انتفضت في الفراش على وقع السّياط الذي ما فتئ يجلد روحي.بات طيف صادق لا يفارقني في يقظتي ومنامي.
- لقد دُكّ الجدار.دُكّ جدار الصّمت يا بلقاسم.عليك أن تضمّ صوتك إلى أصواتنا هناك.تقدّم ولا تتخلّف فكلّ الوجوه مصرّة على المضيّ قدما.
سرنا متلاحمين وتوغّلنا في الشّارع.كانت تجربتي الأولى في الالتحام بالحراك الذي انطلق قبل أسبوعين في بلدتي "الرّديّف".لقد سبق لصادق أن أفلت من الدّرس ليلتحق بوالده هناك تدفعه فورة الشّباب دفعا.
قال في حماسه المعهود:
- النّخل لا يموت إلاّ واقفا.هكذا كانت قصّتنا مع المناجم ولا تزال.لن يتراجع من خضّب بدمه تربة أرضه.لن يرضخ لسطوة المبتزّين
زفر بشدّة واستطرد:
- جعلوا للفقر خارطة وحدودا .رماديّات منتشرة هنا وهناك.بقع سوداء قد تضيق وقد تمتدّ.وجوه كادحة وأقدام متعثّرة.همّشوا مناطق كثيرة باستثناء جنّتهم الدّنيويّة وجنّة من يواليهم.
واصلنا المسير ونحن نتجاذب أطراف الحديث حول آخر المستجدّات في الحوض المنجمي حتّى بلغنا شركة الفسفاط حيث يعتصم الأهالي من العمّال والعاطلين عن العمل وبعض متساكني المنطقة.
ازددت التحاما بصادق وأنا أرى المكان يطوّق بعدد هائل من رجال الأمن.هذا شأن وطني كلّما لبس وشاح التّحدّي نزعوه عنه عنوة.
لم أستطع أن أخفي رهبتي لكنّني كنت أستمدّ القوّة من صادق الذي بدا رغم جسارته حكيما وكأنّه كهل حنّكته الأيّام.أمّا أنا فلست سوى طفل يعيش تحت جناحي والدته الأرملة.
"قست عليك الحياة كثيرا يا أمّي.أدارت لك ظهرها فثأرت لنفسك منها وأحكمت قبضتك عليّ حتّى لا تنتزعك منّي.لففتني في غلالة من الحبّ والخوف الشّديدين كي لا يختطفني القدر منك كما اختطف أبي ذات وجع.كم ذرفنا الدّمع غزيرا يوم خضت تجربتي الأولى في المدرسة وأنا برفقتك.قلبك الكبير شبيه ببيت نسجته العنكبوت.يضمّ وحيدك بلقاسم بشدّة حتّى لا يفلت من بين الخيوط المتشابكة.
لا ألومك يا أمّي لكنّني أجد نفسي عارية من القوّة والبأس.لقد كنت ظلّك ولا أزال.لم أواجه الحياة بمفردي لذلك أراني أجدف ضدّ التّيّار".
لا أدري كيف تسلّل صادق إلى أعماقي وأحسّ بارتباكي الذي حاولت ستره دون جدوى فدفعني وسط الحشد الهائل من المعتصمين الذين بحّت حناجرهم بهتافاتهم المندّدة بالظّلم والعسف.
إنّه لعمري حراك عظيم لكنّ الحركة المتململة داخلي تمنعني من بلوغ اللّذة لذّة المواجهة والتّحدّي التي أراها في عيون المتظاهرين وفي قسمات وجوه تحكي تاريخا من المعاناة والقهر لم يسلم منه إلاّ قلائل.
سرت بضع خطوات ثمّ توقّفت.ألجمني الانتشار الكبير لرجال الأمن وصورة أمّي الماثلة أمام ناظريّ،أمّي التي صفعتها الحياة بقسوة فانتزعت منها رفيق دربها وعائل بيتها.كان قد قضى نحبه ولّما أتجاوز السّنتين.أوشكنا بعده على الهلاك لذلك تشبّثت بي تشبّثا مرضيّا أوقعني فيما أنا فيه.
"إلى متى يا بلقاسم؟إلى متى هذا التّردّد الذي يسكن أعماقك؟انطلق دون خوف.تقدّم مع الجموع.اثأر لوالدك من الذين قبضوا على حياته دون ثمن".
أتتني رائحتهم المعطّرة بالمواجهة وأصواتهم المزلزلة بأعذب الكلمات "خبز حريّة كرامة وطنيّة".
ردّدت معهم في حماس مشوب بالخوف من المجهول وأنا أتقدّم شيئا فشيئا مدفوعا بالمتظاهرين الذين يقفون ورائي.
لم أعد أبصر صادقا.لا أدري كيف ابتعد عنّي أو كيف ابتعدت عنه.كلّ ما أذكره أنّ المكان عمّته سحابة بيضاء أفرزتها قنابل مسيلة للدّموع ألقيت علينا قصد تشتيتنا.
وجدتني طريح الفراش في بيتي...تطلّعت إلى وجه أمّي فرأيته في الضّوء الخفيف المنبعث من الفانوس مكدودا.كانت توزّع نظراتها بحنوّ على جسدي وتراقبني في صمت.وددت التّحدّث إليها لكنّني اختنقت.تضخّم إحساسي بالضّعف.كيف تخونني نفسي وتلقي بي بعيدا عن المتظاهرين؟كان عليّ البقاء هناك ومواجهة تعنّت رجال الأمن.
يبدو أننّي غفوت قليلا وما لبثت أن استيقظت على همس خفيف وصل إلى مسمعي:
- الطّلق النّاريّ كان عنيفا يا خالة.سقط العديد من الضّحايا اليوم.احتدّت الأوضاع ولا مجال للتّراجع.وصلتنا أنباء تؤكّد أنّ الأجواء في المتلوّي وأمّ العرائس والمظيلة ساخنة جدّا.
علا نسق تنفّسي فانتبهت أمّي إلى أنّني يقظ.خاطبتني عيناها وكأنّها تريد طمأنتي.
استطردت ابنة الجيران دون أن تنتبه إلى تململي في الفراش:
-عرّض شبابنا صدورهم للرّصاص فقدّموا دماءهم مهرا للكرامة.هيّا يا خالة علينا أن نتّجه إلى بيت أمّ صادق.كلّ الجيران مجتمعون هناك.
أصابني دواّر أفقدني القدرة على التّماسك...
في هذه القصّة إشارة إلى أحداث الحوض المنجمي التي وقعت في جانفي 2008 وكانت شرارتها الأولى في الرّديّف مع المظاهرة التي نظّمها العاطلون عن العمل تنديدا بالمحسوبيّة التي مورست ضدّهم أثناء انتداب للعمل بشركة فسفاط قفصة.
قمع النّظام البائد في تونس هذه الانتفاضة بلغة العنف التي دأب عليها.
رحم اللّه كلّ شهداء الحوض المنجمي
- لقد دُكّ الجدار.دُكّ جدار الصّمت يا بلقاسم.عليك أن تضمّ صوتك إلى أصواتنا هناك.تقدّم ولا تتخلّف فكلّ الوجوه مصرّة على المضيّ قدما.
سرنا متلاحمين وتوغّلنا في الشّارع.كانت تجربتي الأولى في الالتحام بالحراك الذي انطلق قبل أسبوعين في بلدتي "الرّديّف".لقد سبق لصادق أن أفلت من الدّرس ليلتحق بوالده هناك تدفعه فورة الشّباب دفعا.
قال في حماسه المعهود:
- النّخل لا يموت إلاّ واقفا.هكذا كانت قصّتنا مع المناجم ولا تزال.لن يتراجع من خضّب بدمه تربة أرضه.لن يرضخ لسطوة المبتزّين
زفر بشدّة واستطرد:
- جعلوا للفقر خارطة وحدودا .رماديّات منتشرة هنا وهناك.بقع سوداء قد تضيق وقد تمتدّ.وجوه كادحة وأقدام متعثّرة.همّشوا مناطق كثيرة باستثناء جنّتهم الدّنيويّة وجنّة من يواليهم.
واصلنا المسير ونحن نتجاذب أطراف الحديث حول آخر المستجدّات في الحوض المنجمي حتّى بلغنا شركة الفسفاط حيث يعتصم الأهالي من العمّال والعاطلين عن العمل وبعض متساكني المنطقة.
ازددت التحاما بصادق وأنا أرى المكان يطوّق بعدد هائل من رجال الأمن.هذا شأن وطني كلّما لبس وشاح التّحدّي نزعوه عنه عنوة.
لم أستطع أن أخفي رهبتي لكنّني كنت أستمدّ القوّة من صادق الذي بدا رغم جسارته حكيما وكأنّه كهل حنّكته الأيّام.أمّا أنا فلست سوى طفل يعيش تحت جناحي والدته الأرملة.
"قست عليك الحياة كثيرا يا أمّي.أدارت لك ظهرها فثأرت لنفسك منها وأحكمت قبضتك عليّ حتّى لا تنتزعك منّي.لففتني في غلالة من الحبّ والخوف الشّديدين كي لا يختطفني القدر منك كما اختطف أبي ذات وجع.كم ذرفنا الدّمع غزيرا يوم خضت تجربتي الأولى في المدرسة وأنا برفقتك.قلبك الكبير شبيه ببيت نسجته العنكبوت.يضمّ وحيدك بلقاسم بشدّة حتّى لا يفلت من بين الخيوط المتشابكة.
لا ألومك يا أمّي لكنّني أجد نفسي عارية من القوّة والبأس.لقد كنت ظلّك ولا أزال.لم أواجه الحياة بمفردي لذلك أراني أجدف ضدّ التّيّار".
لا أدري كيف تسلّل صادق إلى أعماقي وأحسّ بارتباكي الذي حاولت ستره دون جدوى فدفعني وسط الحشد الهائل من المعتصمين الذين بحّت حناجرهم بهتافاتهم المندّدة بالظّلم والعسف.
إنّه لعمري حراك عظيم لكنّ الحركة المتململة داخلي تمنعني من بلوغ اللّذة لذّة المواجهة والتّحدّي التي أراها في عيون المتظاهرين وفي قسمات وجوه تحكي تاريخا من المعاناة والقهر لم يسلم منه إلاّ قلائل.
سرت بضع خطوات ثمّ توقّفت.ألجمني الانتشار الكبير لرجال الأمن وصورة أمّي الماثلة أمام ناظريّ،أمّي التي صفعتها الحياة بقسوة فانتزعت منها رفيق دربها وعائل بيتها.كان قد قضى نحبه ولّما أتجاوز السّنتين.أوشكنا بعده على الهلاك لذلك تشبّثت بي تشبّثا مرضيّا أوقعني فيما أنا فيه.
"إلى متى يا بلقاسم؟إلى متى هذا التّردّد الذي يسكن أعماقك؟انطلق دون خوف.تقدّم مع الجموع.اثأر لوالدك من الذين قبضوا على حياته دون ثمن".
أتتني رائحتهم المعطّرة بالمواجهة وأصواتهم المزلزلة بأعذب الكلمات "خبز حريّة كرامة وطنيّة".
ردّدت معهم في حماس مشوب بالخوف من المجهول وأنا أتقدّم شيئا فشيئا مدفوعا بالمتظاهرين الذين يقفون ورائي.
لم أعد أبصر صادقا.لا أدري كيف ابتعد عنّي أو كيف ابتعدت عنه.كلّ ما أذكره أنّ المكان عمّته سحابة بيضاء أفرزتها قنابل مسيلة للدّموع ألقيت علينا قصد تشتيتنا.
وجدتني طريح الفراش في بيتي...تطلّعت إلى وجه أمّي فرأيته في الضّوء الخفيف المنبعث من الفانوس مكدودا.كانت توزّع نظراتها بحنوّ على جسدي وتراقبني في صمت.وددت التّحدّث إليها لكنّني اختنقت.تضخّم إحساسي بالضّعف.كيف تخونني نفسي وتلقي بي بعيدا عن المتظاهرين؟كان عليّ البقاء هناك ومواجهة تعنّت رجال الأمن.
يبدو أننّي غفوت قليلا وما لبثت أن استيقظت على همس خفيف وصل إلى مسمعي:
- الطّلق النّاريّ كان عنيفا يا خالة.سقط العديد من الضّحايا اليوم.احتدّت الأوضاع ولا مجال للتّراجع.وصلتنا أنباء تؤكّد أنّ الأجواء في المتلوّي وأمّ العرائس والمظيلة ساخنة جدّا.
علا نسق تنفّسي فانتبهت أمّي إلى أنّني يقظ.خاطبتني عيناها وكأنّها تريد طمأنتي.
استطردت ابنة الجيران دون أن تنتبه إلى تململي في الفراش:
-عرّض شبابنا صدورهم للرّصاص فقدّموا دماءهم مهرا للكرامة.هيّا يا خالة علينا أن نتّجه إلى بيت أمّ صادق.كلّ الجيران مجتمعون هناك.
أصابني دواّر أفقدني القدرة على التّماسك...
في هذه القصّة إشارة إلى أحداث الحوض المنجمي التي وقعت في جانفي 2008 وكانت شرارتها الأولى في الرّديّف مع المظاهرة التي نظّمها العاطلون عن العمل تنديدا بالمحسوبيّة التي مورست ضدّهم أثناء انتداب للعمل بشركة فسفاط قفصة.
قمع النّظام البائد في تونس هذه الانتفاضة بلغة العنف التي دأب عليها.
رحم اللّه كلّ شهداء الحوض المنجمي
تعليق