أصداء رمضانيّة
كلما أعلن عن ثبوت هلال شهر رمضان يطلّ من أعماق ذاكرتي من ذاك الزمن الغابر "مسحراتي الحيّ القديم" بساقه الوحيدة وعكازه المزدوجة الاستناد وطبلته المعلقة في رقبته وقنديله الخافت ينير له أمام خطواته المتعثرة، يشق عتم الليل بترانيم مديحه الصادح، مرددا أصداء رمضانية تنزل السكينة والخشوع في قلوب المؤمنين وموقظا النوّام لتناول وجبة السحور.
استنفرت ذاكرتي كمّا من الهواجس والكوابيس احتلت تلك المساحة من المخيلة لأفعال وهمية لتلك الشخصّية التي أحدثت شرخا في زمن الطفولة البعيد ،ونداءات أمي المزعجة توقظني من أجل تناول وجبة السحور ومساعدتها للإعداد له، ويا ويلي من معاناة الشهر الفضيل جوع وعطش في النهار، صور خيالية مرعبة في الليل، يحدث ذلك عندما أتوجه نحو النافذة وأتابعه بنظراتي من الشقوق الخشبيّة، أراه عملاقا يشق الظلام بعصاه الطويلة يضرب بها عفريت الليل، هدير طبلته يفجر الأصداء، وكم كانت مرعبة تلك الأصوات حين كانت تلفّها ريح كانون لترميها في أقصى الأفق، فتزمجر وتعوي، ولا تهدأ إلا عندما تبتلع الأرض الأمطار أو تجري السيول في أعطاف الطرقات.
المنظر الرهيب الذي يجعل الرعب يدبّ في أوصالي، ويثير صراخي في حنايا البيت حين كانت الريح تجعل رداءه المطري الواقي ذا القلنسوة المدببة عرضة للتحليق عاليا، لحظتها لا يتراءى لذهني إلا الجنيّ صاحب العصا الساحريّة وما هي إلا لحظات وستحط تلك العصا على رأسي وتصبح الحكاية التي تقصّها أمي ليلا حقيقة، وأبدأ بالعويل والصراخ.
احتارت أمي في أمري ،ما الذي يرعبني الى هذا الحد ،تبدأ بتلاوة تعويذاتها إلى أن أهدأ، في البداية اعتقدت أنّها حيل كي لا أصوم في اليوم التالي، فأخذت تزين لي فضائل الصوم، لكّني لم استوعب سوى فرحة العيد والثوب الجديد المعلق في الخزانة والذي أكاد أطير فرحا كلمّا رأيته، حاولت أمي تهدئة حالي لكنّ محاولاتها باءت بالفشل، فسمحت لي بالإفطار، فرحت لكنّ حالة الرعب تسيطرعليّ كلما جن الليل، كان لابدّ من حلّ جذري، استعملت أساليب الترهيب والترغيب معي لتعرف سبب بكائي وخوفي إلى أن اعترفت لها بهواجسي، فما كان منها إلا أن ضحكت من سذاجتي، وقالت كلمتها المعهودة "بسيطة" ،انشغلت أمي في تجهيز كعك العيد مع الجارات، ما أحلى صواني الكعك تدور بالمحبة بين الجيران في الأحياء العتيقة، في الغد يكون العيد ويمتلئ قلبي بالفرح، فلا صوم بعد اليوم ولا كوابيس للمسحراتي ملك الجنّ .
في الصباح استقبلت العيد بثوبي الجديد، وإذ بطرقات الطبلة ومدائح العيد تسبق طرقات لطيفة على باب بيتنا مناديا :"العيدية يا أهل الخير " تكوّمت خلف الباب باكية لكن أمي أصرّت أن أقدم طبق الكعك مع بعض النقود للمسحراتي قائلة:لا تخافي أنا بجوارك، فتحت أمي الباب واختبأتُ خلف فستانها ومددت ما بيدي إليه ورميته بنظرة مواربة وارتددت مرعوبة إلى الوراء، أنه هو بعكازه وطبلته وردائه المطريّ، لكن أين قنديله الذي يبدد عتمة الظلام ويورق بأزاهير السعادة، فضحكت أمي قائلة :"يا ابنتي، إنّه عمّ بكر صاحب البقالة التي في الزقاق الخلفي، هدأت نفسي المضطربة وفي اليوم التالي حملت نقود العيد وأسرعت إلى عمّ بكر ووقفت في الزاوية أرقبه من بعيد، لحظني من بعيد فنادى علىّ، اقتربت منه،: ما بك ؟: أأنت المسحراتي؟: نعم، لم أرعم بكر إلا من وراء الطاولة، لكنّ المسحّراتي بساق وعكاز،وكأنّه فهم نظراتي الحائرة رفع سطح الطاولة الخشبي وتسمّرت عيناي عند ساقه الوحيدة التي دفن ثانيها في تراب الوطن السليب كجزء منه يحكي حكايا النضال الوطني، وعكازه المستندة إلى جوار معطفه المطري، ثم سألته عن القنديل، قدّمه لي فأخذت أداعب أضواءه وألامس بلوره الشفاف، قال: قلبك مثل هذا القنديل ينوّر بنداءات الطفولة البريئة يا ابنتي، ثمّ مدّ يده إلى كومة الحلوى وأفرغها في جيبي قائلا: لا تخافي ورمضان دوما كريم، أجبته: العيد أحلى .
واختزنت الذاكرة عبير الأيام الحلوة، ولم أدرِ أنّ الرعب الحقيقي كان في دخان حرب أهلية طحون قضت على الأخضر واليابس وتوالت العتمات والاشراقات في حياتي كأي انسان يبتلى في أماني لم تتحقق وكوابيس أغلقت الرؤى أمامه وما زلت أحنّ إلى قنديل يشق بنورالحبّ عتمات قلبي ويبدد الظلمة من أفقي وابحث عن إضاءاته بين واحات الأمل ويعبق في ذاكرتي بومضات جذلى تعانق روحي التائهة، لكنّه نور الله الذي أشرق قلبي بالإيمان، واليوم أردد ما أجمل أيام زمان! وما لهذا الشهر الفضيل من نكهة محببة وحضور مميز في ذاكرة الطفولة .
تعليق