كذبة ما..
تستفيق غفران كلّ صباح على نغمة و شمس،و تستفيق صباحاتي البعيدة ، كلّما هبّت عيناها فوقي كنسمة مطر.. آخذها من يدها و نركض عبر مسارب الظلّ الملتوية في قريتي.نصل إلى العين.يشرق خصرها حين يتلألأ الماء حوله .تدخل الحوض حافية القدمين،أصابعها بلون الحصى.ترقص أمامي كفراشة.لا نتكلّم.لا يجوز أن نتكلّم.أحيطها بذراعيّ و ندور و ندور..تخلو البلدة من أهلها فجأة ،و لا نكترث.نمرّ أمام الفيلاّ المهجورة لمدير المنجم.نتسلّق السّور،و نقفز. الأراجيح تفوح منها بعدُ خصومات الأطفال الفرنسيين الذين مرّوا بها .نعرج ناحية بركة البطّ.رذاذ أجنحتها القزحيّة لا يزال عالقا في الفضاء.و تضع امرأتي رأسها الصّغيرعلى كتفي.أفهم ما تريد قوله.تغمض عينيها برهة و تفتحهما و أهمس في أذنها :"ما رأيك أن نتدحرج على العشب كحبّتي زيتون؟"
و نجلس فوق مقعد خشبيّ تحت سقف من كرْم ،و تلامس رموشها جبهتي بحنوّ.و تعيدني أنفاسها المبلّلة بالقطن و السكّر و السّفر و الدّنيا في طرفة عين إلى محطّة القطارات حيث أبي و ساعة الجدار الضّخمة ،و حيث أصدقائي العراة يشاكسونني و يغرونني بزعامتهم لئلاّ أنتبه إلاّ و قد أغلق أبي باب عربة القيادة و مضى..و آخذها إلى هناك لأريها بقايا شبكة الصّيد البالية العالقة في القاطرة الأخيرة و أروي لها كيف كنّا نلهو بها،و نعتقد أنّه لم يعد ينقصنا بعد الآن سوى بحر و زورق..
ثمّ تبتلعنا ثنايا الظلّ الملتوية من جديد و نتّحد..
قالت لي يوما:" حين أصير محامية كبيرة سأتعامل بنبل مع حرفائي..فأنا أكره الطّرق الملتوية."
قلت كأنّي أرغمها على أن تمرض بخواطري :" تخطئين.. فالطّرق الملتوية تهوّن المنحدرات." و أيقنتُ أنّ نقمة ما غريبة عن أطواري باتت تتشكّل و تشتدّ كلّما ثبت لي أنّي مجرّد حصان سباق لدى والدها.
ثمّ يتلاشى حلمي و يعود لي رشدي و أجدني من جديد رجلا خطيرا ينتمي إلى قطيع من السّفلة الذين أحبّوا الأرض و كرهوا النّظام،يُلقى عليه القبض و يحاكم تسعة عشر عاما من السّجن بتهمة الخيانة..
كم هو مريع أن تجد نفسك في مكان لا وجود فيه لذرّة طفولة.
بكر محيي الدّين ،كناية مستعارة حتّمها عليّ واقعي الجديد بعد عامين من السّجن كمدرّس خصوصيّ لفتاة حسناء بأمر من صاحب الأمر و النّهي، لم أكن أستاذا مستقيلا من كلّيّة الحقوق قسم القانون الجنائي كما جعلناها تعتقد كي لا تشربني بازدراء،و لم تكن الملابس التي كان يدهشها تناسقها و ألوانها و بساطتها من اختياري، و لم أكن أتقاضى من والدها راتبا خياليّا كما كانت تلمّح لاستفزازي، و إن كنت أتظاهر بأنّها تنجح في إثارة أعصابي..و سجّلت على نفسي في عديد المناسبات أنّي أتكاذب و لست أكذب.
" - أستاذ ..لو سألتك هل تجيبني بصراحة؟
- سأجيبك و كفى..
- كم تتقاضى من والدي؟ "
كدت أعترف لها بكلّ شيء وقتها لفرط ما أعجبتني ربطة شعرها و سترتها الزّرقاء السّماويّة.كنت سأقول لها بأنّي آتيها من السّجن و أعود إليه بعد خروجي من عندها مباشرة، و بأنّي أتقاضى شرف دخول بيت الرّائد سالم عبد الوهّاب لا غير.و لكنّي كنت أوهمها كما في كلّ مرّة بأنّ سؤالها يزعجني و أجيب متظاهرا بأنّي فشلت في دفع الحرج عن نفسي:
- دعينا من هذه السّخافات؛ لنعد إلى الدّرس..
و لنشكر الأشياء الخسيسة أو الرّائعة التي لا تمانع في أن نتظاهر بها..
كنت دائما بدافع ما أفصح لها بصدق غامض و مشوّه عمّا يجول حقيقة بخاطري لحظتها.و أشعر أنّها كانت تشكّ بشيء ما،و ذاك كان يخفّف من ضراوة كوني مجرّد حصّالة من جليد في نظرها. كانت حرارتي تُنتهك أمامي كلّما عرّجت بي نحو تفاصيل حياتي فأضطرّ للمناورة أو الكذب.
يوم دخلتُ غرفتها أوّل مرّة ، كنت مرتبكا جدّا و بدا لي كأنّ دموعا تهطل داخل حنجرتي، كانت تحدّق بي تراقب حركاتي و تخفي ابتسامة لذيذة طيّبة:
- تفضّل أستاذ بكر..ألم يرق لك المكان؟
غرفتها كانت حديقة برّيّة ،و قلت في نفسي حين أبصرت قيثارة معلّقة أين من المفترض أن تكون النّافذة ذات القضبان في غرفة السّجن من حيث أبصر: "إنّ الخشب أحنّ من الحديد".
و قلت لها ممازحا،غير مصدّق أنّ للحزن وجها أحلى بكثير من الفرح:
- لا..لا بالعكس،عذرا و لكنّي بصراحة أحسّ بأنّي جرادة حوصرت في معرض للرّسوم.
ضحكَتْ .و راودني ندم خفيف لأنّي جعلها تسمع لغة تحجّرها صفقة الجانب الواحد التي بيني و بين والدها الرّائد.و تكلّم ظلّه بداخلي ينهرني: تافه ! حقير ! ما هذا الكلام السّوقيّ .تهذّب و إلاّ أعدتك إلى المغارة..
هكذا يعلو الصّوت إلى رأسي و تجلجل اهتزازاته المريعة مهدّدة إيّاي بدهليز الوزارة رغم أنّي كنت أخاف الانقطاع عن رؤيتها لا أكثر.
و أستحضر كلامه و هو يلقّنني الدّور:
" حفاظك على السرّ سيجعلك تكبر في عيني،و لا حاجة لأذكّرك ما معنى أن تسفل في عيني أو تخذلني..و تذكّر:لا أريد سموما وسط الدّروس.."
للأمانة لم يمل عليّ الرّائد كلّ ما يجب عليّ القيام به. كان مغامرا إلى درجة أنّه فسح لي المجال كي أتصرّف أحيانا بمعرفتي و دون عسس،كأنّه آمن بحاجتها لبعض القسوة و التّفكير الضّال.
قالت: " أريد أن أتعلّم منك كلّ شيء."
سمعت من الرّائد سالم عبد الوهّاب ما يشبه هذه العبارة أوّل يوم ساقوني لمقابلته.يومها دخل علينا أحد رجاله .كان جالسا وراء مكتبه و حدقتا عينيه تكاد تختفي تحت أجفانه ،كان يبدو عليه الإعياء و الإحباط كفقمة بلعت علبة صفيح .و تمتم له الرّجل بكلمات لم أتبيّنها.ردّ عليه ساعتها باشمئزاز :طيّب..أريد التّقرير غدا على مكتبي و لا تنسوا ؛حتّى الإشاعات التّافهة أريد أن تبلّغوني بها..
ثمّ بعدها التفت إليّ و ابتسم ابتسامة مزرية جعلتني أشكّ بأنّي أنا من طلبت مقابلته،و قال:
- لقد اطّلعت على ملفّك و تبيّن لي أنّ نشاطك خال من سوء النيّة،و أنوي مساعدتك.
لذلك تُراني قلت لها كأنّي أتشفّى :
- تعلّمي أن تجهلي العديد من المسائل أوّلا..لو نجحت في ذلك. ستعثرين بالتّأكيد على قضيّة عمرك..
وضعت يدها على خدّها بدلال و قالت:
- لم أفهم ..أحيانا أحسّ أنّك تعقّد الأمور حيث يجب أن تكون سهلة و العكس بالعكس..
- أنا دائما أبسّطها ،لكنّ القانون السّمج الذي بين يديك هو الذي يعقّدها..
- غريب..أنت تقول هذا؟ ماذا يقول أعداء القانون إذن؟
- ليس هناك أعداء للقانون،ثمّة حمقى..
قالت بنبرة حالمة:
- قل بصدق ؛ ألا يستهويك أن تكون قاضيا ؟
قلت بيسر لأنّي تساءلته من قبل،و بدا عليها فعلا أنّ بديهتي قد أبهرتها:
" لا أصلح أن أكون قاضيا يا صديقتي..أتدرين لماذا؟ لأنّي قد أبرّر قاتلا متسلسلا لو اتّضح لي أنّه زرع في طفولته شتلة نعناع في أصيص ،ثمّ راح يسقيها حتّى كبرت،و لمّا ظنّ أنّه يمتلك أكبر غابة نعناع في الكون قدّم نادل المقهى لوالده و هو يراقب كوب الشّاي و قد رُصّت فيه حزمة أكبر و أينع من كنزه الأخضر.."
و تبادر إلى ذهني لحظة قطّبت جبينها أن لا فرق بينها و بين والدها،و كرهتها للحظة، و راودني إحساس مخجل بأنّي أدوّس بقوّة و لا أتقدّم،و حين عدت إلى السّجن اشتقت لها أكثر من كلّ مرّة و دخّنت سجائر اليوم التّالي أيضا.و قرّرت أن أتحرّر من تعليمات والدها:
" اسمع يا ابني..كنّا شبابا نحن أيضا و ارتكبنا الأخطاء و لكن في حدود المعقول..لذا لا أريد سموما وسط الدّروس..مفهوم!"
عرفت بعد هذه الجملة أنّ ابنته هي الوطن و فكّرت أنّي أهدي ذمّتي لها و لوالدها و لست أبيعها و حسب،و أنّي حقّا خائن ،و غفران هي الإجابة المقنعة الوحيدة لما حدث و يحدث..و بتّ ليلتي تلك أقاوم شعورا مقزّزا بأنّ ملامح الرّائد مرسومة على وجهي،و انتبهت إلى أنّي أستمع لخالد رفيق السّرير و قد تقلّصت وجنتي اليسرى و ارتفع حاجباي و برزت عينيّ قليلا مثل الرّائد، و استقرّ في مخيّلتي أنّ غفران بحاجة إلى سمومي لتتفوّق..و في إحدى الحصص قلت لها:
- إنّ ألذّ ما قد نجرّب على الإطلاق،هو أن نتداعى بصدق و نسير نحو نهاياتنا بصدق ،لكن ليس قبل أن نجرّب مزالق الكذب جميعها..
لم تعلّق و طلبت منّي أن أحضر لها في المرّة القادمة قرنفلة صفراء.و بدا لي أنّ الحرّيّة هي أن نقطف قرنفلة صفراء دون الّلجوء إلى معجزة ،و أجبتها فورا :
" غفران..لست رخوا إلى هذا الحدّ.."
و يوم سألتني عمّا إذا كنت قد أحببت امرأة من قبل أم لا..أحسست أنّ بقائي معها صار مهدّدا و أنّ إجابتي ستكون خطيرة إلى حدّ أنّها قد تحدّد مصيري كرجل يرغب في أن يرى هذه الفتاة كلّ دقيقة و آثرت أن أغضبها بإجابة تسرّ والدها،ليقيني بأنّ مسألة بقائي بيده و ليست بيدها:
" أرجوك آنسة غفران ..ليس هذا موضوعنا. "
و لكنّها مع ذلك أصرّت ،فحدّثتها عن صديق ،كان دائما يقول :إنّ أجمل ما قد تسمع امرأة من رجل على الإطلاق : " أنتِ كما توقّعتُ. "
ليلة الامتحان كانت الأخيرة . قالت:
" بكر..سأذهل الجميع بفضلك"
كنت أعلم أنّي لن أراها مجدّدا . فقلت:كوني على ثقة تامّة بأنّك لو أتقنت إلقاء مسودّاتك على مسامعك فإنّك ستنجزين عملا جيّدا و ستذهلين الجميع،هذا أكيد..
و اليوم و بعد مرور عشرة أعوام ،يصرخ بي الحارس : لديك زيارة استثنائيّة ،و تقف أمامي غفران ،و أرتسم في أجفانها كالمدمن في عينَيْ المدمن.و أشتهي أن أمدّ يدي و ألمس أناملها النّاعمة عبر فراغات الشّبكة المعدنيّة.
دار بيننا صمت ثقيل قبل أن يندّ عنّي صوت كأنّي أتكلّم داخل أنبوب:
- أنتِ كما توقّعت..
و نَطَقَتْ:
- علمت بأنّ اسمك ثامر...ظننت أنّك أفضل بكثير من جرذ حبس..جئت فقط لأقول لك بأنّي حقّقت أكثر ممّا أراد والدي،و بأنّي أحتقركما جدّا ! .
ثمّ استدارت و بصقت على الأرض و غادرَتْ بخطوات قويّة.
***
محمد فطومي
محمد فطومي
تعليق