كابوس فوق السحاب
ما أن وضعت رجلها في باب الطائرة حتى تذكّرت والديها..أدارت رأسها إلى الوراء فلم تر شيئا....الكل توارى عن عينيها خلف البناء الضخم.. دخلت فابتلعها بطن الطائرة.
وعندما جلست على كرسيّها في جوف الطائرة الواسع.. أغمضت عينيها لتُبْقي على أجمل لوحة محبة فارقتها قبل لحظات، حين ودّعت أختها التي رافقتها حتى شباك المغادرين..
ابتلعتها الطائرة. وسرعان ما ابتلعها ظلام كثيف.. غاصت به، ظلام ثقيل، يضجّ بموسيقى صاخبة، يمزق الآذان.. رأت من خلال كثافته بحرا يمتد إلى اللانهاية، يطلُّ من أفقه وجه أبيها المحفور في ذاكرتها منذ فقدته وأمَّها عندما كانا عائدين من سهرة حفلة زفافها، في حادث طرق أليم.. يومها ركضت نحوهما، وهي تمسك في ذيل فستان سهرتها..وتمنت لو تنتصر على القدر، تحدّته ..لكنه كما ينتصر على الجميع، انتصر عليها، وصلت متأخرة للحظات، بعد ان فارقا الحياة...ومنذ تلك النكسة لم يندمل جرحها، وطيف أبيها يطلّ عليها بزيارات ليلية، يضيء ليلها الكثيف كما يضيء الأمل النفوس الميتتة، ويوقف شلال دموعها التي لا تنقطع.
أحست أن الظلام ثقيل على صدرها، وأن أرجلها ملتصقة بأرض الطائرة، وأنها تركض في بحر ماؤه لا تبلل ثيابها، كالعرق المتصبب من وجهها وعنقها وكتفيها شبه العاريتين. نظرت نحو أبيها في الأفق البعيد ...لوّح لها بيده..فلوّحت له بيديها الاثنتين...رفع يديه يحثّها أن تترك الطائرة لتاتيه بسرعة أسرع من سرعتها
حاولت أن تصرخ، فلم تسمع صوتها..حركت رجلها فلم تتحرك، حركت يدها فأبت أن تطيعها.. كأنها أصيبت بشلل...!!!
سألته عن أمها، وهي متوقعة أنه لن يسمعها، فخيّل لها أنه قال " إنها تستظل بظل شجرة قريبة من بيت،بُنيَ من أجلهما ،بعد وصولهما، على ضفة نهر يجري بين الأشجار والبساتين، تحيط به حوريات جميلات،وطيور متنوعة الألوان والأحجام، وبلابل تغرد، وورود برّيّة وجويّة ، وأزهار بديعة الألوان تعجز ريشة أمهر الرسامين عن نقشها،
ازداد شوقها للوصول إليه، فحاولت مرة ثانية تحريك أرجلها، لكن الماء أعاقها... استغاثت فلم يسمع أحد استغاثتها، أدارت عنقها نحو اليمين، ثم نحو اليسار، كأنها تفتش عمن يزيح هذا الكابوس عن صدرها،أو يفك القيد عن رجليها، أو يميل بها عن هذا البحر الذي تحس انها تغوص فيه حتى وسطها، ويشلّ الحركة من قدميها....
بدأت تخرج أصواتا مسموعة.. غير مفهومة... كأنها تبكي بكاء مغموما، ومناداة مبهمة.. نفضت جسمها المبلول بعرقها، فاصطدم بجسم زوجها الجالس على يسارها... لم يوقضها .. تركها تعيش الحلم، وترك الحلم يمتص حزنها، كما كان يتركها كل مرة، تفرغ هذا الحزن المشحون بكابوس كلّما زارها في ليالي الشتاء الباردة، فيغمر جسمها بالعرق رغم البرد، وفي ليالي الصيف الحارة ليسبح جسمها في عرق الكابوس لا عرق الحرّ ...
وعندما هدأت هزّها برقة المحب، المتفهم، حتى استفاقت... وما أن فتحت عينيها حتى أحست أن جسمها يهتزّ، رافقتها ارتعاشه الخائف الذي وصل مرحلة الأمان حين لامست عجلات الطائرة أرض المطار
مسكها زوجها من يدها، وسار معها إلى باب الطائرة.. وحين وضعت رجلها على أرض المطار، لم تلتفت إلى الوراء..انطلقت على أرض صلبة لا سراب فيها ولا ظلام تريد أن تطير لملاقاة أبنائها الذين كانوا بانتظارها...
تعليق