26 ألاعيب الحارات الإلحادية
مرت سنة على طرد أبي الإلحاد من منتديات الزملاء اللادينيين والمتشككين والملحدين, سنة كاملة من الضياع والحيرة والتخبط والغضب. كانت وحدته أشد ما يغيظه بعدما افتقد الحضن الدافئ الذي كان يؤويه؟ طالما لاذ بتلك المستنقعات الفكرية الآسنة, من شواظ المجتمع المحافظ الذي يحيط به, وطالما التمس السلوى في مواضيع الزملاء التي تفيض عنادا وثقة في مذهب الإلحاد. سنة عجفاء كاملة مرت عليه فيها أزمات كادت تذهب بالبقية الباقية من عقله, وأتت عليه فيها ساعات ظن أنه قد شارف الجنون. هاهو يبحر بحاسوبه ميمما شطر أعتى منتديات "الجرب والجذام", لعله يسترجع ذكريات أيام خلت تعبق بأريج الشك وبريح الإلحاد.
لكم كانت صدمته كبيرة حين وجد وكر الثعالب مهجورا كئيبا, كأن عناكب افتراضية نسجت شباكا رفيعة على أبوابه. راجع شريط المواضيع الجديدة فاكتشف أن آخر موضوع يستحق القراءة يرجع إلى شهور, وأن كل ما كتب بعدها بقبقة إلكترونية جوفاء. لقد كسدت سوق الزندقة الإلكترونية وتلاشت أسهم الهرطقة الإفتراضية كالهباء. ابتسم حين خطر له أن زملائه لم يكونوا أحسن حالا منه, يبدو أن الملحد كائن منبوذ سواء تحزب مع أضرابه أو اعتزلهم وخلا بنفسه. جلس يتفكر في أسباب هذه الحال البئيسة التي تخيم على الموقع. لا بد أن مرجع ذلك إلى طبيعة الإلحاد نفسه, فهو مذهب سلبي عدمي, لا يقوم إلا على النفي والإنكار, ولا يستمد وجوده إلا من نقد الإيمان وازدراء الأديان, فما أشبهه بالنار وما أشبه نفَسه العدواني بالحطب. لقد استنفذ الزملاء كل طاقتهم في تسفيه خصومهم وفي معارك الشتم والقذف والكلام البذيء, حتى إذا فرغوا من ذلك كله جلسوا كالأيتام ينظر بعضهم إلى بعض, فما تراهم يصنعون؟ لقد شتموا الخصوم وسخروا من معتقداتهم دهرا, ثم قعدوا بعد ذلك كله منبوذين في ناديهم, فانقلبوا على أنفسهم فأوسعوها شتما ولعنا. تصفح بعض المواضيع فألفاها ركيكة المبنى رخيصة المعنى. هذا يدعو إلى اغتنام العمر القصير في اقتناص كل متعة والغوص في لذائذ الحياة واهتبال كل فرصة في سبيل ذلك, وذاك يتشدق بذكائه ولباقته, ويفخر أن إلحاده انطلى على أقرب الناس إليه. يا له من حضيض مهين, لقد انحدر الزملاء إلى حياة النفاق. خطر لأبي الإلحاد أنه لم يخسر في النهاية شيئا يذكر بنفيه عن المجتمع الإلحادي الإفتراضي, لعلها كانت فرصة ثمينة ليجدد بحثه وليمحص أفكاره.
طفق صاحبنا متأملا في حاله وحال زملاء أمسه, غارقا في أفكاره حين لمح في شريط المواضيع الجديدة عنوانا مثيرا تحيط به علامات التعجب: "!!! فكرة عبقرية لتنشيط المنتدى!!!" دخل مسرعا تسبقه آماله, فقرأ موضوع الزميل (طرطور), إنه يعرفه, هذا زميل ملحد من الدرجة الثالثة, إنه يعرفهم من توقيعاتهم, المثقف منهم يتخذ لنفسه توقيعا رنانا, يوحي بسعة الإطلاع وبالرغبة في الحوار ومعرفة أفكار الخصم. أما صاحبنا (طرطور) فقد اختار توقيعا يفضح ضحالة عقله ويشي بهزالة فكره: [ الفعل هو دليل عدم وجود الفاعل.فالفاعل هو بحد ذاته فعل.ومهما عدنا بالسببية للوراء فسوف نجد فعلا بدون فاعل، فلا بد أن نعترف أن الفعل لا يحتاج لفاعل، الفعل مفعول بدون فاعل.] قال يحدث نفسه: "يبدو أني تسرعت في استبشاري بالموضوع, وأي شيء يجيء من مثل هذا؟"
بدأ الزميل يشرح لرفقاء "الجرب والجذام" فكرته العبقرية قائلا: " كما ترون فنحن في بطالة وفراغ قاتل, والمنتدى صار كالخربة, تنعق فيها غربان الحداثة, وتنقنق فيها ضفادع اللاأدرية وتعوي فيها ذئاب الإلحاد -طبعا أمزح معكم- باختصار أنتم ترون بأم أعينكم ما نحن فيه, وقد جئتكم باقتراح نحرك به مياه التنوير اللاديني الآسنة, ونوجه دفة السفينة الإلحادية وجهتها الحقيقية, لقد عزمت أن نهجم على أكبر مواقع الخصوم, وأن نغير عليهم بما يفحمهم, فلنجعل هذا الشريط ورشة إلكترونية لتهيئة الفكرة, أرى أن نسأل الزملاء أين توجد الأرض السابعة التي يزعمون, ونلزمهم بالإجابة العلمية وبالحجج الجيولوجية, فما رأيكم, ومن أين نبدأ؟ قرأ أبو الإلحاد هذا الجزء من الموضوع فأصيب بالإحباط, وأحس بأنه في رفقة شرذمة من المراهقين الأغمار, أو الكهول البطالين, أي شيء أصنع بك وبموضوعك يا طرطور؟ ظننتك وقعت على حجة علمية تشد من أزر الملة الإلحادية المتهالكة, ظننتك وقفت على الدليل الدامغ على صحة العقيدة الداروينية, ظننتك جئتنا بالبرهان الساطع على نظرية الأكوان المتوازية, حسبتك جئتنا بمقال عن خبايا الحضارة المريخية, فإذا بك تعود بنا إلى ألاعيب صبيان, وإلى لهو غلمان الحارة, تريدنا أن نلعب "الغميضة"؟ انتظر صاحبنا حتى اكتملت فصول المسرحية الإلحادية وانصرف الممثل المغرور ليفتتح فصلها الأول, فلحق به ودخل الموقع المسلم وهو لا يكاد يشك في أن زميله يوشك أن يقع على أمر رأسه.
بدأ أبو الإلحاد يتنقل بين المقالات, ويتأمل في الحوارات, فوجد لغة سائغة وكلاما سلسا. ثم نظر في ردود الملاحدة فألفى أكثرها مغرقا في التكلف, كان يقرأ الجملة ثم يعيدها لعله يظفر منها بشيء, فلا يزيده تكرار النظر فيها إلا حيرة, كأنها كتبت بالفارسية. هذا أحدهم سمى نفسه "كوبرنيكوس" سئل عن دليل إلحاده فتكلم بكلام لا يدرى بطنه من ظهره ولا رأسه من قدمه: "النظر العقلي المجرد في هذه المسألة الأنطولجية يفضي إلى ولوج مساحات من التساؤلات الفلسفية التي تستدعي معقولية وفكرا منطقيا يجتاح فضاءات مسكونة بالمجهول, وهذا معنى النسبية, وهذا جوهر خلافنا مع المتدينين الذين يصدرون عن فكر ينبني على إيمان ميتافيزيقي بالمطلق, السؤال هو كيف انبثق المعنى والغاية والنظام والتصميم والإبداع من اللامعنى واللاغاية واللانظام واللاإبداع, هذا السؤال في نظري لا يمكن الإجابة عنه بالرجوع بالبشرية إلى الماضي واستلهام الموروث الديني, بل بتصحيح أوضاع حركة التنوير اللاديني. إن الكون نسبي لا معنى له من دون حركة رصد, فالراصد والمرصود, والشاغل والمنشغل, والماسك والممسوك, في النهاية شيء واحد, وهذه هي القبعة الفكرية للإلحاد في أعمق تجلياته, فكيف تريدونني أيها الزملاء أن أترك هذا الثراء الفكري والمعرفي بحذافيره لأعتنق معكم تصورا بسيطا للكون يهبك جوابا مباشرا عن كل هذه الأسئلة؟"
قرأ أبو الإلحاد كلام زميله مرارا, فهاله ولعه بالحشو وتكلف العبارات الجوفاء التي تستر من المعاني ما يحصل بأدنى مؤنة وأقل جهد. ثم ظهر موضوع الزميل الذي انبثق من ورشة عمليات منتدى "الجرب والجذام", كتب (طرطور) موضوعه وسرعان ما جاءته الردود تدعوه إلى مناقشة أصول الإعتقاد قبل النظر في الفروع, وتعده بجواب مسألته إن استطاع أن يبرهن على صواب مذهبه وأن يأتي بدليل إلحاده. حينها أخذت الحمية الزميل المتحمس فكتب مشاركة بعنوان:
أقصر دليل إلحادي
البطاطا موجودة والدليل المادي هو دخولها في الحيز المكاني والزماني الذي تخضع له الظواهر المادية التي تسري عليها الأعراض. وأقرب تجليات البطاطا هي تفاعلها الباهر مع الزيت المغلي عند بلوغ ذروة فعل القلي. ودون الدخول في التداعيات الكيميائية لهذه العملية المعقدة, ودون الحديث عن المعاني المخيفة دينيا لوجود بطاطس معدلة جينيا, فإنني أنا (طرطور) أقول: "البطاطا موجودة خارج الفلاح, فهي مستقلة بوجودها, ففعل الفلح والبذر والسقي لا يقتضي وجود ذات فالحة متصفة بإرادة حرة فاعلة, نحن نرى أن البطاطا تنبت عند توافر حزمة من العوامل الطبيعية وتظافر عمليات تقودها قوانين مادية صارمة لا تترك مجالا لافتراض أسباب خارقة, فبوجود المطر والتربة والحرارة تنتعش البطاطا المالحة والحلوة وتزدهر. ولا يطعن في هذا أن تقوم بعد ذلك ذات عاقلة مريدة مفكرة باستنساخ هذه الميكانزمات الطبيعية وإعادة إنتاجها بصورة منظمة في إطار ترشيد الإنتاج الزراعي, فالأصل في الطبيعة أنها مستقلة بإرادتها كما بينته من مثال البطاطا. فالبطاطا لا تحتاج إلى فلاح كما أثبتت بالبرهان المنطقي الصارم الذي يؤيده الحس السليم والبطاطا جزء من العالم المادي, وقياسا عليه فإن العالم المادي يثبت مرة أخرى أنه مستقل بنفسه قائم بذاته.قرأ أبو الإلحاد دليل البطاطا كأنه يقرأ نعي الإلحاد العربي الإنترنيتي, وشعر بالجوع فأطفأ الحاسوب وخرج يطلب شيئا يأكله.
تعليق