أربعة وثمانون قهرًا... من أدب السجون
كانت عيونُ حارس الزنازن تتلصّصُ عليّ بشكل غريب، لم آلفه من قبل..
يتفقّدني ويتأمّل فيّ ..
هل يطمئنّ عليّ هذا الجندي الجافي الطّباع وقد ضاق بتحيّتي له حين طرقتُ باب الزنزانة مستأذنًا للوضوء ذات فجر.. ورد عليّ تحيتي بصوت غليظ خشن:
هل يطمئنّ عليّ هذا الجندي الجافي الطّباع وقد ضاق بتحيّتي له حين طرقتُ باب الزنزانة مستأذنًا للوضوء ذات فجر.. ورد عليّ تحيتي بصوت غليظ خشن:
لا تْصَبّحْ عليّ ولا تلقِ عليّ السّلام ..!!
نظراته التي يرميني بها شزرًا لا توحي بأنّه من البشر الذين يتبسمون ويهشّون للناس ..
هؤلاء أناس لا قلوب لهم .. قُدّت قلوبهم من صخر ..
تكرر ذلك منه سحابة اليوم من الصباح وحتى قبيل العصر ..
ازداد الأمر ريبة.. فها هو ذا الضابط المسؤول عن الزنازن يتردّد على نافذة الزنزانة.. يتأمّل فيّ، وكأنّما يبحث في ملامحي عن شيء ..
يذهب ولا يلبث أن يعود .. يتأمّل في السّحنة التي فقدت رواءها.. وبعض ملامح الجسم النحيل الذي أرهقه الانتظار أربعة وثمانين يومًا وليلة في زنازن الظلم والظلام وقهر الإنسان..
ظل الجنديّ الفظّ والضابط الخبيث يتناوبان على النافذة..
عمّ يبحث هذان الشقيان في ملامح وجهي..؟!
هل ينتظران مني أن أكتب بيدي وفاة صمودي وصبري باسترحام أو انهيار ..؟
كانت نفسي تجيش بأفكار كثيرة بعد أن استبدّ بي الحنين إلى ليث أقرب أبنائي إليّ وأشبههم بي.. إنه أنا..!!
قالها لي أحد الطلاب يوما بانفعال شديد: يا أستاذ، ولَدَكْ يِشْبِهك..!!
صلّيت العصر، وتلَوْت أذكاري وأسلمت أمري لله ..
كتمت أشواقي وأحزاني.. ونظرت إلى النافذة التي كان يطلّ منها الجندي محملقًا في ملامح وجهي الهادئة الوادعة ..
بعد أن ملّ الانتظار غاب قليلا ًثم عاد، وأشار إليّ بإبهامه: تعال..!!
خرجت من الزنزانة..
اصطحبني إلى الضابط إياه..
تكلّف الضابط ابتسامة وقد شعر بانعدام الحول والحيلة ..
إلى أين تريد أن ننقلك..؟
إلى سجن قفقفا ..إلى الجويدة ... إلى ..
إلى سجن قفقفا ..إلى الجويدة ... إلى ..
ــ وين ما بدّكم خذوني .. ليس على الكريم شرط ...!!
-لُمّ أغراضك..
إفراج.. !!
تعليق