يوميات أبو الإلحاد الرقمي..

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • هشام البوزيدي
    أديب وكاتب
    • 07-03-2011
    • 391

    #46

    26 ألاعيب الحارات الإلحادية

    مرت سنة على طرد أبي الإلحاد من منتديات الزملاء اللادينيين والمتشككين والملحدين, سنة كاملة من الضياع والحيرة والتخبط والغضب. كانت وحدته أشد ما يغيظه بعدما افتقد الحضن الدافئ الذي كان يؤويه؟ طالما لاذ بتلك المستنقعات الفكرية الآسنة, من شواظ المجتمع المحافظ الذي يحيط به, وطالما التمس السلوى في مواضيع الزملاء التي تفيض عنادا وثقة في مذهب الإلحاد. سنة عجفاء كاملة مرت عليه فيها أزمات كادت تذهب بالبقية الباقية من عقله, وأتت عليه فيها ساعات ظن أنه قد شارف الجنون. هاهو يبحر بحاسوبه ميمما شطر أعتى منتديات "الجرب والجذام", لعله يسترجع ذكريات أيام خلت تعبق بأريج الشك وبريح الإلحاد.

    لكم كانت صدمته كبيرة حين وجد وكر الثعالب مهجورا كئيبا, كأن عناكب افتراضية نسجت شباكا رفيعة على أبوابه. راجع شريط المواضيع الجديدة فاكتشف أن آخر موضوع يستحق القراءة يرجع إلى شهور, وأن كل ما كتب بعدها بقبقة إلكترونية جوفاء. لقد كسدت سوق الزندقة الإلكترونية وتلاشت أسهم الهرطقة الإفتراضية كالهباء. ابتسم حين خطر له أن زملائه لم يكونوا أحسن حالا منه, يبدو أن الملحد كائن منبوذ سواء تحزب مع أضرابه أو اعتزلهم وخلا بنفسه. جلس يتفكر في أسباب هذه الحال البئيسة التي تخيم على الموقع. لا بد أن مرجع ذلك إلى طبيعة الإلحاد نفسه, فهو مذهب سلبي عدمي, لا يقوم إلا على النفي والإنكار, ولا يستمد وجوده إلا من نقد الإيمان وازدراء الأديان, فما أشبهه بالنار وما أشبه نفَسه العدواني بالحطب. لقد استنفذ الزملاء كل طاقتهم في تسفيه خصومهم وفي معارك الشتم والقذف والكلام البذيء, حتى إذا فرغوا من ذلك كله جلسوا كالأيتام ينظر بعضهم إلى بعض, فما تراهم يصنعون؟ لقد شتموا الخصوم وسخروا من معتقداتهم دهرا, ثم قعدوا بعد ذلك كله منبوذين في ناديهم, فانقلبوا على أنفسهم فأوسعوها شتما ولعنا. تصفح بعض المواضيع فألفاها ركيكة المبنى رخيصة المعنى. هذا يدعو إلى اغتنام العمر القصير في اقتناص كل متعة والغوص في لذائذ الحياة واهتبال كل فرصة في سبيل ذلك, وذاك يتشدق بذكائه ولباقته, ويفخر أن إلحاده انطلى على أقرب الناس إليه. يا له من حضيض مهين, لقد انحدر الزملاء إلى حياة النفاق. خطر لأبي الإلحاد أنه لم يخسر في النهاية شيئا يذكر بنفيه عن المجتمع الإلحادي الإفتراضي, لعلها كانت فرصة ثمينة ليجدد بحثه وليمحص أفكاره.

    طفق صاحبنا متأملا في حاله وحال زملاء أمسه, غارقا في أفكاره حين لمح في شريط المواضيع الجديدة عنوانا مثيرا تحيط به علامات التعجب: "!!! فكرة عبقرية لتنشيط المنتدى!!!" دخل مسرعا تسبقه آماله, فقرأ موضوع الزميل (طرطور), إنه يعرفه, هذا زميل ملحد من الدرجة الثالثة, إنه يعرفهم من توقيعاتهم, المثقف منهم يتخذ لنفسه توقيعا رنانا, يوحي بسعة الإطلاع وبالرغبة في الحوار ومعرفة أفكار الخصم. أما صاحبنا (طرطور) فقد اختار توقيعا يفضح ضحالة عقله ويشي بهزالة فكره: [ الفعل هو دليل عدم وجود الفاعل.فالفاعل هو بحد ذاته فعل.ومهما عدنا بالسببية للوراء فسوف نجد فعلا بدون فاعل، فلا بد أن نعترف أن الفعل لا يحتاج لفاعل، الفعل مفعول بدون فاعل.] قال يحدث نفسه: "يبدو أني تسرعت في استبشاري بالموضوع, وأي شيء يجيء من مثل هذا؟"

    بدأ الزميل يشرح لرفقاء "الجرب والجذام" فكرته العبقرية قائلا: " كما ترون فنحن في بطالة وفراغ قاتل, والمنتدى صار كالخربة, تنعق فيها غربان الحداثة, وتنقنق فيها ضفادع اللاأدرية وتعوي فيها ذئاب الإلحاد -طبعا أمزح معكم- باختصار أنتم ترون بأم أعينكم ما نحن فيه, وقد جئتكم باقتراح نحرك به مياه التنوير اللاديني الآسنة, ونوجه دفة السفينة الإلحادية وجهتها الحقيقية, لقد عزمت أن نهجم على أكبر مواقع الخصوم, وأن نغير عليهم بما يفحمهم, فلنجعل هذا الشريط ورشة إلكترونية لتهيئة الفكرة, أرى أن نسأل الزملاء أين توجد الأرض السابعة التي يزعمون, ونلزمهم بالإجابة العلمية وبالحجج الجيولوجية, فما رأيكم, ومن أين نبدأ؟ قرأ أبو الإلحاد هذا الجزء من الموضوع فأصيب بالإحباط, وأحس بأنه في رفقة شرذمة من المراهقين الأغمار, أو الكهول البطالين, أي شيء أصنع بك وبموضوعك يا طرطور؟ ظننتك وقعت على حجة علمية تشد من أزر الملة الإلحادية المتهالكة, ظننتك وقفت على الدليل الدامغ على صحة العقيدة الداروينية, ظننتك جئتنا بالبرهان الساطع على نظرية الأكوان المتوازية, حسبتك جئتنا بمقال عن خبايا الحضارة المريخية, فإذا بك تعود بنا إلى ألاعيب صبيان, وإلى لهو غلمان الحارة, تريدنا أن نلعب "الغميضة"؟ انتظر صاحبنا حتى اكتملت فصول المسرحية الإلحادية وانصرف الممثل المغرور ليفتتح فصلها الأول, فلحق به ودخل الموقع المسلم وهو لا يكاد يشك في أن زميله يوشك أن يقع على أمر رأسه.

    بدأ أبو الإلحاد يتنقل بين المقالات, ويتأمل في الحوارات, فوجد لغة سائغة وكلاما سلسا. ثم نظر في ردود الملاحدة فألفى أكثرها مغرقا في التكلف, كان يقرأ الجملة ثم يعيدها لعله يظفر منها بشيء, فلا يزيده تكرار النظر فيها إلا حيرة, كأنها كتبت بالفارسية. هذا أحدهم سمى نفسه "كوبرنيكوس" سئل عن دليل إلحاده فتكلم بكلام لا يدرى بطنه من ظهره ولا رأسه من قدمه: "النظر العقلي المجرد في هذه المسألة الأنطولجية يفضي إلى ولوج مساحات من التساؤلات الفلسفية التي تستدعي معقولية وفكرا منطقيا يجتاح فضاءات مسكونة بالمجهول, وهذا معنى النسبية, وهذا جوهر خلافنا مع المتدينين الذين يصدرون عن فكر ينبني على إيمان ميتافيزيقي بالمطلق, السؤال هو كيف انبثق المعنى والغاية والنظام والتصميم والإبداع من اللامعنى واللاغاية واللانظام واللاإبداع, هذا السؤال في نظري لا يمكن الإجابة عنه بالرجوع بالبشرية إلى الماضي واستلهام الموروث الديني, بل بتصحيح أوضاع حركة التنوير اللاديني. إن الكون نسبي لا معنى له من دون حركة رصد, فالراصد والمرصود, والشاغل والمنشغل, والماسك والممسوك, في النهاية شيء واحد, وهذه هي القبعة الفكرية للإلحاد في أعمق تجلياته, فكيف تريدونني أيها الزملاء أن أترك هذا الثراء الفكري والمعرفي بحذافيره لأعتنق معكم تصورا بسيطا للكون يهبك جوابا مباشرا عن كل هذه الأسئلة؟"
    قرأ أبو الإلحاد كلام زميله مرارا, فهاله ولعه بالحشو وتكلف العبارات الجوفاء التي تستر من المعاني ما يحصل بأدنى مؤنة وأقل جهد. ثم ظهر موضوع الزميل الذي انبثق من ورشة عمليات منتدى "الجرب والجذام", كتب (طرطور) موضوعه وسرعان ما جاءته الردود تدعوه إلى مناقشة أصول الإعتقاد قبل النظر في الفروع, وتعده بجواب مسألته إن استطاع أن يبرهن على صواب مذهبه وأن يأتي بدليل إلحاده. حينها أخذت الحمية الزميل المتحمس فكتب مشاركة بعنوان:
    أقصر دليل إلحادي

    البطاطا موجودة والدليل المادي هو دخولها في الحيز المكاني والزماني الذي تخضع له الظواهر المادية التي تسري عليها الأعراض. وأقرب تجليات البطاطا هي تفاعلها الباهر مع الزيت المغلي عند بلوغ ذروة فعل القلي. ودون الدخول في التداعيات الكيميائية لهذه العملية المعقدة, ودون الحديث عن المعاني المخيفة دينيا لوجود بطاطس معدلة جينيا, فإنني أنا (طرطور) أقول: "البطاطا موجودة خارج الفلاح, فهي مستقلة بوجودها, ففعل الفلح والبذر والسقي لا يقتضي وجود ذات فالحة متصفة بإرادة حرة فاعلة, نحن نرى أن البطاطا تنبت عند توافر حزمة من العوامل الطبيعية وتظافر عمليات تقودها قوانين مادية صارمة لا تترك مجالا لافتراض أسباب خارقة, فبوجود المطر والتربة والحرارة تنتعش البطاطا المالحة والحلوة وتزدهر. ولا يطعن في هذا أن تقوم بعد ذلك ذات عاقلة مريدة مفكرة باستنساخ هذه الميكانزمات الطبيعية وإعادة إنتاجها بصورة منظمة في إطار ترشيد الإنتاج الزراعي, فالأصل في الطبيعة أنها مستقلة بإرادتها كما بينته من مثال البطاطا. فالبطاطا لا تحتاج إلى فلاح كما أثبتت بالبرهان المنطقي الصارم الذي يؤيده الحس السليم والبطاطا جزء من العالم المادي, وقياسا عليه فإن العالم المادي يثبت مرة أخرى أنه مستقل بنفسه قائم بذاته.
    قرأ أبو الإلحاد دليل البطاطا كأنه يقرأ نعي الإلحاد العربي الإنترنيتي, وشعر بالجوع فأطفأ الحاسوب وخرج يطلب شيئا يأكله.


    [gdwl]اللهم احقن دماء إخواننا في سوريا وفي كل البلاد وأبدلهم من بعد خوفهم أمنا

    لا يحسن أن ينزل على أفضل رسول، أفضل كتاب بلسان مفضول, ومن لم يعقل عن الله تعالى:{‏بلسان عربي مبين} فلا عَقِل.(الزمخشري)
    قد لا توجد لغة سوى العربية, بهذا التناسق الأصيل بين الروح والكلمة والخط, كأنها جسد واحد. (جوته)
    [/gdwl]

    تعليق

    • هشام البوزيدي
      أديب وكاتب
      • 07-03-2011
      • 391

      #47


      27 اختراق الإلحاد

      مضت سنة كاملة على إلغاء اشتراك أبي الإلحاد من جميع منتديات "الجرب والجذام". سنة تعرض فيها لهزات فكرية زلزلت إلحاده. إنه يعيش في وسط معاد يسوده الدين والإيمان, فكيف يحرمه زملاؤه المتنورون من بصيص النور الذي تمثله منتدياتهم التنويرية في الفضاء الإلكتروني. الشياطين, لقد أرسلوا عنوان جهازه إلى جميع المنتديات الإلحادية, فلم يقبله بعدها أحد, فإلى من يلجأ إن صده حزب التنوير؟ حتى رسائل رفاقه الصعاليك انقطعت, كم يفتقد ركام اللغة المقذعة الذي ينهال عليه كلما فتح صندوق بريده الإلكتروني, لقد انتهى ذلك كله. إنه لم يعد يرغب في الحياة, لقد فكر بالفعل في الإنتحار, لكنه تردد, رغم أن من مذهبه أن المادة لا تعرف التردد, وتعلق بأمل ما, رغم أن مذهبه يغتال الأمل, وقاوم اليأس, رغم أن مذهبه يزرع اليأس, لكن السبب الأكبر لنكوصه عن إنهاء حياته البئيسة هو أنه انقلب لا أدريا وارتد متشككا, لقد تلوث إلحاده, وصار يخشى إن طالت محنته أن يعود كما كان مؤمنا ساذجا يصدق أن للحياة معنى عميقا.

      فتح بريده الإلكتروني وهو لا يتوقع إلا بعض رسائل الدعاية المزعجة, لكنه رأى اسما كبيرا, تسارع نبضه, ارتعشت أنامله وقرأ: "رسالة جديدة: المرسل, الدكتور زاجر المحموم." الموضوع: "كلمة السر الجديدة" لم يصدق عينيه, فتح الرسالة: فقرأ: زميلي العزيز شماس 13, هذه كلمة السر الجديدة: [خروف الفضاء] . ندعوك للقاء طارئ في القسم الخاص غدا على الساعة العاشرة مساء لأمر عاجل ومهم. هم أن يرسل رسالة شكر لولا أن قرأ: "هذه رسالة إدارية, نرجو عدم الرد." كان قلبه يرقص طربا لأن رفاقه لم ينسوه, لكنه استغرب أنهم غيروا معرفه, لكن كيف يختارون له اسما كهذا "شماس 13"؟ ربما أرادوا تأديبه بعد أن فهموا من مقالاته في "نقد الفكر الإلحادي" أنه بدأ يميل إلى التدين, ربما كان اللقاء مجلسا تأديبيا يتقرر بعده مصيره, فليكن, إنه يقبل أي شيء يمنحه حق العودة للمنتديات الإلحادية. لكن ألا يكفي المعرف الغريب للقيام بالمهمة التربوية حتى يضموا إليه كلمة سر من قاموس القرون الوسطى, شم رائحة غريبة تفوح من هذه الرسالة, رائحة أقبية مظلمة, نظر إلى معلومات الدخول الجديدة لأكبر منتديات "الجرب والجذام" فتخيل أنه حصل لتوه على "شيفرة دا فينشي" هذه "شيفرة أبي الإلحاد" جلس يكررها حتى يحفظها, تخيل شماسا يونانيا بلباسه الأسود الفضفاض يرعى ثلاث عشرة نعجة بيضاء في يوم مشمس, وتخيل خروفا وسيما يطير فوق القطيع. هكذا سترسخ المعلومات الثمينة في رأسه. تساءل: "لأي شيء حظي بشرف لقاء الدكتور زاجر شخصيا في الصالون الخاص التابع للمنتدى العتيد؟ أمر عقله أن يتوقف عن طرح الأسئلة و أن يصبر إلى الغد.

      جاءت الساعة الموعودة, لبس أبو الإلحاد أحسن ثيابه, ومشط شعره وتعطر وأعد فنجان قهوة ثم جلس إلى مكتبه. فتح الموقع العتيد الذي يعد طليعة منتديات "الجرب والجذام" وقاطرة التنوير اللاديني في الفضاء الرقمي العربي, وتوجه للقسم الخاص, أحس برعشة تسري في جسده من رأسه إلى أخمص قدميه, أدخل معلومات الدخول فوجد نفسه مع نخبة الإلحاد: الدكتور زاجر المحموم مدير الموقع والدكتور فراس العث والأستاذ جورج المهماز وغيرهم. كان دخان غريب يملأ الشاشة, ظن صاحبنا لوهلة أن خللا قد أصاب حاسوبه في أسوأ توقيت, فبدأ يحرك الشاشة لعل الصورة تتضح, ثم ما لبث أن قرأ في الشريط أسفل القسم الخاص أنه هذا نوع من البخور الإلكتروني تمت برمجته احتفاء بقرب قدوم الأب (رائيل الثاني). لم يكتب صاحبنا شيئا ريثما ينتهي الزملاء من دعاباتهم الظريفة. لكن شعورا ملحا ظل يراوده أن شيئا غريبا يحدث في موقع التنوير. بدأ الدكتور زاجر يشرح برنامج اللقاء فكتب: "أيها الإخوة, لقد اجتمعنا لنناقش سوية التوصيات الأبوية الحكيمة لأبينا الروحي المفدى (رائيل الثاني). ولا شك أنكم قرأتم رسالته السنية واستشكلتم إشاراتها الخفية, فلهذا اجتمعنا بكم يا أوتاد كنيسة الخلاص الكوني. فأدعوكم جميعا للإسهام في إثراء الحوار كي نعجل بقدوم سفينة الخلاص." نظر أبو الإلحاد إلى أسماء الحاضرين فوجدها مصدرة بنجمة سداسية يتوسطها صليب معقوف فزاد عجبه, وهم أن يسأل عن سر هذه الحفلة التنكرية العجيبة, لولا أنه آثر التريث حتى يستبين الأمر على حقيقته. كان الأستاذ جورج أول من علق على كلمة الدكتور الإفتتاحية, فشكره وقال: "يشرفنا جميعا أن نكون في خدمة الكائنات العلوية, فنحن ندين لها بالوجود, ويشرفنا أن نكون جنودا لبث رسالة أبينا الأول رائيل. لقد بلغنا أن الوفد الفضائي السامي قد أكمل إعداد السفينة الفضائية, وأن هذا إيذان بدنو انتهاء أمد الحياة الأرضية, فليس بيننا وبين الخلاص من الوشائج الترابية إلا قدوم الموكب الأنفس, لنستقل المركب المقدس. كذا قال الأب." أدخل أبو الإلحاد كلمة "رائيل" في محرك البحث فتعرف على الكنيسة الرائيلية ومعتقداتها الفضائية, ورموزها الغريبة, لكنه لم يفلح في تفسير النقاش الدائر في المنتدى الإلحادي. لا بد أن ثمة خطأ ما. هل اخترق أنصار الملة الفضائية موقع التنوير اللاديني؟ نعم, لا بد أنهم اخترقوا حساب مسيري الموقع, لكنهم أخطئوا بمراسلته. لكن كيف حصل ذلك؟ جلس أبو الإلحاد يعيد ترتيب أفكاره, ويحاول أن يتصور حقيقة ما يجري, حين خطر بباله فجأة أن إدارة الموقع الإلحادي تنتمي بالفعل إلى تلك الكنيسة العجيبة, لكنه طرد عنه هذا الخاطر الغريب. كيف يعقل أن يكون دعاة الإلحاد وأساطين التنوير مؤمنين بخرافة كهاته؟ وكيف يعقل أن يكون لهم أب روحي يهيئهم لمقدم الموكب الفضائي المخلص؟ كيف ساغ لهم إذن أن ينتقدوا دين المسلمين وأن يسفهوا معتقداتهم؟ لماذا لم ينتقدوا سواه من الأديان إلا لماما؟ هل يكون الإلحاد في الموقع العتيد قناعا يستر الحقيقة التي اكتشفها لتوه؟ لا بد أن استلامه للرسالة كان خطئا قاتلا فضح اللعبة الماكرة. أخفى وجهه بين كفيه برهة, ثم انتفض وحرك رأسه مستنكرا. نظر إلى الشاشة فوجد الجمع غائصا في ترانيم خاشعة تتغنى بقرب الخلاص من العلائق الترابية وتدعو الكائنات الفضائية وتسألها الفرج بتحقيق النبوءة الرائيلية. جاءته رسالة من الدكتور زاجر فتحها فإذا فيها: "عزيزي شماس 13, اختم لنا المجلس بتقرير النشاط الإستنساخي للسنة الماضية." جلس صاحبنا يتفكر في طريقة يستدرج فيها هذه الشرذمة من مخترقي مذهب الإلحاد كي يفصحوا أكثر عن خبيئة نفوسهم, ثم كتب: "لقد ضاع مني التقرير يا دكتور, معذرة" حينها فطن الجمع إلى أن بينهم من ليس منهم, إذ كان لهم رمز يفتتحون به كتاباتهم. وجد أبو الإلحاد نفسه خارج القسم الخاص في أسرع من لمح البصر. جلس يقلب وجوه الرأي ويتفكر أي شيء يصنع, فظهر له أن يكتب رسالة إلكترونية إلى إدارة المنتدى يستفسر فيها عن حقيقة الذي يجري.

      أرسل الرسالة ولبث بضع دقائق فجاءه الرد: "عزيزي أبا الإلحاد, يسرني أن أشكرك على الخدمة الجليلة التي أسديتها للموقع خاصة ولمذهب التنوير عامة. فقد كشفت بذكائك وفراستك أكبر عملية اختراق يتعرض لها الموقع منذ تأسيسه, وقد قام خبراؤنا في السلامة الإلكترونية بتدارك الوضع وبتخليص الموقع من قرصنة الشرذمة الدخيلة. وقد ارتأت الإدارة أن تكافئك على مساعدتك القيمة بإعادة تنشيط حسابك وبمنحك عضوية برونزية بامتيازات خاصة. توقيع الدكتور زاجر المحموم.

      قرأ أبو الإلحاد الرسالة مرات, ولم يتمالك نفسه من البكاء, تحدرت دموعه على خديه, كانت دموعا باردة. لقد عاد إلى حظيرة الإلحاد الإلكتروني من جديد بعد أن أنقذ الزملاء من اختراق الدخلاء, ملأ الفخر جوانب نفسه, وجلس يرتب في ذهنه الأسئلة والإشكالات التي سيطرحها على زملائه قريبا على صفحات أعتى مواقع "الجرب والجذام".



      [gdwl]اللهم احقن دماء إخواننا في سوريا وفي كل البلاد وأبدلهم من بعد خوفهم أمنا

      لا يحسن أن ينزل على أفضل رسول، أفضل كتاب بلسان مفضول, ومن لم يعقل عن الله تعالى:{‏بلسان عربي مبين} فلا عَقِل.(الزمخشري)
      قد لا توجد لغة سوى العربية, بهذا التناسق الأصيل بين الروح والكلمة والخط, كأنها جسد واحد. (جوته)
      [/gdwl]

      تعليق

      • د.نجلاء نصير
        رئيس تحرير صحيفة مواجهات
        • 16-07-2010
        • 4931

        #48
        الأستاذ الراقي :هشام البوزيدي
        لاأجد كلمات أعبر بها عن هذا الحرف الراقي الواعي
        مررت من هنا وأؤكد لك أنه من أجمل ما قرأت
        أنت تمتلك أدواتك أيها المبدع
        تحية تليق بك
        جزاك الله خيرا على هذا الطرح
        كم من أبي الالحاد في عالمنا الرقمي
        لكن حين يتصدى لهم قلما مثل قلمك
        ليرد على تخرصاتهم ويدحض كيدهم
        بارك الله فيك
        sigpic

        تعليق

        • هشام البوزيدي
          أديب وكاتب
          • 07-03-2011
          • 391

          #49
          الأستاذة الفاضلة نجلاء نصير,
          يشرفني أن أرحب بك على هذه الصحائف قارئة وناقدة.
          وما دام أبو الإلحاد يعيش بيننا فإنه يترقب رمضان من داخل شرنقة إلحاده الخانقة, وهذا هو موضوع اليومية التالية التي أختم بها الجزء الأول من فصول هذه اليوميات العجيبة.

          فمرحبا بك مرة أخرى.

          [gdwl]اللهم احقن دماء إخواننا في سوريا وفي كل البلاد وأبدلهم من بعد خوفهم أمنا

          لا يحسن أن ينزل على أفضل رسول، أفضل كتاب بلسان مفضول, ومن لم يعقل عن الله تعالى:{‏بلسان عربي مبين} فلا عَقِل.(الزمخشري)
          قد لا توجد لغة سوى العربية, بهذا التناسق الأصيل بين الروح والكلمة والخط, كأنها جسد واحد. (جوته)
          [/gdwl]

          تعليق

          • هشام البوزيدي
            أديب وكاتب
            • 07-03-2011
            • 391

            #50
            28 استعداد أهل الإلحاد لشهر المحنة والأصفاد

            مشى أبو الإلحاد إلى بيته غارقا في هلوساته كديدنه, حين تسللت رائحة نفاذة إلى خياشيمه. وسرعان ما بدأت تستثير فيه عوالم كامنة في أعماقه, رغم أنه استمر في شروده كأنه منفصل عن هذا العالم. تداعت مع ذلك الشذى ذكريات الطفولة الحالمة إلى عقله. ما أغرب أمر حاسة الشم. لقد نقلته فجأة في نفق عابر للسنين إلى أيام الصبا الأول. ربما كانت الخياشيم هي المنفذ الأمثل للسفر عبر الزمن. حملته الرائحة الزكية التي لم يتبينها بعد إلى مطبخ أمه حيث تجمعت الجارات لإعداد الحلوى لإستقبال مناسبة سعيدة. ها هو يعود من المدرسة جائعا, يلقي محفظته ويهرع مسرعا ليذوق حلوى بمذاق اللوز والسمسم وماء الورد, سال لعابه حين تمثلت حلوى رمضان مغموسة في العسل أمام عينه. فجأة انتبه من شروده وتسمر في مكانه كمن نزلت به مصيبة. قال يحدث نفسه: " حلوى رمضان؟ يا للهول, لقد عاد رمضان, كيف مرت سنة بهذه السرعة؟ عندها وصل إلى باب بائع الحلوى, وجده يصفها في الأطباق, تماما كما كانت أمه تصنع مع جاراتها. وقف هنيهة يهمّ أن يقول شيئا, فمد إليه البائع قطعة وقال: "ذق هذه" أخذها ووضعها في فمه, فشعر بها تذوب كأنها قطعة سكر, تذكر أيام رمضان, تذكر التمر والحلوى, وتذكر صبيان الحارة وحالهم في آخر ليلة من شعبان. رأى نفسه عبر جدار السنين يترقب مع أخيه وأصحابه الهلال في شوق, حتى إذا رأوه انصبوا كالسيل عبر الأزقة والحارات مبتهجين كل يسعى أن يكون أول من يبث البشرى: "رمضان, رمضان, رأينا الهلال, هلال رمضان."

            توقف لحظة عن التفكير وسأل نفسه: "أين اختفت تلك الفرحة العارمة؟ لماذا حافظ عليها الناس من حوله وضيعها هو؟" سأل البائع: "متى يحل رمضان؟" فأجابه: "الأسبوع المقبل إن شاء الله" طار صاحبنا من الفزع, ومشى كالسهم يريد اللحاق برفاق "الجرب والجذام" ليبثهم شكواه وليستشيرهم في ملمته. على الأقل صار له على الشبكة بيت يؤويه. كان يود أن يسألهم عن شيء أهم من هذا. إنه أمر مخجل أن يكون لرمضان كل هذا الأثر عليه بعد سنوات الإلحاد العجاف. لكنه يعلم أنه ليس وحده, إن جحافل التنوير اللاديني في ديار الإسلام لا تبغض زمانا قدر بغضها لشهر الصيام. دخل بيته وجلس إلى حاسوبه. افتتح موضوعه في قسم الإستشارات بأنامل مرتعشة. كتب العنوان: "أرشدوني, باغتني رمضان دونما استعداد فماذا أصنع؟" ثم استرسل يتتبع أفكاره ويبث إخوانه شكواه: "أيها الزملاء, لم أكد أنسى نكد رمضان الفائت حتى أطل علينا من جديد, جاءكم شهر الجوع والعطش, شهر ترفرف عليه رايات التعبد والصلوات والأذكار, جاءكم شهر يزحزحكم من قمة الإلحاد وكبريائه إلى حضيض النفاق وريائه, أيها الزملاء, لقد استخفيت العام الفائت بالطعام والشراب حتى استحييت, بل إن رمضان انقضى وبقيت أياما لا آكل إلا بعد أن أوصد الأبواب, وأجتهد ألا يسمع لي صوت فكنت أبلع الطعام ولا أكاد أمضغه. لقد أصابتني عقدة رمضان, وهاهو على الأبواب. فما العمل؟"

            مضت دقائق فانهالت الردود على صاحبنا, وشعر أنه نطق على لسان كثير من زملائه. كتب أحدهم: "أيها الزميل, هون عليك, أوصيك بالصبر فنحن في زمان غربة, واملإ الجيب باللوز والسكر, واختل بنفسك في الحمام بين الفينة والأخرى لتختلس لقيمات وجرعات تقيم أودك, حافظ على إلحادك واجتهد أن تبقى حيا, وإياك والدخان فإن الفتوى بتحليله للصائم لم تلق القبول الذي نتمناه بعد, وإن أمنت الأخطار فعليك بالتبغ الممضوع, واغسل فمك جيدا بالنهار قبل أن تبرز للناس, وتصنّع الإعياء, وأقل الكلام, وأظهر الترقب قبيل الغروب والفرح عند الإفطار, وإياك والمشوي والمقلي أول النهار, واقنع بما لا رائحة له حتى يدنو الليل, وإياك والأكل عند الشرفات والناس صيام, و لا تنس إسدال السُّتر, وأنعم بالقبو ملاذا للمتنور المنبوذ, فاجعله واحة تهرب إليها من شهر الجوع والأصفاد, وهيئ فيه ما لذ وطاب من زكي المطاعم وبارد الشراب."

            ثم عقب عليه زميل غاضب قائلا: "اخرس يا جبان, ألهذا القدر يرعبك رمضان؟ تأكل طعام نفسك وتستخفي من الناس؟ بئس هل التنوير أنتم, تطايرون كالفراش في الشبكة وتنزلقون إلى الأقبية والجحور كالجرذان, متى تبرزون للناس وأنتم على هذا الهوان؟ أما أنا فلا أستخفي ولا آكل إلا على مرأى من الناس." فأجابه ثالث: "يا فيلسوف, أنت في سيدني فممن تخاف؟ هل ستخاف أن تجرح مشاعر الكنغر الأسترالي؟ تعال هنا حيث سنغرق قريبا في بحار من الصائمين, ثم أرنا جراءتك"

            بدا أبو الإلحاد كالمستجير من الرمضاء بالنار, ولم يجد في أكثر الردود إلا بعض المسكنات, لكنها لم تهبه الجواب الشافي الذي يستأصل هذا الشعور الغريب الذي ينتابه. إنه يشعر بالإشمئزاز من رمضان الذي صوره له الإلحاد وأهله, ويكاد يشعر بالشوق والحنين إلى رمضان الذي نشأ على الفرح بمقدمه والإحتفاء بشعائره. يا ترى, هل هو الوحيد بين أقرانه من يشعر بأن الإلحاد يحجزه عن النظر إلى هذا الشهر بتجرد؟

            طفق صاحبنا يقلب البصر في الردود حتى وقع على جواب لأحد الزملاء نزل على رؤوس القوم كالصاعقة المحرقة, والغريب أنه أحد كبارهم. لم يدر كيف يصنف كلامه لكنه جمع أشتاتا من الأسئلة والهواجس التي تتنازعه فسلكها في نسق واحد. أحس أبو الإلحاد بعدها أنه يكاد يقترب من فهم سر الحاجز الذي يفصل في نفسه بين نكهة حلوى رمضان ولذة ذكرياته, وبين الرعب والضيق الذي كاد يغص به حين أدرك أن الشهر يكاد يطرق بابه. إنه خيط الإلحاد الذي يحيط بعنقه ويخنقه.

            كتب الزميل: "أيها المتنورون, يا من تسيرون وسط المؤمنين كأنكم مجذومون, تسترون إلحادكم كما يستر المؤمن عورته, وتنزوون في هذه المنتديات الكالحة ينظر بعضكم إلى بعض كأنكم من كوكب آخر. طبعا إنكم تعيشون وسط المسلمين, من يستمع إليكم يحسبكم ما اكتشفتم هذا إلا الساعة! أفيقوا من سكرتكم, إنكم أنتم أنفسكم لستم في أعين الناس حولكم سوى مسلمين, انظروا إلى أسمائكم الحقيقية, وتناسوا معرفاتكم الطنانة, أنت إبراهيم أحمد ولست سبينوزا, وأنت يا نيتشه العربي, أليس اسمك عبد الغفور سلامة؟ وأنت يا تروتسكي ألست عبد الرحمن سليمان؟ إني أعرفكم واحدا واحدا, دعونا نصارح بعضنا بعضا, إنكم حزب النفاق لا حزب التنوير. تخافون من رمضان؟ هل نسيتم حالكم قبل شهور, ألم تفرحوا بالكريسمس؟ ترى كم ملحدا أقعى ليلتها تحت الشجرة؟ قلتم هي فرصة للفرح وإنما هي تقاليد اجتماعية. عجبا لكم تفرحون لشيء لا وجود له على أرضكم ويكاد يصيبكم الجنون لموسم يفرح فيه آباؤكم وذووكم؟ أنتم فاشلون بكل المقاييس, خصوصا مقاييس التنوير الذي تتشدقون به. إن كان هذا الشهر بغيضا إليكم فلِم لمْ تستطيعوا أن تقنعوا من حولكم بما ترونه؟ تجلسون هنا في هذا العالم الوهمي تتباكون كالأطفال, كأن رمضان سيختفي بعدها من الوجود, أشعر بالتقزز من سلبيتكم القاتلة. أما لو سألتموني فإني أفرح لقدوم رمضان, إني أنغمس وسط الناس, وأستمتع بوقتي, ألا ترون أن زملائنا من شياطين الفن يؤدون عملا إيجابيا خلافا لكم, إنهم فرسان الفضائيات ومهندسو المسلسلات, إنهم يسلسلون الألوف المؤلفة في البيوت, ويغسلون أدمغتهم في مكر بالغ كما يصنعون طيلة الوقت خصوصا في رمضان, ربما يملك هؤلاء فرصة لقهر هذا الشهر الذي يخيفكم, أما أنتم فقد استمرأتم العويل والصياح. تخافون من الجوع والعطش؟ ومن ذا الذي حال بينكم وبين ما تشتهون؟ أم تريدون أن تأكلوا في الطرقات؟ ثم ماذا يكون بعدها؟ هل ستزحزحون بذلك شهرا من شهور السنة فيتبخر في الهواء؟ أف لكم, لستم سوى شرذمة من الأغمار. أنتم لا تشعرون بالخطر الحقيقي الذي يشكله رمضان, إنه يغربلكم غربلة ويهدم في أيام ما تبنونه في سنة, أين اختفى كثير من الزملاء؟ أين (القبطان التائه)؟ أين (المتشكك)؟ أين (سبيل الحقيقة)؟ ألم يختفوا قبيل رمضان الماضي؟ إنكم تشهدون نقصان أمركم كل ساعة, إن هذا الشهر شهر ارتداد الزملاء, إنه شهر نقصان الإلحاد, إنه موسم الحساب السنوي لكم أيها المهرجون, وقصارى همكم الطعام والشراب, ألا تمتد أبصاركم لترى العالم وراء بطونكم؟ ما زالت أمامكم فرص التخفي في بحر من عوام المسلمين, ستقضون الساعات في المقاهي في لعب الورق, ستمضون الليالي في التسكع في الطرقات, لكن ذلك لن يدوم لكم, إن مجتمعاتكم تمور بحركة دينية لا تكاد تهدأ, إن الحشود تنفض من حولكم وتعود رويدا رويدا إلى تدين يشمل سائر مناحي الحياة, وكلما جاء رمضان اشتد الخناق عليكم, ويوما ما -وأراه قريبا- ستقفون أفذاذا في العراء, حينها لن تهتموا كثيرا بغسل أفواهكم من بقايا الطعام الذي تلتهمونه خلسة من الناس, لأنهم سيسألونكم: "لماذا لا نراكم معنا في صف الصلاة؟" إلى ذلك الحين استمتعوا بغزواتكم الكلامية يا رفقاء (الجرب والجذام) وتنعموا بالحلوى فإني لا أرى فيكم لبيبا, وأبشركم أني سأراجع نفسي, فلم ينلني منكم إلا العنت ونقصان العقل, لذا أقر مرة أخرى أني أفرح برمضان, ومن يدري, ربما يهب حياتي معنى بعدما صارت كأنها صحراء يباب منذ عرفتكم, فسحقا لكم وليتني لم أعرف أحدكم يوما من دهري."

            قرأ أبو الإلحاد هذا الكلام اللاذع مرارا, وشعر أن الطفل فيه يحثه أن يفرح برمضان كما كان يصنع أيام براءته, ثم عاد فندم أنه كتب الموضوع ابتداء, لقد تعكر صفو المنتدى بهذا الجواب الذي نزلت حروفه على القوم كالحراب المسننة, إنه زميل آخر يتساقط أمام أعين أقرانه كما تتساقط أوراق الخريف, يبدو أن مغامرة الإلحاد قد انتهت لديه بهذه المشاركة. تمنى صاحبنا في قرارة نفسه لو كان صاحب تلك الكلمات القوية, لكنه يأبى أن يفرط بسهولة في مذهب التنوير, إنه سيجتهد أن يمر عليه رمضان بسلام, وسيزحف على الأرض كما صنع طوال تلك السنين, ويؤجل جواب الأسئلة الكبيرة إلى حين.


            [gdwl]اللهم احقن دماء إخواننا في سوريا وفي كل البلاد وأبدلهم من بعد خوفهم أمنا

            لا يحسن أن ينزل على أفضل رسول، أفضل كتاب بلسان مفضول, ومن لم يعقل عن الله تعالى:{‏بلسان عربي مبين} فلا عَقِل.(الزمخشري)
            قد لا توجد لغة سوى العربية, بهذا التناسق الأصيل بين الروح والكلمة والخط, كأنها جسد واحد. (جوته)
            [/gdwl]

            تعليق

            • هشام البوزيدي
              أديب وكاتب
              • 07-03-2011
              • 391

              #51

              أيها الكرام,
              تم الجزء الأول من يوميات أبي الإلحاد, أول لنقل انقضت سنة إلكترونية كاملة من أيامه, تقلب فيها في أتون الشبهات والشكوك والوساوس, وهاهو يكاد يموت غيظا من نفحات رمضان التي تهب عليه من كل صوب.
              ولئن دام صاحبنا على حاله فإني أعدكم بالمزيد من فصول هذه الكوميديا الإلحادية العجيبة.

              وإليكم فهرس الحلقات السابقة:

              1 أبو الإلحاد الرقمي في أزمة
              2 أبو الإلحاد ورحلة البحث عن (معرف)
              3 أبو الإلحاد في زمن الصحوة
              4 السلفية الإلحادية
              5 نحو تنوير النحو
              6 تطهير العلم من الإيمان
              7 بين الإلحاد الافتراضي والأرضي
              8 صراع الأجيال: نسخة إلحادية
              9 موت الإلحاد
              10 تأملات داروينية
              11 الآلهة الإلحادية
              12 فصل لتعليم الإلحاد
              13 من سيربح الغليون؟
              14 مأساة الأبوة الإلحادية
              15 الإلحاد وإيقاف الزمن
              16 ملحدستان
              17 هل الإلحاد عسير الهضم؟
              18 الإنجاز في شفاء الملحد من عقدة الإعجاز
              19 أبو الإلحاد في بلاد العجائب
              20 أبو الإلحاد ولغز الأحافير
              21 أبو رقاقة العدمي
              22 من أدب الطفولة الإلحادية
              23 شرنقة الإلحاد
              24 هلوسات إلحادية
              25 كازينو الإلحاد
              26 ألاعيب الحارات الإلحادية
              27 اختراق الإلحاد
              28 استعداد أهل الإلحاد لشهر المحنة والأصفاد.


              هشام البوزيدي

              [gdwl]اللهم احقن دماء إخواننا في سوريا وفي كل البلاد وأبدلهم من بعد خوفهم أمنا

              لا يحسن أن ينزل على أفضل رسول، أفضل كتاب بلسان مفضول, ومن لم يعقل عن الله تعالى:{‏بلسان عربي مبين} فلا عَقِل.(الزمخشري)
              قد لا توجد لغة سوى العربية, بهذا التناسق الأصيل بين الروح والكلمة والخط, كأنها جسد واحد. (جوته)
              [/gdwl]

              تعليق

              • أحمد عيسى
                أديب وكاتب
                • 30-05-2008
                • 1359

                #52
                أسلوبك رائع وينم عن قوة في السرد وتمكن في اللغة ، والأجمل قدرة على الفكاهة ، بالاضافة الى متابعتك الوثيقة لهؤلاء الناس عبر ملتقياتهم ، تعرف عنهم الكثير ولا شك ، وكنت قد جربت ودخلت بعضاً من ملتقياتهم صدفة أو بعمد فما خرجت الا بالاشمئزاز ولم أتمكن من المواصلة لأكثر من ربع ساعة

                مودتي لك وتقبل اعجابي بقلمك وفكرك
                ” ينبغي للإنسان ألاّ يكتب إلاّ إذا تـرك بضعة من لحمه في الدّواة كلّما غمس فيها القلم” تولستوي
                [align=center]أمــــوتُ .. أقـــــاومْ [/align]

                تعليق

                • هشام البوزيدي
                  أديب وكاتب
                  • 07-03-2011
                  • 391

                  #53
                  المشاركة الأصلية بواسطة أحمد عيسى مشاهدة المشاركة
                  أسلوبك رائع وينم عن قوة في السرد وتمكن في اللغة ، والأجمل قدرة على الفكاهة ، بالاضافة الى متابعتك الوثيقة لهؤلاء الناس عبر ملتقياتهم ، تعرف عنهم الكثير ولا شك ، وكنت قد جربت ودخلت بعضاً من ملتقياتهم صدفة أو بعمد فما خرجت الا بالاشمئزاز ولم أتمكن من المواصلة لأكثر من ربع ساعة

                  مودتي لك وتقبل اعجابي بقلمك وفكرك
                  أخي الفاضل أحمد,
                  شكر الله لك قراءتك المتأنية ورؤيتك النقدية, وقد صدق حدسك في قولك أن لي خبرة بالقوم, كما صدقت في وصفك لهم أنهم مثيرون للإشمئزاز, وأنا نفسي لا أذكر أني قضيت أكثر من دقائق في مستنقعاتهم, لكني حاورتهم في بعض المنتديات الإسلامية.

                  أخوك هشام.

                  [gdwl]اللهم احقن دماء إخواننا في سوريا وفي كل البلاد وأبدلهم من بعد خوفهم أمنا

                  لا يحسن أن ينزل على أفضل رسول، أفضل كتاب بلسان مفضول, ومن لم يعقل عن الله تعالى:{‏بلسان عربي مبين} فلا عَقِل.(الزمخشري)
                  قد لا توجد لغة سوى العربية, بهذا التناسق الأصيل بين الروح والكلمة والخط, كأنها جسد واحد. (جوته)
                  [/gdwl]

                  تعليق

                  • هشام البوزيدي
                    أديب وكاتب
                    • 07-03-2011
                    • 391

                    #54

                    يوميات أبي الإلحاد الرقمي (الجزء الثاني)

                    29 العيد بنكهة الإلحاد

                    فتح أبو الإلحاد عينيه بعد ليلة قضاها مكدودا كمن ابتلعه ثقب أسود, خيل إليه أنه غدا كومة من العظام المتورمة, شعر بالألم ينخر كيانه, لم يبق فيه مغرز إبرة لا يؤلمه, ثم ظللته سحابة من الهم حين بدأ يعي العالم من حوله شيئا فشيئا, تذكر ليلته وبدأ يتفكر كيف يقضي يومه, لم يدر أيفرح بانصرام رمضان وانفراط عقد أيامه ولياليه, أم يحزن لمقدم العيد الذي يكلل موسمه. بدأت ذكريات السنوات البعيدة تهجم عليه, رأى نفسه طفلا يبيت يتقلب في فراشه في مثل هذه المناسبة يترقب الصبح ليتسربل بحلل العيد, العيد في عقل الطفل الذي أصبح أبا الإلحاد يعود كل عام ليحمل إليه البسمة والبهجة ولينفخ في حياته نفسا جديدا, لكن ذلك كله ولى إلى غير رجعة, مرت هذه الخواطر في ذهن صاحبنا فلم يشعر بنفسه إلا وهو يتنهد كمن يتحسر على أيام هنيئة خلت.

                    بدأ النور ينفذ إلى مِخدعه فاستدار قِبل الجدار, وقع بصره على الساعة فوجدها تشير إلى السادسة والنصف, شعر بالامتعاض الشديد, إنه يجتهد منذ سنين أن يغوص صبيحة العيدين في نوم عميق, فلا يستيقظ إلا بعيد الظهر. إنه يصنع ذلك كيلا يعي شيئا من احتفال المسلمين بانقضاء مواسم طاعاتهم, لكنه الآن مستيقظ في يوم يود لو نام إلى مغيب شمسه. عاد فأغمض عينيه فشعر أنه يتردى في هوة سحيقة ما لها من قرار, ما أتعس أهل الإلحاد في هذه البلاد! بدأت أفكاره تهدأ ونفَسه ينتظم فاستبشر بقرب استسلامه لسلطان الكرى.

                    فجأة تسلل إليه صوت من خلف الجدار: "الله أكبر, الله أكبر, لا إله إلا الله, الله أكبر ولله الحمد..." استدار أبو الإلحاد في حنق بالغ ووضع الوسادة على رأسه, لقد حصل ما كان يحاذره, سيظل حبيس سريره في هذه الصبيحة تحيط به نفحات هذا اليوم المفعم بفرحة المسلمين, لقد قضى شهره مكشرا عن أنيابه وهو يلعن الصيام ويهزأ بالقيام, ويندب حظه العاثر الذي ألقى به بين أظهر المسلمين, أمضى أيام رمضان ولياليه وهو يكابد مشقة الحياة الإلحادية البئيسة, حياة النفاق والترقب والتوجس, وهاهوذا ملقى في سريره كالمنبوذ حزينا يوم فرحة الناس, وهاهو التكبير يقتحم عليه خلوته التعيسة, إنه ينبعث من إحدى القنوات الدينية, إنه تكبير بلكنة حجازية.

                    لقد حزن لمقدم رمضان وهاهو يحزن لمقدم العيد, فيا ليت شعري بأي شيء يفرح أهل الزيغ والإلحاد, ولِم يفرحون ومتى يفرحون؟ طرق هذا الخاطر ذهن صاحبنا وتساءل: "يا ويح الزملاء, يا لخيبة المتنورين في هذه الأرجاء, أين الفرحة الإلحادية أين الأعياد المنسلخة من العقائد الإيمانية ومن التصورات الغيبية؟ إن رفاق (الجرب والجذام) يفرحون للكريسمس ورأس السنة والفالنتاين والهالويين ولما لا يحصى كثرة من الأيام الإفرنجية المخترعة, لكنه لا يذكر منها يوما يحمل عشر معشار هذه الطاقة التي تشع في مثل هذا العيد, إنها أيام لا تختلف عن البقية الباقية من أيام الناس لو استثنينا ما يكتنفها من الإقبال على اللهو ولذائذ الطعام, أما هذا اليوم فيختزن قوة وهيبة يبثها في أوصال المجتمع فتنبعث الفرحة من أهل الإسلام وتغمر الحسرة والأسى أهل الإلحاد.

                    تمنى لو كان يملك التأشيرة والمال اللازم ليلوذ ببلد متنور كلما حل مثل هذا اليوم كما يفعل الموسرون من الزملاء, لكن هيهات لقد منحته الصدفة خلطة قاتلة: الإلحاد والضلال والبؤس والإقلال, إن الملحد الفقير أتعس الدواب على وجه الأرض, إنه يعشق الدنيا ويهيم في غرام العالم المادي ويفنى في شهود ظاهر الحياة, ثم تقعد به فاقته عن الإنغماس في نعيمها والتلذذ بشهواتها. أشعل التلفاز وبقي ممددا يتسلى بمشاهدة نشرة الأخبار فساءه أن أخبار العيد استغرقت معظمها, رأى كيف احتفل المسلمون بالعيد في أصقاع الأرض, ولما شاهد الجموع في مساجد باريس ولندن وساحاتها وقد اصطفت لصلاة العيد أيقن أنه ربما يحتاج تأشيرة لكوكب المريخ كيلا يسمع التكبير والتهليل بالمرة. ليته يقضي هذا اليوم في عاصمة الإلحاد في حاضرة الزميل المرعب أبي شنب جوزف ستالين, ما أن عنّت له هذه الفكرة حتى بدأ بث تقرير مصور حول احتفال مسلمي روسيا بالعيد, كاد أبو الإلحاد يصعق لمرأى الألوف المؤلفة وقد احتشدت في أكبر مساجد موسكو, إن التزمت يكاد يبتلع آخر معاقل الملة الإلحادية, أطفأ الجهاز والحسرة تأكل فؤاده, ثم جلس في سريره وهو يتمثل بهذا البيت الذي لم يعد يذكر أين سمعه:

                    لمثل هذا يذوب القلب من كمد.........إن كان في القلب إلحاد وكفران

                    شعر صاحبنا برائحة العود تنبعث من بيت الجيران واستمر في شروده على إيقاع التكبير والتهليل والتحميد حتى سمع طرقا خفيفا على الباب, تسارع نبضه وخشي أن يكون أخوه قد أتى ليصطحبه, لكنه سمع صوت جاره سليمان يسلم عليه, تردد ولم يدر ماذا يصنع, إن شيئا غريبا يحصل بين الرجلين منذ أسابيع, إن التقارب المتزايد بينهما ينذر بخطر محدق, ثم هاهو سليمان يطرق بابه صبيحة عيد الفطر, خطر لأبي الإلحاد أن جاره ينصب له فخا دعويا محكما يوشك أن ينطبق عليه, أطل من ثقب الباب فرآه يحمل في يده طبقا من الحلوى, فلم ير بدا من فتح الباب فهو لا يصبر عن حلوى العيد.

                    وقف سليمان في ثوبه الأبيض الناصع وقد استنار وجهه ببسمة هادئة, قدم له الطبق الشهي قائلا: "كل عام وأنتم بخير" فارتبك أبو الإلحاد وشعر بحرج بالغ ثم تمالك نفسه وقال: "كل عام وأنتم بخير, شكرا لك سليمان", فقال له بنبرة ودود: "هذه هدية لأهل البيت, لقد جئت لأدعوك لفطور العيد, سأنتظرك ريثما تستعد" وقف أبو الإلحاد برهة يفتش عن عذر يتملص به من هذه الدعوة المفاجئة, لكنه أبعد الناس عن سرعة البديهة خصوصا في مثل هذه الساعة المبكرة, ارتسمت على وجهه ابتسامة بلهاء حسبها جاره تعبيرا عن الرضا, فقال له: "سأنتظرك بالبيت" دخل أبو الإلحاد إلى الحمام فغسل وجهه بالماء البارد لعله ينفض عنه تعب الصباح, ثم فتح دولاب الملابس, فلم يشعر إلا وهو يلبس قميصا أبيض جديدا ويتعطر, نظر إلى صفحة وجهه في المرآة فرأى كيف اكتسى بكسوة النفاق, ثم نظر إلى قلبه فألفاه كما عهده تعلوه حلكة الإلحاد. شعر بالخجل من نفسه, كيف له أن يجلس إلى مائدة من لا يرى فيه إلا متزمتا بليدا يحيا في أحضان الفكر الخرافي؟ بل كيف له أن يأكل من طعام العيد وهو ملحد جلْد, لماذا لا يصارحه بحقيقة حاله؟ إن بين ظاهر سليمان وباطنه ما يشبه التطابق, إن وجهه يعطي هذا الإنطباع, أما أبو الإلحاد فإن بين قشرته الخارجية وبين ما يدور في دهاليز نفسه المتحيرة قفارا وفيافي يتيه فيها العقل البشري. إنه يجتهد الآن أن يعبر هذه المتاهات المظلمة ليبرر لنفسه نفاقه المخزي, هاهو يقول محدثا نفسه: "إنه أمر عادي جدا, فأنا إنسان اجتماعي, أفرح لفرح الناس, سأشارك الناس في هذا العرف المتجذر, ثم إنني أقبل بكثير من جزئيات الثقافة الشعبية..." نظر إلى قميصه الأبيض الجميل, ففطن إلى أنه يلبسه لأول مرة, لقد لبس أبو الإلحاد الجديد يوم العيد, بل إنه لبس البياض! شعر بالتناقض الشديد وبالتذبذب الفاضح الذي ينغمس فيه في أمثال هاته المواقف, لقد حسم أمره, سيفرح لفرح الناس حتى يخرج من هذه الورطة, لكن الفرحة ليست بالشيء الذي يسهل تصنّعه, وهذا أمر آخر يحزنه, إنه كثيرا ما يرمي المسلمين بالنفاق والتصنع, فهل يستطيع أن يقنع نفسه أنهم يتصنعون الفرحة يوم عيد فطرهم؟ كلا إن فرحتهم صادقة ما بذلك من خفاء. خطر له هذه الساعة أن عليه أن يتوقف عن رمي الناس بما هو فيه, إن له في النفاق نسبا عريقا فما باله يدعي استهجانه.

                    دخل على سليمان فوجد البيت في أحسن حال, يعبق بريح العود ويتراكض فيه الأطفال في لباس العيد, فأجلسه إلى مائدة ازدانت بما لذ وطاب, والتكبير لا ينقطع من شاشة التلفاز, أفطر أبو الإلحاد ومضت بعض ساعة في أحاديث متناثرة, ثم قام سليمان فجأة قائلا: "لنسرع قبل أن يضيق الوقت" وقبل أن ينبس صاحبنا ببنت شفة وجد نفسه في السيارة حيث يصدح أحد مشاهير القراء بالقرآن, وما أن سارت السيارة قليلا حتى بلغ قوله تعالى: (إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا ) النساء: 142-143 شعر بالدوار إنه في طريقه إلى مصلى المسلمين, طالما اشتكى من الإكراه الذي يئن حزب التنوير تحت وطأته في ديار الإسلام, لكنه يمضي في هذه الساعة المبكرة إلى ما يكره طوعا كأنه مسلوب الإرادة.

                    وقف أبو الإلحاد على حافة بحر بشري أبيض يهدر بالتكبير, مضت عليه هنيهة كأنها أحقاب متطاولة, تخيل كيف ستمضي عليه ساعة وسط هذه الصفوف المكبرة, وكيف سيستمع إلى خطبة لن تخلو من تقريع لأمثاله, وامتعض حين تخيل كيف يهنئه بالعيد أناس غرباء. لا بد من مخرج من هذه الورطة, التفت إلى جاره قائلا: "معذرة أحتاج أن أتوضأ من جديد, خذ مكانك وسأتدبر أمري." عاد صاحبنا أدراجه وهو يتنفس الصعداء, استقل سيارة أجرة وعاد إلى بيته كمن استيقظ لتوه من كابوس مرعب, في ذلك الصباح العجيب استيقن أبو الإلحاد أن الإلحاد واللاأدرية واللادينية التي يدندن حولها دعاة الإلحاد الإلكتروني العربي جعجعة لفظية لا تكاد تجد موطئ قدم في ديار الإسلام وأن أصحابها يذوبون في واقع الأمر وسط المجتمع دون أن يكون لهم فكر يميزهم, إنهم أنصار المذهب الحربائي بدون منازع إنهم حزب النفاق وملؤه.




                    [gdwl]اللهم احقن دماء إخواننا في سوريا وفي كل البلاد وأبدلهم من بعد خوفهم أمنا

                    لا يحسن أن ينزل على أفضل رسول، أفضل كتاب بلسان مفضول, ومن لم يعقل عن الله تعالى:{‏بلسان عربي مبين} فلا عَقِل.(الزمخشري)
                    قد لا توجد لغة سوى العربية, بهذا التناسق الأصيل بين الروح والكلمة والخط, كأنها جسد واحد. (جوته)
                    [/gdwl]

                    تعليق

                    • هشام البوزيدي
                      أديب وكاتب
                      • 07-03-2011
                      • 391

                      #55

                      أضع بين أيدي الفضلاء من رواد الملتقى نسخة منقحة مرتبة من الجزء الأول من يوميات أبي الإلحاد لمن شاء أن يطبعها:

                      4shared is a perfect place to store your pictures, documents, videos and files, so you can share them with friends, family, and the world. Claim your free 15GB now!

                      هشام البوزيدي


                      التعديل الأخير تم بواسطة هشام البوزيدي; الساعة 17-09-2011, 16:35.

                      [gdwl]اللهم احقن دماء إخواننا في سوريا وفي كل البلاد وأبدلهم من بعد خوفهم أمنا

                      لا يحسن أن ينزل على أفضل رسول، أفضل كتاب بلسان مفضول, ومن لم يعقل عن الله تعالى:{‏بلسان عربي مبين} فلا عَقِل.(الزمخشري)
                      قد لا توجد لغة سوى العربية, بهذا التناسق الأصيل بين الروح والكلمة والخط, كأنها جسد واحد. (جوته)
                      [/gdwl]

                      تعليق

                      • هشام البوزيدي
                        أديب وكاتب
                        • 07-03-2011
                        • 391

                        #56

                        30 أبو الإلحاد في زمن الثورة


                        شعر أبو الإلحاد بنفسه يطفو فوق بحر آدمي أسود متلاطم, ترتفع فوقه الأعلام واللافتات الضخمة كأنها أشرعة سفن من زمن غابر, كانت الجموع تموج ويكاد هديرها يصم الآذان. مشى يخط برجليه الأرض ووهج الشمس يلفح جلده حتى تبللت ثيابه وأنكر رشح نفسه, لم يكن يدرك أن ريح الثورة كريه بهذا القدر.

                        ندم أنه لم يضع على رأسه شيئا يقيه لسع سياط الشمس, وندم أكثر أنه لم يلبس حذاء مناسبا, لقد جاء يمشي في نعلين كأنه سائح أوربي يمشي إلى الشاطئ في يوم مشمس. استسلم لهذا التيار البشري الجارف كما استسلم لخيط أفكاره التي لاحت أمام عيني عقله كأنها شريط أحداث الفترة الماضية.

                        ظل صاحبنا يحملق في شاشة التلفاز طيلة الشهور المنصرمة يتتبع الأخبار حتى كلّ ناظراه وأسكرت الحماسة رأسه , لقد أخذت الأحداث المتسارعة بمجامع قلبه فنسي أن يتعاهد نفسه بإصلاح حاله وتجميل هندامه فتلبد شعر رأسه وأهمل حلق ذقنه. لقد هبت رياح الثورة التي طالما حلم بها, لكن يا للأسف ويا للحسرة! إنها ليست الثورة الحمراء التي بشر بها الزملاء, إنها ليست ثورة المطرقة والمنجل, إنها ثورة أنجبتها شعوب غاضبة قبل الأوان, لكن الذوق الإلحادي يخبره أن هذه الثورة لم تستو بعد, إنها أشبه شيء بحساء بارد بلا ملح ولا بهارات, إن قِدر الثورة تحتاج لمزيد من الدماء والأشلاء حتى تستوي بحسب الوصفة الإلحادية.

                        اضطرب موقف صاحبنا كثيرا إزاء هذا البركان الفائر من حوله حتى استقر رأيه أخيرا على أنه يعاصر ثورة لا شك في ذلك, فقد أسقطت عروشا وأطاحت رؤوسا لكنها لم تقم المقاصل ولم تنصب أعواد المشانق, إنها ثورة مجهولة الهوية تتخللها الألوان المتباينة كما تتخلل البستان أشواك وأشجار وزهور يانعة. لعل أهل الإعلام يدعونها بالربيع لذلك, يا للهول إنها ثورة توشك أن تصير خضراء إن لم يتدارك العقلاء المتنورون الأمر. إنها ثورة اشتعل أول شررها من أعواد المنابر, وارتفع التكبير إذكاء لأوارها من قمم المآذن, فمتى يرى الثورة التي تصنع من مصارين رجال الدين قلائد تزين أعناق الملوك؟

                        حين رأى أبو الإلحاد الجموع الثائرة تصطف في الميادين بالآلاف لتصلي صلاة المسلمين كاد يغشى عليه من الغيظ, "أي ثورة هذه إن لم تثر على الدين؟" تذكر شعار سلفه الغاوين: (الدين أفيون الشعوب), تأمل هذه الحكمة الماركسية المنسية, وتفكر في معانيها العميقة التي لم تفقد شيئا من بريقها رغم تعاقب السنين وتساءل: "هل كان الزميل يوم قالها محششا؟ وكيف يستقيم أن يذكر الملحد الأفيون بنبرة الإنكار؟"

                        لم يطل الأمر بأبي الإلحاد حتى بلغت الثورة أرضه وأطاحت برأس البلد وصاحب أمره, لم يعد يذكر أي شيء كان في أول أمره قبل أن يصير مخلوعا, لقد رآه منذ عقل في كل الصور والأزياء التي تخطر لآدمي على البال, رآه في زي أهل البلد وفي جبة العلماء وفي لباس كبار الضباط وفي سراويل أهل الكرة, إنهم ينادونه بالزعيم الملهم وبالإمام المعظم وبالقائد المغوار وبالراعي الحكيم وبالرياضي الأول وبأب الأمة وبحامي الملة. حين كان طفلا خيل إليه أن الزعيم يمتلك من دون الناس قدرات خارقة, ثم اكتشف أن موهبته الوحيدة شيء من براعة الفن المسرحي مع المهارة الفائقة في عرض الأزياء, وكلها لا تحتاج إلا لخشبة وجمهور بليد.

                        سمع صاحبنا عن الثورة والثورة المضادة وعن استغلال التيار وركوب الموجة, وتساءل كيف يتقاعس الزملاء عن اقتناص الفرصة المواتية, إن بين أيديهم ثورة ناضجة حان قطافها, بذل غيرهم الدماء في سبيلها, فلماذا يتأخرون حين يجدر بهم التقدم ويحجمون حين ينبغي لهم الإقدام؟

                        خطر له أن الخصوم يوشكون أن يصبغوا المجتمع بصبغتهم الخضراء لو تقاعس حزب التنوير ونكصت فلول الملة الإلحادية, لا بد من ثورة على الثورة وثورة في الثورة وثورة فوق الثورة. تفكر في هذا كله ثم بدأ يتمتم كمن يحدث نفسه: "لكن مهلا, الثورة رغبة في التغيير, وغضب من الظلم, والظلم في المذهب المادي كلمة لا معنى لها, فكيف لو أضفنا لها كلمات من قاموس البذل والتضحية والإستشهاد؟ إن التضامن والتراحم ونصرة المظلومين وغيرها من المشاعر الإنسانية الجياشة ليست سوى رواسب من الإرث الديني, إنها من فكر الضعفاء فكيف يلتفت إليها من ينتحل مذهب القوة؟ كيف يبرر الملحد التطوري رغبته في مساعدة المظلومين؟ وما الداعي إلى مساعدتهم أصلا؟ فلينقرضوا حتى يبقى الأصلح والأقوى, هل صار الإلحاد مؤسسة خيرية تعنى بشؤون المتخلفين داروينيا؟ إن المذهب المادي يرفع شعار "اقتلع الضمير والرحمة وانصب راية القوة فوق جثث الضعفاء وجماجمهم." فما محل الثورة ضد الظلم من الإعراب في مذهب يقدس القوة ويستهين بكل قيمة إنسانية؟"

                        "ما الذي يحركك يا أبا الإلحاد لتثور؟ أليس حب العدل وبغض الظلم؟ وأي معنى للظلم في عرف المادة؟ لماذا قد تسعى المادة إلى تغيير شيء ما من أمرها؟ بأي قانون مادي تطمح المادة للثورة على واقع نشأ عن تفاعل قوانين مادية؟ أليس دين المادة الرضا بقهر قوانينها الحتمية؟ أوليس الزهد في التطلع إلى التغيير ديدنها؟ وما الذي سيحل بنا لو تطلع العالم المادي إلى التغيير؟ أوليس معنى ذلك أن يبغي بعضه على بعض وأن تتطلع كل ذرة فيه إلى التمرد على قيودها الصارمة؟"

                        أحس صاحبنا أنه لو تصرف بمقتضى ماديته الصارمة لما ثار ولما طلب شيئا غير ما هو فيه, و لزهد في التطلع لمثل أعلى, ولعاش دهره خاملا منبطحا على بطنه منطرحا في خضم كينونته المادية دونما رغبة أو رهبة, و لربما أشبه حينذاك بعض فقراء الصوفية في شهودهم للأمر القدري دونما سواه, فيحيا ملقيا بنفسه في خضم التفاعلات المادية كالريشة في مهب الريح, لا يطلب شيئا غير ما يتحصل له دون عنت, ولا يتكلف شيئا أبدا. لكن شيئا ما لا يدرك أبو الإلحاد كنهه يلح عليه أن ثمة مثلا ينبغي بلوغه وغاية يحسن التطلع إليها.

                        دس صاحبنا أنفه في أكناف الشبكة أياما يتحسس حركة الثائرين من الزملاء وهو يرجو أن يرفعوا رؤوسهم أخيرا بإلحادهم, فها قد أطلت على الديار شمس الحرية. لكن هيهات لقد خاب ظنه من جديد إذ لم ير منهم إلا متلفعا بمروط العلمانية أو متبرقعا بخُمر الليبرالية, لقد أبصر أكثرهم وقد التفت عليهم أزياؤهم التنكرية كما يلتف القماط على الرضيع فلا يكاد يستطيع حراكا, نظر إليهم فمقتهم ومقت جلودهم الحربائية.

                        عثر أبو الإلحاد بعدما كاد ييأس على صفحة فيسبوكية لشرذمة من فصيلته الموشكة على الإنقراض فسرته نبرتهم وأعجبته جرأتهم وأعاد إليه شعار حركتهم بعضا من الأمل في مستقبل الثورة الإلحادية على الأرض العربية: (معا من أجل تنوير الثورة- معا على درب الإلحاد). اجتمع في صفحة الزملاء بضعة مئات بشق الأنفس وأجمعوا النزول للشارع ليسمعوا الناس صوتهم خلال المسيرة الأسبوعية المقبلة.

                        جاء اليوم الموعود, فتح دولاب الملابس وهو يفكر في الزي الملائم لهذا اليوم التاريخي, ثم همهم "هذا ما أحتاجه" لبس (تي شرت) أحمر يحمل صورة الشاب الثائر (تشي جيفارا), نظر إلى وجهه في المرآة تكسوه لحية خفيفة بدأ يتخللها البياض, هم أن يحلقها لولا أنه رأى لحية الثائر الملحد فأحجم عن ذلك, عجبا, لماذا صار الزملاء فجأة يبغضون اللحى؟ تذكر ماركس وإنجلز ولينين وتروتسكي وكاسترو وجيفارا, إنهم سدنة الإلحاد وقسسه, وتلك لحاهم ما تزال تملأ قلب كل ملحد زنديق بالفخر, يبدو أنه قد آن لأبي الإلحاد أن يلتحي إحياء لسنة سلفه من البلاشفة الهالكين, ثم إن جلده يحتاج لبعض الراحة بعد مرِّ هذا الزمن المديد وكرِّ شفرة الحديد.

                        عاد أبو الإلحاد من رحلته في أعماق نفسه ليجد نفسه في قلب المظاهرة, لكنه جاوز المكان الذي ضربه الزملاء موعدا, التفت حوله فوجد ألوفا مؤلفة من الملتحين يلبس أكثرهم البياض, التفت يمنة فوجد شابا تملأ لحيته صدره وبيده سواك, والتفت يسرة فوجد آخر يرفع صوته بالتكبير, لقد ضل صاحبنا سبيله فوجد نفسه وسط جموع ملتحية تهدر بشعارات دينية: (إسلامية إسلامية, لا مدنية ولا علمانية), تذكر أنه يحمل على صدره شهادة إدانته, تذكر قصص الرعب وحكايات الإرهاب فتحسس رقبته وجرض بريقه, سار منحنيا كي يخفي وجه الثائر الأرجنتيني الوسيم, ثم وقعت عيناه على علم أخضر ملقى على الأرض فمد يده فالتقطه كما يمد الغريق يده ليستمسك بقشة, التحف أبو الإلحاد بالعلم الاخضر ثم صار يمشي ذات اليمين كأنه يسبح ليخرج من منطقة الخطر, وحين أوشك أن يخرج من الميدان الفسيح التفت إليه شيخ أبيض الرأس واللحية وناوله مكبر صوت قائلا بصوت متهدج: "أدركتنا العصر, أذن لنا يا ابني." نظر إليه والدهشة تملأ عينيه, ولم يدر ما يقول, لقد ألجمته الصدمة, تنحنح ليغالب شعوره بالحرج, سأله الشيخ: "آه, أنت مش متوضي" فأومأ إليه أن نعم, فما كان من الشيخ إلا أن أخرج في خفة قنينة ماء من جرابه فقال له: "تعال, سأصب لك الماء, توضأ مرة مرة". دارت الأرض بأبي الإلحاد, لكنه مد يديه فغسلهما إلى المرفقين, فهمس الشيخ: "أنت لا ترى الترتيب؟" ثم غسل وجهه وتوقف ولم يدر ما يصنع, فنظر إليه قائلا: "امسح رأسك واغسل رجليك يا ابني", غسل فارس التنوير رجلين لم يمش بهما إلى خير قط, لكن كيف يؤذن؟ وماذا لو رآه زملاؤه؟ لكنه خائف فكيف يتملص من هذا الموقف العصيب؟ خيل إليه أنه يحلم, ثم طرق أذنه نداء الأذان, فكان أحب الأصوات إليه في هذه الساعة, لقد أنقذه أحد الملتحين بصوته الرخيم من ورطته.

                        لم تمض إلا لحظات حتى أقيمت الصلاة, فوجد أبو الإلحاد نفسه منتصبا وسط الصفوف المتراصة متلفعا بالقماش الأخضر, مر بيده على وجهه يتحسس شعر لحيته, ثم سمع التكبير, فشرع يحكي حركة الناس من حوله, ويتفكر فيما خرج من أجله وفيما صار إليه أمره, ركع وهو يتهيأ للهرب حالما يخر الناس من حوله سجودا, تخطى أبو الإلحاد الرقاب وخرج من الميدان يتجرع خيبته.



                        التعديل الأخير تم بواسطة هشام البوزيدي; الساعة 26-09-2011, 06:41.

                        [gdwl]اللهم احقن دماء إخواننا في سوريا وفي كل البلاد وأبدلهم من بعد خوفهم أمنا

                        لا يحسن أن ينزل على أفضل رسول، أفضل كتاب بلسان مفضول, ومن لم يعقل عن الله تعالى:{‏بلسان عربي مبين} فلا عَقِل.(الزمخشري)
                        قد لا توجد لغة سوى العربية, بهذا التناسق الأصيل بين الروح والكلمة والخط, كأنها جسد واحد. (جوته)
                        [/gdwl]

                        تعليق

                        • هشام البوزيدي
                          أديب وكاتب
                          • 07-03-2011
                          • 391

                          #57
                          31 تعديل المزاج الإلحادي

                          ما فتئ صاحبنا يدور في بيادر الإلحاد المقفرة كما يدور بغل الطاحون, وكلما أكمل دورة عاد ليستأنف مسيرة التيه من حيث بدأها أول مرة. صار كثيرا ما يتوقف في مفترق طرق حياته المظلمة ليحك جبينه قائلا: "تبا, لقد مررت من هنا من قبل!" وأحيانا تتلاطم من حوله أمواج أحداث يكاد يرى تفاصيلها المقبلة, ويلمس ما تؤول إليه من الخسار والخيبة. خطر بباله أنه عثر للتو على تفسير وجيه لظاهرة "ديجافو", ليس للأمر علاقة بالعقل الباطن إذن, ولا بهمس ذكريات بعيدة, كل ما في الأمر أنها ثمرة حياة تعيسة خسيسة تنخرها الرتابة, تتكرر فيها المشاهد كأنها سلسلة تلفزيونية سخيفة, إنها صدى حياة تحياها دابة متطورة تجر رجليها على تربة تكاد تحفظ عدد ذراتها. قضى فارس التنوير سنوات عجافا يجتر المهانة ويلتحف الملل, ويقلب صحائف حياته في لهفة يبحث لها عن معنى. ما أشقى هذا القرد بتطوره! يا ليته بقي محتفظا بكامل (قرديته), يا ليته لم يفكر يوما في ارتقاء درجات هذا السلم الخادع, سلم التطور, تخيل أبو الإلحاد بني عمومته وذوي رحمه الدارويني كيف يرفلون في حيوانيتهم دون أن تتصارعهم هواجس الحياة والموت واللفظ والمعنى والسعادة والشقاوة, إنهم حتما يقنعون بقضمة عشب وجرعة ماء ثم يتقافزون كأنهم في أطيب عيش, إنهم قطعا لا يفنون أعمارهم يقتاتون على موائد المتفلسفة من عشيرة آل (لوسي) وبني (آردي), يا لسعادتهم إذ لم يسمعوا قط لا بالمادية الجدلية ولا بالانتخاب الطبيعي ولا بالنظرية النسبية ولا بالفيزياء الكمية ولا بالأوتار الفائقة, ويا لتعاسته بمئات المصطلحات الرنانة التي يشقّقها هذا الحيوان الناطق فلا تزيده إلا حيرة وخبالا.

                          اهتز إلحاد أبي الإلحاد هزات عنيفة وغاص في أوحال النفاق حتى أنكر نفسه وأظلمت الدنيا في وجهه, لم يعد يطيق أن ينظر إلى وجهه في المرآة, ولم يعد يحتمل بعد الشقة بين اسمه الرنان الذي اتخذه لنفسه في شرة شبابه, وبين ما آل إليه أمره في السنوات الماضية, إنه أبو النفاق لا أبو الإلحاد, إن مخه يكاد ينفجر, لا بد أن يضع حدا لهذه الرياح العاتية التي تعصف في رأسه, لا بد أن يسدل ستارا سميكا على هذا الشيء المزعج الذي يدعونه عقلا.

                          رافق زوجته ذلك المساء لزيارة أهلها ثم عرج على حارة مظلمة حيث اعتاد أن يجد بغيته, دس ورقة نقدية في يد الشاب الملتصق بالجدار وعاد مسرورا بغنيمته, إنه يدعوها -وإن لم تكن سوداء- حبة البركة, فإن من بركتها أنها تخفف ضجيج الكتلة الرمادية في جمجمته رغم أنها في حجم حبة العدس, لكن بركتها العظمى أنها تنقله إلى عالم مزركش خيالي كأنه رسم بريشة سالفادور دالي.

                          لم تقطع الحبة العجيبة الطريق إلى معدة أبي الإلحاد حتى انتقل إلى فضاء متعدد الأبعاد, تتراقص فيه عوالم ذات أصوات وألوان وأشكال عجيبة, تذكرك بهلوسات رواد الفيزياء الحديثة, رأى نورا يشع من أعلى, فوقع في روعه أنه معدن التنوير ومنبع الحكمة فحنت نفسه المضطربة إليه, فما كان منه إلا أن طار بلا جناح, تعلق صاحبنا بشعاع رفيع من نور واستمر في الإرتفاع, حينها تساءل في صمت: "لماذا تبحث عن خلاصك في العلو؟ لماذا لا ينبع النور تحت قدمي؟" ما أن مر هذا الخاطر في ثنايا نفسه حتى سقط في هوة سحيقة, والتف به السواد من كل جنب, رأى نفسه يسبح في بحر الزمن كأنه مبحر إلى الماضي, رأى أباه وهو يحتضر في ذلك اليوم البارد الكريه, كان أبوه يصلي إلى آخر رمق من حياته, تدحرج صاحبنا في سراديب مظلمة كأنه يتجول في تلافيف ذاكرته, رأى قردا يافعا يرمقه من خلف قضبان القفص ويقول له معاتبا: "لماذا خذلتني يا بابا؟" إنه (دريوين) مد يديه ليضمه إليه فتلاشى في الهواء, لقد ضاع مستقبل دريوين بسبب قلة حزم أبي الإلحاد, فجأة سمع أنغاما عذبة وخيل إليه أن هاتفا يدعوه: "هلم إلى الأهل والعشيرة يا فارس التنوير" ثم انفتح أمامه باب عظيم فإذا مدينة لم يسمع الملحدون بمثلها, كانت أعمدة من العاج ترتفع في جنبات ميدان فسيح من المرمر الأبيض, رأى من النعمة والثراء ما لا طاقة له بوصفه, لا بد أنها (ملحدستان), نظر حوله فإذا الملأ الإلحادي قد تجمع في صعيد واحد, كانوا في درجات ثلاث بعضها فوق بعض, اللادينيون في أدناها والملاحدة في أوسطها واللاأدريون في أعلاها. لقد كان محقا تماما في تصوره لبنية الهرم الإلحادي.

                          رآهم يلبسون ثيابا رقاقا, إذ لم يبق لديهم شيء يخفونه, لكنهم يغطون رؤوسهم العبقرية بقبعات عظيمة احتفاء بها وإكراما لها وقد انتفخت طيلة حياتهم تحت وطأة الإشكالات الإلحادية القاتلة, وفي صدر المجلس رأى حبيبه البروفيسور (دونكي) يبكي, لابد أنها دموع الفرح بظهور الملة الإلحادية واجتماع شمل الشرذمة التنويرية, إنحنى أمامه في إجلال وقال له: "ثانك يو دونكي أفندي". كانت أشجار الأكاليبتوس والصبار تظلل الزملاء المتنعمين وأنهار السباجيتي والصلصلة الحمراء تجري تحتهم, فلا يشاء أحدهم أن يتزلف إلى معبوده إلا وجده أدنى إليه من شراك نعله.

                          كانوا في سعادة غامرة, لا بد أنهم وجدوا الحلقات المفقودة, وفرغوا من الكشف عن أسرار الكون وتسلقوا بأبحاثهم سلم التطور درجة درجة, وأفلحوا أخيرا في فك (شيفرة) الحياة فأفحموا المؤمنين ودقوا آخر المسامير في نعش خرافات المتدينين. لابد أنهم حصلوا على تفاصيل أحداث الدقيقة الأخيرة قبل الإنفجار العظيم. لن يسخر منهم أحد بعد اليوم. كانوا جميعا يتطلعون إلى امرأة ساحرة تظهر على محياها أمارات النباهة والدهاء , إنها (الطبيعة هانم) أم الملاحدة.

                          أحس بالجوع فصعد على تل قريب وقفز في نهر الصلصة فسُمعت لسقوطه رجة هائلة, تطاير على ملإ الإلحاد رشاش البِركة المقدسة, فمسحوا بها جباههم وظهورهم تبركا بإله الملحدين وحش السباجيتي الطائر. أحس أبو الإلحاد بطعم الثوم والطماطم في فمه, إنه في جنة الإلحاد بلا ريب, لقد زالت عنه الهواجس ونزلت عليه السكينة.

                          غطس في النهر الأحمر فرأى أشلاء ممزقة وبقايا بشرية, رأى أسنانا وآذانا وأصابع, شعر بالفزع والإشمئزاز, وحين هم بالخروج رأى أبا شنب يسبح نحوه, يا للهول إن الزميل جوزف ستالين مرعب بالفعل! هل ينتهي أبو الإلحاد قربانا للإله الإلحادي؟ هل سيختلط دمه ولحمه بالصلصة المقدسة؟ عندها رأى سفينة فضائية تحلق فوقه كأنها نجم متوهج, رفع كلتي يديه فشعر بنفسه يُسحب بقوة كأنه يدخل في خرطوم مكنسة كهربائية, رأى المخلوقات الخضراء تحتضنه وتمسح أم رأسه في حنان, ثم تغمره في سائل الخلود, وجد نفسه مغمورا في حمام النيتروجين البارد, لم يدر هل شرعوا في تجميده ليصير مومياء تسافر عبر المجرات, أم أنها مراسيم التعميد الرائيلية؟ حين تدفق السائل الثمين في منخريه عطس عطسة عظيمة فوجد نفسه يطير في الفضاء الفسيح, تساءل: "هل تفسر نظرية التطور وجود الكائنات الفضائية؟" لا بد أن يسأل القسيس (دونكي), فهذه معضلة ليس لها سواه.

                          بدأ أبو الإلحاد يذوب شيئا فشيئا حتى صار رذاذا يتطاير في الهواء, خطر له أنه في حالة فيزيائية مناسبة ليسدي خدمة جليلة للإنسانية, لماذا لا يصلح ثقب الأوزون أو يبتكر حيلة للتخفيف من آثار الإحتباس الحراري, لكنه للأسف يفتقر للكفاءة العلمية اللازمة, فليستغل الفرصة على الأقل ليقترب من معشوق الشعراء, لماذا لا يتأمل القمر عن كثب, لعله يلقي نظرة فاحصة على تراث رواد وكالة (ناسا) وآثار خطواتهم الجبارة ورايتهم المجيدة المرفرفة, حتى يخرس الألسنة المشككة ويبطل الأقاويل المضحكة التي يبثها الجاهلون حول هبوط أبناء العم سام على أرض القمر. ربما بقي له بعدها متسع من الوقت ليقوم بجولة سريعة على الكوكب الأحمر, للأسف تردد كثيرا كعادته حتى تكاثفت ذراته وعادت إلى طبيعتها الأصلية, فوجد نفسه يمشي في حقل عجيب تنبت فيه كائنات بشرية, هل هذا مشروع آخر من مشاريع كريك فينتر؟ هل يقوم باستنساخ فصيلة مختارة من الزملاء؟ فجأة رأى أبو الإلحاد كأنه ينظر في خبايا رأسه, رأى نتوءا عجيبا بين مخه ومخيخه ينبض بعنف, فترتسم في مخيلته عشرات الإشكالات الإلحادية, لا بد أنها الشريحة البيولوجية التي حبا بها التطور الفصيلة المتنورة, إنها برنامج معقد ينبت الشك ويجتث اليقين, تمنى لو كان يستطيع أن يستأصل هذا الورم المزعج قبل أن يصاب بالجنون, فجأة سمع صوتا مألوفا يناديه: "أبا الإلحاد, ماذا جرى لك, كيف تنام على أرض الحمّام؟" فتح عينيه وهو يتساءل: "النعجة دولي؟ ماذا جرى لصوفك؟" سمع دوي صفعة على خده, ثم أحس بحرارتها, رأى زوجته وهي تصرخ في وجهه غاضبة: "ألا يكفيك أن تدعوني نوال وأنا آسية حتى تسميني بأسماء النعاج؟ هل عدت لإدمان حبوب الهلوسة؟ أنت لا تصلح لشيء..." أحس أبو الإلحاد بصداع شديد فأغمض عينيه واستسلم لنوم عميق.

                          هشام البوزيدي

                          [gdwl]اللهم احقن دماء إخواننا في سوريا وفي كل البلاد وأبدلهم من بعد خوفهم أمنا

                          لا يحسن أن ينزل على أفضل رسول، أفضل كتاب بلسان مفضول, ومن لم يعقل عن الله تعالى:{‏بلسان عربي مبين} فلا عَقِل.(الزمخشري)
                          قد لا توجد لغة سوى العربية, بهذا التناسق الأصيل بين الروح والكلمة والخط, كأنها جسد واحد. (جوته)
                          [/gdwl]

                          تعليق

                          • هشام البوزيدي
                            أديب وكاتب
                            • 07-03-2011
                            • 391

                            #58
                            32 فايروسات إلحادية

                            توالت العثرات والنكسات على صاحبنا حتى وجد نفسه منبطحا في حمأة النفاق. تفكر في أمره كثيرا وخلص إلى أنه أخطأ في تقليم مخالبه وتخفيف حدة إلحاده. لقد تأكد مرة أخرى -بعد أن أثخنته الجراح- أن الإلحاد العربي يموت حين يخلع لأمة الحرب ويهمّ أن يلزم خندق الدفاع. هذا فخ قاتل يا أبا الإلحاد, إن الزندقة الإفتراضية تصنف من قبل هراطقة النقاد في فنون الإلحاد الهجومي المتطرف. جلس يخاطب نفسه: "تأمل التعريف جيدا, وفكك أجزاءه أيها الزميل المنتكس كي تفهم كم تبدو بليدا في قناع الحمل الوديع."
                            إن الإلحاد على وزن (إفعال) مثل (إملاق), و(إخفاق) وهو هجومي شرس متطرف لا يقبل أنصاف الحلول. فالملحد يلحد ويهجم أو يتردد ويزول, هكذا فلتكن يا أبا الإلحاد أو لتندثر إلى الأبد.

                            امتلأ صدره بالحماسة, وأحس كأن روحا جديدة تدب في أوصاله فاشتاق إلى رفقة (الجرب والجذام) فأبحر إليهم في ناديهم الإلكتروني. دخل يتصفح شريطا طويلا, فخيل إليه أنه قرأ مثل هذا الكلام آلاف المرات من قبل, حاول أن يجد موضوعا أصيلا فريدا تسري فيه روحه وتتميز ملامحه, عبثا حاول أن يقنع نفسه أن ثمة ما يستحق القراءة ويستثير فيه مشاعر الفخر الإلحادي والنخوة الداروينية. وجد نفسه يسبح في مستنقع إلكتروني آسن تعلوه الرتابة وتغمره الكآبة. همّ أن يطفئ الحاسوب حين خطر له أمر عجيب, انفرجت أساريره وكشر عن أسنانه واستغرب: "لماذا لم أفكر بهذا من قبل؟ نعم نعم, هذا يفسر كل شيء, إنهم ليسوا هناك, لا أحد هناك, هل التقيت أحدا منهم قط؟ كلا, لقد كنت أحترق وأذوب في اليوم ألف مرة من أجل كائنات إلكترونية وهمية."

                            لقد حل أبو الإلحاد اللغز أخيرا, إن منتديات (الجرب والجذام) تصيبه لرتابتها بالإحباط والغثيان, لأنها مجرد برامج غبية يسيرها على الأكثر زميلان أو ثلاثة, إنها فكرة تفتقت عنها العبقرية الإلحادية العربية. تصمم موقعا وتربطه ببرنامج آلي لتسجيل الزملاء والخصوم الإفتراضيين, ولتفريع المسائل وتفريخ الشبهات وتشقيق الردود. إنها بالفعل فكرة عبقرية لولا أن هذه البرامج ما زالت تحتاج لكثير من التطوير والمراجعة. الآن فقط فهمت لماذا يخيل إلي -في العالم الإفتراضي- أن الملاحدة في ديارنا بمئات الألوف ثم لا تكاد تلقى منهم بشق الأنفس إلا نفرا قلائل.

                            قرر أبو الإلحاد أن يحتفظ بأصل الفكرة وأن يلتزم قاعدتها النظرية التي لاحت له, ثم يمضي في تعبيد الطريق في وجه جحافل التنوير اللادينية, سيطور مشروع الحملة اللادينية في مواجهة الملة الإسلامية, ما أسعده باكتشافه, حمد عقله أن هداه لبرنامج إلكتروني يكفي لتسعير هذه الحرب الإفتراضية الضروس.

                            جلس يضع تصوره للبرنامج الخارق, ولما اجتمعت لديه صفحات من الأفكار الباهرة, صدّرها بالرسالة التالية:
                            "عزيزي (الحلاج الهاكر), لقد حضرت دورتك التدريبية في البرمجة قبل عام, وأنا بحاجة لتوجيهك بخصوص تطوير البرنامج التالي "تجييش جحافل التنوير الإلكترونية"...

                            كتب أبو الإلحاد عن برنامج آلي ذكي لتصميم منتديات ومدونات ومجموعات إلحادية, يحوي آلاف الأسماء الرنانة التي تستجيب لسائر الأذواق الإلحادية بنكهاتها السوفسطائية واللادينية واللاأدرية, وهذه عينة عشوائية منها: منتديات سدوم, مدونة زندقة, مجموعة كافر وأفتخر, فردوس أبي جهل, ملتقى تعداد محاسن الإلحاد, جروب من وحي الشيطان, ساحات هيا إلى الهرطقة, مدونة كل شيء بالعقل, جروب الطبيعة فقط, حدائق الداروينية الأليفة, منتديات أشباه البشر, جروب قرود ولكن, مدونة هل أنا إنسان؟ مدونة هل أنا كائن فضائي؟ منتدى طقطق لإحياء المنطق...

                            وما أن تحدد اسم الموقع حتى يشرع بشكل آلي في تسجيل أسماء مئات الأعضاء الإفتراضيين, و تتفرع هذه الأسماء الغريبة إلى مجموعات كثيرة منها أسماء الحيوانات والحشرات والمستحثات وأبطال الأساطير اليونانية وأسماء الفلاسفة وغيرهم. قام صاحبنا بنسخ آلاف المعرفات الإلحادية من مواقع الشبكة ليطعم بها مشروع برنامجه. ومما سترونه لو قدر لهذا العمل الجليل أن يكتمل مواضيع مذيلة بالأسماء التالية: عبد الصدفة, نبي الحقيقة, ابن عبد هواه, خادم دارون, الراهب الملحد, الثعلب المعمم, حمار ماركس, هدهد التنوير, السلف المشترك, خطيب آردي, خنفس الفضاء, حفيد آينشتاين, جار بيغاسوس, مستر سوفوكليس...

                            وما أن يتم تفعيل اشتراك الأعضاء المسجلين حتى يبدأ البرنامج في إنشاء المواضيع الإلحادية, فهو مزود بقاعدة بيانات ضخمة تضم بحرا من الشبهات والتشكيكات والمغالطات التي أنتجها العقل الإلحادي عبر تاريخه الطويل. وهذا بؤبؤ عين البرنامج, وزبدة حياة أبي الإلحاد, إنه عصارة مواقع (الجرب والجذام) انتبذها في قرص صلب حتى أنتنت, ثم صبها في ملفات مخفية, ثم حصنها بأرقام سرية, وكان يرجو أن تكتب لها حياة ثانية, وهاهو حلمه يوشك أن يتحقق, ستشتغل الآلة التنويرية قريبا لتبث خلاصة جهاد صاحبنا في أرجاء العالم الإلكتروني. وتندرج هذه الشبهات تحت أبواب متعددة, فهناك شبهات لغوية وتاريخية وجغرافية ورياضية وفلسفية وتطورية وسيكولوجية وسوسيولوجية ومنطقية وهلم جرا.

                            فإذا اختار البرنامج مثلا شبهة تطورية, فإن أقساما أخرى كثيرة تندرج تحتها, فهناك شبهات متعلقة بالحشرات وأخرى بالفقريات وأخرى بالرخويات وأخرى بالصدفيات وأخرى بالحرشفيات وأخرى بالطفيليات وقس على ذلك. ولو تصورنا أن البرنامج اختار شبهة تطورية تتعلق بالحشرات, فإنه سيقوم مثلا بجرد يشمل كل أنواع النمل المعروفة قديما وحديثا, بما فيها المستحثات التي تؤرخ للفصائل النملية المنقرضة, وسيقوم بجرد لدراسات الأجهزة الحيوية للنمل, ويرفقها بنتائج تشريحها من أرقى الجامعات الغربية التي تدرّس جميعها التطور كما هو معلوم, وسيثبت بالأدلة العلمية الدامغة أن أيا من أصناف النمل المعروفة لا يمتلك حبالا صوتية, و بناء على ذك سيقوم البرنامج باختيار عنوان الموضوع: "زميلي المسلم: كلام النمل مستحيل داروينيا" عندها يتم اختيار اسم الزميل الذي سيتصدر اسمه الموضوع, ولنقل إنه (خادم دارون), ولا يبقى بعد ذلك إلا نشر الموضوع على الشبكة ليقوم البرنامج بالجزء الأهون من عمله, فيؤلف الردود العلمية الدقيقة من قبيل: "لول, تسلم يا زعيم" و "ثانك يو مستر دارون بوي" و "بصراحة, رد علمي يصلح للنشر في مجلة علمية." و "يحيا التطور" وأمثال هذه العبارات التي تملأ مواقع الزملاء.

                            بعد ساعات جاء رد الزميل (الحلاج الهاكر). بدأ صاحبنا يقرأ بتركيز شديد:

                            "عزيزي أبا الإلحاد, لقد فهمت فكرة مشروعك, إنك تريد تصميم فايروس متعدد الوظائف, إنك تريد شيئا يجمع بين القدرة على التناسخ وبين آليات التحليل والتأليف والترتيب, إنك تريد باختصار حصان طروادة بالغ التعقيد مجهزا بمضامين إلحادية دقيقة ومركزة. بصراحة قد أعجبت بفكرتك وقضيت بضع ساعات أبرمج نسخة تجريبية للبرنامج, يمكنك البناء عليها لو أحببت. تحياتي لك ومتمنياتي بحياة إلحادية سعيدة وحافلة بالمسرات."
                            البرنامج في المرفقات.
                            توقيع (الحلاج الهاكر): ما في الجبة إلا الإلحاد.

                            أحس أبو الإلحاد بقلبه يتراقص في صدره من الفرح, حرك زر الفأرة بأنامل مرتعشة ونقر على أيقونة البرنامج وبدأ التنصيب. وحين بدت له واجهة البرنامج ضغط على زر التشغيل, فبدأ البرنامج عمله, فتح صفحة واثنتين وثلاثا حتى بلغ عشرات الصفحات, ثم بدأ يسجل الأسماء ويؤلف المواضيع, صارت الشاشة تهتز أمام ناظريه كأنها تئن من ثقل مئات الصفحات المتناسخة, حاول أن يغلق بعض النوافذ, لكن أضعافها حلت محلها في لمح البصر, جلس صاحبنا يحك رأسه وينظر إلى فايروس الإلحاد يفتك بحاسوبه, لم يجد بدا من فصله عن تيار الكهرباء. لقد خرب البرنامج التنويري الجهاز, وضاع تعب السنين, فكيف لو أتيح له أن ينتشر على الشبكة ليصل إلى ملايين البيوت؟ رأى صاحبنا ثمرة عقدين من نضاله الإلكتروني تذهب أدراج الرياح فحمد الصدفة أن منحته عقلا لم يفلح فايروس الإلحاد في تخريبه في سنوات طويلة كما صنع بالحاسوب في دقائق معدودة ثم خرج إلى المقهى لعل فنجان قهوة ولفافة دخان تنسيه مرارة فشله الجديد.

                            هشام البوزيدي
                            التعديل الأخير تم بواسطة هشام البوزيدي; الساعة 16-10-2011, 06:52.

                            [gdwl]اللهم احقن دماء إخواننا في سوريا وفي كل البلاد وأبدلهم من بعد خوفهم أمنا

                            لا يحسن أن ينزل على أفضل رسول، أفضل كتاب بلسان مفضول, ومن لم يعقل عن الله تعالى:{‏بلسان عربي مبين} فلا عَقِل.(الزمخشري)
                            قد لا توجد لغة سوى العربية, بهذا التناسق الأصيل بين الروح والكلمة والخط, كأنها جسد واحد. (جوته)
                            [/gdwl]

                            تعليق

                            • هشام البوزيدي
                              أديب وكاتب
                              • 07-03-2011
                              • 391

                              #59
                              [frame="2 98"]
                              33 طواف بين الحقيقة والحلم

                              رأى صاحبنا نفسه يغمره البياض من كل حدب وصوب, لم يتبين من أين يشع كل ذلك النور, لكنه مشى كأنه يخوض في قطن مندوف, شعر بانشراح عجيب وخيل إليه أن صدره يسع الكون أجمع, ثم سمع رنينا رتيبا يسري في مسامعه, مد يده إلى الجوال وأوقف المنبه وظل ممسكا به ساعة حسبها برهة, ثم حدق في شاشته لحظات كأنه يستعيد شيئا فشيئا صلته بهذا العالم, قفز فجأة من فراشه, لقد تأخر عن موعد العمل لليوم الثاني هذا الأسبوع.

                              لبس ثيابه عجلان وخرج يهرول. قطع طريقه وحلمه الأبيض لا يفارق ذهنه ونشوته تكاد تطغى على غضبه من تأخره المتكرر. وصل إلى البوابة فحياه عبد الكبير ثم قال كلمة عجيبة: "عقبى لنا يا حاج!", يا له من صباح عجيب, إن عبد الكبير شيخ وقور لا يمزح معه عادة, إنه يجلس طيلة النهار في حجرته الصغيرة يراقب البوابة ولا يكاد ينطق بشيء, فما باله اليوم؟

                              دخل إلى المبنى فأحس أن شيئا غريبا يسري في الهواء, ثم خيل إليه أن أبصار زملائه ترمقه بنظرات لم يعهدها من قبل, وقبل أن يفكر في تفسير يخفف دهشته ناداه سليم: "المدير يطلبك في مكتبه". شعر أبو الإلحاد بعرق بارد يتحدر بين كتفيه ونظر إلى ساعته, لقد تأخر كثيرا, لا بد أنه سيسمع توبيخا وتقريعا, تبا! لماذا لا يتوقع خيرا؟ قد يكون خبر سار ينتظره في الطابق الثاني, من يدري؟

                              طرق الباب طرقا خفيفا ودخل على المدير خلف مكتبه الفخم الذي يملأ المكان, كان رجلا أنيقا يشارف الستين. "تفضل اجلس, ماذا تشرب قهوة أم شاي؟" جلس أبو الإلحاد وهو يحدث نفسه بأن هذا أول الشر, لا بد أن صاعقة ستنزل على رأسه, إن خبرا مزلزلا يحوم فوقه, لا بد إذن من تلطيف المزاج ببعض الشراب الساخن. همهم: "قهوة من فضلك." صب له فنجانا وهو يقول: "كما تعلم فإن أرباح الشركة تضاعفت في العقد الأخير, وقد حان الأوان ليقتسم الجميع نتائج النجاح..." نزلت هذه الكلمات على صاحبنا كالماء البارد, وأحس أن عبئا ثقيلا قد انزاح عن كاهله, ارتشف قليلا من القهوة, وانفرجت أساريره, قال يحدث نفسه: "لا بد أنها ترقية, لا لا, مستحيل, إن من زملائه من هو أحق منه بشيء كهذا."

                              استرسل المدير في حديثه: "حان الوقت لنرد بعض الجميل للمستخدمين, لقد افتتحنا برنامجا للخدمات الإجتماعية, وبعد تشاور مع مجلس الإدارة قررنا أن نبدأ هذه السنة بإجراء قرعة سنوية لمنح رحلة إلى الحج."
                              عند هذه العبارة أحس أبو الإلحاد أن الزمن قد توقف وأن عقله لم يعد يعي مما يجري حوله إلا صورة باهتة, لم يعد يسمع شيئا, كان ينظر إلى شفتي المدير تتحركان كأنه في عرض بطيء لفيلم صامت بلا ألوان, فجأة لم يعد يرى أمامه إلا أثر السجود على جبين مخاطبه, تذكر حلمه الجميل, تذكر سروره بالبياض. ثم طرقت هذه الكلمات سمعه: "أهنئك, لقد تم السحب بالأمس وحصلت على منحة سفر إلى الحج." قام المدير ومد إليه يده مصافحا. التقت كفاهما, وأحس لأول مرة في حياته أن الأرض تدور بالفعل, جلس في هدوء ثم بدأ جسمه يرتعش ويهتز, لم يتمالك نفسه ضحك كأنه طفل, ثم انخرط في بكاء خافت, لم يدر ما الذي أصابه, مد إليه المدير منديلا وقال: "أفهم شعورك يا ابني, خذ إجازة لبقية اليوم لتكمل بقية الإجراءات." أراد صاحبنا أن يقول شيئا, أراد أن يعتذر, أراد أن يعترض, لكنه كان أشبه بمن يحلم أنه في خطر داهم يريد الركض للنجاة منه, لولا أن أعضاءه لا تطاوعه, قام المدير وفتح له الباب.

                              خرج من المكتب فوجد زملاءه مجتمعين في مدخل الممر, جاءه سليم وربت على كتفه قائلا: "هذه فرصتك, افتح صفحة جديدة يا صديقي." أحس بدمعة حارة تترقرق في عينه, وخرج مسرعا لا يلوي على شيء. إنه يحب الأسفار. سافر في أوج شبابه إلى أوربا. وكان يحلم بزيارة موسكو حين كانت أحلام الملاحدة حمراء بلون الدم. لو أتيح له ذلك حينها لكان زار ضريح الزميل المحنط لينين. إن لأهل الإلحاد مزارات ورموزا يعظمونها, لكن ماله ولهم؟ إنه يكاد يفقد صوابه من هول ما جرى في هذا الصباح العجيب.
                              تساءل عن سبب بغض زملائه الملاحدة لمناسك الحج الإسلامي, لماذا تصرف الملايين على أفلام تمجد البوذية وتصور حجاج لاهاسا الزاحفين على بطونهم وأيديهم؟ قد يقول قائلهم: "إنها إرث حضاري قديم وثقافة عريقة." لماذا لا يسعهم أن يقولوا عن الحج مثل ذلك؟

                              جلس في مقهى ليرمم شظايا نفسه, ويستعيد شريط أيامه, ويتأمل في فهرس حياته, أغمض عينيه لعله يعود ليرى بياض حلمه المشع, تذكر عبد الكبير بشعره الأبيض وملامحه الهادئة وهو يقول له: "عقبى لنا يا حاج!" أخرج جواله وأطرق يرتب أفكاره ويستجمع قواه, ثم أجرى المكالمة, رن الهاتف مرات ثم سمع رسالة العلبة الصوتية, فسره أنه يخاطب آلة لا تملك أن تراجعه في قراره وقال: "سيدي المدير, فاتني أن أشكركم, لكني اتنازل عن هذه المنحة السخية لعبد الكبير البواب, فهو أحق بها مني . شكرا لكم."


                              هشام البوزيدي



                              [/frame]
                              التعديل الأخير تم بواسطة هشام البوزيدي; الساعة 30-10-2011, 06:51.

                              [gdwl]اللهم احقن دماء إخواننا في سوريا وفي كل البلاد وأبدلهم من بعد خوفهم أمنا

                              لا يحسن أن ينزل على أفضل رسول، أفضل كتاب بلسان مفضول, ومن لم يعقل عن الله تعالى:{‏بلسان عربي مبين} فلا عَقِل.(الزمخشري)
                              قد لا توجد لغة سوى العربية, بهذا التناسق الأصيل بين الروح والكلمة والخط, كأنها جسد واحد. (جوته)
                              [/gdwl]

                              تعليق

                              • هشام البوزيدي
                                أديب وكاتب
                                • 07-03-2011
                                • 391

                                #60

                                34 الجينوم قاهر الإلحاد

                                جلس أبو الإلحاد يقرأ كتاب "وهم الإله" للقسيس دونكي ويقلب صفحاته في ملل, لم تعد مطالعاته الإلحادية تحرك كوامن نفسه الراكدة, لقد فترت حماسته, واشتدت تعاسته, وشعر أنه محبوس في نفق طويل مظلم. أغلق الكتاب ونظر إلى غلافه في شرود فقرأ: "وهم الإلحاد", فرك عينيه وهو لا يصدق ما يراه, اجتهد أن يقرأ العنوان الأصلي, فلم يفلح في طرد هذا العنوان المزيف السخيف, لا بد أن أعصابه المرهقة صمّمت هذه الخدعة البصرية الماكرة. رمى بالكتاب بعيدا وجلس إلى حاسوبه ليخط مقالة يعرض فيها لأزمة الملحد في عصر عودة الإيمان.

                                كتب صاحبنا في مدونته: "يتعرض الإلحاد المعاصر لحرب ضروس ينبغي لأهل التنوير أن يخوضوا غمارها بشجاعة ورباطة جأش. والأمر في البلاد العربية أشد خطرا, إذ أن رياح الإيمان بدأت تنفخ من جديد في أشرعة أهل الإسلام, فإن تقاعسنا فسرعان ما يستفحل الخطب, ويستتب لخصومنا الأمر, فيجتثوا بذرة الإلحاد الوليدة من أرضهم, قبل أن تخرج من قشرتها الليبرالية والعلمانية الهشة.

                                إن مذهبنا قائم على الكفر بالغيب, والإيمان بما كان نقدا حاضرا في الجيب, إلا أن الإلحاد لا يستغني عن النظرة الغيبيبة المستقبلية التي تستشرف المجهول المتوقع, وتحاذر المكروه قبل أن يقع, وأرى أن تسويق مذهبنا يقتضي أن نلائم بينه وبين واقعنا الشرقي وتراثنا الميتافيزيقي . لقد دوّن التاريخ أن فلاسفة التنوير واجهوا في الغرب بيئة غير بيئتنا و خصوما غير خصومنا. إننا لا نواجه كنيسة ولا فكرا لاهوتيا عاكفا في أديرة وصوامع, بل نواجه مجتمعا كاملا متراصا يتغلغل فيه التدين من ذؤابته إلى أخمص قدميه, إننا نحاول أمرا لو انبرى له مونتيسكيو وفولتير وسبينوزا لأعجزهم, ولست أدري كيف السبيل لنجتث التدين من أمة لا يحمل الفرد منها اللقمة إلى فيه, ولا يدخل, ولا يخرج, ولا يجلس, ولا يضطجع, إلا وهو يتمتم ويتعوذ؟

                                إن سلفنا من فلاسفة التنوير في أوربا نجحوا لأنهم واجهوا خصما يدين بالجهل ويتنكر للعلم, فعكفوا في معاهدهم ومختبراتهم يصلون الليل بالنهار حتى تكشفت لهم نتف من حقائق العالم المادي فسرّوا واستبشروا وصرخوا في قومهم: "إن هو إلا عالم مادي يسير وفق قوانين فيزيائية ثابتة, إن الكون إلا آلة عظيمة, توشك عقولنا العبقرية أن تحيط بتفاصيل أجزائها علما, فيصير الغائب من حقائقه أمام أعيننا جليا ظاهرا."

                                هكذا تم لفلاسفة النهضة ما أرادوه, لقد جعلوا العامة يكفرون بدين الكنيسة ويعتنقون دين العلم, فعظمت آمالهم وترقبوا الجولة الأخيرة من المعركة التي ستطيح برأس الدين والإيمان إلى الأبد. لقد توهم الملاحدة منذئذ أنهم يوشكون أن يثبتوا لأهل الإيمان بالدليل المادي كم كانوا مخطئين في إثباتهم خالقا مدبرا يمسك بمقاليد الكون. فلبثوا يترقبون أن يسعفهم العلم بالنظرية التي تفسر كل شيء تفسيرا ماديا يجهز على ما في الأرض من بقايا الإيمان. لكن هيهات, لقد اكتشفوا بعد حين أن الكون ليس آلة في واقع الأمر, وليس نظاما جامدا رتيبا, بل هو عوالم عجيبة متشعبة متراكبة, تتجدد فيها الحياة في كل يوم وفي كل دقيقة, بل في كل لمحة ونفس.

                                أطرق أبو الإلحاد يتفكر في عظمة القوانين المادية المذهلة التي استطاعت أن تصنع هذا الكون الفسيح العجيب من مادة حقيرة تتقاذفها أمواج الصدف ويطورها كرور القرون والأحقاب, في فوضى خلاقة, وعشوائية منظمة, لا قصد لها ولا هدف ولا معنى. ثم خطر له أن التصور الإلحادي للحياة والكون أشبه شيء بحبات عقد متناثرة لا يضمها خيط, وأن لا بد للمتنورين من فك اللغز بأكمله حتى يفحموا المتدينين ويسكتوهم إلى الأبد, لا مناص إذن من تحقيق الفتح الأعظم بالكشف عن الحلقة المفقودة التي يخرس بها أساطين العلم المادي الألسنة المسبحة, ويقطعون بها حجج العقول المؤمنة, لا بد لهم من كشف السر الأعظم, سر الوجود وسر الحياة.

                                أقر صاحبنا في قرارة نفسه أن العلوم الكونية كثيرا ما تلح عليه أن يراجع مسلماته الإلحادية, التي خلخلتها النشرات العلمية, و أوهتها الحقائق العلمية التي تظافرت لترسم للكون صورة مذهلة غير الصورة الرتيبة التي تصورها ملاحدة القرن التاسع عشر. إن أعظم ما يعكر صفوه ويحز في نفسه حال المسلمين عند كل كشف علمي جديد, فإنهم يزدادون ثباتا على إيمانهم, بدل أن يلحدوا مثله, ويسبحون خالقا لا يرونه, بدل أن يعجبوا بالمادة التي يلمسونها, ويثنون على علم إله لا يسمعونه, بدل أن يتغنوا بعبقرية الطبيعة وهم يحيون في أحضانها.

                                تذكر حاله يوما حين دعا مسلما إلى اتخاذ الموقف الإلحادي الشجاع بطرح الدين والتنصل من الإيمان, فأجابه: "أيها الزميل في جسمي مائة ترليون خلية, في كل خلية قاعدة بيانات مفقلة متناهية في الصغر, كتيب ميكروسكوبي قوامه ثلاثة بلايين من الحروف الكيميائية, لو صفت لامتدت على مسافة ثلاثة آلاف كيلومتر, إنها حروف رتبت لتؤدي معنى, وأنا ذلك المعنى, فقد تضمنت جنسي ولون شعري وبشري وصفاتي الخِلقية التي تميزني, فهل أنا مجنون حتى تقنعني أنها نشأت وتجمعت بمحض الصدفة؟ إنه "الدي إن إي" أيها الزميل, وقد زادني استمساكا بديني, إنه الجينوم قاهر الإلحاد يا عزيزي, فهل تملك الصدفة حقوق تأليفه؟"

                                هشام البوزيدي

                                [gdwl]اللهم احقن دماء إخواننا في سوريا وفي كل البلاد وأبدلهم من بعد خوفهم أمنا

                                لا يحسن أن ينزل على أفضل رسول، أفضل كتاب بلسان مفضول, ومن لم يعقل عن الله تعالى:{‏بلسان عربي مبين} فلا عَقِل.(الزمخشري)
                                قد لا توجد لغة سوى العربية, بهذا التناسق الأصيل بين الروح والكلمة والخط, كأنها جسد واحد. (جوته)
                                [/gdwl]

                                تعليق

                                يعمل...
                                X