كتب مصطفى بونيف
آه ومعنـــاها.....أنا مســؤول !
راسلني الكثير من الأصدقاء والقراء يتساءلون عن سر اختفائي المفاجئ، وانقطاعي عن نشر مقالاتي وحكاياتي الساخرة...حتى أن هناك من اعتقد بأنني قد أكون نزيلا في فندق خمس نجوم (من الذين يحبهم قلبك)، أو بأحد المستشفيات ..بينما اختصر آخرون الطريق وصلوا علي صلاة الغائب ...
الحقيقة أنني لست أسيرا، أو مريضا، أو ميتا...ولكنني (العاقبة عندكم) أصبحت مسؤولا..!، لماذا أنت مندهش هكذا عزيزي القارئ؟..أي والله لقد أصبحت مسؤولا، وصرت من أولئك الذين يجلسون على الأريكة ويصدرون الأوامر...هو شعور – بيني وبينكم- تمنيت كثيرا أن أجربه قبل أن ألقى وجه الكريم، ...من أجل ذلك اسمحوا لي أن أنفش ريشي عليكم وأمشي متبخترا ذات اليمين وذات الشمال، وأعلق أنفي في السماء، وبأن أتكلم معكم ورأسي تنظر إلى شيئ ما في السحاب، واحذروا أن تنادوني باسمي ناشفا من غير ألقاب...وإلا فإنني سأتابعكم قضائيا بتهمة إهانة موظف منفوخ...
اسمحوا لي أن أصف لكم حجم سعادتي – المنقطعة النظير- عندما فتحوا لي باب المكتب لأول مرة..ثم قالوا لي "تفضل يا أستاذ"، كان شعورا رائعا لا يضاهيه في الدنيا إلا شعور العريس في ليلة الدخلة...وأخيرا هاهو ذا أمامي سأحضنه وأبوسه وأتنطط عليه..."الكرسي "...كتمت فرحتي ونظرت في قرف مصطنع إلى الكرسي وقلت لمن حولي " المسؤولية صعبة يا جماعة وإنه ابتلاء، ساعدوني عليه"، ثم ارتميت على الكرسي ...وصرخت أين الختم؟...لأنني وبصراحة لا يعجبني في هذه الدنيا شيئ أكثر من الأختام..
قال لي أحدهم: "الختم في الدرج"...ثم انصرف
فتحت الدرج وتلقفت الختم، وأخذت أضرب به الأوراق..طاخ..طاخ..طاخ، كان المكتب يهتز مع كل ضربة، زلزلت البناية بصوت الخبط، وبين كل خبطة وخبطة أقوم بتلك الحركة الغبية وهي النفخ في الختم..!
ولم يوقفني سوى رنين هاتف المكتب...لا أستطيع أن أصف لكم مدى سعادتي به وهو يرن على مسامعي..أخذت السماعة في كبرياء شديد حتى انتفخ جلد رقبتي "ألو.."...، وإذا به مسؤول في إدارة أخرى يهنئني بهذا المنصب الهام، وضرورة فتح جسور التعاون بين الإدارتين ..كانت إجاباتي لا تزيد على أكثر من كلمة " شكرا، وإن شاء الله"...ثم أقفلت في وجهه السماعة لأواصل متعتي في التنطط على الأريكة....حتى حدثت الصدمة الكبرة عندما اكتشفت وجود صحن من الشكولاطة على الطاولة والتي يفترض أن أخصصها لضيوف مكتبي...لكنني من هواة الشكولاطة ومريديها ...أخذت الصحن وخبأته تحت المكتب...
لفت انتباهي الصورة الرسمية للسيد الرئيس، لم أكن أنتبه إلى أن سيادته على قدر كبير من الوسامة إلا اليوم....كنت أنظر إلى تقاطيع وجهه الجميلة وبدلته الأنيقة التي تناسق لونها الأسود مع ألوان العلم الوطني الذي يقف بجانبه....بل إنني اليوم فقط لاحظت بأن العلم الوطني جميل ..ولم يقطع قشعريرتي الوطنية سوى رنين هاتفي المحمول...نظرت إلى شاشته فإذا به صديقي " محمود"...إنه رفيق الكفاح أيام البطالة والتشرد ...فتحت الخط في وجهه ورحت أضرب الختم على المكتب...وصرخت " لا بأس يا محمود أنا أعمل الآن كلمني بعد الظهر"، ثم أقفلت في وجهه الخط...
"ما أفخم الفخامة!"...عندهم حق سادتنا من المسئولين عندما تغمض عيونهم عن رؤيتنا نحن صراصير الأمة، وتصم آذانهم عنا نحن معشر النمل مادام النمل بلا صوت...فالجلوس على أريكة المسؤولية يجعلك تعرف بأن لمؤخرتك عليك حق!، بدلا من الجلوس على الأرصفة ومقاعد المقاهي التي لا تجلب إلا الهم والبواسير، هل في عمرك سمعت عن مسئول كبير عانى من البواسير؟...
طرق أحدهم الباب ثم استأذن في الدخول، ووضع ملفا على مكتبي قائلا
- هذا الملف يحتاج إلى توقيعكم، سيدي!
أخرجت منديلا من جيبي لأمسح دموعي من شدة الـتأثر، هذه أول مرة في حياتي يقول لي أحدهم "سيدي"...
نظر إلى الموظف في استغراب ثم قال لي "مابك يا سيدي؟"، وما إن كرر لفظة سيدي حتى ارتفع صوتي بالبكاء...قلت له متأثرا " لا تقلق لكنني تذكرت البوعزيزي في تونس، أحرق نفسه في مدينة اسمها سيدي..."
فقال لي الموظف..."اسمها سيدي بوزيد..يا سيدي!"
مصطفى بونيف
آه ومعنـــاها.....أنا مســؤول !
راسلني الكثير من الأصدقاء والقراء يتساءلون عن سر اختفائي المفاجئ، وانقطاعي عن نشر مقالاتي وحكاياتي الساخرة...حتى أن هناك من اعتقد بأنني قد أكون نزيلا في فندق خمس نجوم (من الذين يحبهم قلبك)، أو بأحد المستشفيات ..بينما اختصر آخرون الطريق وصلوا علي صلاة الغائب ...
الحقيقة أنني لست أسيرا، أو مريضا، أو ميتا...ولكنني (العاقبة عندكم) أصبحت مسؤولا..!، لماذا أنت مندهش هكذا عزيزي القارئ؟..أي والله لقد أصبحت مسؤولا، وصرت من أولئك الذين يجلسون على الأريكة ويصدرون الأوامر...هو شعور – بيني وبينكم- تمنيت كثيرا أن أجربه قبل أن ألقى وجه الكريم، ...من أجل ذلك اسمحوا لي أن أنفش ريشي عليكم وأمشي متبخترا ذات اليمين وذات الشمال، وأعلق أنفي في السماء، وبأن أتكلم معكم ورأسي تنظر إلى شيئ ما في السحاب، واحذروا أن تنادوني باسمي ناشفا من غير ألقاب...وإلا فإنني سأتابعكم قضائيا بتهمة إهانة موظف منفوخ...
اسمحوا لي أن أصف لكم حجم سعادتي – المنقطعة النظير- عندما فتحوا لي باب المكتب لأول مرة..ثم قالوا لي "تفضل يا أستاذ"، كان شعورا رائعا لا يضاهيه في الدنيا إلا شعور العريس في ليلة الدخلة...وأخيرا هاهو ذا أمامي سأحضنه وأبوسه وأتنطط عليه..."الكرسي "...كتمت فرحتي ونظرت في قرف مصطنع إلى الكرسي وقلت لمن حولي " المسؤولية صعبة يا جماعة وإنه ابتلاء، ساعدوني عليه"، ثم ارتميت على الكرسي ...وصرخت أين الختم؟...لأنني وبصراحة لا يعجبني في هذه الدنيا شيئ أكثر من الأختام..
قال لي أحدهم: "الختم في الدرج"...ثم انصرف
فتحت الدرج وتلقفت الختم، وأخذت أضرب به الأوراق..طاخ..طاخ..طاخ، كان المكتب يهتز مع كل ضربة، زلزلت البناية بصوت الخبط، وبين كل خبطة وخبطة أقوم بتلك الحركة الغبية وهي النفخ في الختم..!
ولم يوقفني سوى رنين هاتف المكتب...لا أستطيع أن أصف لكم مدى سعادتي به وهو يرن على مسامعي..أخذت السماعة في كبرياء شديد حتى انتفخ جلد رقبتي "ألو.."...، وإذا به مسؤول في إدارة أخرى يهنئني بهذا المنصب الهام، وضرورة فتح جسور التعاون بين الإدارتين ..كانت إجاباتي لا تزيد على أكثر من كلمة " شكرا، وإن شاء الله"...ثم أقفلت في وجهه السماعة لأواصل متعتي في التنطط على الأريكة....حتى حدثت الصدمة الكبرة عندما اكتشفت وجود صحن من الشكولاطة على الطاولة والتي يفترض أن أخصصها لضيوف مكتبي...لكنني من هواة الشكولاطة ومريديها ...أخذت الصحن وخبأته تحت المكتب...
لفت انتباهي الصورة الرسمية للسيد الرئيس، لم أكن أنتبه إلى أن سيادته على قدر كبير من الوسامة إلا اليوم....كنت أنظر إلى تقاطيع وجهه الجميلة وبدلته الأنيقة التي تناسق لونها الأسود مع ألوان العلم الوطني الذي يقف بجانبه....بل إنني اليوم فقط لاحظت بأن العلم الوطني جميل ..ولم يقطع قشعريرتي الوطنية سوى رنين هاتفي المحمول...نظرت إلى شاشته فإذا به صديقي " محمود"...إنه رفيق الكفاح أيام البطالة والتشرد ...فتحت الخط في وجهه ورحت أضرب الختم على المكتب...وصرخت " لا بأس يا محمود أنا أعمل الآن كلمني بعد الظهر"، ثم أقفلت في وجهه الخط...
"ما أفخم الفخامة!"...عندهم حق سادتنا من المسئولين عندما تغمض عيونهم عن رؤيتنا نحن صراصير الأمة، وتصم آذانهم عنا نحن معشر النمل مادام النمل بلا صوت...فالجلوس على أريكة المسؤولية يجعلك تعرف بأن لمؤخرتك عليك حق!، بدلا من الجلوس على الأرصفة ومقاعد المقاهي التي لا تجلب إلا الهم والبواسير، هل في عمرك سمعت عن مسئول كبير عانى من البواسير؟...
طرق أحدهم الباب ثم استأذن في الدخول، ووضع ملفا على مكتبي قائلا
- هذا الملف يحتاج إلى توقيعكم، سيدي!
أخرجت منديلا من جيبي لأمسح دموعي من شدة الـتأثر، هذه أول مرة في حياتي يقول لي أحدهم "سيدي"...
نظر إلى الموظف في استغراب ثم قال لي "مابك يا سيدي؟"، وما إن كرر لفظة سيدي حتى ارتفع صوتي بالبكاء...قلت له متأثرا " لا تقلق لكنني تذكرت البوعزيزي في تونس، أحرق نفسه في مدينة اسمها سيدي..."
فقال لي الموظف..."اسمها سيدي بوزيد..يا سيدي!"
مصطفى بونيف
تعليق