الجيوكونـدا..

صرخ( يوسف) بحماسٍ بالغ عندما شاهد ذاك الوجه الغامض المألوف , ذو الابتسامة المبهمة على أحد أرصفة (العتبة) . أعني بوستراً للوحة( دافنشي )الشهيرة (الموناليزا) ؛ بالطبع ليست اللوحة الأصلية فهي ترقد بأمانٍ تام هناك في متحف (اللوفر ) بـ(باريس) وسط حراسةٍ مشددةٍ بعد محاولة سرقتها مرتين خلال هذا القرن..؟! و يطلق عليها الفرنسيون ذلك الإسم الأقل شيوعاً (الجيوكوندا ).
نظر له البائع نظرةً ذاهلة ؛ كمن ينظر إلى معتوهٍ فرّ تواً من مستشفى المجاذيب..!! ربما لم يكن ذلك الجاهل يعرف قيمتها ؛ فبالرغم من الشهرة الواسعة و المنزلة الرفيعة التي تحتلها (الموناليزا) كأشهر تحفةٍ فنيةٍ في العالم إلا أن هناك الكثيرين ممن لا يعرفونها أو يسمعون عنها هنا في مصر و العالم , و الغالبية العظمى من الذين يعرفون لا يدرون سر شهرتها , و لايزالون يعتقدون أنه يكمن في ابتسامتها الغامضة ..!! و هي لا غموض فيها على الإطلاق ؛ إنها لم تكن أكثر من صورةٍ ذات سماتٍ خياليةٍ ضبابيةٍ لسيدةٍ عادية , ليست على قدر كبير من الجمال , على وجهها مسحة حزنٍ , و من عينيها ينبعث وميضٌ خافتٌ , و نظرة تأمل عجيبةٌ للأشياء , و ترتسم على شفتيها ابتسامةٌ مبهمةٌ باهتة .
..أفاق من شروده على صوت البائع , و هو يقول له بنفاذ صبرٍ, بعدما طال انتظاره:
- إنت هتشتري حاجه ولا.. لأ.. يا أستاذ..؟!
أجابه (يوسف) على الفور:
- آآآه .. طبعاً.. طبعاً..!!
ثم أردف سائلاً:
- بكام دي ..؟!
ابتسم البائع ابتسامةً لذجةً سمجة , و فرك يديه في حركةٍ لا إرادية ؛ كمن أوقع بفريسةٍ في شباك عنكبوت . و ما عليه الآن سوى أن يجذب الخيوط , ليمتص دمائها ببطء . فلقد أيقن بخبرته , من نظرات عينيه المتقدتين ؛ مدى إعجابه بالصوره , و حاجته إليها , فقال هامساً:
- علشان خاطرك يابيه .. بس عشره جنيه..!!
..ياله من ثمنٍ بخس ؛ ألا تعلم أيها الساذج أنها تقدر بملايين الدولارات , بل لا تقدر بثمن . لكنه تمتم قائلاً في نفسه:
- أيها اللص الأثيم .. إن أي بوستر آخر لديك تبيعه بجنيهين أثنين .. أو ثلاثه على أكثر الأحوال..!!
قطب جبينه , و أظهر الامتعاض , ثم قال للبائع:
- لأ.. كتير..!! هما اتنين جنيه بس..!!
استشاط الرجل غضباً , و هتف مستنكراً :
- اتنين جنيه إيه يا بيه..!! إنت عارف دي صورة مين..؟!
بُهت( يوسف) , و دُهش من سؤال البائع له - و هو الأستاذ في التاريخ , و الخبير في الفنون و الآداب- لكن مصدر دهشته الأعظم هو أن يعرف هذا البائع المتجول قيمة هذه الصورة , أو يعلم من هي صاحبتها..!!
سأله( يوسف) بفضولٍ لاذع :
- إنت تعرف دي مين..؟!
أجابه البائع في سعادةٍ طفوليةٍ بالغة , و ابتسم ابتسامه العارف ببواطن الأمور , ثم هز رأسه في خيلاء:
- أيوه طبعا ً أمال ..!! إنت فاكرني جاهل ولا إيه يا بيه..؟! دا أنا راجل متعلم..و معايا دبلون..!!
.. انتظر يوسف إجابته في شغف , و كره ذاك التشويق , و التطويل الممل . الذي يشبه المسلسلات التليفزيونية الرديئة..!!
أردف الرجل بحماس الواثق من نفسه:
- دي الست .. كونداليزا..
استغرق( يوسف) في الضحك , حتى كاد يستلقي على قفاه . فأسقط في يد البائع , و قال متلعثماً:
- هو أنا قلت حاجة غلط يا بيه..؟!
تنبه( يوسف) إلى سلوكه الشائن , الخارج عن اللياقة , و لم يرد أن يجرح مشاعر الرجل , فقال له في جدية , و هو يخرج نقوده من حافظته:
- لا.. لا.. أبداً..!! خلاص ..هما خمسه جنيه أخر كلام عندي .. و لو ماوفقتش هامشي .. و أروح أشتريها من عند واحد غيرك..!!
أخذ البائع يقسم و يحلف الأيمان الغلاظ بالطلاق , و بفقد أولاده التسعة ؛ أنه لم يبعها يوماً بأقل من العشرة جنيهات , إلا أنه لم يلتفت إليه وهمّ بالإنصراف . هنالك فقط ناداه البائع , و اتفقا على الثمن..!!
أمسك بالصورة مطوية بين يديه , فأحس لأول وهلةٍ بقشعريرة نشوة تسري في جسده. إن (الموناليزا) أصبحت ملك يمينه بكل أسرارها , و غموضها , بسحرها و تاريخها العجيب الذي قرأ عنه كثيراً ؛ فلقد تضاربت الأقاويل عن تلك اللوحة كما لم يحدث مع مثيلاتها قط . فبعضهم ادعى أنها كانت لإحدى الأميرات الإيطاليات , و آخرين افترضوا أنها لسيدة عادية من عامة الشعب , و البعض قال أن ( ليوناردو دافنشي) ذاك الفنان الإيطالي المجنون , غريب الأطوار رسم صورته بملامح أنثويه - لما بينهما من تشابه كبير- و أنه كان شاذاً..!! و المتخصصون و المتحذلقون من مؤرخي الفنون و الأديان افترضوا كثيراً من التأويلات الغريبة ..!! قالوا أنها فيها تلميح خفي لمفاهيم الإلهة الأنثى , و أنها تحتوي على العناصر المذكرة و المؤنثة, و تعبر عن التحام الإثنين معاً , و أن (ليوناردو دافنشي) كان يؤمن بالتوازن بين إله الخصوبة الذكرية (آمون) , و إلهة الخصوبة الأنثوية (إيزيس) التي كانت تعرف اختصاراً بـ (ليزا) , و أطلق بنفسه عليها ذلك الأسم الأشهر (أمون ليزا ) الذي حُرِف فيما بعد إلى الـ(موناليزا) , و أن الإسم يدل على الإتحاد المقدس بين الذكر و الأنثى ؛ هذا هو سر (دافنشي) و سر ابتسامة الـ(موناليزا)..!!
- لابد أن أصنع لها إطاراً مذهباً .. يليق بمقامها..
قالها (يوسف) محدثاً نفسه , و هو يتخيل أين سيضعها في بيته المتواضع . عندها طفت على ذهنه فجأة , صورة زوجته(سعاد) . فجفل فزعاً , و قد تصور حالتها حينما ترى اللوحة معه , تخيل توبيخها له ؛ لأنه أنفق جنيهاته الخمس بلا طائل..!! و حديثه لها عن غذاء الروح , فتخيلها تضحك ضحكتها المعهودة , و تقول له أمثالها الفجة , عن الغراب و أمه وكذلك :
- مش لما تبقى تطعم الفُم الأول..؟! كان أولى بيك .. تدخل بأيدك فيها إتنين كيلو فاكهه .. على ولادك..!!
حاول مقاومة شعوره بالذعر , و هدّأ نفسه قائلاً:
- سأكذب عليها كذبةً بيضاء.. و أدعي أن أحد مندوبي شركات السياحة أعطانيها هدية .. من قبيل الدعاية..
إلا أنه هز رأسه نافضاً الفكرة من ذهنه :
- سيفضحني وجهي.. و ستعرف كل شئء..!!
ثم عاد , و قال :
- لأحاول إخفاءها عن عينيها .. في الوقت الراهن.. إلى أن أجد مخرجاً..!!
أطمأن لهذا الخاطر, و دلف إلى شقته خلسة , دون أن ينبس ببنت شفة . استرق النظر , فوجد زوجته كعادتها بالمطبخ . تنفس الصعداء , و مشى بخطى وئيدة على أطراف أصابعه . دخل غرفته , و أغلق الباب بهدوء تام , وقف خلفه ساكناً كالصنم , ريثما يستريح و يسترد أنفاسه . أصاخ السمع حتى إطمأن أن زوجته لم تنتبه لوجوده . أخذ يفكر في المكان الذي يستطيع أن يخفيها فيه عن نظرها.. فما وجد..؟! لم تمهله الأقدار متسعاً من الوقت , فزوجته - لا يدرى كيف..؟!- تشعر دائماً بوجوده , و كأنها تشم رائحته..!! فما هي إلا ثوانٍ قليلة , و سمع دويّ أقدامها تقترب من باب الغرفة , و لم يكن قد تخلص بعد من اللوحة..!! فحاول رسم ابتسامةٍ بلهاءٍ مصطنعة على وجهه , و تسمر في مكانه دون حراك , مخفياً الصورة خلف ظهره . فُتح الباب بقوة على مصراعيه . عقدت المفاجأة لسانه , فلقد كانت زوجته تضع على وجهها قناعاً ضبابي اللون- من مساحيق التجميل - لا يظهر منه سوى العينين , اللاتي بدورهما نظرتا إليه نظرةً حادة , و إلتمعتا بذاك الوميض , ثم ابتسمت إليه في غموض.
فصرخ في هيستريا:
- الجيوكوندااااا..!!
تعليق