لعبة الأحلام
كَانَت أُمُّ قَسَّامٍ تُحِبُّ لُعبَ لُعبَةِ الأَحلامِ مَعَ أَبنَائِها . كَانَ الدَّورُ يَدُورُ عَلَيهِم وَاحِداً وَاحِداً ، لِيُعَبِّرَ كُلٌّ مِنهُم عَن حُلُمِهِ الذِي يَتَمَنَّى أَن يَتَحَقَّقَ ، وكَانَ لَدَى أُمِّهِ حُلُمٌ واحِدُ لا يَتَغَيَّرُ تَسرُدُهُ عَلَيهِم كُلَّ مَرَّةٍ .
" أَحلُمُ أَن أَعُودَ إِلى بَيتِي الصَّغِيرِ . إِلى شَجَرَةِ التُّوتِ في حَدِيقَتِنَا . إِلى الطَّرِيقِ المُبَلَّطِ الذِي أَمشِيهِ يَومِيّاً إِلى المَدرَسَةِ العَتِيقَةِ . إِلى الأَقصَى الذِي نُصَلِّي فِيهِ كُلَّ جُمُعِةٍ . إِلى الصَّخرَةِ التي نَنزِلُ فِيها إِلى غُرفَةٍ مُظلِمَةٍ في الأَسفَلِ ، فِيهَا الصَّخرَةُ التي دَاسَ عَلَيهَا سَيِّدُنَا مُحَمَّدٍ (ص) في رِحلَتِه إِلى السَّمَاءِ . إِلى كَنِيسَةِ القِيَامَةِ التي تُعلِنُ نَوَاقِيسُهَا الإِخَاءَ والمَحَبَّةَ والسَّلامَ . إِلى الهَوَاءِ العَلِيلِ ، والأَكلِ اللَذِيذِ و..."
كَانَت أُمُّهُ تَستَرسِلُ ولا تَمَلُّ الإِعَادَةَ والاستِزَادَةَ في كُلَّ مَرَّةٍ ، وكَانَ يَزِيدُ حُزنُهُ وَهُوَ يَرَى أَثَرَ السِّنِينِ يَرتَسِمُ عَلَى وَجهِهَا خُطُوطاً تَزدَادُ عُمقاً وعَدَداً مَعَ الأَيَّامِ .
في أَحَدِ الأَيَّامِ ثَارَت ثَائِرَتُهُ وقَالَ لَهَا : كَفَى يا أُمِّي ، كُفِّي عَنِ الأَحلامِ .
أَجَابَتهُ بِهُدُوءٍ وتَعَجُّبٍ : وما تَكُونُ الحَيَاةُ دُونَ أَحلامٍ ؟!
قَالَ لَهَا بِاستِسلامٍ : إِذَنْ احلَمِي أَحلاماً مَمكِنَةً .
قَالَت لَهُ : أَنظُرْ حَولَكَ . أُنظُر إِلى كُلِّ هذه المَدَنِيَّةِ التي تُحِيطُ بِكَ ، وتَخَيَّلْ أَنَّكَ تَعِيشُ قَبلَ مِائَتَي سَنَةٍ ، أَلَم يَكُنْ مِنَ الغَبَاءِ أَن تَحلُمَ مُجَرَّدَ الحُلُمِ بِإِيجَادِهَا ؟!!
وَقَفَ قَسَّامٌ أَمَامَ النَّافِذَةِ ورَاحَ يَتَأَمَّلُ الشَّجَرَ الأَخضَرَ أَمَامَهُ ، وهُوَ يَتَفَكَّرُ فِيمَا قَالَتْ أُمُّهُ. مَرَّ طَائِرٌ جَمِيلٌ، سُبحَانَ مَن صَوَّرَهُ ، وحَطَّ عَلَى غُصنٍ قَرِيبٍ مِنهُ ، ثُمَّ فَرَدَ جَنَاحَيهِ وطَارَ مُتَنَقِّلاً كَيفَ شَاءَ .
حَرَّكَت حُرِّيَّةُ الطَّائِرِ الأَمَانِي فِي نَفسِهِ، وبِصَمتٍ مُطبِقٍ قَالَ فِي أَعمَاقِهِ :
لَيتَنِي أَكُونُ عُصفُوراً !
ارتَفَعَت ضَحكَةُ قَسَّامٍ المُتَفَاجِئَةِ مِن سُرعَةِ وُقُوعِهِ في الذي طَلَبَ مِن أُمِّهِ أَن تُبعِدَ عَنهُ !
تَذَكَّرَ عَبَّاسَ بنَ فِرنَاس ،ذَاكَ الذي وَضَعَ جَنَاحَينِ لِيَطِيرَ ، فَوَقَعَ أَرضاً ومَاتَ .
عَلَت ضَحكَتُهُ أَكثَرَ وهُوَ يَذكُرُ تِلكَ الأُمنِيَةَ الحَمقَاءَ التي أودَتْ بِحَيَاتِهِ ، ولكِنَّهُ سَكَتَ فَجأَةً وصَارَ يُفَكِّرُ في هذا الحُلُمِ الذي تَطَوَّرَ فِيمَا بَعدُ ، والذي كَانَ الأَسَاسَ في صِنَاعَةِ الطَّائِرَاتِ .
كَانَ الحُلُمُ أَن يُحَلِّقَ الإِنسَانُ ، وكَانَ العَائِقُ في كَونِهِ إِنسَاناً .. خُلِقَ لِيَدُبَّ عَلَى الأَرضِ ! وتَحَقَّقَ الحُلُمُ حِينَ حَلَّقَ الإِنسَانُ مَعَ خَيَالِهِ ... وصَنَعَ قَدَرَهُ !
وحِينَ تَحَقَّقَ الحُّلُمُ فِي مِصرَ، عَلِمَ قَسَّامٌ أَنَّ الحُلُمَ أَكبَرَ مِن أُمِّهِ ومِنهُ،
وأَنَّ الحُلُمَ يَحيَا ويَتَرَعرَعُ بِإِيمَانِنَا بِهِ .
ودُونَ مُقَدِّمَاتٍ ذَهَبَ قَسَّامٌ إِلى أُمِّهِ. طَوَّقَهَا بِذِرَاعَيهِ ، ورَسَمَ قُبلَةً عَمِيقَةً عَلَى وَجنَتِهَا . سَأَلَتهُ أُمُّهُ فَرِحَةً : ها ، مَاذَا هُنَاكَ ؟
قَالَ لَهَا : لا شَيءَ يَا أُمِّي . كُلُّ مَا هُنَاكَ هُوَ أَنَّنِي أُحِبُّكِ كَثِيراً .. وأُحِبُّ أَحلامَكِ العَظِيمَةَ .
حنين حمودة
كَانَت أُمُّ قَسَّامٍ تُحِبُّ لُعبَ لُعبَةِ الأَحلامِ مَعَ أَبنَائِها . كَانَ الدَّورُ يَدُورُ عَلَيهِم وَاحِداً وَاحِداً ، لِيُعَبِّرَ كُلٌّ مِنهُم عَن حُلُمِهِ الذِي يَتَمَنَّى أَن يَتَحَقَّقَ ، وكَانَ لَدَى أُمِّهِ حُلُمٌ واحِدُ لا يَتَغَيَّرُ تَسرُدُهُ عَلَيهِم كُلَّ مَرَّةٍ .
" أَحلُمُ أَن أَعُودَ إِلى بَيتِي الصَّغِيرِ . إِلى شَجَرَةِ التُّوتِ في حَدِيقَتِنَا . إِلى الطَّرِيقِ المُبَلَّطِ الذِي أَمشِيهِ يَومِيّاً إِلى المَدرَسَةِ العَتِيقَةِ . إِلى الأَقصَى الذِي نُصَلِّي فِيهِ كُلَّ جُمُعِةٍ . إِلى الصَّخرَةِ التي نَنزِلُ فِيها إِلى غُرفَةٍ مُظلِمَةٍ في الأَسفَلِ ، فِيهَا الصَّخرَةُ التي دَاسَ عَلَيهَا سَيِّدُنَا مُحَمَّدٍ (ص) في رِحلَتِه إِلى السَّمَاءِ . إِلى كَنِيسَةِ القِيَامَةِ التي تُعلِنُ نَوَاقِيسُهَا الإِخَاءَ والمَحَبَّةَ والسَّلامَ . إِلى الهَوَاءِ العَلِيلِ ، والأَكلِ اللَذِيذِ و..."
كَانَت أُمُّهُ تَستَرسِلُ ولا تَمَلُّ الإِعَادَةَ والاستِزَادَةَ في كُلَّ مَرَّةٍ ، وكَانَ يَزِيدُ حُزنُهُ وَهُوَ يَرَى أَثَرَ السِّنِينِ يَرتَسِمُ عَلَى وَجهِهَا خُطُوطاً تَزدَادُ عُمقاً وعَدَداً مَعَ الأَيَّامِ .
في أَحَدِ الأَيَّامِ ثَارَت ثَائِرَتُهُ وقَالَ لَهَا : كَفَى يا أُمِّي ، كُفِّي عَنِ الأَحلامِ .
أَجَابَتهُ بِهُدُوءٍ وتَعَجُّبٍ : وما تَكُونُ الحَيَاةُ دُونَ أَحلامٍ ؟!
قَالَ لَهَا بِاستِسلامٍ : إِذَنْ احلَمِي أَحلاماً مَمكِنَةً .
قَالَت لَهُ : أَنظُرْ حَولَكَ . أُنظُر إِلى كُلِّ هذه المَدَنِيَّةِ التي تُحِيطُ بِكَ ، وتَخَيَّلْ أَنَّكَ تَعِيشُ قَبلَ مِائَتَي سَنَةٍ ، أَلَم يَكُنْ مِنَ الغَبَاءِ أَن تَحلُمَ مُجَرَّدَ الحُلُمِ بِإِيجَادِهَا ؟!!
وَقَفَ قَسَّامٌ أَمَامَ النَّافِذَةِ ورَاحَ يَتَأَمَّلُ الشَّجَرَ الأَخضَرَ أَمَامَهُ ، وهُوَ يَتَفَكَّرُ فِيمَا قَالَتْ أُمُّهُ. مَرَّ طَائِرٌ جَمِيلٌ، سُبحَانَ مَن صَوَّرَهُ ، وحَطَّ عَلَى غُصنٍ قَرِيبٍ مِنهُ ، ثُمَّ فَرَدَ جَنَاحَيهِ وطَارَ مُتَنَقِّلاً كَيفَ شَاءَ .
حَرَّكَت حُرِّيَّةُ الطَّائِرِ الأَمَانِي فِي نَفسِهِ، وبِصَمتٍ مُطبِقٍ قَالَ فِي أَعمَاقِهِ :
لَيتَنِي أَكُونُ عُصفُوراً !
ارتَفَعَت ضَحكَةُ قَسَّامٍ المُتَفَاجِئَةِ مِن سُرعَةِ وُقُوعِهِ في الذي طَلَبَ مِن أُمِّهِ أَن تُبعِدَ عَنهُ !
تَذَكَّرَ عَبَّاسَ بنَ فِرنَاس ،ذَاكَ الذي وَضَعَ جَنَاحَينِ لِيَطِيرَ ، فَوَقَعَ أَرضاً ومَاتَ .
عَلَت ضَحكَتُهُ أَكثَرَ وهُوَ يَذكُرُ تِلكَ الأُمنِيَةَ الحَمقَاءَ التي أودَتْ بِحَيَاتِهِ ، ولكِنَّهُ سَكَتَ فَجأَةً وصَارَ يُفَكِّرُ في هذا الحُلُمِ الذي تَطَوَّرَ فِيمَا بَعدُ ، والذي كَانَ الأَسَاسَ في صِنَاعَةِ الطَّائِرَاتِ .
كَانَ الحُلُمُ أَن يُحَلِّقَ الإِنسَانُ ، وكَانَ العَائِقُ في كَونِهِ إِنسَاناً .. خُلِقَ لِيَدُبَّ عَلَى الأَرضِ ! وتَحَقَّقَ الحُلُمُ حِينَ حَلَّقَ الإِنسَانُ مَعَ خَيَالِهِ ... وصَنَعَ قَدَرَهُ !
وحِينَ تَحَقَّقَ الحُّلُمُ فِي مِصرَ، عَلِمَ قَسَّامٌ أَنَّ الحُلُمَ أَكبَرَ مِن أُمِّهِ ومِنهُ،
وأَنَّ الحُلُمَ يَحيَا ويَتَرَعرَعُ بِإِيمَانِنَا بِهِ .
ودُونَ مُقَدِّمَاتٍ ذَهَبَ قَسَّامٌ إِلى أُمِّهِ. طَوَّقَهَا بِذِرَاعَيهِ ، ورَسَمَ قُبلَةً عَمِيقَةً عَلَى وَجنَتِهَا . سَأَلَتهُ أُمُّهُ فَرِحَةً : ها ، مَاذَا هُنَاكَ ؟
قَالَ لَهَا : لا شَيءَ يَا أُمِّي . كُلُّ مَا هُنَاكَ هُوَ أَنَّنِي أُحِبُّكِ كَثِيراً .. وأُحِبُّ أَحلامَكِ العَظِيمَةَ .
حنين حمودة
تعليق