهو مشرف على الجنون؟

                      تخيل منتديات الزملاء كأنها مزرعة حيوانات مثل مزرعة جورج أورويل, تقودها الخنازير والكلاب, وهذا ليس قدحا في الكلاب والخنازير أبدا, إذ لا يفصل هذه الخنانيص الذكية وتلك الجراء الوفية, عن الزملاء الذين يرتدون الثياب, إلا بضعة كروموزومات وبضع درجات في سلم التطور. لقد نسفت الداروينية أوهام الكرامة البشرية الأصيلة ووضعت حدا لاستعلاء فرد واحد من الأسرة الحيوانية على أقرانه, "ما دام الجميع يرجع إلى سلف مشترك, ففيم الفخر بالأحساب والتعالي بالأنساب؟" تصور كثيرا من الملاحدة الافتراضيين يتلونون تلون الحرباء وينقنقون نقيق الضفادع ويبثون أفكارهم التنورية في مكر ودهاء ولا يكاد يسمع لهم إلا فحيح, تخيل شعر القرود يتساقط وظهورها تستقيم وذيولها تندثر شيئا فشيئا لتلتحق بركب الإنسانية, تخيل الزرافة تمد رقبتها في طموح, فهي لا تقنع بالثمار الدانية, بل تشرئب إلى العلياء حتى صار عنقها بهذا الطول العجيب. يحيا التطور.

                      تخيل مدرس الكيمياء في سترته البيضاء يقول: "يستخرج "زيت التنوير" بعد عملية شاقة ومعقدة, من مسام المجتمعات الخرافية, ومن خلايا الثقافات الرجعية, ويستخلص بوسائل علمية دقيقة وبآليات منهجية حديثة, ويتم تقطيره من مستنقع الشك ومن حمأة الحيرة, ويحمى عليه في أتون التحرر ويرش بمحلول الإنفتاح ويحفظ في جو العقلانية حتى يتخمر ويصير كالقار الخالص, حينها يسقى به المتنورون شربة هنيئة لا يظمؤون بعدها إلى الإيمان أبدا.

                      تذكر فصل العربية, وتذكر المعلقات والمقامات, وتذكر الشواهد القرآنية, امتعض من المدرس الذي كان يرى أن الإسلام مبتدأ وخبر, وأنه فاعل مرفوع لا حد لرفعته وعلامة رفعه ضمه لأجناس أهل الأرض تحت رايته, فلا يختص به جنس دون آخر, ولا أرض دون أخرى, استغرب من اجتياح هذا الدين للشمال المتنور, عجبا كيف يكون منهج من "الماضي" فاعلا في "المضارع", بل كيف يريد أصحابه أن يملكوا "المستقبل"؟ وكيف لهم أن يخاطبونا بصيغة "الأمر"؟, لا شك أن هذا الإسلام دين "الجمع", يصر أن يجمع كل شيء تحت ظله:"المفردة" و"الجملة", "الضمير" الظاهر والمقدر والمستتر, إن الخصوم يتصورون أن يجتاحوا أعاصير عصور ما بعد الحداثة, وعواصفها الهوجاء التي تسلط عليهم بسلام, لكن هيهات, نحن في زمان ما بعد الحداثة. إن هؤلاء القوم لا يرون حقائق دينهم إلا مصدرة "بحروف التحقيق", ولا يراها "المتنورون" إلا في جوار "حروف الشك والمقاربة". إنه "حزب التنوير" يحب السلام والتسامح و الإسلام أقام بنيانه على "الفتح". تأمل في فكرته قليلا وتساءل: لكن أي "فتح" هذا الذي بلغ المشرق والمغرب, لا بد لي أن أقر أنه فتح للعقول التي لم تتسلح بمنهج الشك التنويري, نعم, قد فتح الخصوم العقول, وأخفقنا في ذلك."

                      لكن أين موقع الإلحاد من العربية؟ لا شك أنه ما زال "مجرورا" منذ وجد, يعيش في "الضمير المستتر", كأنه "فعل مبني للمجهول", وأحسن أحواله أن يكون "مفعولا به". وربما أتاح له الزمان فلتات فيتسلم منصب "نائب الفاعل" على حين غرة من "الفاعل" الحقيقي. الإلحاد لا يحيا –للأسف- إلا مصدرا "بحروف النفي", إذا كان الإلحاد استفهاما, فإنه استفهام استنكاري لا ريب في ذلك, إنه فكر لا يرجى له مستقبل إلا في أحضان "لعل" و"عسى", الإلحاد "جملة اعتراضية" و"خبر محذوف". يبدو أن هذا المذهب المظلوم قد ابتلي بكل "حروف العلة". الإلحاد في ديار الإسلام كلمة لا محل لها من الإعراب. الإلحاد دين المفرد أوالمثنى على أحسن تقدير, تنتحله شرذمة هنا وأخرى هناك, تجمع جمع قلة, و تضاف إليها كل الأوصاف المقصورة والأفعال الناقصة. إن العربية بيئة لغوية معادية للإلحاد, لهذا يسعى كثير من الزملاء إلى كسر كبرياء هذه اللغة المؤمنة بالحط من قدرها وبتقديم اللغات الأجنبية و اللهجات العامية عليها, فلا عجب أن صارت الأمازيغية عندهم آخر صيحة, لكنه سمع من مصادر موثوقة أنه لا ينصح أبدا بالجهر بالأفكار الإلحادية في بيئة أمازيغية أصيلة, فإن الأمازيغ مسلمون شديدو التأثر بالموروث الديني, وربما تنقلت إليهم جينات "بن آجروم" عبر القرون. تخيل أبو الإلحاد ذلك كله وتساءل في قرارة نفسه: "هل سيأتي يوم ينعم فيه الإلحاد العربي بالازدهار في أحضان لغات لا تعامله بمنطق الفتح والكسر والضم والجر؟ هل يمكن للعربية أن تكف عن النظر إلى هذا الفكر "المتنور" بمنظار التنكير وبصيغة "التمييز"؟ حينها بدا كأن هذه الليلة ستكون مستثناة من عناء السهاد, فبدأ يتخيل حروف العطف تداعب أجفانه فاستسلم لنوم عميق ...

                      التعديل الأخير تم بواسطة هشام البوزيدي; الساعة 13-04-2011, 03:09.

                      [gdwl]اللهم احقن دماء إخواننا في سوريا وفي كل البلاد وأبدلهم من بعد خوفهم أمنا

                      لا يحسن أن ينزل على أفضل رسول، أفضل كتاب بلسان مفضول, ومن لم يعقل عن الله تعالى:{‏بلسان عربي مبين} فلا عَقِل.(الزمخشري)
                      قد لا توجد لغة سوى العربية, بهذا التناسق الأصيل بين الروح والكلمة والخط, كأنها جسد واحد. (جوته)
                      [/gdwl]

                      تعليق

                      • عبد العزيز عيد
                        أديب وكاتب
                        • 07-05-2010
                        • 1005

                        #26
                        ما أروع مقالاتك أ / هشام ، وما أروع أسلوبك ودقة قلمك .
                        وضعت سطرا هنا لأعود بقراءة متأنية ، فإلى ذلك لك مني كل تقدير وإحترام .
                        الأحرار يبكون حريتهم ، والعبيد يبكون جلاديهم

                        تعليق

                        • هشام البوزيدي
                          أديب وكاتب
                          • 07-03-2011
                          • 391

                          #27
                          أستاذ عبد العزيز, شكرا لكلماتك الطيبة, وأهديك اليومية التالية: "من سيربح الغليون؟"

                          [gdwl]اللهم احقن دماء إخواننا في سوريا وفي كل البلاد وأبدلهم من بعد خوفهم أمنا

                          لا يحسن أن ينزل على أفضل رسول، أفضل كتاب بلسان مفضول, ومن لم يعقل عن الله تعالى:{‏بلسان عربي مبين} فلا عَقِل.(الزمخشري)
                          قد لا توجد لغة سوى العربية, بهذا التناسق الأصيل بين الروح والكلمة والخط, كأنها جسد واحد. (جوته)
                          [/gdwl]

                          تعليق

                          • هشام البوزيدي
                            أديب وكاتب
                            • 07-03-2011
                            • 391

                            #28
                            13 من سيربح الغليون؟

                            لقي أبو الإلحاد أثناء سفره شابا متوقد الذكاء من عفاريت الشبيبة الإلحادية, إنه أحد الذين نغصوا عليه إقامته في العالم الإلكتروني, مع فارق ظاهر, فأولئك مجرد معرفات رقمية تسبح في عوالم افتراضية, لكنه يرى أمامه الآن مليحيدا حقيقيا غض الإهاب, من لحم ودم, فتملكه الفضول للتعرف على الزميل الصغير. وجده في القطار منكبا على حاسوبه الصغير, كانت أصابعه النحيفة تنقر الأزرار كأنها طير يلتقط الحب في خفة, أمهله حتى فرغ ثم استدرجه في الحديث في مكر بالغ, وحين أفضى إليه أخيرا بحقيقة معتقده داعبه قائلا: "مرحبا بك على الجزيرة المتنورة أيها الزميل" نظر إليه الشاب في استغراب فبادر أبو الإلحاد إلى انتهاز الفرصة الثمينة, وبدأ يستفسر رفيق سفره عن خبايا تصميم البرامج الإلكترونية, فهو وإن كان قد تدرب على بعض برامج التصميم فإنه لم يفلح قط في ردم الهوة السحيقة بين معلوماته النظرية وبين تطبيقاتها العملية.

                            خطر له شيء قد ينهي أيامه العجاف كملحد منبوذ, لقد قرر أن يطور مهاراته التقنية حتى يثبت لزملائه أنه رقم صعب في معادلة التنوير الافتراضي. بدأ حلم وردي يداعب خياله السوداوي, راودته فكرة تصميم برنامج يكون مفتاحا لعودته إلى عالم المنتديات اللادينية, يجب أن يكون برنامجه قنبلة بكل المقاييس تفتح له الطريق من جديد إلى منتديات "الجرب والجذام", إنه يريد شيئا مبتكرا فريدا, فماذا يكون ياترى؟ هل يصمم شجرة التطور بتقنية ثلاثية الأبعاد بحيث كلما نقر على فرع منها خرجت منه الحيوانات المتفرعة التي تطورت منه؟ كأن ينقر فتخرج الديناصورات تتبعها التماسيح ثم تتلوها القوارض والقرود. ربما استعان بالمؤثرات الصوتية التي اقتبسها من سلسلة "مغامرات السحلية والسعدان" التي يدمن مشاهدتها ولا يمل منها أبدا. إنه يعدها من روائع الفن الكرتوني العالمي.

                            لعل موضوع التطور أصبح يثير الملل, فليصمم برنامجا تثقيفيا حول منجزات أباطرة الإلحاد من لينين إلى بول بوت, تخيل بول بوت بملامحه الصفراء القاسية يعتلي جبلا من الجماجم البشرية, فتخلى عن هذه الفكرة, إنهم يعيروننا بأمثال هذا الزميل المتهور, لقد بالغ في سعيه لتسريع وتيرة التطور, هذا كل ما في الأمر, لقد أتعبه الانتظار ملايين السنين, فقرر اختصار المدة بوسائله الخاصة, لو نظرنا إلى القضية بتجرد علمي بعيد عن الرومانسية, لوجدنا أنه قام بتقديم بعض المساعدة لأمنا الطبيعة, فأخذ على عاتقه القيام بعملية تجميلية لوجه المجتمع بإزالة بعض العناصر الدنيا ليفسح المجال بعدها للانتخاب الطبيعي ليواصل عمله. إن الخصوم يبالغون في التشنيع علينا بإرث الزميل المتحمس, فهلا نظروا إلى مقاصده النبيلة, عجبا إنهم صدعوا رؤوسنا بكلامهم عن النيات والمقاصد, فليتأملوا برهة في مقاصد الزميل الكامبودجي. لكن المتغيرات الكونية لا تسمح الآن بتبجيل هذا الرفيق المناضل, فلنصبر ريثما تهدأ النفوس.

                            استرسل في تأملاته ثم نظر إلى الشاب فوجده غائصا في لعبة إلكترونية, فانفرجت أساريره وفغر فاه كمن عثر فجأة على شيء يفتقده, فربت على كتفه سائلا: "هل لديك خبرة في تصميم الألعاب" فأجابه دون أن يلتفت إليه:" طبعا ومن تظن صمم هذه اللعبة التي تراها؟ انظر إنها لعبة "بيغ بانغ سوبر دي لوكس تاور" لقد صممت عمارة من مائة طابق, في كل طابق مائة شقة, في كل شقة عشر غرف, في كل غرفة عشر أرائك, فضلا عن المطابخ والحمامات والمسابح, طبعا لك أن تتخيل كم تفننت في تصميم الأثاث الإيطالي الفاخر, كل ما يخطر على بالك موجود في عمارة "سوبر دي لوكس تاور", لو قدر لعمارتي أن ترى النور لخطفت الأضواء من برج العرب, ومن أبراج كوالا لومبور, لكني صممتها لغرض آخر, انظر هذا الزر الأحمر, تأمل الحروف اللاتينية "بانغ" أشار إليه ثم ضغط عليه ضغطة سريعة فسمع دوي انفجار, ثم قال: "هل رأيت كيف تستحيل "سوبر دي لوكس تاور" سديما كونيا متناثرا؟ انظر بنفسك." حدق أبو الإلحاد فإذا سحابة سوداء داكنة تملأ الشاشة, وتلاشت المكونات الإلكترونية للبنيان الافتراضي الباهر كأنها بهارات هندية ضلت طريقها بين أسنان مطحنة كهربائية صينية, "بهذه الضغطة تكون اللعبة قد بدأت, ويبدأ العداد الإلكتروني يحصي عليك المدة, عندها عليك أن تبدأ بضغط الزر الأخضر باستمرار, انظر إليه وإلى حروفه الجميلة: "بيغ", لقد صممت اللعبة حسب آخر داراسات نظرية "البيغ بانغ" وجعلت فرص الفوز متقاربة مع أدق الحسابات الفيزيائية لنشأة الكون, يعني, فوزك في هذه اللعبة أشبه بالمعجزة, ويعادل احتمال تكون جزيء بروتين بمحض الصدفة, لكن اللعبة لها هدف تربوي إلحادي, فمهما ضعف الاحتمال, فإنه حقيقة لا يتطرق إليها الشك والاحتمال." نظر إليه أبو الإلحاد بإعجاب وسأله: "لكن كيف تستمتع بلعبة لا يرجى فيها فوز؟" فأجابه الشاب في ثقة: "الفوز يحتاج إلى صبر ومثابرة أيها الزميل, ثم إنني حصلت على نتائج مشجعة وإن كانت نادرة, فقد ضغطت مرة "بانغ" فاندثر كل شيء, ثم عدت فضغطت "بيغ" صحيح إن العمارة لم تعد كما كانت, لكن المرحاض الفاخر كان هناك بكامل تفاصيله شامخا فوق كومة الغبار المتناثر كأنه يقول: "هائنذا أيها الزملاء!", هل تعي المغزى أيها الزميل, انفجار يعيد الحياة إلى مرحاض حديث بكامل أجهزته, حتى المرآة كانت هناك بدون خدش, طبعا أنابيب المجاري كانت تسيل, لكن ألا ترى معي إلى قيمة هذا النجاح الجزئي؟

                            نظر إليه أبو الإلحاد وتخيل أنه ينظر إلى نفسه قبل عشرين سنة, نظر إلى بريق عينيه وإلى حرارة الحماسة تسري في كلامه, فسأله: "عندي فكرة لعبة إلكترونية تضاهي لعبتك, لكني أحتاج لبعض التوجيه..." قاطعه الشاب: "هات فكرتك" فانطلق أبو الإلحاد كأنه يقرأ من كتاب: "إنها لعبة تجمع بين المحتوى التنويري وبين البعد الترفيهي, أريد أن أدخل البهجة إلى قلوب الزملاء في هذه الظروف العصيبة, وفي هذه المجتمعات الرجعية, حيث يتغلغل الإيمان, إنها لعبة من طراز: "من سيربح المليون" سأسميها "من سيربح الغليون" وتكون الجائزة الكبرى غليونا من عاج الماموت الأوكراني النادر المطعم بالذهب الأحمر, هذا لو قامت إحدى الشركات الإلحادية العظمى باحتضان المشروع, أريد أن تكون الأسئلة جولة لطيفة في أنحاء الفكر الإلحادي المتنور, يلعبها الصغير والكبير والمثقف والعامي والرجل والمرأة, لعبة تنير ظلمة البيوت الإلحادية, وتصلح لقضاء ليالي الشتاء الباردة, وتكون بديلا لبرامج القنوات الدينية, لعبة تحفز المجتمع المتنور على تنمية الثقافة العامة الإلحادية." قال له الشاب: "هذا من أهون الأشياء, لكن كيف تتصور الأسئلة؟" اعتدل أبو الإلحاد في مقعده, ومد بصره خارج النافذة كأنه يستلهم الأفكار من منظر أشجار الأكالبتوس الممتدة على طول الطريق, ثم أغمض عينيه وقال:

                            أيها الزملاء مرحبا بكم جميعا مع اللعبة الإلحادية الأولى: "من سيربح الغليون" أمامكم أحد عشر سؤالا, ولديكم ثلاث وسائل مساعدة: 1. تجاهل السؤال 2. القص واللصق 3. الاتصال بجوجل

                            السؤال الأول: واحدة من أكثر الأشجار انتشارا في أستراليا:
                            1.كلى البسوس, 2. أكالبتوس, 3. آكلة التيوس, 4. شجرة التطور.
                            السؤال الثاني: ما هي كنية الزميل الراحل جوزيف ستالين؟
                            1. أبو مطرقة, 2. أبو منجل, 3. أبو شنب, 4. أبو الهول.
                            السؤال الثالث: ما هو معرف مؤسس أكبر صفحة إلحادية على الفيس بوك؟
                            1.أبو حنتمة الملوخي, 2. التنين القطبي 3. العلامة اللاأدري 4. كلكامش الحكيم.
                            السؤال الرابع: الطبيعة أم الملاحدة فمن أبوهم؟
                            1. الصدفة 2. الطاقة 3. مجهول لا يعرف 3. لا أبا لهم فالطبيعة تلقح نفسها.
                            السؤال الخامس: ما اسم الحلقة المفقودة بين الشمبانزي والإنسان؟
                            1. سمك السلمون 2. ذبابة الليمون 3. البوكيمون 4. أبو قشة السعدان.
                            السؤال السادس: ما هو الشيء الذي لا يقدر عليه الإله الإلحادي وحش السباجيتي الطائر؟
                            1. أن يطير فوق بلاد السوشي 2. أن ينقلب إلى طبق محشي 3. أن يتصرف بشكل وحشي 4. أن يدنو من ديك حبشي.
                            السؤال السابع: ما هي هواية البروفيسور ريشارد "دونكي" المفضلة؟
                            1. مطالعة روايات هاري بوتر 2. التواصل مع الكائنات الفضائية 3. جمع الحلقات المفقودة 4. رتق الثقوب السوداء.
                            السؤال الثامن: فيم كان يفكر زميل "دونكي" صانع الساعات الأعمى طوال تلك السنين؟
                            1. متى سينتهي ليذهب إلى بيته؟ 2. كيف سيواجه المنافسة الصينية؟ 3. كم ستكلف الحملة الإشهارية؟ 4. أين سيقضي عطلته السنوية؟
                            السؤال التاسع: كم قردا نحتاج لكتابة "أصل الأنواع" في عشرين سنة؟
                            1. تريليون قردا 2. بليون قردا 3. مليون قردا 4. نحتاج قردا واحدا متطورا.
                            السؤال العاشر: ما هي أهم الحفريات التي تنقض نظرية التصميم الذكي؟
                            1. مشط آردي 2. خلخال لوسي 3. شظايا الانفجار الكمبري 4. حذاء إنسان بلتداون.

                            عندها فتح عينيه, لم يجد أمامه أحدا, لقد جمع الزميل أغراضه واختفى, شعر أبو الإلحاد بضيق في صدره, لقد كان يهم أن يسأل زميله عن سؤال الغليون, أراد أن يسمع رأي غيره, فلا بد لسؤال كهذا أن يكون مدروسا بعناية, لكن الزميل رحل دون أن ينبس بكلمة, ربما اضطر لذلك حتى ينزل في المحطة التالية, وربما كان إلحاد أبو الإلحاد نسخة أثرية لا مكان لها في عالم الملاحدة الناشئين من الجيل الثالث أصحاب الهواتف الذكية, عندها وصل إلى وجهته فنزل من القطار يجر أذيال الخيبة...
                            التعديل الأخير تم بواسطة هشام البوزيدي; الساعة 10-04-2011, 04:14.

                            [gdwl]اللهم احقن دماء إخواننا في سوريا وفي كل البلاد وأبدلهم من بعد خوفهم أمنا

                            لا يحسن أن ينزل على أفضل رسول، أفضل كتاب بلسان مفضول, ومن لم يعقل عن الله تعالى:{‏بلسان عربي مبين} فلا عَقِل.(الزمخشري)
                            قد لا توجد لغة سوى العربية, بهذا التناسق الأصيل بين الروح والكلمة والخط, كأنها جسد واحد. (جوته)
                            [/gdwl]

                            تعليق

                            • هشام البوزيدي
                              أديب وكاتب
                              • 07-03-2011
                              • 391

                              #29
                              14 مأساة الأبوة الإلحادية


                              جلس أبو الإلحاد إلى مائدة العشاء, حمل الشوكة بيده الشمال وأحس بشعور غريب, فأن تكون ملحدا ثم تلتهم "السباجيتي" بالصلصة الحمراء أمر يثير إشكالات ميتافيزيقية عميقة. لا شك أن هندوسيا مخلصا سيفضل الموت جوعا على أن يشهر سكينا وشوكة في وجه بقرة مقدسة, لكنه ملحد, فليأكل إلهه إذن. لقد سئم السكون الذي يملأ البيت, تمنى الذرية, كان قبل سنوات يكبت عواطفه الأبوية ريثما تستقر أحواله, كان الأمر ترتيبا مقصودا للأولويات, أما الآن فالأمر مختلف, إنه يرى أن الطبيعة قد خذلته ولم تسعفه بعد بالولد, لكنه يستغرب من عجلته, وكيف عساه يجيب عن أسئلة طفل؟ إن رأسه تكاد تنفجر تحت ركام من الأسئلة المعلقة, لكن هذا الصمت الخانق بيئة خصبة للتفكر, والتفكر يسبب له الصداع والاكتئاب, ما الحل إذن؟

                              فجأة نادى بأعلى صوته:" نوال, نوال, يا سعد أيامي, يا أميرة التنوير, ما رأيك أن نتخذ حيوانا أليفا يملأ علينا البيت؟" فأجابته أم الإلحاد بسرعة: "لحود, عليك أن تختار بيني وبين الكلب, هل نسيت اتفاقنا؟" فأجابها: "أبدا, من ذكر الكلب؟ أي شيء إلا الكلب, قطة, سلحفاة, تمساح حتى.." قاطعته في حدة: "لا أريد مخلوقا بشعا يمشي في الشقة على أربع, هل فهمت؟" فقال لها: "وماذا لو ظفرنا بمخلوق ظريف يمشي على رجلين؟" تجاهلت كلامه فجلس يفكر في الأمر, امتعض من العنصرية التي يعامل بها الإنسان أشقائه المتخلفين داروينيا, فأنت تجد الكلاب محرومة من ولوج المطاعم والمتاجر والإدارات, لا لشيء إلا لأنها تعثرت قليلا في مسيرة التطور, يا له من مغرور هذا الإنسان! ماذا لو تداركت الكلاب النقص وتسلقت درجات سلم التطور طفرة واحدة, فصارت أرقى منه؟ حينها ستذيقه من ذات الكأس التي تتجرعها الآن. يجب عليه أن يغير نظرته إلى بقية الفصائل الحية بكل أصنافها, فإن البشر والحيوانات يشكلون في النهاية أسرة واحدة, لقد كشف العلامة أبو الطفرات مجدد علوم الأحياء عن شجرة نسبها وعن سلفها المشترك. لكن التغيير لن يحصل بالكلام المعسول, لا بد من أفعال تتبع الأقوال, فماذا عساه يفعل حتى يستأصل من نفسه هذه الرواسب الرجعية التي تفصله عن العجماوات؟ تخيل كيف يضع الناس الطيور في أقفاص, وكيف يستعبدون الحمير في البيادر, وكيف يستخدمون الكلاب في الحراسة والصيد, تتجرع الحيوانات كل ذلك الذل لقاء حفنات من الطعام الرديء وجرعات من الماء الملوث, ثم يتكلم البشر في مجتمعاتهم عن حقوق العمال وعن النقابات وعن الحريات وعن المساواة, يا له من منافق هذا الحيوان المنتصب على قدمين, هل سيتمادى في عنهجيته حتى تتحقق الثورة الحيوانية التي تنبأ بها جورج أورويل؟ هل سينتظر حتى يصرخ به الزملاء: "الدواب والهوام تريد تغيير النظام"؟ لكن أبا الإلحاد سيبدأ رحلة الألف ميل بنفسه, وسيشرع في إذابة الجليد بين المجتمع البشري والمجتمع الحيواني بطريقة مبتكرة, سيحيا في رفقة حيوان يعترف له بحيوانيته كاملة, سيأتي بحيوان يحيا بجنبه على قدم المساواة, يطعمه مما يطعم, ويكسوه مما يلبس, ويعلمه مما يعلم, المشكلة الوحيدة أن أم الإلحاد لا تريد كلابا ولا قططا ولا فئرانا, فماذا يفعل؟ إنها لا تريد ذوات الأربع, فماذا يصنع؟ عندها أشرقت أمام عينيه صورة جعلته يلبس ثيابه بسرعة وهو يقول: "نوال, سأعود بعد قليل, نصف ساعة على الأكثر." نظرت إليه مندهشة وقالت: سأخرج بعد قليل, هل تحتاج شيئا من السوق؟" توقف برهة وقال: "لعب أطفال" ثم ركض خارجا...

                              حين عاد كان يحمل قُرَيْداً في عمر الزهور في يد, وبعض المقتنيات في اليد الأخرى, وضعه فوق الأريكة في رفق شديد, لقد نام في الطريق, تأمله طويلا في حنان, ثم أخرج من كيسه حليب أطفال ورضاعة واتجه إلى المطبخ, عاد يحمل أول وجبة للوافد الجديد, ثم أخذ بقية محتويات الكيس إلى الحمام, عاد وشرع ينظر إلى الصغير الوديع, كان يرقد في سلام, خاطبه في سره قائلا: "فلتهنأ بالنوم الآن, فأمامك عمر طويل وأعمال جليلة." حينها تقلب القُرَيْد وفتح عينيه, والتقت عيناهما, كان الصغير يحملق في صاحبه في فضول, وكان صاحبنا يكاد يغوص في تينك العينين العسليتين اللتين لم ير لجمالهما وصفائهما مثيلا عند بني جنسه, نظر إلى الأهداب الفاتنة التي تغار من طولها الحسناء, أخذه إلى الحمام, فغسله بصابون معطر, وجففه ثم مشط فروه فصار كأبهى ما أنت راء من الصبيان, حقا إن القرود زينة الحياة الإلحادية, أخذ ثيابا اشتراها للقُرَيْد فألسبه إياها, ثم نظر إليه, وقال: "هائتنذا يا قُرَيْدي العزيز تخطو أولى خطواتك في مسيرة التطور, خطوة صغيرة لك يا صغيري, خطوة جبارة للجنس القردي المظلوم" وقف يتخير الأسماء, وتساءل: "هل أسميك "دونكي" باسم قدوتي قسيس الإلحاد, أم أسميك"تروتسكي" لعلك تقتبس منه حسه الثوري, أم أسميك "دارون" تيمنا بقابليتك للتطور السريع؟ نعم, هذه فكرة جيدة, لكنك صغير جدا, فليكن اسمك منذ اليوم "دُرَيوين" هكذا, التصغير أحسن وأجمل, حمله بين يديه ورسم قبلة على جبينه وهو يقول "مرحبا بك في بيتك الجديد, عزيزي "دُريوين", عندها أحس بزغب على شفتيه, أزاله بكفه, وهو يقول: "أمر جميل لقد بدأ هذا الشعر الكثيف يتساقط منذ الآن, سرعان ما سيظهر جلدك الجميل يا ذا العينين العسليتين." ثم حمله إلى غرفة الجلوس.

                              رأى دمعا يترقرق في عيني دُرَيوِين, وسمع له بكاء فعلم أن به الجوع, فحرك الرضاعة وسكب على كفه قطرة يتحقق من حرارتها, ثم أخذ مكانه على الأريكة واحتضن القُرَيْد وشرع يرضعه في حنان أبوي دارويني منقطع النظير, نظر إلى الشفاه الجميلة تمتص الحليب في نهم, شعر بالسعادة تغمره, وأحس بنفسه يغوص في بحر من الأحلام, رأى نفسه يأخذ القُرَيْد إلى مصلحة تسجيل المواليد لإتمام إجراءات التبني, لم يكن الأمر سهلا, لكن ما فاز إلا الجسور, إنه محظوظ لأن حزب التنوير نجح في اكتساح الانتخابات البلدية, أما الخصوم فإنه يحرمون التبني جملة, خرج يحمل الوثيقة التاريخية: "شهادة تبني مختلط رقم 1: الفصيلة: القرديات, السن: ستة أشهر, لون الفرو: أسمر فاتح, لون العينين: عسليتان, الاسم: دُرَيوين, الأب المتبني: أبو الإلحاد, الأم: توفيت في انهيار أرضي. السبب: الاحتباس الحراري, الموطن الأصلي: جزيرة بورنيو. آخر عنوان: دار أيتام رياض السعدان.

                              تخيل صاحبنا المتنور كيف انحنى شهرا كاملا أمام عاصفة التهكم والتندر الهوجاء التي أعقبت خطوته التقدمية, لكنه كان مستعدا بما يكفي, من عرف ما يطلب هان عليه ما يبذل, كانوا يتهكمون ويتغامزون, وهو لا يزيد على أن يقول: "انتظروا قليلا, فالضحك جولات, لنر لم تكون الجولة الحاسمة." لقد قلب الأمر من كل وجوهه, الداروينية نظرية علمية شامخة يتطاول عليها الجهلة, وهو يدرك السبب تمام الإدراك, إنها لم تبرح عالم البحوث الأكاديمية ولم تغادر مجال التنظيرات المجردة, وهو يريد أن ينزل بالفكرة إلى الميدان, ميدان التطبيق العملي الواقعي.

                              لقد رأى في التلفار قردا يعزف الكمان, وآخر يلبس سترة بيضاء ويحمل سماعة, خمن أنه طبيب أو ممرض على أقل تقدير, ورأى برنامجا قديما عن أول قرد يغزو الفضاء, بل إنه رأى شريطا سينمائيا عن كوكب كامل يديره القرود, تذكر أن كل شيء كان يمشي على ما يرام لولا تطفل بعض السياح من بني جنسه, فها قد ثبت عنده بالدليل المادي أن للقرود سابقة فضل في كل ميدان, فمنهم المغمور والمشهور, والوسيم والذميم, والأكاديمي والفنان, إنهم مثلنا تماما.
                              ومن آخر ما زكى إيمانه بفكرته التقدمية القضية التي رفعها بعض أنصار الحيوان في النمسا للاعتراف بالزميل الشيمبانزي ماتياس بان كإنسان, للأسف لم يكن القضاء في مستوى المسئولية التاريخية, لكن أبا الإلحاد أهل لها وأحق بها.

                              تخيل كيف يلاعب وليده, و كيف نظر إليه يحبو ثم يخطو خطواته الأولى, ثم قضى معه الساعات الطوال يدربه على النطق, وبعد مجهود خارق ومثابرة حثيثة سمع منه الكلمة السحرية, لقد قال له القُرَيْد: "بابا" دمعت عيناه وتراقص قلبه في صدره, ثم أدخله الحضانة, فكان يلعب مع صبيان المتنورين, فهم أكثر تسامحا من غيرهم, صار دُريوين يدهش الجميع بقوته ورشاقته, لقد تطور بشكل عجيب, لم يبق فيه من شيء يذكر بأصله إلا ذيله, ولما كبر صار يقرأ عليه فصولا من "أصل الأنواع" حتى يزيل عنه العقد النفسية, ويقرأ عليه "صانع الساعات الأعمى" حتى ينمي خياله ويمحو من عقله شيئا اسمه المستحيل. وحين كبر ألحقه بإحدى مدارس البعثة الفرنسية, ثم حصل على منحة من الجامعة الأمريكية. تخيل أبو الإلحاد كيف صار ابنه الموهوب بطلا أولمبيا في القفز الطولي والعلوي, كما أنه أحرز بطولة العالم للشطرنج ثلاث مرات متتالية, لكن المفخرة العظمى هي حصوله على جائزة نوفل لأحسن ابتكار علمي, لقد حقق ذلك كله قبل سن الثلاثين. ثم جاء سن الزواج, تخيل أبو الإلحاد كيف يخطب دُريوين بنت الدكتور أبو قشة الملقب بداروين الثاني, مؤلف كتاب "كشف الأسرار ونسف الأسوار" الذي يشرح فيه نظرية التطور بالتفصيل الممل, حينها تكاد رواسب الرجعية تجهض حلم الدكتور الشاب الطموح, لكن الزواج يتم بعد أخذ ورد, ومد وجزر وأمور يطول شرحها, وقبيل اليوم المشهود يقرر أبو الإلحاد أن يرافق ابنه لقضاء إجازة الصيف على جزيرة جالاباجوس, وهناك يسبح دُرَيوين ذات يوم, ثم يهيج البحر فجأة ويختفي عن الأنظار, فيهب أبوه لينقذه, و يغوص تحت الماء يبحث عنه, لكن رائحة الماء غريبة, لا بد أن لذلك علاقة بالتطور خصوصا أنه على جزيرة التطور, ثم إن الماء دافئ بشكل مريب كأنه يسبح في فنجان شاي, حينها عاد أبو الإلحاد إلى رشده, وصحا من أحلامه, و نظر إلى ثيابه مبللة, فالتفت إلى صغيره قائلا: "فعلتها يا عفريت!" وحمله قاصدا الحمام , وفي هذه اللحظة فتحت أم الإلحاد الباب, فحملقت في وجهه فاغرة فاها كأنها رأت مخلوقا فضائيا, وحاولت أن تقول شيئا, لكنها لم تزد على غمغمة غير مفهومة وهي تشير إلى القُرَيْد وإلى ثيابه وإلى الرضاعة على الاريكة, كأنها تقول: "أي شيء هذا؟" فأجابها: "عزيزتي أمهليني لأشرح لك كل شيء, هذا قرة العين, هذا رأسمال المستقبل, مستقبلنا ومستقبل الإنسانية, هذا "دُرَيوين" أليس ظريفا؟" قال هذه الكلمات ودنا منها ليريها الصغير لعل قلبها يحنو عليه, فنكصت وهي تولول وتقول: "أبعد عني هذا المسخ" فأجابها: "أعذرك عزيزتي, الأمر يحتاج إلى بعض الوقت, ستتطور مشاعرك بقدر تطور "دُرَيوين" صرخت في وجهه متوعدة: "إن لم تخرج هذا الوحش من بيتي فإني سأخرج ولن تراني بعدها أبدا" نظر أبو الإلحاد إلى زوجه ثم نظر إلى ابنه, ومكث لحظات يقلب نظره بينهما وقلبه يتفطر كمدا, يا له من خيار صعب, وحين رأى زوجته تتجه صوب الباب, قال : "عزيزتي... حسنا... أمهليني دقائق" جمع أغراض الصغير في كيس ونظر إليه نظرة أخيرة كهيئة المودع, وشعر بأنه يوشك أن يستيقظ من حلم جميل, ثم حمله وخرج وهو يكاد يجهش بالبكاء...

                              التعديل الأخير تم بواسطة هشام البوزيدي; الساعة 12-04-2011, 06:42.

                              [gdwl]اللهم احقن دماء إخواننا في سوريا وفي كل البلاد وأبدلهم من بعد خوفهم أمنا

                              لا يحسن أن ينزل على أفضل رسول، أفضل كتاب بلسان مفضول, ومن لم يعقل عن الله تعالى:{‏بلسان عربي مبين} فلا عَقِل.(الزمخشري)
                              قد لا توجد لغة سوى العربية, بهذا التناسق الأصيل بين الروح والكلمة والخط, كأنها جسد واحد. (جوته)
                              [/gdwl]

                              تعليق

                              • هشام البوزيدي
                                أديب وكاتب
                                • 07-03-2011
                                • 391

                                #30
                                15 الإلحاد وإيقاف الزمن

                                عاد أبو الإلحاد مساء وصدره يكاد ينفجر من الغم, شرب حبوبا مهدئة واستلقى في فراشه كأنه جذع أجوف, نظر إلى السقف فخيل إليه أنه يكاد يسقط عليه, وأحس بسيل من الهواجس يهجم عليه, فقام إلى الحمام وشرع يمسح وجهه بالماء لعله يطفئ الحرارة التي تنبعث من رأسه, نظر إلى وجهه في المرآة يتأمل تعاسته ويتملى في ذمامته, خيل إليه أنه قبطان تائه كسرت العواصف العاتية دفة مركبه, فغدا قطعة خشب تتقاذفها أمواج المحيط, نظر إلى وجهه طويلا كأنه يتساءل: "من هذا المخلوق الغريب؟" نظر إلى عينيه فبدا كأنهما تنظران إلى داخله, وقد أحاطت بهما دوائر دقيقة بدأت تشق طريقها على تضاريس وجهه الكالح, يبدو أن الطبيعة ستحيل هذا الإهاب السهل المنبسط صحراء جرداء تشقها الأخاديد والوديان, تأمل التجاعيد على جبينه فخمن أنها خطوط لغة لم يتعلم قراءة حروفها بعد, إنها لغة الزمن, إنه اللغز الأكبر, إنه هناك في مكان ما, يستخف بغرورك, ويضحك من غفلتك, تنهد بعمق وهم أن يستدير حين رأى شيئا يشرق في سواد حاجبه الأيسر, اقترب حتى كاد أنفه يلامس المرآة, فتكدرت صفحتها ببخار نفسه, ثم رآها هناك وحيدة فريدة تنطق دونما لسان, إنها شعرة بيضاء متمردة تتوسط حاجبه في تحد, قطب جبينه في قلق واستغراب, وقال يحدث نفسه: "لقد ابيض مني آخر ما يبيض من بني البشر! هل بلغت الثمانين حتى يبيض حاجباي؟ لا بد أني أسرفت في التفكير وبالغت في إرخاء العنان للهموم والأحزان, يجب أن أجد حلا عاجلا لهذه الورطة." بدأ يتتبع الشعرة المرعبة ليلتقطها بإبهامه وسبابته, وكلما ظن أنه أمسك بها انسلت من بين أظفاره كأنها تشعر بما يراد بها, خيل إليه أنها تضحك منه, لكن الداروينية علمته ألا يستسلم بسهولة, ظلت عيناه متسمرتين على صورته الكئيبة وسحنته الكالحة, ولمح قطرة عرق تنزلق من جبينه, ثم ظفر بالشعرة أخيرا فجبذها جبذة ظن أن عينه ستنخلع لها, أحس بألم شديد سرعان ما نسيه حين رأى الشعرة المتطفلة بين أنامله. إنها رسول الزمن إليه, إنه عدوه اللدود, إنه يهزأ من إلحاده, إنه خصم عنيد لا يبعأ بسفسطته ولا يلقي بالا إلى جداله, إنه عدو رهيب صامت, يدفعه دفعا إلى حافة العالم, يدفعه إلى عدو آخر أشد منه وأنكى, يدفعه إلى الموت, إنه الزمن فهل يستطيع أحد إيقافه؟ أحس أبو الإلحاد بحقارته, لقد كان في العشرين حين انسلخ من الدين, كان يصرخ في المنتديات: "إلي أيها المتدينون, أنا أبو الإلحاد, أنا قاهر الخرافة, أتحدى كبيركم وأفحم عالمكم" كان طبلا كبيرا فارغا, وكان لفظا فضفاضا بلا معنى, وهاهو يشارف الأربعين وكل ما يعلمه أنه لا يعلم شيئا, وهاهو الزمن "المعلم الأكبر" يلقنه أقسى درس في حياته, وينذره بدنو انقضاء أيامه, إن الشعرة البيضاء سفيره الوقور, لقد استوعب أبو الإلحاد الدرس جيدا, لكنه يرفض أن يستسلم بسهولة لهذا الخصم الخفي. وأي شيء يكون الزمن؟ أهو شيء له حقيقة أم أنه وهم كبير؟ كيف له أن يفسر الزمن وهو لا يؤمن بشيء خلا المادة؟ لكن الزمن خصم لا يسعه إنكاره, إنه ينحت في عقله وفي كل بقعة من جسمه معاني الفناء, لكنه لا يكاد يجد الكلمات المناسبة لوصفه. إنه ظاهر إلى درجة الخفاء.

                                عاد أبو الإلحاد إلى فراشه وقد استولت عليه الهموم وصار يتنهد وينفث أنفاسا حارة كأنه محموم. ومن مكان ما من أعماق نفسه المتحيرة نبت سؤال جعله يجلس على حافة سريره متفكرا متأملا. تساءل: "هل من سبيل إلى إيقاف الزمن؟ لا بد أن هذا هو مفتاح اللغز" وصار هذا الخاطر يكبر في نفسه شيئا فشيئا وقال كأنه يخاطب نفسه: "شيء ينقص منك في كل لحظة, ويفنيك في كل نفس, وينقلك مرحلة مرحلة, حتى يفضي بك إلى آخر الرحلة, فيسلمك للموت, إنك تركبه, وهو يمضي يشق طريقه, وأنت تقاومه بلا جدوى, إنه أشبه شيء بقطار يقطع الأرض من أدناها إلى اقصاها, ويحمل الناس من بلد إلى بلد ومن سهل إلى جبل, وليس بينهم وبين التخلص من هذا التنقل الدائم إلا النزول من هذا المركب السيار, لذا تراهم يسارعون بالهبوط كلما وصلوا إلى محطة, يحاذرون أن توصد دونهم الأبواب فتبدأ قافلة الحديد تقطع الأرض من جديد. نعم إن الزمن مركب لا نعلم له لونا ولا طعما ولا رائحة, ولا نعلم له شكلا ولا صورة, لكنه مركب لا شك. فكل ما ينبغي لمحب البقاء وعاشق الحياة فعله أن يفارق متن هذا المركب الذي يفضي به آخر الرحلة إلى الموت." توقف صاحبنا قليلا, وهو يقلب أفكاره ويشعر أنه أمسك بالخيط السحري الذي تقف الحياة الأبدية على جانبه الآخر وهمهم: "ترى هل عرض فلاسفة التنوير لمثل هذه المسألة العميقة؟ لا بد أنهم فعلوا, فهذا أمر بديهي, إذا لم تستطع إيقاف الزمن فلا اقل من أن تفارقه, لكن كيف؟" أخفى وجهه بين كفيه وخطر له أن مفارقة الزمن تعني الموت, فاكفهر وجهه, وأحس أنه يدور في حلقة مفرغة, وأنه ذرة حقيرة بين فكي رحى تطحنه طحنا, يديرها الزمن, ويخرج منها ميتا, لكن كيف له أن يخرج من هذه الرحى القاتلة قبل فوات الأوان؟ إنه يؤمن بالعلم ولا شيء غير العلم, لقد قطع العلم بالجنس البشري أشواطا هائلة, فهل يعجز عن إتمام فتوحاته بالانتصار الحاسم على هذه الدوامة التي تمحق الحياة محقا وتنتزع الناس من نعيم الحياة انتزاعا؟ كلا, إننا في عصر الذرة وغزو الفضاء, في عصر الاستنساخ والخلايا الجذعية, إننا في عصر التكنولوجيا, ولا بد أن يكون هناك حل لهذه المعضلة العويصة, إذا كانت المخلوقات أحادية الخلية قد تطورت عبر الزمن في صبر ومثابرة حتى وهبتنا هذه الأنواع المذهلة وهذه الكائنات المدهشة التي تملأ الكوكب الأزرق, أفنعجز نحن عن حل لغز الزمن؟ تخيل أبو الإلحاد أن العلم سيكتشف يوما ما حقيقة بعد الزمن, فلا بد أن هذا الزمن يوجد بصورة ما في عالمنا, لا بد أنه يحيط بنا كما تحيط الشرنقة بالفراشة, وأول خطوة لنهزمه أن نكشف عن موطنه فنراه ونلمسه, يجب أن نضع أيدينا على جدار الزمن الذي يحيط بالجنس البشري, فإذا فعلنا فحينذاك يمكن أن نصنع آلة الزمن.

                                وعلى وقع هذه الأفكار الفلسفية المضنية بدأ النوم يدب في أوصال صاحبنا فاستسلم لنوم عميق سرعان ما حمله إلى مملكة الأحلام. رأى أبو الإلحاد نفسه وقد ركب الآلة العجيبة, وأحاطت به قوقعة زجاجية فبدا كأنه من الصدفيات, ورأى أمامه لوحة إلكترونية عليها أرقام كثيرة, لكن الذي استوقفه هو "لوحة التاريخ", وأمامها "زر التثبيت", خمن أن هذا هو أهم شيء في الآلة السحرية, يجب أن يختار تاريخا معينا ليحيا فيه, فإذا قام بتثبيته انتقل إلى الفترة المبرمجة, فيستقر فيها ويتوقف الزمن. هذه فرصته ليتغلب على الخصم العنيد, هذه فرصته ليقهر الزمن, هذه فرصته ليخدع الموت, هذه تذكرته لعالم الخلود, شرع يحدث نفسه: "هيا يا أبا الإلحاد لا مجال للتردد, فأنت لا تدري ما الذي يعرض لك, ربما تتعطل الآلة, وربما يكون بالخارج طابور طويل مثل طابور المواصلات العامة, فلا بد لي أن أحسم أمر وأن أسرع" وبالفعل خيل له أنه يسمع جلبة وقرعا على باب الآلة, وأن أحدهم يقول له متوعدا: "بقيت لك دقيقة واحدة إما أن ترحل أو ننزلك بالقوة." عندها تذكر أبو الإلحاد أنه كان سعيدا في طفولته, أو هكذا خيل إليه, فخطر له أن يختار يوما من أيام إحدى سنوات الثمانينات, شرع يعد بأصابعه ليتأكد كم كان سنه حينها, لكنه سمع القرع مرة أخرى, حينها أحس بالارتباك الشديد, فشرع ينقر الأزرار, فنقر يوم الاربعاء الثامن من سنة 1982 ونظر إلى زر إضافي رسمت عليه الساعات والدقائق, وقد كتب بجنبه بالخط العريض (اختياري), لكنه لم ينتبه فنقر الأزرار فارتسمت أمام التاريخ الذي اختاره الساعة الثامنة والنصف صباحا. ثم سمع النقر وخيل إليه أن أحدهم يسعى لفتح باب المركبة فضغط "زر السفر عبر الزمن" فلم يشعر بنفسه إلا وهو صبي جائع في العاشرة يلج باب المدرسة وهو يلهث, والخوف ينهش فؤاده, فقد تأخر عن موعد الدرس مرة أخرى, ولم يتح له حتى أن يتناول كوبا من الشاي وقطعة من الخبز, لقد تأخر نصف ساعة كاملة, زملاؤه الآن في الفصل, إنه يجري ويتصبب عرقا, ويتمنى أن يكون الناظر المرعب قد نام هو الآخر هذا الصباح, ولم تكد هذه المنية تداعب خياله الصغير حتى أحس بصفعة مدوية على خده, وشعر كأن نارا تضرّم على وجهه, ثم أمسك الناظر بأذنه يجره ويقول: "أيها البليد تأخرت مرة أخرى, متى تتعلم احترام مواعيد المدرسة؟" وقبل أن ينبس ببنت شفة, رأى نفسه مرة أخرى بباب المدرسة يلهث ويأمل أن يمر دون أن يشعر به أحد, ثم جاءت الصفعة, وأحس بيد قوية تجذب أذنه, ثم سمع الكلمات ذاتها, فعلم أبو الإلحاد أنه صار سجين لحظة من الزمن الغابر, بعدما كان سجين زمن رحب يولد في كل لحظة, فكان كلما وصل إلى باب المدرسة يكاد يمد وجهه يترقب الصفعة و يمد أذنه لعل ذلك يكون أخف لألمه, وما زالت اللحظة القاسية تتكرر حتى صار يتمنى الموت كي ينجو من هذا الفخ القاتل, والمصيبة أنه لم يستطع أن يقول شيئا, لم يستطع أن يقول مثلا: "سيدي الناظر, لقد مضى عليك دهر وأنت تصفعني, فتوقف أرجوك" لم يقدر على شيء من ذلك لأن آلة الزمن ألقته في حفرة زمنية اسمها الدقيقة الثلاثون بعد الساعة الثامنة من صباح ذلك اليوم البعيد, أراد الطفل الذي كانه أبو الإلحاد أن يفعل شيئا فلم يستطع, فإن آلة الزمن لا تهبك إلى تذكرة ذهاب واحدة بلا إياب, تقلب أبو الإلحاد في فراشه وهو يتأوه, ولم يزل يتقلب والناظر يصفعه ويوبخه, حتى سقط من فراشه على وجهه فأفاق من حلمه و فرح فرحا شديدا, لقد سره أنه خرج من تلك الدقيقة الرهيبة, وأنه عاد إلى ضيافة الزمن الواسع الذي كان يسعى جهده أن يفر من قبضته, لكنه الآن تمنى لو يلقى هذا الزمن الحكيم ليشكره على إبداعه وتنوع ألوانه وأشكاله, لولا أنه ما زال لا يعرف له أرضا ولا عنوانا, لكن لأمر ما أحس بوجهه يؤلمه, فقام إلى الحمام, فشرع يغسل وجهه بالماء البارد, ثم نظر إلى خده الأيمن فوجده محمرا, فلم يدر هل أصابه ذلك عند ارتطامه بالأرض, أم أن ذلك الناظر الغليظ كان يصفعه بالفعل طوال ليلته؟...

                                التعديل الأخير تم بواسطة هشام البوزيدي; الساعة 18-04-2011, 14:22.

                                [gdwl]اللهم احقن دماء إخواننا في سوريا وفي كل البلاد وأبدلهم من بعد خوفهم أمنا

                                لا يحسن أن ينزل على أفضل رسول، أفضل كتاب بلسان مفضول, ومن لم يعقل عن الله تعالى:{‏بلسان عربي مبين} فلا عَقِل.(الزمخشري)
                                قد لا توجد لغة سوى العربية, بهذا التناسق الأصيل بين الروح والكلمة والخط, كأنها جسد واحد. (جوته)
                                [/gdwl]

                                تعليق

                                يعمل...
                                X