الطفل بين الواقع والرمز في " حين تتعانق الأكف "
للأديبة / وسام دبليز
كانت ثلاثينات القرن المنصرم شاهدة على أحد التحولات الجذرية التي أرساها سيجموند فرويد في مثلثه ( الهو – الأنا – الأنا العليا ) ؛ فقد ظهر جاك لاكان الذي أثث لرسالته الجديدة " العودة إلى فرويد " ، والتي حاول من خلالها إعادة قراءة نظريات فرويد للوقوف على مثالبها واستخراج محاسنها بل وإعادة تصحيح بعض المفاهيم الفرويدية . وقد استفاد لاكان من إسهامات اللسانين أمثال ياكوبسون ودي سوسير لاسيما في ثنائية ( الدال – المدلول ) وهو ما كان يفتقده فرويد وقتها ، فكان خروج لاكان بثلاثية جديدة معتمدة على ثلاثية فرويد في تحليل النفس البشرية من ناحية ومن ناحية أخرى على إسهامات اللغويين ، فكانت ثلاثية ( الواقعي – الرمزي – المتخيّل ). فإذا كان يتمثل الواقعي في أنه ( ما هو موجود ، موجود من قبل ، بعيداً عن متناول الذات ، سواء كان موضوعاً فيزيائياً أم صدمة جنسية [...] إنّ الواقعي هو ذلك الذي يعود دائماً إلى المكان نفسه)[1] ، فإن المتخيل ذو عالم (متغير إذا ما أطللنا عليه من نوافذ الخيال التي لا حصر لها)[2] فإنه القوة الحيوية ذات السلطان التي يعجز المرء عن الوقوف على مداها ، فكانت ( طريقة الرمزية التي يقوم الرمز فيها على التوافق بين المادة المحسوسة والفكرة المتخيّلة)[3]. فالرمزية تغوص في أعماق النفس البشرية وفي غيابات العقل الباطن معبرة عن العواطف المكبوتة عبر رموز تحيل عليها ، حيث لا ترقى اللغة إلى التعبير عنها إلا عن طريق الإيحاء .
وتتعدد معاني الرمز الواحد بين المجتمعات نظراً لاختلاف الموروث الثقافي والأيديولوجيا لدى ذلك المجتمع ، وأحد هذه الرموز هو ( الطفل ) . كثيراً ما يستخدم الطفل كرمز في الأدب العربي بدلالات متعددة منها السياسي كرمز للصمود والمقاومة وولادة الأجيال الجديدة ذات الهموم الثقال ، وهناك من استخدمه كرمز اجتماعي لاظهار مآسي الحروب أو للبراءة والسلام وهناك من استخدمه كرمز ذاتي لصيق بالذات المبدعة ذاتها لإظهار حالات الفرح أو الحزن أو الحب الخاصة به ، وهكذا ( يرى الرمزيون أنّ الصور يجب أن تبدأ من الأشياء المادية [... لتعبر] عن أثرها العميق في النفس ، في البعيد من المناطق اللاشعورية ، وهي المناطق الغائمة الغائرة في النفس)[4] معتمدة في ذلك على حدس المتلقي مما جعل تأويله يختلف من متلقٍ لآخر .
وفي قصة " حين تتعانق الأكف " للأديبة السورية وسام دبليز ، تظهر للعيان تلك اللمسات الرومانتيكية المتمثلة في مصاحبة البطلة لأحزانها وانزوائها على ذاتها والغوص في التأمل والذكريات المؤلمة وإيثار التضحية من أجل الآخرين إلى جانب اللغة الشعرية المسيطرة على النص ، إلا أنّ الكاتبة قد جنحت إلى استخدام ( الطفل ) في القصة بمفهومه الواقعي منذ الاستهلالية لتنتقل سريعاً إلى ذلك ( الطفل ) الرمزي مصورة مراحل تكوينه ثم ولادته ثم وأده لتنتهي القصة على الخوف من ولادته من جديد . وفي هذا المقال ، يتم تناول ذلك الطفل الرمزي ومدلولاته وعلاقته بالطفل الواقعي في النص.
المحاور :
1- الطفل الواقعي
2- الطفل الرمزيّ
3- ( الكف ) كرابط بين الطفل الواقعي والطفل الرمزي
1- الطفل الواقعي :
تفتتح الكاتبة النص باستهلالية واقعية لا تخفى على القارئ ملابساتها : " هو نبضٌ منكَ ينبض ألقاًبين أناملي السمراءالمرتجفة، هو ابنك بين ذراعي .." ، فهذا مشهد ولادة حقيقية في إحدى المستشفيات لطفل صغير ، تأخذه الراوية بين ذراعيها ، مما يستنتج منه المتلقي أنها ربما تكون طبيبة بسبب تواجدها في غرفة العمليات . تنتقل الراوية بهذا الوليد بين عالمين متناقضين ( عالم معقّم واقعي – عالم حالم خيالي) .
** العالم المعقّم الواقعي : حولها حيث العمليات الجراحية والمشارط والخيوط والدماء والمعقمات والمحاليل ، فهو مكان حسي يكون التلامس فيه بحساب خشية التلوّث ، يصير البطل فيه هو الطبيب الذي يكتنف الجميع برعايته ، والذي كان ظهور الطفل الواقعي فيه أهم ما يميّزه .
** العالم الحالم الخيالي : الذي ينقله الطفل إلى البطلة من خلال حواسها ( النبض – الرائحة – الضم - التقبيل ) والتي تستشف من خلالها ذلك الحبيب المغيّب بعيداً . وهي بذلك تعتمد على الذاكرة الحسية لديها في الربط بين هذا الوليد ووالده – حبيبها ، فتلك المشهدية في الوصف من خلال المقارنة بين الولد وأبيه : " هو نبضٌ منكَ ينبض ألقاًبين أناملي السمراءالمرتجفة.. ،هي رائحتك تتسلل كالعطر إلى رئتي فأمتلئ بك،أضمه إلى صدري أنا التي لم أستطع الاقتراب من صدرك ذات لحظة ، أُقبل برقّةبياض أصابعه الصغيرة .. "جسدت ذلك العالم الخيالي ومنحته إمكانية الوجود بشكل مختزل في ذلك الطفل.
يشبه ذلك الاعتماد على الذاكرة الحسية وما يخلفها من تداعٍ للذكريات ما قام به مارسيل بروست في رائعته " البحث عن الزمن الضائع " حينما اجتر ذكريات ملأت أجزاء أكبر رواية عالمية من خلال تذكره ماضيه عند تناوله الشاي مع بسكويت الماندرين !.
إذن ، فلا يخفى على المتلقي دور ذلك الطفل (الحقيقي ) في الاسترجاع الذي استعانت به الكاتبة والذي تأخذ منه بعد ذلك منطلق السرد في القصة .
2- الطفل الرمزي :
"تألم جنيني يرجى الحضور إلى قسم العمليات فوراً .."
يأخذ الطفل ( الرمزي ) دورين أساسيين في القصة ، ( الطفل الموؤود ، الجنين ) لكن في كلتا الحالتين يرمز الطفل إلى علاقة الحب بين البطلة الراوية وحبيبها – والد الطفل الحقيقي .
** الطفل الموؤود : وقد أصّلت له الكاتبة بمهارة منذ بدء الاسترجاع بشكل منطقي ، إذ لا يوجد طفل بلا زواج أو دون التقاء حسي بين رجل وامرأة ، فكان هذا ( الالتقاء ) الروحي بين البطلة والبطل : " يوم أمسك خُنصرُ يدك اليمنى خُنصر يدي اليسرى ثمامتدى بنصر يدك ليمسك ببنصر يدي اليسرى، كانت المرة الأولى وكنا نتذوقُطعماً جديداً للحب حين يضجُ صخباً في أنحاء الجسد " ، لذا فهذا الحدث هو أهم ما في القصة لذا حملت القصة عنوان " حين تتعانق الأكف " ذلك العناق الروحي الذي كان كافياً لظهور ذلك الجنين بداخل البطلة ليبدأ طفلاً يتغذى من روحها قبل دمائها :" فيقطّع كل ما يثبّتُالقلب من شرايين ويتركه كعصفور يرتطم بقفصه في محاولةٍ للخروج ".
ومالبث أن عومل هذا الطفل بالرفض وكأنه ابن سفاح ، وكأن الحب جريمة محرّمة ، فبدلا من علاجه بالزواج عولجت بالتفريق بين الاثنين فكان مصير هذا الطفل الوأد " السعادة التي كُتب لها أن تُجهض قبل أنتَكتمل حين لمح والدي وهو بسيارته بريقاً يشع من أعيننا وطفلاً بريئاً يكادينبثقُ من تعانق كفينا " ، فكان العلاج الخاطئ من جنس ذلك الطفل : " الكف الذي ضربني إياه والدي أمامك ما زال حتىالآن مطبوعاً على وجهي.."، إنه ذلك الكف الكبير الذي فرّق بين كفين صغيرين ليقتل ما نبت بينهما من عاطفة بريئة لم تجد الرعاية الكافية لها ، بل قوبلت بالصفع والرفض :" وبات منذ تلك اللحظة اسمك محرّماً في سماء عائلتي ."
** الجنين : هو الذي أشارت إليه الكاتبة في أول القصة "تألم جنيني يرجى الحضور إلى قسم العمليات فوراً .." ، وهو ذاته الذي تخشى عليه التكوّن حتى اكتماله طفلاً كي لا يعاني مرارة اليتم مثلها عندما فقدت أباها ، أو الرفض كما الطفل الأول ، لقد كان هذا الجنين بمدلوله على الحب الكامن متكوناً ساكناً بداخل البطلة:" بيدي هذه مسحتك من حياتي وطلبتُ منك الابتعاد خوفاً على قلب أمي المريض .. لكني اليوم حين لمست طفلك شعرت أني ألمسك للمرةالثانية وأني لم أنسك يوماً " ، فيستحيل أن يجزم القارئ بأنها لمّا مسحته من حياتها كانت قد محته تماماً ، وإنما هو كالجنين المستكين في انتظار تعانق جديد للأكف كي يبدأ بالنمو مرة أخرى ، لذا ختمت القصة : " أردت مصافحتك لكني هربت خوفاً من ولادة طفلٍثانٍ يولد مسبباً فجيعةً أخرى من تعانق كفينا" .لأنه ذلك العناق الذي يعطي الدفء والاستقرار لذلك الجنين كي ينضج وينمو مجددا .
3- ( الكف ) كرابط بين الطفل الواقعي والطفل الرمزي :
إنه " الكف " هو ذلك الرابط بين الطفلين في القصة ، وإذا نظر المتلقي إلى تلك اللفظة ودلالاتها ، يرى أن الكاتبة قد وظّفتها بأكثر من شكل تبعاً لمدلولاتها اللغوية ، فالكف هو اليد وما لتلك الوحدة السيميائية من دلالات مثل : (الدفء – التلامس – الإحاطة – القرب – بعث الحياة – والعناق / الذي أضافته الكاتبة لهذه الوحدة ) وكل هذه الدلالات تخدم الفكرة الرئيسة حول رعاية الطفل سواء بمعناه الواقعي وما أدى بذلك إلى استعادة الذكريات من الذاكرة الحسية المرتبطة بمجسّات الكف لتتذكر حبها القديم ، أو بالمعنى الإيحائي المتمثّل في الطفل الرمزي ( الحب ) الذي نبض من تلاقي كفها بكف حبيبها .
كذلك استخدم الكف لدلالات أخرى مثل ( المنع – الحبس – الصدّ – الضرب – الإيلام - التفرقة ) وهي التي أدت إلى وأد الطفل الرمزي ( الحب ) الأول حينما ضربها والدها ، وحينما رفعت كفها بوجه من تحب لتبعده عنها :" وددت للحظات كثيرة أن أقطع يدي التي كانت السببفي كل خساراتي، إذ خسرت حباً من نقاء مات بين أصابعي وخسرت أباً مات وهويرفضُ النظر في عيني" ، فهذه الجملة المحورية في القصة هي التي تدلل على وظيفة الكف في النص ، فيقدم ثنائيات ( القرب – الإبعاد ) ( الإحياء – الإماتة ) وغيرها من خلال الطفل كوحدة واقعية وكوحدة رمزية .
خاتمة :
رغم السمة الرومانتيكية الطاغية التي يتسم بها النص وذلك الانطباع المؤلم الشجي الذي تتركه الكاتبة من خلال السرد الشيق واللغة الشاعرية إلا أنّ الكاتبة استطاعت توظيف أدوات جديدة مثل الرمز والذي لا يمكن البت أنه لا يرتبط بالواقع ، بل هو لصيق به وحلقة الوصل بين الواقع والخيال ، فاستخدمت الطفل بمدلولاته بالصورة الواقعية والصورة الرمزية رابطة كليهما " بالكف " الذي يمثل وحدة سيميائية محورية في النص . لقد تمكنت الكاتبة من توصيل رسالتها والانطباع الذي تريد بعثه في القارئ باحترافية محافظة في ذلك على التكثيف الشديد للنص والتركيز المنصب على بؤرة الحدث .
الإحالات :
1- فرويد وبروست ولاكان (قصة نظرية) : مالكولم بوي ، ترجمة : عبدالمقصود عبد الكريم،المركز القومي للترجمة ، القاهرة ، ط1 ، 2009 ، ص 150
2- مدخل إلى مناهج النقد الأدبي: مجموعة من الكتاب ، ترجمة: د / رضوان ظاظا ،عالم المعرفة ، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ، الكويت ، مايو 1997 ، ص 105
3- مدارس النقد الأدبي الحديث: د/ محمد عبد المنعم خفاجي ، الدار المصرية اللبنانية ، القاهرة ط1 ، 1995 ، ص 167
4- النقد الأدبي الحديث: د/ محمد غنيمي هلال ، نهضة مصر ، القاهرة ، ط8 ، مارس 2009، ص 392
تعليق