جدار وفولاذ
ظل مستلقيا على ظهره، انبثقت منه تأوهات اختصرت الخيط المسافي بين السوداوي والمبيض، رفض ذهنه الرحيل عن تصوراته لأحداث الغد، دفن رأسه الممتليء ضجيجا بين ثنايا الوسادة الحبلى بريش النعام .. ذلك النعام المرهق بمؤخرات العقول المهترئة، همس بصوت ضعيف :
- حتما بعد أحداث الغد سأسن قانونا يمنع الارتزاق اللاحيواني.
تحايل على هواجسه .. منتكسة هي الهواجس ومتمردة، لامس العدد مائة وأرتد معه عكسيا، رحل عنه الرقم 83 مستشهدا بفعل الضجيج المخترق حرمة الأرقام. من بين همسات الأرقام تسللت إليه اغفاءة تخللها عصفورا متناسق الألوان حام حوله حاملا بين منقاريه كفه الأيمن، برفق لامس الطائر كفه الصناعي، مد يده الأخرى ليجذب الكف، أفرد الطائر جناحه واختفى، نهض مبتلا بالعرق ويده جهة السقف.
تبعثرت أشعة الصباح بعشوائية في أنحاء الغرفة، تجرأ شعاع كان كامنا في أزمنة العبودية والسفاهة وغزا فمه المتثائب، تمطى متربعا الفراش، اصطدم بإحمرار الجفون على المرايا، استدار مهندما حول المائدة، استقر كفه الفولاذي في مكانه المعتاد، فتحت عقارب الساعة فمها فأجتاز الحديقة، جلس مهذبا خلف سائقه، مسا طفيفا مست مسارات نظره عناوين الصباح، وقف قليلا وهو يرى صورته المحتلة نصف مساحة الصفحة الأولى، لم تفتح له الذاكرة أبوابها ليتذكر المناسبة التي بحلق فيها في الأرض، سافر متاملا الأرصفة المكتظة بالمتسولين، وصل به الموكب إلى حيث يريد، تأبط جسده وخرج من سيارته المظللة، اقترب من حاشية كاملة من البشر تنتظره دون ملل، واجهات فضفاضة تمتهن ابتسامات الرضا والاستعطاف، هاهي تحاول تقبيل الفولاذ القابع في مقدمة يده، هرول صاحب عوينات طبية واستدعى المتنبيء فصار كومة مديح للفولاذ، قدمه المتنبيء للجمع المصطف بعشوائية خرقاء في الساحة، تقدم بخطوات بطيئة نحو المنصة، أرسل نظرا متفحصا .. مساحة مكتظة بالعاهات وأشباه أناس مجدوعة الأطراف، أطراف مدببة مرفوعة إلى أعلى بهتافات لا تفتر، نزع الفولاذي من اللحم وهتف معهم، صمت فصمت الجميع، رشق الصمت بصوته :
- رفاقي ..، الحال لا يحتمل هشاشات الكلام وأنتم لا تتعاطونها، فلنفعل فعلا يقتل هشاشة الطاعون ..
أصوات متعبة تعالت .. القصاص .. القصاص ..
سن حنجرته مرة أخرى :
- لا جدار يقف في وجه الشروق بعد اليوم .. فلنقتص جميعا ..
فلتت الحبال من الحناجر وانشحن الجو بالصياح وبدموع فرح مسكونة بهاجس الخوف من افتقاد وهج اللحظة .. تعالت الأصوات :
- الجدار .. الجدار .. نريد الجدار ..
اعتلى عسكري المنصة ممسكا بتلافيف الجدار. خاف أن تعم الفوضى، أشار للعسكري مرسلا صوتا قويا :
- نرفض وأنتم همجية الاقتصاص ..
تداخلت الأصوات والرؤى وتشابكت الأطراف المنقوصة، الكل يريد أن ينفذ عقابا وفق طريقته، سد عليهم مسارات الاختلاف، وبإشارة من فولاذه تمددت صناديق الاقتراع في جوف الساحة، تمايزت العاهات زرافات زرافات تدافع عن اقتراحها، انشحن الجو بالطابع الانتخابي وانشغل الجميع بتوقعات الفرز.
تعلقت به الأبصار وهو في المنصة ممسكا بنتيجة الفرز .. جاءهم صوته :
- لم يفز اقتراحا بعينه ويصعب الاقتصاص الائتلافي، سنرمي هذه الوريقات في وجه الجدار ليلتقط واحدة منها ..
تقوقع الجدار وزحف نحوها، التقط واحدة ..
أفسح الجمع مسارا لشاحنة تحمل في بطنها أطرافا بشرية مبتورة، امتطى الجدار الشاحنة وتربع في وسطها، فج الأعضاء، أمسك بساق وأصبع واحد وقربهما من فمه .. فتح فمه ونهض فزعا، الألم يأكل ساقه ويقترب من أصبعه، تلفت حوله يبحث عن الجدار والجمع، حاول أن يسحب ساقه من تحت الأجهزة الواقفة فوقها، تمنى في داخله أن يحمل صندوقه ويذهب، ركله أحدهم فأصدرت غطاءات الكوكولا المثبتة على أطراف الصندوق رنينا، تبعثرت ألوانه التي يمسح بها الأحذية ، رفعته الأجهزة من مقدمة فولاذه وهي تحيط السلطات العليا باحباطها لمحاولة غادرة في الشروع لقتل الشيخ الجداري.
..............
كتب هذا النص حول قوانين سبتمبر 83 سيئة الذكر
والتي طالت فقراء الوطن وقطعت أوصالهم
باسم الشريعة.
تعليق