" و في مغيب آخر أيام عمري .. سوف أراك و أرى أصدقائي ،
و لن أحمل معي تحت الثري غير حسرة الأغنية .. التي لم تتم .. !"
" ناظم حكمت "
و لن أحمل معي تحت الثري غير حسرة الأغنية .. التي لم تتم .. !"
" ناظم حكمت "
مرحبا أيها الفرح !!
حطت أخيرا كيمامة برية فى سماء القاهرة ،
جنحت بين أحيائها ، و مصرها القديمة .
هاهي عائدة إليك ، يحوطها الفرسان ،
حملة المشاعل ، الحواة ، الراقصون و الراقصات
تهيأ إذًا
كن لائقا بها ،
بعد طول انتظارك .
ما هى غير سويعات قليلة ، و تكون بين ضلوعك ، يديك ، أنفاسك ، وتكون بين نديها طفلا ، و بين ضلوعها فارسا ، و على شفتيها رحيقا وندى !
كم من العمر أهلك ، و الانتظار سيدك ،
أعددتها منذ نيف وعشرين لهذا العرس ، فتأبت عليك ، ضاعت بين ركام السنين ،
و ركام من الأباطيل و الأحلام ، ووجوه لامعة ، أكثرها كان زائفا و كريها .. كم صرخت ، ناديتها ، فما أجابتك ، و لا أعطتك انتباها لائقا، ظلت فى إبحارها فى الصمت و التمنع !
ناديت إبراهيم ، صقرا و حمامة ، وكم تتخلى الصقور عن مخالبها للحمام ، حين تحط بصدورها ، تنسى كل تواريخها ، عدا النسل ، و اجترار الرحيق ، وحرية قتل بحثا عنها ، و حين لقيها فى أحضان سعدية ، تلك الغجرية المهلكة ، ضاعت من قبضته كوهم. تركته غير آسفة ، غير مبالية إلا من جرح ، وبطن تحمل أملا قادما ، يالها سعدية و يالخبرتها الفسيحة فساحة جرحك ، و تخبطك ليل نهار ، ما بين غيط و مصنع ، بين فقر أبيد ، عشق و صبابة ..لا تتحول .. و أنت بالفكرة تؤمن ، عاشق لها أنت ، بالزعيم المكبل هناك ، فى قصر العروبة ، أو قصر عابدين ، ينتهك ثورانه خيانة الصديق ، و رفاق ظنهم بعضه ، فدسوا فى بدنه ما استعصي على دول حد الهزيمة .. تصرعك نهاية صاحبك المرة ، اشتعاله مع مصنعك ، و هلاك بيادر حنطتك و قوتك ؛
لتكون سعدية بين ضلوعك ، نهدا يغمرك جنونا و طفولة ، و جسدا يصليك لذة و إشراقا ، ومغامرة لن تخذلك قواك معها ، حلما لا تدركه ، و ربما لا تراه ، فكرة لم تؤسس عليها كثيرا ، لكنك كنت تحوم حولها ، فى صبر أيوب ، صبر عاشق ، رغم تجليات عبد الواحد أبيك ، لفض اشتباكك و الرحيل فيها !
أنا و أنت خاسران يا رجل المهام العصية ، رمضان يابسطة الغيث و لجة الرحمة ، كم سحقتك القبيلة ، و أنت طائر بأحلامك المجنحة ، ترتكب غواية الطريق ، فى قراها الظالمة ، التى اغتالت أحلامك ، طمرتها أسرارا فى قواديس السواقي ، وترع الموت ، وعيون الشجر كم شهدت لك بالنبل . تصدح بأناشيد الجلالة ، و السمو ؛ فتقتل الماشين على وجه الغيم ، و حر البيوت الظامئة ، لنفثة هواء ، لرفة طائر ، فى سماء قتلوها رجما و خيلا و إيادة !
نيفا و عشرين يا رمضان على أسنة الريح ، و عذابات القلق اليومى ، و أنت سجين أوراقى
تحن كما أحن للمسة ، أو نظرة ، أو محض بصقة فى وجه من وضع بذرتك هنا ، كوجه آخر لمعادلة غير ذكية ، لا يشفع له إلا كونها بعض طريق ، بعض مشاعر خالطته ، ونامت بين دمعاته و حلم .. سيان ..كأننى بلعنتى و أنت بلعنتى ، نغربل الوهم بحثا عن ما تصورناه ، عن الحب و العشق ، الموت و الميلاد ، الحرية و الوهج ، الفقر الذى حط على تلك البيوت ، نال منها حد النزف ، حد الجريمة ، و الخيانات !
الآن .. ألفني بأرق الثياب ، أغلى الثياب ، أرفع على رأسي قبعة ، سرعان ما ألقى بها ، أتمايل أمام المرآة المشروخة طويلا ، أكلمني ، و ظل بسمة يرف ، سرعان ما ينطفيء ، و لمرة أخيرة ، أو ربما قبل الأخيرة ، أحادثها لم غاضبتها ، و لم كنت دائما بعيدا عن ملامحي ، يبدو تفهمت الأمر ، تهللها أمامي أكد لى ذلك ، و لأكون مقبولا إلى حد ما ، أكسر من حدة هذا الأنف ، أطلقت شعري الملبد ، لا تهم التجاعيد فى رقعته و امتداده .. لا تهم .. فهى رزينة وعاقلة ، لن تعير هذه المسائل أهمية ، و على وهج انصهارنا أنسى كل شقاوتي . ظلت أعشقها نيفا و عشرين ، لا بد أنها أيضا تعانى من تجاعيد ، آثار السنين ، تباريحها ، ما بين حر و برد ، رعد وقصف ، إهمال و بعث .. لكنها لن تنسي أبدا ، أنها أنزفتني . من فجر نهر نزفى ، أرشد دمى إلى ثقوب الهروب ، و مغاضبتي و التمرد على .. لن تنسي بلا شك ، أنها تحمل كل حبي وجنوني بموطني ، بهنا ، بالمحلة الكبري ، تل الواقعة ، أو سوق اللبن ، كيف تنسي إذًا خلوتنا معا ، و صراخ تلك المرأة على كتاكيتها ، وعجن أجسادهم الغضة مرة بالعض ، أخرى بالمكنسة أو حذائها المهتريء ، و صوتها يدوى كفضيحة كانت نائمة ، و أنا وأنت نختبيء ، نتوارى ، و نحن نستشعر أن تلك الهجمات ، و ذاك الصراخ ما كان موجها إلا لنا .. أنا و أنتِ . نولى هربا ضاحكين ، و الملح يتقاطر من عيني ، فتحملينى فى حنان صدرك الناهد ، ترشفين ألمى ، ثم تضحكين فأضحك سخرية بنفسي ، و حياة ما أردتها ، وما كانت حلمي .
نلف الشوارع راقصين ، أحياء المدينة المترفة ، وعشش الصفيح التى لا تنام ، إلا عارية الصدر ، تمضغ الأفيون ، الحشيش ، الأحلام ، ممددة فى مواجهة غبار السماء الذى أطلقته زفرات الكبار هناك ، فى الأحياء الراقية ، و لطمات الرجال و ركلاتهم ، و الزوجات الغافيات على قدور الماء ، أمام الكانون ، أو البوتاجاز القادم من مزيلة عبر الحدود
كنت و أنتِ نبحث عن إبراهيم ، و ما فعل الإضراب فى مواجهة السلطة و إدارة مؤسسة طلعت حرب . هناك كانوا ، خلف القضبان ، ينامون وقوفا ، و يضحكون من تلاعب إحدى العاهرات بضابط الليل ، و كيف استبدلت معه الثياب ، و الحنجرة !!
الوقت يمر بطيئا .. بطيئا
و القلق حد مدية .. أحسست بثقل يدى ، أغادر مكمني .. إلى أين .. ؟ إنها قادمة .. عليك ببعض الصبر ، تآكل بعضه ، هاهى الدماء تنزف من صدرك و كتفيك ، ألا تر أظافرك تخضبت بك .. عليك ببعض الصبر أو الموت في صمت.
إنها قادمة لا محالة ، ألم يخبروك حين خرج الموكب .. مرت ساعات و ساعات .. لم يأت أحد ، لم أسمع شيئا حتى الآن ، حتى الهاتف صمت كقطعة حجر أصم ، لا يحس و لا يشعر . هانت على كل حال .. انتظر ليوم آخر ، ربما شاغبت الطرق موكبك الآتي ، تنتظر من نيف وعشرين عاما ، و الآن ضعيف حد التهتك على احتمال ساعات ، ليست بالجبال على كل حال .. اهدأ سيدي .
أستشعر ثقلا ، دبدبات و اضطرابات فى معدتى ، أهرع صوب الحمام ، يتمزق الموت على حد الوجع ، أسيل .. أسيل ، أتهادي كذرات بخار مطاردة . أتابع تهيئة نفسي ، ألتف حول صدري .. ما شكلها الآن ، ملامحها ، بريق عينيها و اتساعهما ، غمازتيها ، لون عينيها ، أمازال هو هو ، ياربي .. كم أحبك .. وكم أخشى من هذا اللقاء الأسطورى ،
كيف استعصت علي ، فشلت فى الارتباط بها ، حتى أمام محامي بورقة عرفية .. كانت غالية و فادحة . خفت وخافت الجور على الكتاكيت ، و أمهم ، وهاهم غدوا فراخا و صقورا ، غير مبالين بي و ما أحب ، ربما من شرفة ذر الرماد ، كانوا يعرضون عليك الأمر ، و هم يدركون أنك ما عدت تملك إلا هم ، كل مالك و عتادك .
نعم كان لا بد من رضى أهلها ، كما رضاى تماما ، و إلا سقط كل شيء ، و حيل بيني و بينها بموج كالجبال أو أشد قسوة ، و مت عشقا و جنونا !!
لم يعد فى القوس منزع ، تكسرت أوتار انتظاري تماما ، و الريح تأخذ شكلا معاندا ، فأبرح وقتي إلى وقت زائغ ، هناك .. أرى العشش هى هى ، و الرجال مايزالون يمضغون الأفيون و الحشيش و البانجو ، و النساء لم تعد غافيات ، بل يمتد أمامهن طوابير المدمنين من نساء ورجال و شبان بوجوه نهشتها ثعالب الموت الماكرة بكل الألوان ، كل يحمل بطاقة ، يهلل للسكينة القادمة ، العودة المنتظرة للتحليق مع الأقمار و النجوم ، بينما من كانوا على موقد الماء يحلمون بكسرة و شربة ماء ، يباشرون نقل و تخزين وفض مشاوير الزبائن المرموقين .. و هناك فى العنابر ، بين دويها القاسي ، وصخبها الرهيب كنت أبحث عن ملامح ما ، عن ضحكة ما ، عن تلك الطيبة المشعة .. عن إبراهيم أبحث ، ولما يئست من رؤيته ، نخر ت شغفى إليه بعض همهمات : إبراهيم .. يااااه .. هضمته معدة المدينة فى أبريل قبل الماضي حين فخخ نفسه بحافلة شرطة !
ركضت فى حوارى وشوارع شتى ، و على هدب طفل كنت هناك ، أفترش التراب و الأسفلت ، أتحين موكبها ، بتلقائية أمسد لحيتي ، أمشط شعرى الطائر المهمل ، هاهى مقبلة ، ياربي ، أسمع الآن رنين الأجراس ، تلاطم السيوف ، صهيل الفرسان ..
مالى أرتجف ، أغدو فى خفة فراشة ، أتهالك .. أن لى بقوة عشرين عاما ، لأكون قويا بما يكفي ، قادرا على إسالة وهن السنين ، إذابة الجليد المتراكم ، تجلية البريق ليعود بعد انطفاء.
أخترق الحشد ، أرفرف نحوها طائرا . الصخب يغتال رأسي ، و هى ملء جنوني . أخيرا كانت على قيد خطوة ، وكنت بين حد الموت و الجنون ، حين اكتشفت أني انتظرت مومياء أخرجوها ، من تابوت طمرته الرمال آلاف السنين !!
25 / 5 / 2011
تعليق