جدار وفولاذ

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • عبدالمنعم حسن محمود
    أديب وكاتب
    • 30-06-2010
    • 299

    جدار وفولاذ

    جدار وفولاذ
    لم يفلح في اختراق الحصار المحكم والمضروب عليه من قبل الليل، انتابه احساس مرير وهو يحدق في العقارب .. عقارب سويسرية بلهاء ترفض مغازلة نسمات الصباح، بحلق في السقف في محاولة للاقتراب من حلم يبعده عن هذا الليل النافذ. مشحون هذا الظلام وانفعالي بأقانيم طقوس اللقيا المنتظرة على بعد عدة ساعات ليمارس حقه في الاقتصاص.
    ظل مستلقيا على ظهره، انبثقت منه تأوهات اختصرت الخيط المسافي بين السوداوي والمبيض، رفض ذهنه الرحيل عن تصوراته لأحداث الغد، دفن رأسه الممتليء ضجيجا بين ثنايا الوسادة الحبلى بريش النعام .. ذلك النعام المرهق بمؤخرات العقول المهترئة، همس بصوت ضعيف :
    - حتما بعد أحداث الغد سأسن قانونا يمنع الارتزاق اللاحيواني.
    تحايل على هواجسه .. منتكسة هي الهواجس ومتمردة، لامس العدد مائة وأرتد معه عكسيا، رحل عنه الرقم 83 مستشهدا بفعل الضجيج المخترق حرمة الأرقام. من بين همسات الأرقام تسللت إليه اغفاءة تخللها عصفورا متناسق الألوان حام حوله حاملا بين منقاريه كفه الأيمن، برفق لامس الطائر كفه الصناعي، مد يده الأخرى ليجذب الكف، أفرد الطائر جناحه واختفى، نهض مبتلا بالعرق ويده جهة السقف.
    تبعثرت أشعة الصباح بعشوائية في أنحاء الغرفة، تجرأ شعاع كان كامنا في أزمنة العبودية والسفاهة وغزا فمه المتثائب، تمطى متربعا الفراش، اصطدم بإحمرار الجفون على المرايا، استدار مهندما حول المائدة، استقر كفه الفولاذي في مكانه المعتاد، فتحت عقارب الساعة فمها فأجتاز الحديقة، جلس مهذبا خلف سائقه، مسا طفيفا مست مسارات نظره عناوين الصباح، وقف قليلا وهو يرى صورته المحتلة نصف مساحة الصفحة الأولى، لم تفتح له الذاكرة أبوابها ليتذكر المناسبة التي بحلق فيها في الأرض، سافر متاملا الأرصفة المكتظة بالمتسولين، وصل به الموكب إلى حيث يريد، تأبط جسده وخرج من سيارته المظللة، اقترب من حاشية كاملة من البشر تنتظره دون ملل، واجهات فضفاضة تمتهن ابتسامات الرضا والاستعطاف، هاهي تحاول تقبيل الفولاذ القابع في مقدمة يده، هرول صاحب عوينات طبية واستدعى المتنبيء فصار كومة مديح للفولاذ، قدمه المتنبيء للجمع المصطف بعشوائية خرقاء في الساحة، تقدم بخطوات بطيئة نحو المنصة، أرسل نظرا متفحصا .. مساحة مكتظة بالعاهات وأشباه أناس مجدوعة الأطراف، أطراف مدببة مرفوعة إلى أعلى بهتافات لا تفتر، نزع الفولاذي من اللحم وهتف معهم، صمت فصمت الجميع، رشق الصمت بصوته :
    - رفاقي ..، الحال لا يحتمل هشاشات الكلام وأنتم لا تتعاطونها، فلنفعل فعلا يقتل هشاشة الطاعون ..
    أصوات متعبة تعالت .. القصاص .. القصاص ..
    سن حنجرته مرة أخرى :
    - لا جدار يقف في وجه الشروق بعد اليوم .. فلنقتص جميعا ..
    فلتت الحبال من الحناجر وانشحن الجو بالصياح وبدموع فرح مسكونة بهاجس الخوف من افتقاد وهج اللحظة .. تعالت الأصوات :
    - الجدار .. الجدار .. نريد الجدار ..
    اعتلى عسكري المنصة ممسكا بتلافيف الجدار. خاف أن تعم الفوضى، أشار للعسكري مرسلا صوتا قويا :
    - نرفض وأنتم همجية الاقتصاص ..
    تداخلت الأصوات والرؤى وتشابكت الأطراف المنقوصة، الكل يريد أن ينفذ عقابا وفق طريقته، سد عليهم مسارات الاختلاف، وبإشارة من فولاذه تمددت صناديق الاقتراع في جوف الساحة، تمايزت العاهات زرافات زرافات تدافع عن اقتراحها، انشحن الجو بالطابع الانتخابي وانشغل الجميع بتوقعات الفرز.
    تعلقت به الأبصار وهو في المنصة ممسكا بنتيجة الفرز .. جاءهم صوته :
    - لم يفز اقتراحا بعينه ويصعب الاقتصاص الائتلافي، سنرمي هذه الوريقات في وجه الجدار ليلتقط واحدة منها ..
    تقوقع الجدار وزحف نحوها، التقط واحدة ..
    أفسح الجمع مسارا لشاحنة تحمل في بطنها أطرافا بشرية مبتورة، امتطى الجدار الشاحنة وتربع في وسطها، فج الأعضاء، أمسك بساق وأصبع واحد وقربهما من فمه .. فتح فمه ونهض فزعا، الألم يأكل ساقه ويقترب من أصبعه، تلفت حوله يبحث عن الجدار والجمع، حاول أن يسحب ساقه من تحت الأجهزة الواقفة فوقها، تمنى في داخله أن يحمل صندوقه ويذهب، ركله أحدهم فأصدرت غطاءات الكوكولا المثبتة على أطراف الصندوق رنينا، تبعثرت ألوانه التي يمسح بها الأحذية ، رفعته الأجهزة من مقدمة فولاذه وهي تحيط السلطات العليا باحباطها لمحاولة غادرة في الشروع لقتل الشيخ الجداري.
    ..............

    كتب هذا النص حول قوانين سبتمبر 83 سيئة الذكر
    والتي طالت فقراء الوطن وقطعت أوصالهم
    باسم الشريعة.
    التواصل الإنساني
    جسرٌ من فراغ .. إذا غادره الصدق


  • ربيع عقب الباب
    مستشار أدبي
    طائر النورس
    • 29-07-2008
    • 25792

    #2
    اللغة الجميلة التى تبناها النص ( عبد المنعم )
    أحدثت شكلا من أشكالا التغريب .. لا أدري
    ربما يحتاج إلى تركيز أكثر من القارئ
    و هذا ما سوف أفعله فى قراءة تالية لأكون جديرا
    بالحديث هذا النص الجيد !
    ربما تذييلك للعمل هو ما فتح أفق الحالة ، و أظن أن تذييل النص ليس ملزما
    و لنترك الصة تقول ما تقول : كتب هذا النص حول قوانين سبتمبر 83 سيئة الذكر
    والتي طالت فقراء الوطن وقطعت أوصالهم
    باسم الشريعة.

    و كم سيرتكب باسم الشريعة لمهووسي الخلافة و التلاعب بالدين
    وهم يعلمون تماما أن المسألة اختلفت تماما بعد الخلافة الرشيدة و أثناءها أيضا !!

    محبتي
    التعديل الأخير تم بواسطة ربيع عقب الباب; الساعة 20-08-2011, 08:59.
    sigpic

    تعليق

    • محمد فطومي
      رئيس ملتقى فرعي
      • 05-06-2010
      • 2433

      #3
      لو أنّك تتوصّل إلى الذّبذبة التي يبثّ عليها عبد المنعم فإنّ متعة جمّة بانتظارك.
      كما قال الأستاذ ربيع فإنّ النصّ أسلوبا و لغة عبارة عن مهرجان بدائل مجازيّة و إيحاءات و استعارات شديدة التّركيز،حتّى أنّ بوسع العبارة أن تنقل فكرة(كالمتنبّىء مثلا و ما تحيل عليه الدّلالة من تعويل على الشّعوذة و التّنجيم و التّآمر على الطّبيعة بما وراءها).
      البحث مطلوب لذلك أعدت القراءة مرّات و بحثت.كان لابدّ أن أنظر من زاوية الكاتب كي أتحرّر من زاويته و أبني لنفسي منطقة أرى من خلالها الأشياء لكن دون السقوط في فهم خاطىء أصلا.
      فبين أن يكون فهمي خاطىء و بين أن أتّخذ موقفا ما ممّا فهمته بصورة سليمة،فرق كبير.
      و لقد ساهمت الفقرة الأخيرة في فضح حالة الزّيف التي كان عليها أنصار الفولاذ.أنصار القصاص و تقطيع الأوصال و إقامة الحدّ شهوة في الدّم و ليس في تطبيق الشّريعة ـ ثمّ ألم يجدوا في الشّريعة ما هو أنفع للعباد من بتر الأعضاء؟
      بل هم سادة القتل و المشي خلف الجنازات حزانى لأنّ الموت قد يكون فيه بعض الرّاحة للمرحوم.

      "رفعته الأجهزة من مقدمة فولاذه وهي تحيط السلطات العليا باحباطها لمحاولة غادرة في الشروع لقتل الشيخ الجداري."
      قد يكون الشيخ الجداري الملقب في النص بالجدار آنذاك عدوّا للنظام الفولاذيّ ( مقاربة للمدية و السّيف ) لأنّه يعيد الأشياء لمسمّياتها و يقولها كما سنّتها الشريعة فعلا،لا كما أريد بها للشّريعة ،و ما قد يغنموا منها بعد تطويعها و ليّها مائة و ثمانين درجة و غسل الأدمغة من مفازات و سلطان.
      إنّ عدوّهم هو حقيقة ما يلبسونه على أنّه حقيقة.
      و لا وقت لمسح العقول..سيتكفّل الخوف و المجازر العلنيّة بذلك.
      و لكن ثمّة مرتبة في الخوف تفجّر الانتفاضات.أعتقد جازما أنّ الانتفاضات تفجّرها ذروة الخوف لا فرط الشّجاعة.

      جميل و من أروع ما قرأت لك صديقي العزيز عبد المنعم .
      محبّتي.
      مدوّنة

      فلكُ القصّة القصيرة

      تعليق

      • عبدالمنعم حسن محمود
        أديب وكاتب
        • 30-06-2010
        • 299

        #4
        المشاركة الأصلية بواسطة ربيع عقب الباب مشاهدة المشاركة
        اللغة الجميلة التى تبناها النص ( عبد المنعم )
        أحدثت شكلا من أشكالا التغريب .. لا أدري
        ربما يحتاج إلى تركيز أكثر من القارئ
        و هذا ما سوف أفعله فى قراءة تالية لأكون جديرا
        بالحديث هذا النص الجيد !
        ربما تذييلك للعمل هو ما فتح أفق الحالة ، و أظن أن تذييل النص ليس ملزما
        و لنترك الصة تقول ما تقول : كتب هذا النص حول قوانين سبتمبر 83 سيئة الذكر
        والتي طالت فقراء الوطن وقطعت أوصالهم
        باسم الشريعة.

        و كم سيرتكب باسم الشريعة لمهووسي الخلافة و التلاعب بالدين
        وهم يعلمون تماما أن المسألة اختلفت تماما بعد الخلافة الرشيدة و أثناءها أيضا !!

        محبتي
        أستاذي الكبير
        ربيع عقب الباب
        رمضانك كريم
        وتحية طيبة بحجم طيبتك.
        أتفق معك في ما ذهبت إليه
        فأنا لست من رواد التذييل أو التمهيد
        وحالما اتجه هذا النص الذي كتب في مرحلة
        تستدعي قليل من الضبابية أو قل التحايل
        في لحظات تنويره لقاريء غير محلي
        شعرت بضرورة تسليط إضاءة حوله بطريقة أو أخرى.
        راقت لي جدا اشادتك باللغة ومجمل النسيج العام
        مقدر لك هذا الاهتمام سيدي
        ودعواتي لك بالصحة
        وراحة البال
        في هذه الأيام
        المباركة.
        التواصل الإنساني
        جسرٌ من فراغ .. إذا غادره الصدق


        تعليق

        • إيمان الدرع
          نائب ملتقى القصة
          • 09-02-2010
          • 3576

          #5
          زميلي المبدع عبد المنعم حسن محمود:
          عند أيّ نصّ أطالعه لك ...
          أكتفي دائماً بكثير من التأمّل
          وبالقليل من التعبير ..
          فحروفك تلمسها الأيدي ، وتستشعر نبضها ..
          ولكن تفرّ من الأصابع ..حين تقبض عليها بين الأنامل ..
          عاش هذا القلم الذي ينسج في عمق الوجع ، ظلاله
          ومع أطيب أمنياتي ...تحيّاتي أخي الغالي

          تعيش وتسلم يا ااااااوطني ...يا حبّ فاق كلّ الحدود

          تعليق

          • عبدالمنعم حسن محمود
            أديب وكاتب
            • 30-06-2010
            • 299

            #6
            في كثير من مداخلاته يقول لنا م فطومي أن التعقيب حول نصٍ ما ماهو إلا فعل إبداعي موازي للدرجة التي يمكن أن نقول عنه نص رديف. يشعرك بأنك قد أنجزت عملا له قيمة بالفعل. تأمل هذه الرؤى التي لا يمكن لها أن تنزاح عن الذاكرة بعدما التصقت بها كل هذا الالتصاق :
            1/ (كان لابدّ أن أنظر من زاوية الكاتب كي أتحرّر من زاويته)
            2/ (أبني لنفسي منطقة أرى من خلالها الأشياء لكن دون السقوط في فهم خاطىء)
            3/ (فبين أن يكون فهمي خاطىء وبين أن أتّخذ موقفا ما ممّا فهمته بصورة سليمة، فرق كبير(
            إشارات تصنع فجوات في خطاب القص تستهوي المتلقي وتستفزه وتدعوه للتيقظ واتمام ما لم يقله النص أو كان ينوي فعله.
            تأخذ الإشارة الأولى سمة الاقتراب من الزاوية التي يكتب بها الكاتب، وهو اقتراب من السارد أو قل الراوي، تصعب المهمة عبر هذه الإحالة إذا كان الراوي راويا من الخارج، لا يشارك في صناعة الحدث ولا يدعي معرفة بسلوك الشخصية التي في النص.
            عمليا يمكن لهذا الكلام اأن يكون خادعا، ذات الخدعة التي اكتشفها م فطومي، فعرف وفق أدواته المتطورة في القراءة أن الذات الساردة في هذا النص تحديدا ليست محايدة تماما ولا تخفي تعاطفها وانحيازها لبطلها، ليحصل عبر هذا التوصيف أو هكذا أظن على مفتاح زاوية الكتابة.
            عبر التحفيزات التي يبثها السارد بضمير الغائب وهو ضمير ليس بموضوعي في كل الحالات وتأكيداته للمشهد والإعداد له ساقنا م فطومي لإشارته الثانية وكون عبرها زاويته الخاصة التي استندت على عصا قوله :
            (قد يكون الشيخ الجداري الملقب في النص بالجدار آنذاك عدوّا للنظام الفولاذيّ)
            في الإشارة الثالثة والتي تضعنا بين خيارين أرى أنه اتخذ موقفا مما فهمه بصورة سليمة دون أن تقترب قراءته من الفهم الخاطيء عندما قال :
            (ألم يجدوا في الشّريعة ما هو أنفع للعباد من بتر الأعضاء؟)
            شكرا صديقي للوقت الذي منحته لهذا النص، وشكرا كونك جعلتني أكتب هذه الكلمات التي لا معنى لها سوى الثرثرة .. قاتلها الله.


            التواصل الإنساني
            جسرٌ من فراغ .. إذا غادره الصدق


            تعليق

            • عبدالمنعم حسن محمود
              أديب وكاتب
              • 30-06-2010
              • 299

              #7
              المشاركة الأصلية بواسطة إيمان الدرع مشاهدة المشاركة
              زميلي المبدع عبد المنعم حسن محمود:
              عند أيّ نصّ أطالعه لك ...
              أكتفي دائماً بكثير من التأمّل
              وبالقليل من التعبير ..
              فحروفك تلمسها الأيدي ، وتستشعر نبضها ..
              ولكن تفرّ من الأصابع ..حين تقبض عليها بين الأنامل ..
              عاش هذا القلم الذي ينسج في عمق الوجع ، ظلاله
              ومع أطيب أمنياتي ...تحيّاتي أخي الغالي
              وأنا يكفيني تماما
              أستاذتي الفاضلة / إيمان الدرع
              هذا التأمل والذي أعرف أنه لو تحول لكلمات
              لقال الكثير ..
              أشكرك كثيرا
              على كل حرف صادق
              قلتيه في حقي
              وفي حق نصوصي بشكل عام.
              تحياتي
              واحترامي الكبير
              لشخصك المبدع.
              التواصل الإنساني
              جسرٌ من فراغ .. إذا غادره الصدق


              تعليق

              • براق بسيم
                عضو الملتقى
                • 21-04-2011
                • 206

                #8
                نص كبير يجسد بعمق لغته العنوان
                من فولاذ
                شكرا للقلم المبدع
                تقديري

                تعليق

                • ربيع عقب الباب
                  مستشار أدبي
                  طائر النورس
                  • 29-07-2008
                  • 25792

                  #9
                  كل سنة و أنت طيب منعم
                  سنة طيبة وخضراء عليك و على كل السودان الشقيق
                  و الكتاب الرائعين بالسودان

                  محبتي
                  sigpic

                  تعليق

                  يعمل...
                  X