بنت دوائر الماء

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • سالم الجابري
    أديب وكاتب
    • 01-04-2011
    • 473

    #16
    فتحت عيني على ثلاثة وجوه تنظر لي من أعلى، جفنا وأمها وأخوها، كانوا صامتين ينظرون، صوت النار ووهجها كان يأتي من مكان وراء رأسي، لم أستطع تحريك أي شيء من جسمي، رغبت بشدة أن أبتسم لجفنا لكني لم أستطع، أعدت إغماض عينيّ على قول بون

    -ما أجمل عينيها......فيهما لمعان غريب؟!

    قالت له العجوز مستنكرة

    -ما هذا يا بون!!!....الفتاة تكاد أن تموت وأنت لا همّ لك إلا عينيها ويديها وشعرها.....اصمت.

    قالت جفنا

    -بون معذور يا أمي......ألا ترين؟!؟!....جمالها يدير العقل.....حتى أسفل قدميها أنعم من الحرير لولا هذه الجروح التي أصابتها، من تكون يا ترى؟!؟!

    -لابد أنها بنت أحد النبلاء ، وربّما فرّت من أهلها للجبال لسبب ما.

    -مالذي يدعوك لقول ذلك يا أمي؟

    -ألا ترين ملابسها؟!، إنها من وبر ناعم ومنسوجة بعناية شديدة، راحة يدها ناعمة وأظافرها لامعة ......بالتأكيد أنها لم تكن تعمل أي شيء بيدها وعندها الكثير من الخدم.....ربما من فرّت عنه سيأتي ليبحث عنها ويؤذيها، لا تذكرا أمرها لأحد حتى تفيق ونسألها.

    -أمي......نسيت أن أخبرك، بالأمس جاء كبير الرهبان نابور، وسألني إن كنّا رأينا أي أحد غريب، هل تعتقدين أن الأمر له علاقة بهذه الفتاة.

    -لا أظن يا ابنتي، تعرفين الخلاف بين نابور والملك، ونابور يخشى من تسلل رجال الملك للجبل المقدس ولا يهتم لأمر فتاة هاربة.......هل رأيتِ كيف أرسل الراهب كيخ بالنبيذ ليتأكد من هوية ضيفنا بالأمس.

    -حسبته كرماً منه يا أمي.

    -أيّ كرم ٍ يا ابنتي!!! ما زلت صغيرة وساذجة يا جفنا، لذلك خشيت عليك بالأمس عندما ذهبتِ مع هيت للجدول، كنت أراقبكما.

    -لماذا كنتِ تراقبيننا يا أمي؟!......ماذا كنتِ تخافين؟!

    -سأخبرك في وقت لاحق، الآن حاولي أن تسقي هذه المسكينة بعض الحليب.

    كانت جفنا ترفع رأسي لصدرها وتضع كأس الحليب في فمي بين الفينة والأخرى، في المرة الثانية التي رفعتني فيها كنت قد استعدت حواسي وادراكي، عرفت أن الليل قد حل ورأيت انعكاس خيلاتنا على الخيمة بفعل النار، ابتسمت لها وابتسمت لي......أعادت رأسي للوسادة وهي تطلب مني النوم ثم تمددت بجانبي، أحسست بدفء وباطمئنان وغرقت في النوم.

    صحوت ونور الشمس ساطع على أحد جوانب الخيمة، صوت جفنا وبون وأمهما يأتيني من قرب الباب المغلق في الخارج، استمعت لأصواتهم وضحكاتهم وأنا سعيدة، أحسست بالنشاط وأردت الخروج والجلوس معهم، تذكرت حوارهم في الليل وبدا لي أن كوني هاربة وخائفة سبب جيّد لأبقى معهم. سمعت جفنا تقول أنها ستدخل لترى إن كنت قد صحوت، تظاهرت أني مازلت نائمة، أردتها أن تقترب مني وترفع رأسي بيديها، ما ألطفها وما أشفقها!!! جلست عند رأسي ووضعت يدها على جبهتي، لم أحتمل حينها سعادتي فتبسمت ، لكني أبقيت عيني مغمضة......عندما لمحت جفنا بسمتي نادت على أمها مستبشرة

    -أمي...أمي....تعالي إنها تضحك وهي نائمة!!!

    أحسست بدخول العجوز وبون وجلوسهما بقربي، قالت العجوز

    -تحسسي جبهتها، قد تكون تهذي من الحمى.

    -ليست محمومة يا أمي.

    حينها فتحت عينيّ، كانت ظفيرة جفنا تتدلى وهي منحنية بقربي ، قلبت بصري بين الوجوه الثلاثة المندهشة المبتسمة، أسرعت جفنا وأسندت ظهري لأجلس........كنت أشعر بالخجل الشديد من عيونهم، قالت العجوز

    -كيف تشعرين يا ابنتي؟.....هل يؤلمك شيء؟

    لم أستطع النظر لوجهها وإنما كنت أنظر لأسفل

    -نعم......قدماي تؤلمانني.

    -كنت تمشين حافية على الصخور! ولا تلبسين غير هذا الثوب الرقيق الذي لايقي من برد الجبال القارص خصوصاً في هذا الموسم.

    لم أعرف بماذا أتكلم فبقيت ساكتة أنظر لأسفل، عادت العجوز للكلام

    -يبدو أنك لم تأكلي غير الفاكهة لأيام طويلة، جسمك لم يحتمل البرد، من حسن حظك أن بون وجدك هناك.........من أنتِ يا ابنتي؟

    كدت أن أجيبها بعفوية وأقول لها أني بنت دوائر الماء، لكني تذكرت وقلت "أنا هاربة".

    -هاربة ممن؟

    لم أعرف ما أقول فبقيت صامتة، تدخلت جفنا وقالت لأمها

    -دعيها يا أمي، إنها متعبة ولعلها خائفة.

    نهضت العجوز بصمت وخرجت من الخيمة، أما بون فبقي مكانه ينظر لي كأنه غائب عن الوعي أو كتمثال، استغرقت وقتاً طويلاً حتى فهمت نظراته وماكان يعتريه بقربي.


    للقصة بقية........

    تعليق

    • سالم الجابري
      أديب وكاتب
      • 01-04-2011
      • 473

      #17
      طلبت جفنا من أخيها أن يخرج، اضطرت لمناداته مرّتين لينتبه مع أنه بقربها، عندما خرج ربطت باب الخيمة من الداخل والتفتت لي مبتسمة، فتحت الصندوق الخشبي وأخرجت منه ملابس صوفية كالتي ترتديها غير أنها بلا أحجار ملونة، ألبستني القميص ولفّت عليّ رداء آخر يمتد من خصري حتى قدمي ثم ربطته على خصري بحزام صوفي غليظ........ذكرني حزام الصوف يوم رأيتها أول مرّة في المرعى حين كانت تقضي حاجتها، ضحكت فنظرت لي متعجبة

      -لماذا تضحكين؟!

      -هل ستغضبين منّي لو أخبرتكِ؟

      -لن أغضب......أخبريني لماذا تضحكين.

      -لقد رأيتك بين الأشجار وأنتِ تقضين حاجتكِ......بعدها شددت الحزام على ثيابكِ.....الآن تذكرت فضحكت.

      تحول وجهها الذهبي البياض إلى بلّور أحمر، سكتت للحظات، أخذت عدّة أنفاس وهي تبحث عن شيء في الصندوق، أخرجت قطعة صوفية بيضاء واستدارت ورائي، أخذت تجمع شعري بين يديها وطلبت مني أن أجلس، قالت

      -لم أرَ أجمل من شعرك، سأظفره لكِ........هل حقاً أنت بنت أحد النبلاء......أمي تقول ذلك؟

      -جفنا.....أريد أن أبقى معكِ.....أرجوك.

      -أنا أيضاً أريدكِ أن تبقي معي، كم تمنيت أن تكون لي أخت!!! لكنكِ أجمل من أي أخت تمنيتها........والأهم أنكِ أكثر سذاجة مني.....

      -لماذا تقولين ذلك؟!

      -عندما ذكرتِ لي قضاء الحاجة عرفت أنك أسذج منّي، هذه الأشياء لا نذكرها لأنها مخجلة........أنا متأكدة أنك بنت أحد النبلاء الآن، بنات الأغنياء ساذجات أيضاً.....بل ربما تكونين بنت الملك نفسه قياساً لسذاجتكِ


      للقصة بقية.....

      تعليق

      • سالم الجابري
        أديب وكاتب
        • 01-04-2011
        • 473

        #18
        وهي تقول ذلك كنت أنظر للصندوق الخشبي، تذكرت ما قاله بون عن لمعان عيني، وتذكرت أن جفنا تحتفظ بمرآة في الصندوق....

        -جفنا......أريد المرآة التي في الصندوق لأنظر لعينيّ.


        فوجئت جفنا بما قلته واستدارت لتواجهني والدهشة قد جمدّت ملامح وجهها....

        -كيف تعرفين أن في الصندوق مرآة.......وقبل ذلك كيف رأيتِني في المرعى ولم أركِ؟!؟!

        -لا تغضبي مني يا جفنا......كنت أحب أن أكون بقربكِ فقط......سأقول لك شيئاً آخر، أيضاً رأيت هيت الذي يحبك.

        وكأن اسم حبيبها أزهر وردة حمراء على خدّيها، أمسكت بيدي وجرتني لزاوية الخيمة البعيدة عن الباب وأجلستني بقربها، قالت وهي تمسك بيدي

        -أين رأيتِ هيت وكيف عرفتي أنه يحبني؟

        -لقد رأيته معكِ، وسمعته يقول للراهب الذي جاء بالنبيذ أنه يحبك وأنه جاء هنا من أجلكِ.

        -وماذا قال أيضاً.....أخبريني أرجوك.....لكن .....كيف تعرفين كل هذا ؟!؟!؟!......كأنكِ كنتِ جالسة معنا.

        قبل أن أجيبها سمعنا العجوز تنادي علينا لنفتح باب الخيمة، كانت تحمل طعاماً أعطته لجفنا لتقدمه لي، جلست للأكل وجفنا أمامي،كنت أتناول الطعام بشهية وهي تنظر لي بدهشة، وكلما رفعت عيني لعينها وجدت عينيها تمتلئ أسئلة......بعد أن أنهيت طعامي نادت العجوز على جفنا من خارج الخيمة لتذكرها بأخذ الأغنام للمرعى، قالت لي جفنا

        -هيا لتذهبي معي ولتخبريني بكل شيء.......لكن قفي، أولاً أخبريني عن اسمكِ؟!؟!

        -اسمي راجي.

        -راجي!!!اسم غريب لم أسمعه من قبل!!!!.

        -لقد أعطاني إياه قائد الطيور.

        لقصتي بقية.....

        تعليق

        • سالم الجابري
          أديب وكاتب
          • 01-04-2011
          • 473

          #19
          خرجنا أنا وجفنا لرعي الغنم، سحرني استماعها وأخبرتها بقصتي منذ ولادتي وحتى يوم رأيتها، كانت تدهش أحياناً وتضحك أحياناً أخرى، كانت تسوق الغنم وأنا خلفها كالطفلة أثرثر بكل شيء، عندما أخبرها بشيء عجيب كانت تقف والدهشة تطفر من عينيها، وعندما أخبرها بشيء مضحك كانت تجثو على الأرض من شدة الضحك ويحمر وجهها وتدمع عيناها. هي أيضاً أخبرتني بأشياء كثيرة، أخبرتني كيف التقت هيت أول مرّة، قبل عدّة أشهر كان أخوها بون ذاهب للمدينة ليبيع الأحجار الملونة والقطع الذهبية التي يجمعها من الجبال وضفاف الأنهار، أرسلتها أمها معه لتبيع ما نسجته من ثياب الصوف في السوق، قالت جفنا وهي تحكي لي الحكاية....

          قلّما أذهب للمدينة، ولذلك كنت سعيدة للغاية، وكان بون سعيد أيضاً برفقتي، كنّا نمزح مع بعضنا البعض، كان أحياناً يدفعني أو يلقي بغطاء رأسي ويركض للأمام وأفعل أنا ذلك به عندما أغافله. عندما وصلنا لطرف المدينة كان علينا أن نفترق، واصلت أنا السير في الطريق المستقيم الذي يخترق المدينة من وسطها حتى ساحل البحر حيث السوق الكبير وفيه ساحة تبيع النساء فيها كل شيء، أما بون فكان عليه أن يسير لسوق الصاغة في الجهة اليمنى واتفقنا على العودة واللقاء في نفس المكان قبل مغيب الشمس. أكثر ما كان يخشاه أمثالنا من سكان القرى والجبال الذين يأتون للمدينة للبيع والشراء هم الجنود الفاسدون الذين يفتعلون شتى الأعذار لسلب الناس أشيائهم، هذه هي الحال منذ أن انشغل ملك البلاد بالنزاع مع أخيه على من منهما يتزوج أختهما الوحيدة للحافظ على الدم الملكي.

          أوصاني بون بالسير بين البيوت وعدم السير وسط الطريق حيث يكثر مرور الجنود بخيولهم، لكني أحببت رؤية الناس والعربات الجميلة التي تجرها الخيول، مشيت على الرصيف بمحاذاة البيوت، وكنت أتوقف حين تمر بي بعض النساء أو الفتيات، كنت أعجب بملابسهن وكلامهن وضحكاتهن، ألوان وجوههن صافية ولامعة ليست مثل وجهي الذي أنهكه البرد، شعورهن متدلية على أكتافهن وملفوفة الأطراف، أحذيتهن ملونة ومزينة بالأحجار الكريمة......ماذا أصف وماذا أترك يا راجي......كم أتمنى العيش في المدينة وارتداء الملابس الجميلة والمشي على الطرق المرصوفة!!!

          قبل أن أبلغ السوق سمعت من خلفي نداء ووقع حوافر مسرعة، أصابني الرعب، كان الفارس يصيح بي لأقف، تمسكت بالصرة التي كنت أحملها وهربت في زقاق بين البيوت، نظرت لآخره فإذا به يفضي مباشرة لساحة السوق، أسرعت بالركض لأخرج للساحة وأحتمي بالناس قبل أن يدركني، كنت أركض وقلبي يكاد يفر من صدري، في آخر الزقاق وقبل أن أخرج للساحة نظرت خلفي لأعرف إن كان مازال الفارس يلاحقني، وعندما أدرت وجهي للأمام كنت أصطدم بالفرس وفارسها، وسقطت على الأرض وتتناثرت الثياب من الصرّة.......كان الفارس قد دار بسرعة حول البيت ليتقدمني، توقعت أن ينزل ويسلبني الملابس ويركلني برجله، كنت مستسلمة ولم أتحرك سوى أني رفعت رأسي أنظر ماذا سيفعل.

          نزل الفارس وكنت أنظر لعينيه أبحث عن الشر والغضب، لكنه نزل مسرعاً ليمسك بيدي ويعينني على الوقوف، ثم أخذ يجمع الملابس وينظفها من الغبار ويعيدها للصرّة.......كنت غير مصدّقة، كان يبدو كالنبلاء لكنه بعينين طيبتين، لم أكن وحدي المتعجبة، كان الكثيرون يراقبون الموقف بذهول، كنت أسمعهم يقولون "انظروا لهذا السيّد ماذا يفعل!!!"....

          بعد أن جمع كل الثياب وأعطاني الصرّة أخرج من خرج على فرسه ثوباً صوفياً وناولني إياه ، قال "هذا سقط عنك في طرف المدينة.....عندما رأيتك تمشين بالصرة عرفت أنه لك"
          كان الثوب لي بالفعل، ولابد أنه سقط عني أثناء مزاحنا أنا وبون، لم أستطع حتى أن أشكره من خجلي، ولم يتوقف عن النظر لي حتى ركب فرسه وغاب عني خلف المظلات المنصوبة حول الساحة. أخذت صرتي وبحثت عن مكان خالي بساحة السوق وجلست، سرحت مع خيال الفارس، لم أعرف أنه من الممكن أن يكون هناك رجل بتلك الوسامة، تخيلت في لحظة حالمة لو أنه مد لي يده وهو على ظهر فرسه وأخذني معه وأحاطني بذراعيه......كانت الناس تروح وتجيء من أمامي وأنا في عالم آخر ولم أشعر إلا وقد قاربت الشمس على المغيب، وحينها فقط اكتشفت أني لم أفك صرة الملابس بل وضعتها تحت يدي، ولا عجب أن أحداً لم يسألني عن الملابس.

          لم أكن أعرف كيف سأبرر لبون وأمي لماذا لم أبع الثياب، وكان همّي وخوفي أن تغيب الشمس عليّ هنا، حملت صرّتي وأخذت أعدو نحو الطريق التي جئت منها، لم أبلغ نصف الطريق إلا والشمس قد غابت وخلا الطريق إلا من العائدين من الحقول......كنت خائفة، وكان أقل صوت يجعلني أتلفّت زائغة العينين. عندما خالط الظلام كل شيء أمامي حتى الجبال البعيدة التي أتجه نحوها بدأت أبكي، تخيلت أن بون سيعتقد أني عدت قبله ولم أنتظره وسيتركني ويذهب ....... وفجأة ظهر أمامي ما جعلني أصرخ من الفزع.....لكن صوتاً مألوفاً تكلم قائلاً

          "لا تخافي.....حرصت هذه المرّة أن أقف على مسافة منكِ لكي لا تصطدمين بي، هيّا تعالي اركبي، أخوك ينتظرك عند المفترق"........لم أصدق نفسي، وكأني في حلم، لقد كان ذات الرجل الذي سرحت مع خياله وها هو ينزل من على فرسه ويأخذ بيدي لأركب، حتى لم أسأل نفسي إن كان ما يقوله صدق أم لا.

          ركبت على الفرس وأنا أشعر بالأمان، أخذ بلجام الفرس يقودها ببطء وأنا أتهادى أنظر اليه مسحورة بقامته ومشيته، عند مفترق الطرق ظهر خيال بون واقفاً ينتظر، أنزلني الفارس من على الفرس لألقي بنفسي بين يدي أخي كبنت صغيرة ضائعة وجدت أمها. لاشك أنك تعرفين أن ذلك الفارس هو هيت، كان أخي ينتظره ليبيعه الأحجار والذهب، لكن هيت تأخر عليه كثيراً، وعندما جاءه أخبره أنه كان يلاحق فتاة جميلة ليعطيها شيئاً سقط منها، بالطبع أخبره بون أن تلك الفتاة هي أخته فأصر أن يأتي معه ليراها مرّة أخرى........في الطريق أخبرني بون أن هيت معجب بي....لم أصدق نفسي يا راجي....ولم يفارقني خياله من يومها، لا تصدقين كم أحبه وكم أطمع في قربه، عندما ينظر لي أحس أني ريشة تحملها النسمات أينما شاءت.....



          لقصتي بقية.....

          تعليق

          • سالم الجابري
            أديب وكاتب
            • 01-04-2011
            • 473

            #20
            المسكينة جفنا، كانت تحب هيت حباً عظيماً، كم وكم غنّت له في غيابه، وكم باحت لي بمشاعر تعجز الكلمات عن وصفها، لكن تبيّن بعد ذلك أنه كان يخدعها ويستغل طيبتها وطيبة أخيها وأمها، مثلما استطاع أن يخدع الفيلسوف كيخون حين أقنعه أنه ترك بلاط الملك وامتهن التجارة وأنه جاء للجبل من أجل جفنا.

            أيام انقضت لي مع الثلاثة كانت أحلى أيام عمري الذي مضى ، واليوم أنا مستعدة أن أبيع ما سيأتي من أيام عمري بأيام مثلها، في النهار كنّا نرعى الغنم، وفي الليل كنّا نتظاهر بالنوم حتى تنام العجوز فنبدأ بالهمس حتى يأخذنا النوم. بون كان يخجل منّي بصورة غريبة حتى أنه لم يكن ينظر لعينيّ، وحتى حين أراد المغادرة للبحث عن الأحجار الملونة والذهب أخبر جفنا أن تحمل لي كلمات وداعه وهو كان يراقب من بعيد. كانت العجوز تخبر كل من يأتي أنني ابنة أختها التي توفيت في المدينة ولم يبق لي أحد سواها، وكانت ترسلني بعيداً أو تأمرني بدخول الخيمة كلما جاء زائر خوفاً عليّ من الحسد كما كانت تقول، كنت أطيعها دون أن أفهم حتى ما معنى الحسد. في أحد الأيام كنّا جالسين أمام الخيمة أنا والعجوز وجفنا نأكل طعام الغداء، وقف أحد أصحاب الأغنام عند الحائط الحجري ونادى على العجوز باسمها، كانت المرّة الأولى التي أعرف أن اسمها "أدام"، كان الرجل يريد استعارة مقص لجزّ صوف أغنامه، طلبت منه العجوز أن ينتظر قليلاً حتى تأتيه بالمقص، لكنني أشفقت عليها وعلى جفنا ، كنت قد شبعت وهما مازالتا تأكلان، أسرعت بأخذ المقص من داخل الخيمة وركضت أعطيه للرجل، اندهش كثيراً عندما اقتربت منه، كنت مادّة له يدي بالمقص من فوق الحائط وهو لا يأخذه......كان ينظر لي بعينين مفتوحتين على آخرهما، تركت المقص أمامه على الحائط وعدت لقرب جفنا وأمها، لا حظت انزعاج العجوز لأني ذهبت دون إذنها.

            الآن لست متأكدة من أن تلك الحادثة تسببت في ما حدث لي بعد ذلك، ربما كان ذلك الرجل من عيون نابور أو أنه أشاع عني شيئاً بغير قصد وسمعه نابور، قبل غروب الشمس طلبت منّا أم جفنا أن نجمع الثياب المنشورة وندخلها للخيمة، وكان جمعنا للثياب أنا وجفنا كما هي كل أوقاتنا مناسبة للكلام عن هيت وماذا سيفعلان بعد الزواج، فوجئت بالعجوز تجرني بيدي بشدة وتطلب منّي الدخول للخيمة بسرعة، ألقيت ما في يدي من الثياب ليدي جفنا وأسرعت ، نظرت من الشق الضيق بين دفتي الباب المسدلتين فرأيت ثلاثة رهبان يدخلون من فتحة الحائط، نابور الطويل النحيل ويتبعه اثنان في تذلل واضح، عندما اقتربوا تركت جفنا وأمها الثياب والتقتا نابور وسجدتا له. وقف نابور لبرهة ينظر لهما، انحنى قليلاً ولمس رأس كلٍ منهما لمسة خفيفة وطلب منهما الوقوف، وقفتا ونظرهما للأسفل......قال

            -متى ستتزوج ابنتك الجميلة يا أدام؟

            -سديي نابور.....ببركتك ستتزوج ربما بعد شهر أو شهرين.

            -ومن سيبقى معكِ ليساعدك بعد ذلك؟

            -عندي ابنة أختي اليتيمة ستساعدني في رعي الغنم، وزوج جفنا يقول أنه يريد الإقامة معنا هنا عندما يفرغ من تجارته في المدينة.

            -أين هي ابنة أختك يا أدام......لم أرها من قبل.

            -إنها بالخيمة مريضة وقد جفّ وجهها من البرد الذي لم تتعود عليه في المدينة.

            -حسناً يا أدام.......أحضري لي كوباً من الماء وأريد رؤية ابنة أختك.

            كان خوفي يزداد كلما تكلم نابور، لهجته حادة وصارمة ولا تحتمل التراجع، عندما طلب أن يراني أحسست بقشعريرة تجتاح جسدي، شعور الرهبة من نابور اكتسبته من رهبته في قلوب أدام وجفنا وبون، بل كل سكّان الجبل كانوا يهابونه. دخلت العجوز الخيمة وهي مضطربة، أمرتني أن أسدل غطاء رأسي على وجهي وأن أتبعها حين تخرج، حملت قدحاً مملوءاً بالماء وأمسكت بيدي تجرني وأنا أنظر من خلال ثقوب الغطاء الدقيقة، حتى من وراء الغطاء تجنبت النظر لعينيه، حين اقتربنا ميّزت أحد الراهبين الذين كانا وراء نابور أنه الفيلسوف كيخون، شعرت ببعض الطمأنينة. قدّمت العجوز الماء لنابور، قال وهو يأخذ الكوب

            -لماذا تغطي ابنة أختك وجهها يا أدام؟

            -كما أخبرتك يا سيدي، لقد آذى البرد وجهها وهي تخجل من نفسها الآن.

            كان الكوب في يده وهو ينظر لي، وبدل أن يرفعه لفيه ليشرب، وبحركة مفاجئة، قذف بالماء الذي بالكوب على وجهي وصدري......شهقت وتراجعت من الخوف، وكذلك صرخت أدام وجفنا وهما تنظران لي في فزع. ما حدث هو أن نابور كان يبحث عن شيء ووجده، عندما قذفني بالماء حدث أمر غريب حتى أنا لم أكن أعرفه عن نفسي، لقد اختفى الماء في جسدي دون أن يترك أي أثر، وما إن رأى ذلك نابور حتى خرّ هو وكيخون والراهب الثالث أمامي ساجدين.


            للقصة بقية

            تعليق

            • سالم الجابري
              أديب وكاتب
              • 01-04-2011
              • 473

              #21
              الجزء الثالث




              الآن أنا أعرف أن الرأس الذي وضعه نابور عند قدمي كان يرسم به خطته في نفس اللحظة، أما أنا ساعتها فقد انتابني شعور مفاجئ عطّل كل حواسي، لايمكن تخيل ذلك الشعور إلا لمن جرّبه، عندما يسجد أحدهم عند قدميك وترى رقبته المحنية لك تأخذك سكرة لا تفيق منها إلا بصفعة منه هو ذاته. كانت الدهشة قد أخذت جفنا وأمها فبقيتا جامدتين، وما إن بدأ نابور بترديد صلاته حتى سجدتا لي بدورهما، تذكرت يوم وقفت على قمة الجبل ولم يكن فوقي إلا السماء وكل الأرض تحتي، وها أنا أقف وكلهم ساجدين لي وأولهم نابور الرهيب.

              رفع نابور وجهه لي وقال

              -يا بنت الضياء والماء، يا وليدة الثريا، اكشفي عن وجهكِ المبارك، انظرينا بعينكِ المباركة، ألقي علينا من أنوار عينيك.

              ورفع البقية وجوههم ينظرون، كشفت عن وجهي لهم ونظرت لكل الوجوه أحسست أني أغمرهم بألق عينيّ ونورهما، أخذهم البكاء جميعاً، حتى جفنا وأمها، كانوا جميعاً يرددون خلف نابور صلاته "يا بنت النور أنيري دروبنا، يا بنت الماء طهّري أرواحنا". أحسست بالحنو والعطف عليهم جميعاً، حتى نابور الذي كان يرتعد قلبي لرؤيته عطفت عليه، غدوا في عيني كأفراخ الطير الصغيرة.

              تراجع نابور للوراء عدّة خطوات وهو مازال منحنياً، ثم اعتدل وبصره للأرض، قال
              -أيتها المباركة، من الخير أن تدخلي الخيمة لتستريحي حتى نجهّز موكبك المبارك لمدينة الشمس، قد بنيناها لكِ كأحسن مدينة في الدنيا وانتظرنا هذا اليوم بفارغ الصبر.

              حتى وهو يظهر الذل كان نابور يسيطر على كل شيء، لم أرَ أحداً من الرهبان يتجرأ للنظر في عينيه، كان كلامه كالسيف القاطع لا يرد. تحت ثياب الراهب والجسم الهزيل كان يخفي قاتلاً شرساً لا يهاب الموت، حتى هيت الذي كان يوصف بالفروسية أخطأ التقدير معه فكان مصيره قطع يديه والتردي من أعلى الجبل.

              وأنا أدخل للخيمة لمحت الرجل الذي أخذ مني مقص الصوف يراقب من وراء الحائط، وما مضت ساعات الغروب إلا وكان أكثر سكّان قرى الجبل يحيطون بالمكان وقد أشعلوا النيران احتفالاً بي، أرسل نابور كيخون للمعبد القريب وأصدر أمره بضرورة حضور الجميع، أما الراهب الآخر وكان شاباً يافعاً فطلب منه الانطلاق نحو قمة جبل الشمس حيث المدينة والمعبد الكبير ليسيّروا الموكب ويبدأوا استعدادهم لوصولي.

              عندما أتذكر الآن ما فعله نابور تلك الليلة أقدر كم هو داهية، لقد نادى على أم جفنا لتخرج له من الخيمة، وعندما خرجت طلب منها شراء الأغنام بسعر كبير فباعتها له، بعد ذلك أمر بذبحها كلها احتفالاً بي كما قال ووزعها على الذين تجمعوا حول المكان، كنت أكثر سذاجة من جفنا حين صدقت كرمه في جرّة النبيذ، وأما العجوز فقد كانت فرحة بالمال وقالت أنه أول بركتي عليها. في الحقيقة كان نابور يريد إبقاء مريديه من سكّان الجبل حول المكان خوفاً من رجال الملك الذين كان يعلم علم اليقين أنهم يبحثون عنّي هم أيضاً، وليس من سبب أفضل من اللحم المشوي والنبيذ لإبقائهم.

              عاد كيخون ، أو كيخ كما كان يعرف بين الرهبان، عاد ومعه أكثر من عشرين راهباً يحملون رايات سود نصبوها عند مدخل الحائط وحوله، جاؤا أيضاً بجرار نبيذ كثيرة وزعوها على المريدين.

              في داخل الخيمة كنّا أنا وجفنا والعجوز، أنا وجفنا كنا نسترق النظر من شق الباب وكأننا نراقب حدثاً لا يعنينا، لم أكن بعد مدركة لما يحدث، لكنني بيني وبين نفسي كنت أحس بإثارة أن كل هذا يحدث من أجلي،قالت لي جفنا بكل نور برائتها

              -أرجوك باركيني أنا وهيت.

              -كيف أفعل ذلك يا جفنا، لا أعرف كيف أبارك.

              -سيعلمك سيدنا نابور كيف تفعلين كل شيء.

              -جفنا أرجوكِ أن تذهبي معي لمدينة الشمس، وهيت أيضاً يستطيع أن يأتي معنا وأمك وبون.....سأبارككم كلكم.

              قطع حديثنا الصمت المفاجئ في الخارج، كنا قد انشغلنا بالحديث عن المراقبة، ولمّا عاودنا النظر رأينا نابور يقف فوق جذع منصوب في وسط الساحة ولهب النيران ينعكس على قامته الطويلة وصفحة وجهه المحمرة، نظر حوله للجموع المتلهفة لسماعه.....قال

              -يا أبناء السماء، ويا خلفاء الأرض، ها قد جاءت الرحمة، ها قد خصّتكم بها السماء ولم تخصّ بها غيركم. كما تعلمون لقد أفسد الملك السابق الدم الملكي وأدخل عليه دماً فاسداً من خليلته الفاسقة نيلا، فكانت النتيجة كما رأيتم وسمعتم، ولدان فاسدان وبنت واحدة يتقاتلان عليها، وكعادة السماء الرحيمة أرسلت من يجدد الدماء الطاهرة ويلد لنا سلالة ملوك طاهرين أنقياء الدم.........فلتقتربوا منّي جميعاً، سنسجد للسماء شاكرين معترفين بالفضل، ونقسم معاً على نصرة بنت السماء حتى تطهر مملكتنا من الدم النجس.

              ثم التفت ناحية الخيمة وقال

              -فلتخرجي علينا يابنت السماء.....فلتخرجي لتباركينا ولتشهدي علينا ولتأخذي منّا العهد.


              لقصتي بقيّة.......

              تعليق

              يعمل...
              X