يدها اليسرى
سمرة حمراء،و شفة عاتبة وعينان بلون الّلوز و المستحيل،أحبّ حزنهما الغامض،و ابتسامتهما الضّائعة..خصلة خجولة مقوّسة تعيدها تحت أذنها الصّغيرة بحركة..أيّ حركاتها لا تقذف بي داخل لوحة فرنسيّة لرعاة يستحمّون تحت جسر من حجارة مكسوّة بالعشب و الوهم،أو تنثر فوقي لحن فرح أخير ترقص على أنغامه أمّة ترحل نحو المجهول؛حلقة َ نار تمتدّ من الأزل إلى الأبد في ثوان قليلة..و وجنتان أيّ رعشة هذه التي تجعلني أوقن أن لا شيء يستحق بكاء النّايات عداهما بوسعي أن أقاوم .
تتقدّم نحوي .أدسّ يدي اليسرى في جيبي كما أراها تفعل حين تلمحني من بعيد .تقف أمامي ،تسلّم في حياء ،تحدّق بي في أقلّ من حلم و تنصرف..كثير عليّ هذا الجمال و مُرّ علينا ما كنّا نظنّ..مهما يكن من أمر فلسنا مؤهّلين كفاية لنتعامل مع الدّنيا مختزلة في نشوة واحدة.
نجلاء..
كان اسمها نجلاء..
نجلاء هكذا ،مباشرة و دفعة واحدة..
نلتقي كلّ صباح و كلّ مساء ثلاثتنا ،أنا و هي،فقط أنا و هي..
لم أخطىء في العدّ فقد كنّا ثلاثة..ثمّة بيننا شيء له حضور و ثقل فوق التّفسير.
و لا ريب أنّها مثلي،أو لعلّي صرت مثلها أخبّىء يدي اليسرى لأخفي عنها خاتم الزّواج..لا أدري آنذاك فيم كنت أطمع؟و ما فائدة هدر الوقت؟
قلت أنّي أضعف من أن تُختزل الدّنيا في جسم بدا لي أنّه يحبّني و يتخبّط مثلي تماما.على الأقلّ حريص على أن لا أكتشف مسألة ارتباطه بآخر.
مشينا بضع خطوات معا،و بوصفي بيطريّا قادما من العاصمة ،و رغم صغر سنّي فإنّ ذلك لم يمنع أن تتكوّن حولي هالة روحيّة في أعين القرويّين فتجعلهم يعيدون سلوكي منزوع الرّقابة و المختلف عمّا هو مسطور إلى عشوائيّة مرحة و مترفّعة يتميّز بها أبناء نوعي..مشينا بضع خطوات و هذا غير مسموح إلاّ لمن يحظون بأبوّتي. أبوّة راهب لا يصدر عنه إلاّ الصّواب و قدرة تفوق التّوقّع على توزيع الحبّ على جميع البشر. كان الشّيء ذاته بيننا،أكاد أسمع وقع خطواته على الأرض..أكاد أبعد ذراعيه الذين يطوّقاننا،أقول لها كأنّي أسحب الكلمات من الهواء و لست أطلقها:
- مغرم بك..و أبتلع الضّمير متعمّدا،ربّما كي لا أجد صعوبة في تجاوز مأزق الضّمير،سأدافع عن نفسي بضراوة بريء لو بالغ في استجوابي،سأقول كانت مفردات مبهمة لا تعنيني بالضّرورة..
ثمّ ماذا؟
تبتسم نجلاء و يزداد العتب المصوّر على شفتيها و يخيّل إليّ أنّها صمتت بصوت خافت.
القناعة في الحبّ أشبه بطفل ملّكه والداه فرنَ المطبخ و تابع الجميع حياتهم كما بالأمس.لمسه خطِر و ممنوع..و وقوفه الطّويل إلى جانبه في محاولة للعثور على طريقة ليظفر بمعنى لملكيّته،و فشله الذي لا يحتمل النّجاح في تحويل الهبة إلى فائدة محسوسة يعذّبني.
و لا أدري ما إذا كانت نجلاء مثلي قد أدركت بعد المرحلة التي تصبح معها الحالة معقّدة و قاسية إلى حدّ الرّكون إلى مجرّد تشخيص لما يحدث بيننا،و التّسليم بما لن يحدث..و أفهم أنّ الّلعبة بيننا كاوية و داوية في آن ،فكلانا يخفي يده اليسرى.
إصرارها على إخفاء خاتم الخطوبة عنّي يجعلني أكفر بحقيقتي كرجل متزوّج و آنس للعثرة مادامت السّمرة الحمراء ترتكب عين الجرم و تواجهه بحرقة جريئة ،و شجاعة مضاعفة.
قلت لها أيضا:
- ألفة سحريّة تغمر المكان..و كعادتي سترت الضّمير و كلّ ما من شأنه أن يحيل إلى وجودي بين طيّات الكلام.
تمرّ الأيّام و لا طائل للسّؤال عن تفاصيل حياتها..لا تعنيني الأسماء و لا متى ستتزوّج ،ما كان يهمّني سوى أنّها لا تزال تخبّىء عنّي يدها اليسرى.
القناعة في الحبّ استجداء أحمق يورّث المرض و حسب..
و تمادِينا في الّلعبة دليل واضح على أنّ كلينا يأبى تصديق ما لن يحدث،تماما كما لست تصدّق أنّ الصّوت الرّقيق الذي يخاطبك على الهاتف و يدعوك بكلّ لطف للانتظار قليلا آلة تسجيل لا يمكن بأيّ حال أن ترحم وحدتك أو أن تعيرك ذرّة عطف أو إصغاء مهما صنعت.
النّهاية الطّبيعيّة لقصّة مماثلة هي أن يملّ أحدنا حالة الرّكود و الرّتابة تلك و يقرّر أن يبرد كلّيّا و دون ردّة.
المسألة محسومة و مقفلة بألف مفتاح و ليست هناك علامة واحدة تشير إلى تطوّر ما.
كلانا يخفي يده اليسرى..و كلانا يحمل عقدة المصير.حلقة معدنيّة تدخل أصابعنا فتخرج مصائرنا عن السّيطرة.
أمرّ أحيانا من أمام بيت والدها..البلدة صغيرة و النّاس كلّهم جيران و أنا غريب هنا..عرفتها يوم انقطع الماء عن البلدة و كان في دائرتنا بئر عميقة،جاءت .وضعت الدنّ تحت ساقيها،و سكنت،فوجئت أنّي أملؤه نيابة عنها بتهوّر و دون أن أشعر، ثمّ حملته بنفسي و عقّبته السّور لأنّ المسافة تصير أقرب بكثير.لم أنتبه ساعتها إلى يدها اليسرى؛كنت مشغولا و سعيدا.
و كان والدها يمتلك خارج البلدة بقليل معرضا لبيع الأثاث و المعدّات المنزليّة.ذهبت إلى هناك ،كنت بحاجة إلى مكتب صغير.وجدتها تعين العاملة على فضّ علب أعتقد أنّها بضاعة جديدة.
كانت منهمكة في العمل حتّى أنّها لم تلحظ وجودي،كانت تجتهد كي تفتح الصّندوق مستعينة بيدها اليمنى فقط،ثمّ بحركة سريعة غاصت كلتا يداها و سحبت ما بداخله و رفعته إلى فوق دون عناء،كان تلفزيونا من الحجم الصّغير..وقتها لمحت يدها اليسرى..
لم يكن بها خاتم..
ما أسوأ أن تُتّهم يدٌ بخاتم..
و لم أندهش،لأنّ يدها اليسرى كانت مبتورة من المعصم..أساسا ليس هناك ما عاد يدعو للدّهشة.فقطعا لابدّ أن تحدث خارقة و يتفتّت المعدن الصّلب ككرة رمل لو أنّ كائنا من نحاس ظنّ أنّه سيقضي على خصمه بضربة من رأسه فيعرّض له الأخير كتلة عجين طريّ..
ما أدهشني حقّا هو أنّي اختفيت من المعرض كشبح غير مرئيّ.و لا شيء تغيّر بعدها عدا أنّ الجسم الثّقيل الذي كان يقف بيننا حين ألتقيها و يطوّق بذراعيه عنقينا زال تماما،و أنّك صرتَ لا ترى منّي سوى يدي اليسرى.
محمد فطومي
تعليق