(8)
الهــاوية
هناك أشياء كثيرة انتظرت حدوثها , لكنها اندثرت تحت زمنٍ عقيم.
.. تأملت ملامح وجهها المنهك في المرآة , تحسست بأناملها تلك التجاعيد التي خطتها فرشاة الزمن على وجنتيها , و رقبتها . هالها تلك الدوائر القاتمة حول عينيها المنطفئتين , و ملامحها المبهمة الذابلة . انتفضت في هلع تتحسس جسدها الممتلئ بنتوءات مترهلة ؛ كأنها تشاهد نفسها لأول مرة أو تتطلع لواحدة أخرى أمامها ..!!
هي التي كانت ذات يوم , جميلة الجميلات , و ساحرة القلوب , خالبة الألباب , تحيط بها الأضواء و الأقلام في كل مكان تحط عليه , بينما توزع ابتساماتها كالأميرات , تملأ صورها كل الجرائد و المجلات , تصفها بأنها نجمة الإغراء الأولى في مصر خاصة , و الوطن العربي كافة , مطلقة عليها لقب (مارلين مونرو الشرق).
كم سعدت بنظرات الإعجاب , التي تلتهمها إلتهاما , و شعرت بالثقة والخيلاء , فالكل يتسابق لإرضائها , و يتهافت من أجل امضائها , أو تقبيل يديها , و الركوع امام قدميها كأحدى الملكات ..!!
نظرت مرة ثانية بحسرة و أسى إلى المرآة , أين ذاك الخصر النحيل والقد المياس و الصدر النافر في كبرياء , والوجه الملائكي الخلاب ..؟! أين ذهب ذاك الماضي الجميل بكل أفراحه ..؟! وتركها وحيدة تجتر أحزانها , و ذكرى تلك الأيام .
هذه هى المرة الأولى منذ زمن لا تدريه التي تجالس فيه نفسها المنعكسة صورتها أمامها , وكأنها المرة الأولى التي ترى فيها ذاتها .. !!
تذكرت بمزيج من الألم و الندم , كم عرفت من الرجال , و أمضت معهم لحظات من السعادة و الفرح الآثمة , كم سقطت في بحر الخطيئة الموحل , - من أخمص قدميها حتى منبت شعرها- و كم عاشت من أزمنة رديئة .. ؟!
حاولت تذكر عشرات الوجوه التي مرت بحياتها , لكنها لم تستطع تحديد ملامحها - ربما ضعفت ذاكرتها أيضاً - فمر شريط الذاكرة من أمامها رمادياً باهتاً , كما لو أنه فيلم ٌمحترق ٌ , أثر تعرضه للضوء .
الكل تركها الآن ؛ بعد أن استنشق رحيقها , و امتص شبابها - حتى الثمالة- بعد أن خبت جذوة جاذبيتها , و انطفأ جمالها , و أصبحت الآن كماً مهملاً , و عالة على الحياة.
.. أرادت الإفلات من وجع الذاكرة في داخلها المتيبس , التخلص من ثقل الماضي المليئ بالصخب والمتعة والأضواء . أشاحت بوجهها عن المرآة في سرعة , كمحاولة للتأقلم مع واقعها الجديد , و حياة الوحدة و الغربة و الصمت .
..إلا أنها اكتشفت أنها تعيش بلا حاضر , بلا نبوءات للمستقبل , يلفها صقيع الوحدة , كشجرة سنديان عجوز يابسة , في خريف العمر , تنتظر السقوط .
.. انزوت داخل ذاتها و اعتزلت العالم من حولها , فلم تعد تستطع أن تواجههم بهذا الوجه الشائه, و تلك النفس الخربة , أصبحت تشمئز من ذاك الجسد الذي استشرى فيه العفن.
تحركت في داخلها مجهولات شتى , و أحاسيس متضاربة , فقررت أن تستجيب للنداء الذي ألح عليها منذ فترة , و لم يكن لديها الشجاعة لتلبيته , أرادت أن تحرق سنوات الإنتظار بداخلها , و أن تنهي معاناتها بيديها..!!
.. عندما كان الظلام المطبق على أنفاس المدينة يتلاشى , والقمر مكتمل النور كالبدر , شقشقت عصافير الفجر , فآنستها وهدهدت أشباح خوفها في تلك اللحظات الدقيقة المفعمة بالشجن , ملأت رئتيها , بنسيم حياة مختلف النكهة . استجمعت شجاعتها , و تسلقت سور شرفتها , أخيراً تذوقت روحها طعم الحرية , و حلقت عالياً في فضاءات الكون , بينما سقط الجسد إلى الهاوية .
تعليق