على أن الأمر تجاوز هذين الشاعرين ، فاستعان القرشي بشعراء من مضر وربيعة . ثم تجاوز الأمر الشعر والشعراء وانتهى إلى معاوية ، فأرسل إلى سعيد بن العاصي ، وكان واليه على المدينة ، يأمره بأن يضرب كلا من الشاعرين مائة سوط ، وكان سعيد عطوفا على الأنصار في أيام معاوية كما كان الزبير عطوفا عليهم أيام عمر ؛ وكانت بين سعيد وعبد الرحمن بن حسان مودّة فكره أن يضربه ، وكره أيضا أن يضرب القرشي فعطل أمر معاوية . غير أنه لم يلبث أن ترك ولاية المدينة لمروان بن الحكم الذي أسرع فتعصّب لأخيه وضرب عبد الرحمن بن حسان مائة سوط . هنا ذكر عبد الرحمن بن حسان أن للأنصار سفيرا في الشأم هو النعمان بن بشير فكتب إليه :
ليت شعري أغائب أنت بالشأم خـلـيـلـي أم راقد نعمانُ
أيّـة ًمـا تكن فقد يرجع الغائـب يـومـا ويوقظ الوسنانُ
إن عـمْـراً وعـامراً أبويناوحـراما قدما على العهد كانوا
إنـهـم مـانعوك أم قلة الكتتـابِ أم أنت عاتب غضبانُ
أم جـفاء أم أعوزتك القراطيس أم أمـري به عليك هوانُ
يـوم أنبئت أنّ ساقيَ رُضّت وأتـتـكـم بـذلـك الركبانُ
ثـم قالوا إن ابن عمّك في بلوى أمـورٍ أتـى بها الحدثانُ
فنسيت الأرحام والودّ والصحبـة فـيـما أتت به الأزمانُ
إنـمـا الـرمـحُ فاعلمنّ قناةٌ أو كبعضِ العيدانِ لولا السنانُ
قالوا : فدخل النعمان بن بشير على معاوية ، فذكر له أن سعيدا عطّل أمره ، وأن مروان أنفذه في الأنصاري وحده ؛ قال معاوية : فتريد ماذا ? قال النعمان : أريد أن تعزم على مروان ليُمضين أمرك في الرجلين جميعاً . ويروى أن النعمان قال في ذلك هذه الأبيات :
يـابـن أبـي سـفيان ما مثلُناجـارَ عـلـيـه ملك أو أمير
أذكـر بـنـا مـقـدم أفراسنابـالـحـنْو إذا أنت إلينا فقير
واذكـر غـداة السّاعديّ الذي آثـركـم بـالأمـر فيها بشير
فـاحـذر عـليهم مثل بدر وقدمـرّ بـكـم يـومٌ ببدرٍ عسير
إن ابـن حـسّـان لـه ثـائرفـاعـطه الحق تصحّ الصدور
ومـثـل أيـام لـنـا شـتتت مـلـكا لكم أمرك فيها صغير
أمـا تـرى الأزد وأشـياعهاتـجـولُ خزرا كاظمات تزير
يـصـول حـولي منهمُ معشرإن صلتُ صالوا وهمُ لي نصير
يـأبـى لـنا الضيمُ فلا نُعتَلى عـزٌ مـنـيـعٌ وعـديد كثير
وعـنـصـرٌ في غزِّ جُرثومةعـاديّـة تنقلُ عنها الصخور
وانتهى أمر معاوية إلى مروان ، فضرب أخاه خمسين سوطا ، واستعفى عبد الرحمن بن حسان في الباقي فعفا . ولكنه أخذ يذيع في المدينة أن مروان قد ضربه حدّ الحرّ مائة صوت وضرب أخاه حدّ العبد خمسين ، فشقـّت هذه المقالة على عبد الرحمن بن الحكم وأقبل على أخيه فطلب إليه أن يتم عليه المائة ففعل . واتصل الهجاء بين الرجلين .
ولقد يستطيع الكاتب في التاريخ السياسي أن يضع كتابا خاصا ضخما في هذه العصبية بين قريش والأنصار ، وما كان لها من التأثير في حياة المسلمين أيام بني أمية ، لا نقول في المدينة ومكة ودمشق ، بل نقول في مصر وأفريقيا والأندلس . ويستطيع الكاتب في تاريخ الأدب أن يضع سفرا مستقلا فيما كان لهذه العصبية بين قريش والأنصار من التأثير في شعر الفريقين الذي قالوه في الإسلام ، وفي الشعر الذي انتحله الفريقان على شعرائهما في الجاهلية . هذا دون أن يتجاوز المؤرخ السياسي أو الأدبي الخصومة بين قريش والأنصار ، فكيف إذا تجاوزها إلى الخصومة بين القبائل الأخرى ! ذلك أن العصبية لم تكن مقصورة على أهل مكة والمدينة ، ولكنها تجاوزتهم إلى العرب كافة ، فتعصّبت العدنانية على اليمانية ؛ وتعصّبت مضر على بقية عدنان ؛ وتعصّبت ربيعة على مضر ؛ وانقسمت مضر نفسها فكانت فيها العصبية القيسيّة والتميمية والقرشية . وانقسمت ربيعة فكانت فيها عصبية تغـْلِب وعصبيّة بكر . وقل مثل ذلك في اليمن ؛ فقد كانت للأزد عصبيّتها ، ولحمْيَر عصبيّتها ، ولقضاعة عصبيّتها .
وكانت كل هذه العصبيات تتشعّب وتتفرع وتمتد أطرافها وتتشكل بأشكال الظروف السياسية والإقليمية التي تحيط بها ؛ فلها شكل في الشأم ، وآخر في العراق ، وثالث في خراسان ، ورابع في الأندلس . وأنت تعلم حق العلم أن هذه العصبية هي التي أزالت سلطان بني أميّة ؛ لأنهم عدلوا عن سياسة النبي التي كانت تريد محو العصبيات ، وأرادوا أن يعتزوا بفريق من العرب على فريق . قوّوا العصبيّة ثم عجزوا عن ضبطها ، فأدالت منهم ، بل أدالت من العرب للفرس .
وإذا كان هذا تأثير العصبيّة في الحياة السياسية وقد رأيت طرفا يسيرا من تأثيرها في الشعر والشعراء ، فأنت تستطيع أن تتصوّر هذه القبائل العربية في هذا الجهاد السياسي العنيف ، تحرص كل واحدة منها على أن يكون قديمها في الجاهلية خير قديم ، وعلى أن يكون مجدها في الجاهلية رفيعا مؤثلا بعيد العهد . وقد أرادت الظروف أن يضيع الشعر الجاهلي ، لأن العرب لم تكن تكتب شعرها بعد ، وإنما كانت ترويه حفظا . فلما كان ما كان في الإسلام من حروب الردّة ثم الفتوح ثم الفتن ، قتل من الرواة والحفـّاظ خلقٌ كثير . ثم اطمأنت العرب في الأمصار أيام بني أميّة وراجعت شعرها ، فإذا أكثره قد ضاع ، وإذا أقلّه قد بقي . وهي بعد في حاجة إلى الشعر تقدّمه وقودا لهذه العصبية المضطرمة . فاستكثرت من الشعر وقالت منه القصائد الطوال وغير الطوال ونحلتها شعراءها القدماء .
وليس هذا شيئا نفرضه نحن أو نستنبطه استنباطا ، وإنما هو شيء كان يعتقده القدماء أنفسهم . وقد حدّثنا به محمد بن سلاَم في كتابه "طبقات الشعراء" . وهو يحدّثنا بأكثر من هذا ؛ يحدّثنا بأن قريشا كانت أقل العرب شعراً في الجاهليّة ، فاضطرها ذلك إلى أن تكون أكثر العرب انتحالا للشعر في الإسلام . وابن سلاّم يحدثنا عن يونس بن حبيب أنه نقل عن أبي عمرو بن العلاء أنه كان يقول : ما بقي لكم من شعر الجاهلية إلا أقلّه ولو جاءكم وافراً لجاءكم علمٌ وشعرٌ كثير .
ولابن سلاّم مذهب من الاستدلال لإثبات أن أكثر الشعر قد ضاع ، لا باس بأن نلم به إلمامة قصيرة . فهو يرى أن طَرَفة بن العبد وعبيد بن الأبرص من أشهر الشعراء الجاهليين وأشدّهم تقدّما . وهو يرى أن الرواة الصحيحين لم يحفظوا لهذين الشاعرين إلا قصائد بقدر عشر . فهو يقول : إن لم يكن هذان الشاعران قد قالا إلا ما يحفظ لهما فهما لا يستحقان هذه الشهرة وهذا التقدّم ؛ وإذن فقد قالا شعرا كثيرا ولكنه ضاع ، ولم يبق منه إلا هذا القليل . وشق على الرواة أو على غير الرواة ألا يُروى لهذين الشاعرين إلا قصائد بقدر عشر فأضافوا إليهما ما لم يقولا ، وحُمل عليهما كما يقول ابن سلاّم حمل كثير .
ولكن ابن سلاّم لا يقف عند هذا الحد ، بل هو ينقد ما كان يرويه ابن اسحاق وغيره من أصحاب السِّيَر من الشعر يضيفونه إلى عادٍ وثمود وغيرهم ، ويؤكد أن هذا الشعر منحول مختلق . وأي دليل على ذلك أوضح من هذه النصوص القرآنية التي تثبت أن الله قد أباد عاداً وثمود ولم يبق منهم باقية !
وسنعرض بعد قليل لهذا النحو من شعر عاد وثمود وغير عاد وثمود . ولكننا إنما ذكرناه الآن لنبين كيف كان القدماء يتبيّنون كما نتبين ويحسّون كما نحس أن هذا الشعر الذي يضاف إلى الجاهليين أكثره منحول ، لأسباب منها السياسي ومنها غير السياسي . كان القدماء يتبيّنون هذا . ولكن مناهجهم في النقد كانت أضعف من مناهجنا ؛ فكانوا يبدؤون ثم يقصرون عن الغاية . ومن هنا زعم ابن سلاّم أنه يستطيع أن يروي لنا شيئا من أوّليّة الشعر العربي . فروى أبياتا تنسب لجذيمة الأبرش ، وأخرى تنسب لزهير بن جناب ، ونحو هذا . وسترى أننا نحن لا نستطيع أن نقبل هذا الشعر ، كما أن ابن سلاّم لم يستطع أن يقبل شعر عاد وثمود .
ومهما يكن من شيء فإن هذا الفصل الطويل ينتهي بنا إلى نتيجة نعتقد أنها لا تقبل الشك ، وهي أن العصبيّة وما يتصل بها من المنافع السياسية قد كانت من أهم الأسباب التي حملت العرب على انتحال الشعر وإضافته إلى الجاهليين . وقد رأيت أن القدماء قد سبقونا إلى هذه النتيجة . وأريد أن ترى أنهم قد شقوا بها شقاءً كثيرا . فابن سلاّم يحدّثنا بأن أهل العلم قادرون على أن يميزوا الشعر الذي ينتحله الرواة في سهولة ، ولكنهم يجدون مشقة وعسرا في تمييز الشعر الذي ينتحله العرب أنفسهم . ونحن لا نقف عند استخلاص هذه النتيجة وتسجيلها ، وإنما نستخلص منها قاعدة علمية وهي أن مؤرخ الآداب مضطر حين يقرأ الشعر الذي يسمّى جاهليا أن يشك في صحّته كلما رأى شيئا من شأنه تقوية العصبية أو تأييد فريق من العرب على فريق . ويجب أن يشتد هذا الشك كلما كانت القبيلة أو العصبيّة التي يؤيدها هذا الشعر قبيلة أو عصبيّة قد لعبت - كما يقولون - دورا في الحياة السياسية للمسلمين .
ليت شعري أغائب أنت بالشأم خـلـيـلـي أم راقد نعمانُ
أيّـة ًمـا تكن فقد يرجع الغائـب يـومـا ويوقظ الوسنانُ
إن عـمْـراً وعـامراً أبويناوحـراما قدما على العهد كانوا
إنـهـم مـانعوك أم قلة الكتتـابِ أم أنت عاتب غضبانُ
أم جـفاء أم أعوزتك القراطيس أم أمـري به عليك هوانُ
يـوم أنبئت أنّ ساقيَ رُضّت وأتـتـكـم بـذلـك الركبانُ
ثـم قالوا إن ابن عمّك في بلوى أمـورٍ أتـى بها الحدثانُ
فنسيت الأرحام والودّ والصحبـة فـيـما أتت به الأزمانُ
إنـمـا الـرمـحُ فاعلمنّ قناةٌ أو كبعضِ العيدانِ لولا السنانُ
قالوا : فدخل النعمان بن بشير على معاوية ، فذكر له أن سعيدا عطّل أمره ، وأن مروان أنفذه في الأنصاري وحده ؛ قال معاوية : فتريد ماذا ? قال النعمان : أريد أن تعزم على مروان ليُمضين أمرك في الرجلين جميعاً . ويروى أن النعمان قال في ذلك هذه الأبيات :
يـابـن أبـي سـفيان ما مثلُناجـارَ عـلـيـه ملك أو أمير
أذكـر بـنـا مـقـدم أفراسنابـالـحـنْو إذا أنت إلينا فقير
واذكـر غـداة السّاعديّ الذي آثـركـم بـالأمـر فيها بشير
فـاحـذر عـليهم مثل بدر وقدمـرّ بـكـم يـومٌ ببدرٍ عسير
إن ابـن حـسّـان لـه ثـائرفـاعـطه الحق تصحّ الصدور
ومـثـل أيـام لـنـا شـتتت مـلـكا لكم أمرك فيها صغير
أمـا تـرى الأزد وأشـياعهاتـجـولُ خزرا كاظمات تزير
يـصـول حـولي منهمُ معشرإن صلتُ صالوا وهمُ لي نصير
يـأبـى لـنا الضيمُ فلا نُعتَلى عـزٌ مـنـيـعٌ وعـديد كثير
وعـنـصـرٌ في غزِّ جُرثومةعـاديّـة تنقلُ عنها الصخور
وانتهى أمر معاوية إلى مروان ، فضرب أخاه خمسين سوطا ، واستعفى عبد الرحمن بن حسان في الباقي فعفا . ولكنه أخذ يذيع في المدينة أن مروان قد ضربه حدّ الحرّ مائة صوت وضرب أخاه حدّ العبد خمسين ، فشقـّت هذه المقالة على عبد الرحمن بن الحكم وأقبل على أخيه فطلب إليه أن يتم عليه المائة ففعل . واتصل الهجاء بين الرجلين .
ولقد يستطيع الكاتب في التاريخ السياسي أن يضع كتابا خاصا ضخما في هذه العصبية بين قريش والأنصار ، وما كان لها من التأثير في حياة المسلمين أيام بني أمية ، لا نقول في المدينة ومكة ودمشق ، بل نقول في مصر وأفريقيا والأندلس . ويستطيع الكاتب في تاريخ الأدب أن يضع سفرا مستقلا فيما كان لهذه العصبية بين قريش والأنصار من التأثير في شعر الفريقين الذي قالوه في الإسلام ، وفي الشعر الذي انتحله الفريقان على شعرائهما في الجاهلية . هذا دون أن يتجاوز المؤرخ السياسي أو الأدبي الخصومة بين قريش والأنصار ، فكيف إذا تجاوزها إلى الخصومة بين القبائل الأخرى ! ذلك أن العصبية لم تكن مقصورة على أهل مكة والمدينة ، ولكنها تجاوزتهم إلى العرب كافة ، فتعصّبت العدنانية على اليمانية ؛ وتعصّبت مضر على بقية عدنان ؛ وتعصّبت ربيعة على مضر ؛ وانقسمت مضر نفسها فكانت فيها العصبية القيسيّة والتميمية والقرشية . وانقسمت ربيعة فكانت فيها عصبية تغـْلِب وعصبيّة بكر . وقل مثل ذلك في اليمن ؛ فقد كانت للأزد عصبيّتها ، ولحمْيَر عصبيّتها ، ولقضاعة عصبيّتها .
وكانت كل هذه العصبيات تتشعّب وتتفرع وتمتد أطرافها وتتشكل بأشكال الظروف السياسية والإقليمية التي تحيط بها ؛ فلها شكل في الشأم ، وآخر في العراق ، وثالث في خراسان ، ورابع في الأندلس . وأنت تعلم حق العلم أن هذه العصبية هي التي أزالت سلطان بني أميّة ؛ لأنهم عدلوا عن سياسة النبي التي كانت تريد محو العصبيات ، وأرادوا أن يعتزوا بفريق من العرب على فريق . قوّوا العصبيّة ثم عجزوا عن ضبطها ، فأدالت منهم ، بل أدالت من العرب للفرس .
وإذا كان هذا تأثير العصبيّة في الحياة السياسية وقد رأيت طرفا يسيرا من تأثيرها في الشعر والشعراء ، فأنت تستطيع أن تتصوّر هذه القبائل العربية في هذا الجهاد السياسي العنيف ، تحرص كل واحدة منها على أن يكون قديمها في الجاهلية خير قديم ، وعلى أن يكون مجدها في الجاهلية رفيعا مؤثلا بعيد العهد . وقد أرادت الظروف أن يضيع الشعر الجاهلي ، لأن العرب لم تكن تكتب شعرها بعد ، وإنما كانت ترويه حفظا . فلما كان ما كان في الإسلام من حروب الردّة ثم الفتوح ثم الفتن ، قتل من الرواة والحفـّاظ خلقٌ كثير . ثم اطمأنت العرب في الأمصار أيام بني أميّة وراجعت شعرها ، فإذا أكثره قد ضاع ، وإذا أقلّه قد بقي . وهي بعد في حاجة إلى الشعر تقدّمه وقودا لهذه العصبية المضطرمة . فاستكثرت من الشعر وقالت منه القصائد الطوال وغير الطوال ونحلتها شعراءها القدماء .
وليس هذا شيئا نفرضه نحن أو نستنبطه استنباطا ، وإنما هو شيء كان يعتقده القدماء أنفسهم . وقد حدّثنا به محمد بن سلاَم في كتابه "طبقات الشعراء" . وهو يحدّثنا بأكثر من هذا ؛ يحدّثنا بأن قريشا كانت أقل العرب شعراً في الجاهليّة ، فاضطرها ذلك إلى أن تكون أكثر العرب انتحالا للشعر في الإسلام . وابن سلاّم يحدثنا عن يونس بن حبيب أنه نقل عن أبي عمرو بن العلاء أنه كان يقول : ما بقي لكم من شعر الجاهلية إلا أقلّه ولو جاءكم وافراً لجاءكم علمٌ وشعرٌ كثير .
ولابن سلاّم مذهب من الاستدلال لإثبات أن أكثر الشعر قد ضاع ، لا باس بأن نلم به إلمامة قصيرة . فهو يرى أن طَرَفة بن العبد وعبيد بن الأبرص من أشهر الشعراء الجاهليين وأشدّهم تقدّما . وهو يرى أن الرواة الصحيحين لم يحفظوا لهذين الشاعرين إلا قصائد بقدر عشر . فهو يقول : إن لم يكن هذان الشاعران قد قالا إلا ما يحفظ لهما فهما لا يستحقان هذه الشهرة وهذا التقدّم ؛ وإذن فقد قالا شعرا كثيرا ولكنه ضاع ، ولم يبق منه إلا هذا القليل . وشق على الرواة أو على غير الرواة ألا يُروى لهذين الشاعرين إلا قصائد بقدر عشر فأضافوا إليهما ما لم يقولا ، وحُمل عليهما كما يقول ابن سلاّم حمل كثير .
ولكن ابن سلاّم لا يقف عند هذا الحد ، بل هو ينقد ما كان يرويه ابن اسحاق وغيره من أصحاب السِّيَر من الشعر يضيفونه إلى عادٍ وثمود وغيرهم ، ويؤكد أن هذا الشعر منحول مختلق . وأي دليل على ذلك أوضح من هذه النصوص القرآنية التي تثبت أن الله قد أباد عاداً وثمود ولم يبق منهم باقية !
وسنعرض بعد قليل لهذا النحو من شعر عاد وثمود وغير عاد وثمود . ولكننا إنما ذكرناه الآن لنبين كيف كان القدماء يتبيّنون كما نتبين ويحسّون كما نحس أن هذا الشعر الذي يضاف إلى الجاهليين أكثره منحول ، لأسباب منها السياسي ومنها غير السياسي . كان القدماء يتبيّنون هذا . ولكن مناهجهم في النقد كانت أضعف من مناهجنا ؛ فكانوا يبدؤون ثم يقصرون عن الغاية . ومن هنا زعم ابن سلاّم أنه يستطيع أن يروي لنا شيئا من أوّليّة الشعر العربي . فروى أبياتا تنسب لجذيمة الأبرش ، وأخرى تنسب لزهير بن جناب ، ونحو هذا . وسترى أننا نحن لا نستطيع أن نقبل هذا الشعر ، كما أن ابن سلاّم لم يستطع أن يقبل شعر عاد وثمود .
ومهما يكن من شيء فإن هذا الفصل الطويل ينتهي بنا إلى نتيجة نعتقد أنها لا تقبل الشك ، وهي أن العصبيّة وما يتصل بها من المنافع السياسية قد كانت من أهم الأسباب التي حملت العرب على انتحال الشعر وإضافته إلى الجاهليين . وقد رأيت أن القدماء قد سبقونا إلى هذه النتيجة . وأريد أن ترى أنهم قد شقوا بها شقاءً كثيرا . فابن سلاّم يحدّثنا بأن أهل العلم قادرون على أن يميزوا الشعر الذي ينتحله الرواة في سهولة ، ولكنهم يجدون مشقة وعسرا في تمييز الشعر الذي ينتحله العرب أنفسهم . ونحن لا نقف عند استخلاص هذه النتيجة وتسجيلها ، وإنما نستخلص منها قاعدة علمية وهي أن مؤرخ الآداب مضطر حين يقرأ الشعر الذي يسمّى جاهليا أن يشك في صحّته كلما رأى شيئا من شأنه تقوية العصبية أو تأييد فريق من العرب على فريق . ويجب أن يشتد هذا الشك كلما كانت القبيلة أو العصبيّة التي يؤيدها هذا الشعر قبيلة أو عصبيّة قد لعبت - كما يقولون - دورا في الحياة السياسية للمسلمين .
تعليق