نص «ذاكرة الأشجار» رواية محمد جبريل الجديدة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • د. حسين علي محمد
    عضو أساسي
    • 14-10-2007
    • 867

    #16
    ـ 16 ـ

    ألقى نظرة سريعة على الناحية المواجهة ، امتداد نصوح إلى محطة القطار مزدحم بعربات اليد والباعة والمارة ، والغروب القريب يدفع محل كريشة والمحال المجاورة إلى الإضاءة . رأى عبد الرحيم بائع الأقمشة فى الدكان المقابل للكنيسة . شتمه المسيو ميكيل حين عرض الزواج من دومينيك . يقف خلف البنك بقامته القصيرة ، وشعره المفلفل ، وبشرته السمراء ، ووجهه المستدير ، والشفتان الممتلئتان ، يعلوهما أنف أفطس . الأرفف من خلفه ، رصت فوقها أثواب القماش ، يقيس ما يعد لبيعه بالمتر الخشبى . كان الرجل ـ فى رواية سيلفى ـ قد كون ثروته من تجارة السوق السوداء ، ومن بيع أكفان الموتى . أضاف إلى بيع الأقمشة بالبطاقات ـ فى أعوام الحرب العالمية الثانية ـ مواد التموين التى تباع بالبطاقات : السكر والزيت والصابون والشاى . خصص لبيعها دكاناً صغيراً ، ملاصقاً .
    مال إلى شارع نصوح الهندى . الكناس العجوز يكوم أوراق الشجر المتساقطة فى جانبى الشارع .
    قبل أن يميل فى اتجاه الفيلا ، لامست أنفه رائحة الياسمين ، ذابت فى أريجها روائح القمامة فى الخرابة المهجورة أول الشارع ، والبرك الصغيرة المتناثرة .
    طالعته ـ بمفردها ـ تستند بكوعها على سور الشرفة . أحكمت الروب المشجر حول نفسها ، وتطلعت إلى الطريق الخالية ، من خلال أغصان الشجر التى تساقط معظم أوراقها .
    قالت لنظرته المتلفتة :
    ـ دومينيك مريضة .
    ونترت قطرات مطر حملتها الريح إلى داخل الشقة :
    ـ صحبها عياد إلى الطبيب .
    فطن إلى أنه لا يوجد فى البيت سواهما ، سيلفى وهو ، ارتباكه وكلماتها المتوترة .
    عرف من كلماتها أن دومينيك تقوم بأعمال البيت ، لا تشاركها خادمة مقيمة فى البيت ، أو تتردد عليه .
    ناوشه السؤال ، إذا كانت هذه حياة أسرة ، كانت أمها أميرة ، وكان أبوها ـ قبل رحيله ـ موظفاً فى بنك أجنبى ؟
    الفيلا تشى بعز قديم ، لا يجد امتداداً فى حياة أهلها .
    أهمل ما هب عليه من الريح الساخنة ، تعمق الاختلاف وما يباعد بينهما ، حتى الحياة فى فيلا الزيتون ، وفى شقة المواردى ، تجعل لكل منهما عالمه الخاص ، لا صلة له بالآخر .
    قال ليبدد الصمت المنفعل :
    ـ هل لا يزال أنطوان يرفض زواجنا ؟
    قالت :
    ـ أدرك أنه لا فائدة ، وإن فرض مقاطعة صامتة !
    ـ هل أكلمه ؟
    ـ سيتصور كلامك ضعفاً .
    وأشاحت بذقنها :
    ـ من كنت أخشى غضبهما ماتا .
    ووشى صوتها بالاستياء :
    ـ أنطوان تهمه أخلاقنا ، لكنه بلا أخلاق ، ما يفعله لمجرد السيطرة علينا !
    زادت من إحكام الروب حول صدرها :
    ـ برد ؟
    كانت الريح تعصف بأشجار الحديقة . يصدر عنها ما يشبه الحفيف أو الوسوسة . يتوالى سقوط الثمار على الأرض فى ارتطام مكتوم . رءوس الأشجار تهتز ، وهبات الهواء الباردة تنفذ من بين الفروع . تنفض قطرات الماء العالقة بها ، تتناثر القطرات فى المساحة وراء إفريز الشرفة وداخل الفيلا .
    ثم وهى تتهيأ للقيام :
    ـ لندخل ..
    وعلا صوتها بلهجة مرحبة :
    ـ خروج دومينيك فرصة لتشاهد حجرتنا ..
    الحجرة تطل على منور يفصلها عن البيت المجاور من الخلف . جدرانها من عروق الخشب المطلية باللون الأبيض . فى الوسط سجادة صغيرة ذات ألوان وكومودينو فوقه فازة من الكريستال ، فيها زهور صناعية بهتت ألوانها . على الجانبين سريران منفصلان ، أحدهما ـ الذى اختارت سيلفى الجلوس عليه ، منكوش الأغطية .
    لا يدرى من همس بالنداء ، ومن اقترب بالاستجابة .
    نزعت الروب . كومته ، وألقته على السرير جوارها .
    قالت :
    ـ هنا أدفأ .
    التقطت نظرته المحدقة فى بطن ساقها .
    وهى تفرد راحة يدها فى وجهه :
    ـ عينك !
    قال :
    ـ تتكلمين كالمصريين !
    ـ أنا كذلك بالفعل ..
    ومالت برأسها ناحيته :
    ـ من تظننى ؟
    فطن إلى النهدين المتحررين من السوتيان ، تحت قميص النوم الأسود ، المطرز بالدانتيل . يشى المنبت باستدارتهما المتماسكة ، وطزاجتهما . شعر ـ للمرة الأولى منذ تعرف إليها ـ بتوتر فى ذكورته .
    مدفوعاً بجرأة لم يعهدها فى نفسه :
    ـ ممكن ؟
    اتسعت عيناها بالتساؤل ..
    همس :
    ـ ألمس صدرك ؟
    وضعت فى عينيها ليناً محرضاً :
    ـ ما يمنعك ؟
    وشى ارتجاف أصابعه بارتباكه . حاول الملامسة بالجرأة المواتية . ترك لأصابعه الإبانة عن ألق التعرى ، لامس الجسد الباذخ بيدين تائهتين . لفت ذراعيها وساقيها حول جسده ، اجتذبته فيعجز إلا عن إروائها . جاست اليدان فى الأحراش الناعمة الباذخة ، وما كانت العينان تخالسه النظر . باحت الأسرار بطلاسمها . اختلطت ، وتشابكت ، وجوه وملامح وكلمات : شارع المواردى ، وفيلا الزيتون ، وغناء المسيو ميكيل ، والانتظار ، والشوق ، واللهفة ، وتهويمات الأحلام ، والشبق ، والرهبة ، والتوتر ، والاكتشاف ، والفقد المستعاد ، واندفاع الطوفان ، وإهالة التراب على جسد الأم ، واجتذاب الدوامة للقرار الذى لا يدركه ، وميدان ابن سندر ، وتعالى أجراس الكنيسة ، وعظات الأب يوحنا ، وقول الخالة إيفون : هل توافق على أن تحتفظ سيلفى بدينها ؟ والنافذة المطلة على النيل ، وزفرة السيدة كاترين : لم تعد الزيتون كما كانت ، وزحام شارع السلطان سليم ، واستطالة الظلال ، والإيماءات ، وتوسط قوس قزح وسط السماء ، وتطوح الذاكرون ـ على أنغام الأورغن ـ فى خيمة الصوفية ، وأبحار القارب فى أمواج متلاطمة ، وعلو أجراس النشوة ، وترامى صوت أم كلثوم من راديو قريب : شمس الأصيل نورت فوق النخيل يا نيل . وثمة القرب والبعد والانثناء والتقلب والتمدد والعناق والتصلب ، وهمس الغمغمات والتمتمات والدمدمات ، والأنين الخافت ، والعينين المغمضتين ، والشفتين السخيتين بما لم يتوقعه ، والأُفْ التى لا يدرى إن كانت تعبر عن الألم أم اللذة ، وإن توضحت النشوة فى انثناء الإصبع الكبير للقدم ، وتمزيق الأظافر لبشرة الذراعين يشى باللذة ، ويحض عليها . تشابكت الأيدى والأقدام ، بدا الجسدان قطعة واحدة ، متكورة .
    ...........
    (يتبع)

    تعليق

    • د. حسين علي محمد
      عضو أساسي
      • 14-10-2007
      • 867

      #17
      ـ 17 ـ

      تنقل ـ بألفة المكان ـ بين الصالة ـ لم يعد يقصر جلوسه فيها ـ والحجرات المحيطة بها . البوفيه الأسود المغلق ضخم بمساحة الجدار ، خلف الأنتريه ذى الكنبة والكرسيين والمنضدة الرخامية . علق فى أوسط الجدار جسد المسيح العارى على الصليب ، وإكليل الشوك على رأسه ، والطعنة فى جنبه الدامى ، إلى جواره صليب من العاج الأسود ، أهداه للمسيو ميكيل تاجر قبطى من المتعاملين مع البنك .
      حجرة المائدة فى زاوية بين المدخل وجانب الحديقة . تلاصقها حجرة نوم أنطوان وجان . الجدران مكسوة بالورق الملون ، الترابيزة المربعة الصغيرة ، المغطاة بمفرش كروشيه أبيض ، تفصل ما بين السريرين ، بينهما ـ أعلى الجدار ـ لوحة ـ بدا أنها منقولة عن كارت بوستال ـ لامرأة عارية ، ممددة على شيزلنج . إلى جوار النافذة المطلة على الحديقة والشارع ، دولاب ملابس من ضلفتين ، ومكتبة صغيرة علقت على الجدار . فى المنتصف طاولة خشبية مستطيلة ، يتقابل فى طرفيها كرسيان ، خمن أنها لتناول الطعام والكتابة . فى يمين الصالة ، حجرة نوم دومينيك وسيلفى . تتوسط الجدار لوحة فيها خضرة منبسطة وأشجار وأبقار ترعى . قرأ على العلبة الصغيرة كالحق عبارة " المناولة الأولى " . دقق فى الصورة . لم يتأكد ما إذا كانت صورة الطفلة الصغيرة لدومينيك ، أو سيلفى . يشى بذلك الذبول الذى يشحب الصورة ..
      تقابل الحجرة حجرة نوم الأبوين ، تركها الأب منذ أقعدها المرض فى السرير ، يتمدد على كنبة الصالة ، أو يجلس فى الردهة الخالية ، يغنى ، أو يقرأ الصحف ، أو يسلم عينيه لإغفاءة .
      فى نهاية الصالة ، إلى اليسار ـ طرقة ضيقة ، مفروشة بسجادة طويلة ، تفضى إلى حجرة الصالون ، وإلى الحمام والمطبخ .
      لم تعد الحجرة مغلقة ، كان تصوره أنهم يحتفظون بأثاثها المطعم بالذهب ، والكراسى ذات الكساء الحريرى الدمسقى ، المتداخل الألوان ، والنجفة المورانو ، والسجادة العجمية الفاخرة .
      تفتح دومينيك النوافذ على الجانبين ، ومن الخلف ، بينما تظل نوافذ الواجهة مغلقة ، لا تفتح إلا حين تنشغل دومينيك بتنظيف الشيش والزجاج ، أو لتأذن للهواء ـ وقت الصباح ـ بالدخول . إذا حل الشتاء ، يغلق زجاج النوافذ ، ويظل الشيش مفتوحاً للنور .
      الأشجار ـ خلف الحديقة ـ لم يقلمها الجناينى ، فتكاثفت ، ألقت ظلالاً دائمة على النوافذ الخلفية . اكتفى أنطوان بنفض رأسه لشكوى دومينيك من أن فروع الأشجار لامست النوافذ بما قد يجعل فتحها صعباً .
      زقزقة العصافير فى الصباح الباكر ، وفى وقت الغروب ، تعلو بما يغيب بقية النهار . تتشابك ، تبدو كالصراخ المستغيث .
      هبط الدرجات الخمس المفضية إلى الحديقة ، والباب الحديدى الخارجى . مال إلى اليسار . نزل البدروم ـ أسفل الفيلا ـ فى نهاية ممر الحديقة . اشتد المرض على الأم ، طلب أنطوان معاونته فى نقل قطع اُثاث من حجرة الأبوين إلى البدروم . لم يعد فى الحجرة سوى السرير الذى ترقد عليه الأم ، وبوفيه مغلق وضعت حاجياتها فيه ، وفوقه .
      أضاء أنطوان لمبة تدلت من سقف البدروم ، تكومت قطع الأثاث على الأرضية البلاط ، ولصق الجدران ، وفى الأركان : كراسى محطمة ، مرتبة صغيرة سودها التراب ، علبة صفيح مغلقة ، أجزاء من أجهزة كهربائية ، ملفات قديمة ، بيانو منزوع الأسلاك ، صندوق بيرة زجاجاته ناقصة ، فازة فخارية مكسورة العنق ، سلال متداخلة ، لوحة مرور علاها الصدأ ، فاختفت أرقامها .
      *
      قالت :
      ـ يهمك الأمر ؟
      غالب ارتباكه :
      ـ ألا يهمك ؟
      وهى تشيح بيدها :
      ـ إنها حادثة قديمة ..
      ـ من ؟
      ـ كنت صغيرة ..
      ـ لابد أنك تذكرينه .. من هو ؟
      ـ صديق لأخى أنطوان ..
      وشردت بعينيها فيما يشبه التذكر :
      ـ دخل حجرتى ـ ليلة ـ بعد عودتى إلى البيت . لم أستطع المقاومة ..
      ـ وهل أخبرت أنطوان .. أو أمك أو..
      قاطعته فى لهجة مستغربة :
      ـ ماذا كانوا يفعلون ؟
      قال فى سرعة ، ليقضى ـ ربما ـ على عدم التصديق فى داخله ، إن حياتها لا تعنيه من قبل أن تعرفه .
      وقال :
      ـ ما مضى من حياتك ملك لك تستطيعين إخفاءه .
      أضاف بلهجة متواطئة :
      ـ أمامنا حياة جديدة !
      وومضت عيناه بالتذكر :
      ـ من رفيق ؟
      أعادت نطق الاسم :
      ـ رفيق ؟
      ـ ذكرت اسمه فى أثناء ..
      وسكت .
      قالت :
      ـ مجرد اسم نطقته فى لحظة جنون !
      نسب المشكلة إلى صديق لم يُسَمّه . همس بها لمحسن عبد العاطى ، يكبره بأعوام كثيرة ، وعمله فى المراجعة يتيح له معرفة ما قد يغيب عنه . خمن أنه سيفيده بما يمتلكه من خبرة .
      رجح عبد العاطى أن يكون الله خلقها بدون دم . ذلك ما يحدث لبنات كثيرات . ربما فقدت الغشاء فى صباها دون أن تعى ، وربما أسباب كثيرة تختلف عن باعث السقوط .
      شعر أنه أميل إلى تصديق المعنى .
      ألفا الاندفاع ـ حين تخلو الفيلا ـ لممارسة الحب . يستعيدان ما تكرر حدوثه دون أن يشيرا إلى ما سبق . تشغلهما اللحظة بتوقعاتها وتوترها . يضيفان إلى لحظة الذروة ملامسات وقبلات ، يتأمل تباين بشرته السمراء وبشرتها البيضاء الوردية .
      فاجأته بأوضاع لم يكن يعرفها ، ولا تصورها . دارى ذهوله فى تصنع بالفهم والخبرة . حرص ألا يظهر حتى ما يتصاعد فى نفسه من الشعور بالإرهاق ، أو القرف .
      أشار إلى بطنها ، وهى تودعه ـ ليلة ـ على الباب الداخلى للفيلا :
      ـ أخشى أن يفاجئنا ما لا نتوقعه .
      تأمل نبرتها الهادئة :
      ـ لماذا حبوب منع الحمل إذن ؟!
      التقطت ابتسامة على شفتيه ..
      قال لنظرتها المتسائلة :
      ـ لما دعوتنى لزيارة أسرتك ، تصورت أنها عزومة مراكبية !
      فسر المعنى :
      ـ دعوة مجاملة .
      وعادت الابتسامة إلى شفتيه :
      ـ لكنك دعوتنى إلى حجرة نومك !
      قالت فى نبرة مستاءة :
      ـ كلام لا أحبه ..
      ورفعت عينين تنطقان بالغضب :
      ـ ماذا تريد أن تقول ؟

      تعليق

      • د. حسين علي محمد
        عضو أساسي
        • 14-10-2007
        • 867

        #18
        ـ 18 ـ

        ركعت دومينيك أمام تمثال العذراء . قالت كلاماً كثيراً . روت عن أمها وأبيها وعياد وأنطوان والمرض الذى يعذبها .
        نذرت للعذراء أن تتنازل عن كل الثياب فى دولابها للفقراء ، إن هى يسرت لها الشفاء من المرض .
        حركت شفتيها فى صلاة صامتة ، ورسمت علامة الصليب .
        ظلت ـ منذ وفاة أبيها ـ تتردد على الكنيسة كل صباح ، وتعترف للأب يوحنا مرة كل أسبوع . ترتدى زى الحداد . تبدّل ما بين الفستان والتايير ، لكنها تحرص على السواد . ربما ارتدت ثياباً ملونة داخل البيت ، لكنها تحرص على الفستان الأسود ، فى خروجها من البيت . وكانت تطيل الصلاة فى حجرتها ـ قبل أن تتجه إلى النوم ـ أمام أيقونة العذراء ، وصورة أمها وأبيها .
        قالت سيلفى :
        ـ سأظل معك فى الفيلا حتى ترتبى أمورك ..
        قالت دومينيك :
        ـ لا تؤجلى زواجك لأجلى ..
        ـ ما زلنا نبحث عن شقة ، وعن وظيفة لى ..
        واصطنعت ضحكة :
        ـ ماهر لن يزعجه غيابى عنه ..
        واحتضنتها بنظرة مشفقة :
        ـ إن أراد يستطيع زيارتنا .
        إذا حلت الأزمة بدومينيك ، فإن سيلفى تعمد إلى إسدال الستائر ، وإغلاق الأبواب والنوافذ . لا يترامى صراخ دومينيك ـ إذا صرخت ـ إلى الطريق . ربما عانت فى الليل من التقلصات العنيفة ، والقيء ، والتوجه إلى دورة المياه .
        تستغيث بالعذراء لتنقذها مما تعانيه ، تناديها ، تدعو باسمها ، أو باسم ابنها ، أو باسم الصليب .
        يعاودها الدوار والرغبة فى التقيؤ ..
        تمسك خصرها بيدها ، وتميل على الأرض . يتناثر القيء على الأرض ..
        لا تشعر بالراحة إلا إذا تقيأت ما بجوفها ..
        إذا حزنت أو غضبت . غالبت الدوار ، ومالت نفسها إلى الغثيان ، تعود من الحمام بعد أن تفرغ ما بجوفها . ربما طفر القىء من فمها دون أن تقدر على منعه ..
        تهمس سيلفى فى إشفاق :
        ـ أنت تتقيئين من نسمة الهواء !
        تواصل الصراخ ، والصياح ، تمزق ثوبها ، تخمش وجهها ، تشد شعرها ، تضرب الأثاث أو الجدار برأسها ، أو بلكمات متوالية . يعروها ما يذهلها عن الدنيا . تزوغ عيناها . يغلب البياض عليهما ، تعروها ارتعاشات ، وتقلصات عنيفة ، ويتخشب جسدها ، ويتداخل ، ويعوج فمها ، ويسيل الزبد الأبيض على الشفتين والذقن .
        يحاذر أنطوان وجان من أن يلامسا جسدها ، وإن رفضا أحاديث الجان والعفاريت .
        تظل سيلفى جالسة إلى جانب سرير دومينيك . تحرص أن تظل مستيقظة ، وإن غلبها النوم فى أحيان كثيرة .
        تشعر أنها تحب دومينيك كما لا تحب إنساناً فى الدنيا ، تختلف عن كل من فى البيت ، لا تلاحقها بالملاحظات والتعليقات والمؤاخذات والانتقادات والأوامر التى لا تنتهى . تمتلك قدرة ـ بلا حد ـ فى التسامح ، والتماس الأعذار ، وكره الشر ، لا تضمره ـ ولا تعلنه ـ لأحد . تسميها ـ فى مداعباتها ـ سانت دومينيك .
        روت سيلفى بواعث ما تعانيه دومينيك : لاحظ الأب يوحنا علاقة حب بينها وبين راهب شاب فى كنيسة اللاتين ، فسعى لنقله .
        أزمعت ـ لما حدث ـ أن تظل بلا زواج ، ثم ظهر عياد فى حياتها .
        ***
        لاحظ ماهر ضيق أنطوان بتلميحات عياد إلى ميراث دومينيك من أبيها ، إلى ما يجب أن ترثه من العجوز . أثاره الشعور بعدم الندية الذى بدا أن أنطوان ينظر ـ من خلاله ـ إليه ، وإلى عياد ، وربما إلى إخوته .
        قال بجرأة مدفوعة بالانفعال الذى يعرفه فى نفسه :
        ـ أريد سيلفى بثيابها .
        أضاف دون أن تشغله إمارات الغضب على وجه أنطوان :
        ـ لا أريد أى شيء !
        ثم وهو يغالب انفعاله :
        ـ ترفض دومينيك لعياد ، وترفض سيلفى لى ..
        واقتحمه بنظرة غاضبة :
        ـ ماذا تريد ؟!

        تعليق

        • د. حسين علي محمد
          عضو أساسي
          • 14-10-2007
          • 867

          #19
          ـ 19 ـ

          وقف عياد ودومينيك أمام القس ، يد كل منهما فى يد الآخر . تحدث الأب عن الزواج ، والواجبات التى يعنى بها الزوجان .
          أعاد النظر فى الأوراق بين يده ، ثم اتجه إلى عياد بنظرة حيادية :
          ـ يا عياد ، هل تتخذ هذه المرأة التى أنت ماسك يدها لتكون زوجة شرعية لك ؟ وهل تعد ـ بوقار فى حضرة الله وأمام هؤلاء الشهود ـ أن تكون لها زوجاً محباً وأميناً ، طالما كنتما على قيد الحياة ؟
          همس عياد وهو يحنى رأسه :
          ـ نعم .
          اتجه الأب بنظرته إلى دومينيك :
          ـ يا دومينيك ، هل تتخذين هذا الرجل الذى أنت ماسكة الآن يده ليكون زوجاً شرعياً لك ؟ وهل تعدين ـ بوقار فى حضرة الله وأمام هؤلاء الشهود ـ أن تكونى زوجة محبة وأمينة ومطيعة طالما كنتما على قيد الحياة ؟
          همهمت دومينيك فى ارتباك ، بما يعنى الموافقة .
          قال الأب :
          ـ أصرح بأنكما زوج وزوجة ، والذى جمعه الله لا يفرقه إنسان .
          ثم علا صوت القس :
          ـ باسم ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع مشرع شريعة الكمال ، وواضع ناموس الفضائل ، نعلن فى هذا المحفل الأرثوذكسى ، وأمام هيكل رب الصباؤؤت ، زواج الابن المبارك الأرثوذكسى البكر عياد على خطيبته الابنة المباركة الأرثوذكسية البكر دومينيك ، باسم الآب والابن والروح القدس ، إله واحد ، آمين .
          مبارك الله الآب ضابط الكل ، آمين
          مبارك ابنه الوحيد يسوع المسيح ربنا ، آمين
          مبارك الروح القدس المعزى ، آمين .
          صحبت عياد إلى كنيسة العذراء بشارع طومانباى . عقد قرانها على طقس الأقباط الأرثوذكس . تخلت عن كاثوليكيتها ، ودخلت أرثوذكسيته .
          قال أنطوان :
          ـ أنا أرفض زواجك من دومينيك !
          قال عياد :
          ـ لم أطلب موافقتك . دعها تقرر مصيرها ..
          ـ أنا أخوها الأكبر .
          ـ وهى تجاوزت الحادية والعشرين .
          هدده أنطوان بأن دومينيك ـ حين تموت ـ لن تدفن فى مقابر الكاثوليك .
          قال عياد دون أن يترك هدوءه :
          ـ أنت لا تعرف من يموت قبل الآخر ؟ ولا من يدفن من ؟!
          قال أنطوان :
          ـ إذا أردت أن تتزوج دومينيك ، فلا تتوقع مساعدتى .
          استطرد فى تلقائية متكلفة :
          ـ حقيبة ثيابها هى كل ما ستخرج به من البيت !
          قالت الخالة إيفون :
          ـ الأرثوذكسية والكاثوليكية مذهبان فى ديانة واحدة ..
          قال لويجى :
          ـ الاختلاف موجود ..
          قالت إيفون :
          ـ لكن الديانة واحدة ..
          وشى صوت دومينيك بالحيرة :
          ـ أوافق ؟
          ـ لماذا ترفضين ؟
          وافق مطران كنيسة البازيليك على زواجها من عياد . هو المطران نفسه الذى عنّف سيلفى حين عرضت عليه فكرة الزواج من مسلم . بدا ودوداً ، ومتسامحاً :
          ـ قد تختلف المذاهب ، لكن الكاثوليك والأرثوذكس أبناء ديانة واحدة .
          زارت البطريركية المطلة على شارع رمسيس . تحدث الكاهن عن حقها فى أن تحتفظ بمذهبها ، لكنه اشترط أن ينتمى أبناؤها ـ حين تنجب ـ إلى المذهب الأرثوذكسى :
          ـ هذا هو شرطنا للموافقة على الزواج .
          قال عياد وهما يهبطان درجات البطريركية :
          ـ نوافق حتى نتزوج ، ثم نقرر ما ينبغى فعله .
          انتقلت من الفيلا إلى بيت عياد فى منشية الصدر . اقتصر الأمر على الإكليل فى حفل الكنيسة . أهملا ما يسبق الزواج من خطوات ، ربما اختلفت فيها تقاليد المذهبين .
          الشقة ذات حجرتين وصالة صغيرة فى شارع الجراج . وجدت فى السوق المجاورة بديلاً مشابهاً لسوق الزيتون . يصحبها عياد ، أو تذهب بمفردها .
          استقبلت حفاوة الجارات بحيرة : هل تبدّل ما ألفته من عزلة فى فيلا الزيتون ؟ أو تخالط من عرضن الصداقة ؟
          الصحن الفسيح ، الأضواء العالية ، فى المواجهة ، تمثال من الرخام للسيدة العذراء ، وصينية من الفضة يتوسطها شمعدان ، بداخله شمعة مطفأة . وثمة الوجه الجميل ، المتعب ، المكلل بتاج الشوك ، الشموع المتراصة المشتعلة تحت تمثال العذراء ، المجمرة التى يتضوع منها البخور ، الأيقونات المحيطة بالمكان ، الدكك الخشبية ، الماء المصلى عليه ، اختلاف لون العباءة من البنى إلى الأسود ، يضاف إلى الثانية عمامة سوداء مستديرة ، تراتيل الشمامسة .
          تأملت العمم السوداء ، والطيلسانات المطرزة بالصلبان الذهبية ، صحن الكنيسة الواسع ، العالى الجدران ، المنقوش الأسقف والأفاريز . الأيقونات ، القناديل المذهبة ، المتدلية من السقف العالى ، الشمعدانات النحاسية ، النجف الكريستال .
          أنصتت لقرع الأجراس ، وضرب الصنوج ، والصلوات ، والدعوات لأم النور ، والمزامير ، يرتلها الشمامسة بأصوات متناغمة ، بالعربية والقبطية ، تتوزع فى صحن الكنيسة .
          مدت لسانها بعد أن مضغت اللقمة الصغيرة . أحست بلذعة قطرة النبيذ الأحمر على طرف اللسان .
          أربكها الفارق بين طقوس الكاثوليكية وطقوس الأرثوذكس . حاكت عياد الواقف جانبها فى كل ما فعله .
          ثانى يوم أحد ، أهملت التردد على أى من الكنيستين ، حتى تعى طقوس مذهبها الجديد . ثم تناست الأمر تماماً ، فلم تعد تتردد على الكنيسة .

          تعليق

          • د. حسين علي محمد
            عضو أساسي
            • 14-10-2007
            • 867

            #20
            ـ 20 ـ

            قال أنطوان :
            ـ التقيت الأب يوحنا اليوم فى الكنيسة ..
            لم يجب ..
            أضاف أنطوان وهو يتفحصه :
            ـ سألنى عنك ..
            ظل صامتاً ..
            عرف أن الأب يوحنا تدهورت صحته ، فلم يعد يغادر الكنيسة لزيارة أبنائها . لم يعد هو يتردد على الكنيسة للصلاة ، ولا للاعتراف ، ولا لحضور حفلات عقد القران ، أو القداس ، أو الصلاة فى الجنازات .
            كان الأب قد رفع يده فى الهواء بعلامة الصليب :
            ـ جعل المسيح رسله أساقفة ، والأساقفة أقاموا قسساً وشمامسة ..
            ودارى قلقه بابتسامة فاترة :
            ـ نحن نحيا لخدمة الجماعة المسيحية ..
            ثم فى لهجة مثقلة بالحزن :
            ـ دعه لا يفعل مثل الذين يصفهم الإنجيل بأنهم يحبون الظلمة أكثر من النور لأن أعمالهم شريرة .
            داخلت صوته نبرة إشفاق :
            ـ أنا الذى قمت بتعميده ، ويجب أن يظل فى مستوى حسن ظنى ..
            قال جان :
            ـ لم يسألنى أحد قبل التعميد إن كنت سأقبل التعميد أم لا..
            قال الأب فى حزن ظاهر :
            ـ يقول سانت نيبوليتس : " إنى أنكر خالق السماوات والأرض ، وأتنكر لتعميدى ، وأتنصل من عبادتى السابقة التى قدمتها للرب ، إننى أتعلق بك يا إبليس ، وبك أومن " .
            وهو يظهر الحيرة :
            ـ عندما عمدّت لم أكن أعرف معنى الحرام والحلال . لم أكن واعياً .
            وانتزع ابتسامة باهتة :
            ـ يجب أن يكون التعميد بعد البلوغ !
            قال أنطوان :
            ـ لاحظ أنك لم تعد تتردد على الكنيسة ..
            رمقه بنظرة مستريبة :
            ـ هل يخضعون زائرى الكنيسة للمراقبة ؟
            وافتعل ابتسامة تهويناً للأمر :
            ـ أنا أتردد على كنيسة أخرى ..
            ـ هذه هى الكنيسة الوحيدة للكاثوليك فى الزيتون ..
            صرخ :
            ـ أنت تحاكمنى !
            وأخلى وجهه لتمازج السخط والغضب :
            ـ أنت تأمل فى جائزة لإيمانك ، وأنا لا يشغلنى جزاء عدم إيمانى .
            ـ الإيمان ليس جائزة ، إنه ضرورة !
            ـ أنا لم أعد أعتقد فى كل ما تعلمته . أظن أنى نسيته !
            وتداخلت فى صوته بحة :
            ـ أحب أن تصدر تصرفاتى عن إرادتى الحرة !
            وأشار بيده ناحية الكنيسة :
            ـ هذا الرجل الذى يكره نفسه ، هل هو من تعترف أمامه بخطاياك ؟!
            وخنق التأثر صوته :
            ـ ما أعرفه أن المسيحية دين .. وهذا الرجل جعل من المسيحية مهنة يتكسب منها !
            ولوح بيده فى عصبية واضحة :
            ـ الكنيسة مسئولة عن الدعوة لتعاليم الإنجيل ، لا شأن لها بحياة الناس الخاصة .
            ثم بلهجة مهونة :
            ـ لماذا لا نحيا حياتنا ، ونؤجل الاختلاف إلى ما بعد ذلك ؟
            ـ ماذا تعنى ؟
            ـ سنعرف بعد الموت إن كان هناك حساب أم أنه مجرد وهم !
            تحركت يدا أنطوان بالحركة السريعة من الجبهة إلى جانبى الصدر :
            ـ أنت تكفر !
            واجهه بنظرة مستخفة :
            ـ بالعكس .. أعرف أن الله هو الأب ..
            وعلا صوته :
            ـ أليس عذاب جهنم والنار الأبدية غريباً عن طبيعة الله ؟
            وشاب لهجته عناد :
            ـ هل يؤذى الأب أبناءه ؟
            قال أنطوان :
            ـ هل امتناعك عن دفع أجر الجناينى جزء من حالة الرفض التى تعيشها ؟
            وهو يرفع كتفيه :
            ـ أنا أساعد فى البيت بقدر ظروفى !

            تعليق

            • د. حسين علي محمد
              عضو أساسي
              • 14-10-2007
              • 867

              #21
              ـ 21 ـ

              عند اقترابه من البيت بدا العمال مشغولين بتثبيت القوائم الخشبية ـ أمام الفيلا ـ فى مساحة عرض الشارع . أدرك أنهم يعدون سرادقاً لحفل زفاف جان .
              ترك لخياله ـ حتى المساء ـ تصور الحضور : أقارب الأسرة ، الجيران ، الزملاء القدامى للمسيو ميكيل .
              تدلت أسلاك اللمبات على أشجار الحديقة ، مئات اللمبات الملونة الصغيرة ، أحاطت بأشجار الحديقة ، وتخللتها . فتحت نوافذ البيت المقابل على آخرها ، أطل منها رجال ونساء . وتزاحم الأطفال حول الحديقة يحاولون رؤية ما وراء الأشجار ، ما تخفيه الأغصان والأوراق . حتى سكان البيوت البعيدة ، أطلوا من النوافذ والشرفات ، ومن فوق الأسطح .
              اعتادت سيلفى زيارة أسرة الطابق الأرضى فى البيت المواجه ، تأنس إلى شخصية الزوج الخطاط ، الهادئة ، وإلى تعامله معها كابنة لا يضيق بتوالى أسئلتها وملاحظاتها ، وإلى الفوضى فى حجرة مكتبه : الدولاب الصغير ، المفتوح الضلفتين ، اختلطت فيه رصات الملابس والكتب ، حوض السمك الملون ، وأقفاص العصافير ، وزهور البلاستيك ، والأقلام المتباينة الأطوال ، والكتب ، والمجلات ، والورق المقوى ، والأحبار ، وأقلام الفحم والبسط ، والشموع ، والتماثيل الصغيرة ، والدمى البلاستيك ، وبقايا الطعام ، والأكواب الفارغة ، والزجاجات المختلفة الأحجام والألوان ، والمعلبات ، والجدران المغطاة بلوحات ملونة ، وعود لم تره يأخذه من موضعه ، وصور شخصيات لا تعرفها .
              تبدى إعجابها بلوحاته ، المستمدة من الحروف العربية ، واللوحات المقلدة .
              تضحك لفشلها فى تعدد محاولات تقليده .
              عرفت أنه كان ـ إلى جانب كتابة الخطوط ورسم اللوحات ـ يجيد تزوير الأوراق الرسمية والمستندات والبطاقات الشخصية وجوازات السفر . حتى العملات يتقن تزويرها . وكانت هى السبب ـ كما قال ـ فى أن يقضى أعواماً داخل السجن .
              حدثها عن مرافقته لأخته ، المغنية الطفلة ، إلى حفلاتها فى القاهرة وخارجها ، وعن مرافقته لأخته الممثلة ، الطفلة كذلك ، إلى الإذاعة ، تغنى لشقيقها القمر فى برامج بابا شارو . حين كبرتا ، خلا إلى خطوطه ولوحاته التى يحبها .
              ظل أخوتها على حرص الأبوين فى تجنب الاختلاط . يكتفون ـ إذا التقت الأعين ـ بإيماءة التحية ، أو هزة الرأس . يواصلون السير ، كل فى طريقه .
              طالعه ما لم يتوقعه . عرف من سيلفى أن الحضور أصدقاء لجان وأهل العروس . شارك النسوة فى النوافذ بزغاريد ، ظهر فى ملامح جان المستغربة أنه فوجئ بها . رافقت الزغاريد موسيقا وأغنيات ورقصات .
              أدهشه أنه وجد ما يدعو إلى الدهشة .
              تصور أن زفاف الكاثوليك له مظاهره التى لا يعرفها . استمع إلى أغنيات العوالم ، وصفق على إيقاع أداء الراقصة ، وجارى الحضور فى دفع النقوط .
              غنى العوالم يا امه القمر ع الباب ، وقولوا لمأذون البلد ، وأهواك . آخر الليل ، استبدلت الراقصة ببدلتها غلالة حريرية ، تكشف عن جسدها .
              نسى تصوره بأن الفرقة تؤدى أغنيات لا يرددها المسيو ميكيل ، تلك الألحان التى يحب سماعها ، وإن لم يفهم معانيها .
              أخذ على جان فكرة السفر إلى الخارج . لكى تعمل فلابد أن تمتلك مهنة . شهادة التجارة المتوسطة لن تتيح لك أى شئ . مجرد أن تغسل الأطباق ، وتقطع الخضروات فى المطاعم ، أو تعمل فى بناء العمارات أو غسل السيارات . وقد يسعدك الحظ بالعمل فى مزارع تقطير الكروم إن سافرت إلى جنوب فرنسا ..
              ولوح بإصبعه محذراً :
              ـ أفضل الواقع الذى أعرفه بدلاً من المجهول الذى لا أعرفه !
              وهو يرفع كتفيه :
              ـ لا أسافر إلى المجهول .. أهاجر إلى استراليا ..
              ثم وهو يغالب التأثر :
              ـ لفيكتوريا أخوة يعيشون هناك . أسافر على كفالتهم !
              وتخلل شعره بأصابعه :
              ـ قد أغسل الصحون كما يفعل الشبان المصريون ، وقد تفيدنى الإنجليزية وأسرة زوجتى فى عمل أفضل .
              قال :
              ـ تعرفت إليها فى الأوتوبيس . وجدت فيها ما يقنعنى بالزواج .
              لم يتحدث عن ظروف لقاءاتهما التالية ، كيف تصارحا بالأسرة والديانة والظروف الشخصية [ وشى اسمها ـ فيكتوريا ـ بديانتها ] ومن طرح على صاحبه فكرة الهجرة إلى استراليا ؟ وما موقف الأب ـ ساعاتى فى شارع عثمان بن عفان ـ من الأمر برمته ؟ هل وافق ، أو أبدى تحفظاً ، أو أنهما أزمعا التصرف دون أن يضعا حساباً للرفض ؟ . ما عدا ذلك فقد غابت الملامح عن بقية التفاصيل .
              عقدا قرانهما فى كنيسة اللاتين . أنهيا العقد ساعة العصر ، وأعدا حقائبهما ليسافرا بعد حفل الزفاف .
              قال جان لأنطوان ، قبل أن يلحق بعروسه فى سيارة التاكسى ، الواقفة أمام الفيلا :
              ـ أترك لك كل شيء ، لكن لا تظلم دومينيك وسيلفى .

              تعليق

              • د. حسين علي محمد
                عضو أساسي
                • 14-10-2007
                • 867

                #22
                ـ 22 ـ

                قال ماهر فى ابتسامة مشفقة :
                ـ أسرتك تتساقط كأوراق شجر الحديقة ..
                الخريف فى بداياته . الفجوات تتسع بين الأغصان والأوراق ، لتساقط الأوراق الصفراء ، داخل الحديقة وخارجها . يتناهى صوت الأذان من جامع قريب ، يختلط بأصوات العصافير فوق الأشجار .
                حدجته بنظرة مؤنبة :
                ـ إذا كنت تقصد سفر جان وأنطوان فقد فرا من الموت !
                واتجهت نظرتها إلى ما وراء الأشجار :
                ـ لا شيء يغريهما بالبقاء !
                فى صباح حفل الزفاف ، سافر جان مع عروسه إلى أستراليا ، اقتصرت الحياة فى الفيلا على أنطوان وسيلفى .
                طالت إقامة أنطوان فى القاهرة حتى يتاح له بيع الفيلا . لما واجهه عياد برفض دومينيك وسيلفى ، حزم حقائبه ، وأعد نفسه للسفر .
                لاحظ ماهر تغيراً فى تصرفاتها ، فى السهر والصحو والمنام والوقوف فى النافذة المطلة على الشارع الخلفى ، والأوراق الصغيرة تكتب فيها ، ثم تكرمشها ، وتقذف بها من النافذة ، أو تمزقها .
                كان الحزن يقتلها لتناقص قطع الأثاث . الطرقات الغريبة يعقبها فصال بين أنطوان والرجل ذى الجلباب . ترفع قطعة أثاث من موضعها . كل ما فى البيت يرتبط بحياتها ، بفترات من حياتها ، حادثة نقشت ملامحها ، أو عابرة : كراسى ، مناضد ، شمعدانات ، أيقونات ، أكواب كريستال ، فازات ، ساعة حائط بندولية ، لوحات مقلدة ، كتب . حتى الراديو رفعه أنطوان من موضعه على الرف الخشبى ، ثم لم تعد تراه .
                استمهلت ماهر ـ ذات أصيل ـ وهو يتهيأ للانصراف . دخلت إلى حجرتها ، وأطلت برأسها متلفتة .
                تقدم ليعاونها فى حمل ما بيدها .
                ـ صورتى فى إطار ، احتفظ بها حتى لا يبيعها أنطوان .
                شك فى أن يكون شخص ما قد دخل حياتها . لعله يقف وراء نافذة ما فى البناية المقابلة . لم يحاول سؤالها عما بدّل حياتها ، أو يشغلها . يثق أنها ستكذب . هذا هو ما ألفه منها فى الفترة الأخيرة . لو أنها أرادت أن تحصل على ما هو بديهى ، وما هو من حقها ، ولا يحتاج إلى عناء ، فهى تكذب ، تكذب لمجرد أن تكذب . لو أنها سألت نفسها ، فقد لا تجد الإجابة التى تقنعها .
                ربما أخذ هيئة المنصت لما ترويه . تروى وتروى . يعرف أن معظم الأحداث والمواقف من اختراع رأسها الصغير ، وأنها تجد فى الكذب متعة ، تدفعها إلى المزيد من الحكى .
                تمنى لو أنها لم تعد تكذب عليه . توقفت عن الكذب عليه . تنطوى البراءة الظاهرة على نفس طيبة بالفعل ، ترفض الكذب واللؤم والتخابث والتسويف والمماطلة .
                لا تمل الكذب والروايات التى يخترعها الخيال . الكذبة هى كذبة ، بصرف النظر عن اللون الذى تدعى الانتساب إليه ، لا يهم إن كانت بيضاء أو سوداء ، أو أى لون آخر .
                لم يعد يجد فى نفسه ميلاً لأن يلتمس لها الأعذار . لو أنه أظهر عدم التصديق لمعظم ما ترويه ، ربما راجعت نفسها قبل أن تبصق كذبة جديدة ، تتوقف عن الحكى فى ما يصعب تصديقه . تتوقع رد الفعل ، فلا تقدم على الفعل .
                قالت :
                ـ أنتظر موافقة بالعمل فى شركة سياحة ..
                ـ خبر يستدعى الفرحة .
                وهى تسلم نفسها لشرود :
                ـ وقعت إقراراً بأنى حاصلة على بكالوريوس تجارة ..
                استطردت للدهشة فى عينيه :
                ـ جارنا الخطاط .. يجيد تزوير الشهادات والوثائق ..
                حاول السيطرة على مشاعره :
                ـ ألا تخشين السجن ؟
                ظلت صامتة .
                تصاعد مد القلق فى داخله :
                ـ هذه جريمة عقوبتها السجن .
                أنصت ـ مذهولاً ـ لتبريرها عن حقيقة ما جرى . هى لا تدرى لماذا فعلت ما فعلت . قدم الخطاط عرضه ، فوافقت .
                تحولت إلى كائن غامض لا يعرفه . لو أنه يعرف فى ماذا تفكر ؟ ما يملأ رأسها الصغير من تصورات ؟ ما يتحرك فى نفسها من مشاعر ؟
                ماذا تخفى هاتان العينان الزرقاوان البريئتان ؟!
                كتم مشاعره المهتاجة . يعى سرعة هياجه ، واندفاعه ، وعجزه عن التحكم فى عواطفه . وهو يحاول الاحتفاظ بهدوئه :
                ـ سحنة المرء ونصيبه من الذكاء وظروفه الاجتماعية والمادية أمور لا حيلة له فيها ، لكن الكذب مسئوليته التى يجب أن يحاسب عليها !
                أردف فى صوت مقتضب :
                ـ لا أتصور أنك تفعلين هذا .
                ثم وهو يغالب شعوراً باليأس :
                ـ عدينى ألا تكذبى لأى سبب !
                (يتبع)

                تعليق

                • د. حسين علي محمد
                  عضو أساسي
                  • 14-10-2007
                  • 867

                  #23
                  ـ 23 ـ

                  قالت :
                  ـ سأظل على الكاثوليكية ..
                  اختلط صوتها الهامس بصراخ العصافير فى لحظات ما قبل الغروب .
                  رمقها بنظرة عدم تصديق :
                  ـ ماذا ؟
                  ظلت على صوتها الهامس .
                  ـ أجد نفسى فى ديانتى الأصلية ..
                  أدرك أنها صادقة فى ما قالته . كذبت كثيراً ، تراكمت أكاذيبها ، وتفرعت ، وتضخمت ، صارت بلا حد . لكنه أيقن من صدقها هذه المرة . ما قالته يصعب اختراعه . إسلامها من أجل زواجهما . لم تسأله عن الإسلام ، ولا عن مدى اتفاقه ، أو اختلافه ، مع الكاثوليكية . عكس التماع عينيها ، وتهدج صوتها ، صدق ما ترويه .
                  قال بالانفعال الذى يخفق فى كتمه :
                  ـ هل الديانات فيها أصيل وزائف ؟!
                  رفعت عينين منداتين بالدمع :
                  ـ أنت لم تعلمنى الإسلام ، من الصعب أن أكون بلا دين .
                  استعاد قول أمه ، وهى تسحب السجادة الصغيرة من تحتها :
                  ـ هل تصلى سيلفى ؟
                  أظهر الدهشة :
                  ـ لماذا تطلبين منها ما لا أفعله ؟!
                  حدجها بنظرة متأملة كأنه يعيد اكتشافها :
                  ـ هل تعرفين المسيحية ؟
                  زاد ارتباكها :
                  ـ ولدت فى بيت مسيحى ..
                  لاحظ أنها تتجنب نظراته ، كأنها لا تريد أن يفطن إلى ما تعانيه .
                  ظل ينظر إليها وهو صامت ، كأنه عاجز عن تصديق ما قالته . استطردت وهى تشرد فيما لم يتبينه :
                  ـ والكنيسة قريبة من البيت !
                  أنصتت إلى دروس الأب يوحنا فى قضايا اللاهوت : ما إذا كان الروح ينبثق من الأب وحده ، أو من الأب والابن معاً ؟ ، شروط المعمودية ، مادة العماد ، إتمام المعمودية : بالرش أم بالتغطيس ، حقيقة الاختيار السابق والمقدر ، الخمير والفطير ، الكهنوت ، النعمة الرسولية ، المطهر ، العصمة .. مفردات حفظتها ، دون أن تعرف من معناها إلا القليل .
                  وهو يعانى ارتباكاً :
                  ـ هل ترين الخير فى قرارك ؟
                  ران انكسار على صوتها :
                  ـ لم أعد أتوقع الخير حتى من نفسى .
                  انبثق فى صدره أمل :
                  ـ ما قاله موظف الشهر العقارى نصيحة ..
                  شوحت بيدها :
                  ـ لا تنتزع موافقتى فى هذه الظروف !
                  يتصور أن الندم والشعور بالذنب يعذبانها ، يتصور أنها طفلة عابثة ، لا تعى تصرفاتها ، ولا تقدر ما قد تنتهى إليه .
                  شعر أن الدنيا تظلم فى عينيه ، وأن الأرض تميد به ، والملامح تختلط ، وتتشابك ، وتتشوه ، وأنه يفقد السيطرة على نفسه ، وروحه آخذة فى الذوبان ، وقدماه تخذلانه .
                  فكر فى أن يفعل شيئاً ، أى شيء ، يخلصه من إحساس العجز الذى يتملكه ، اقتحمته رغبة فى أن يحطم شيئاً ، أى شيء ، كل شيء .
                  علا صوته بما لم تعهده منه ، ولا عهده هو فى نفسه . فطن إلى أنه يريد أن يخلص نفسه من مشاعر الغضب . اجتاحه إعصار من المشاعر الغاضبة .
                  كان جانب جسده آخر ما رأته وهو يميل من الشارع الصغير إلى شارع نصوح الهندى .

                  تعليق

                  • د. حسين علي محمد
                    عضو أساسي
                    • 14-10-2007
                    • 867

                    #24
                    ـ 24 ـ

                    رفت ابتسامة تلقائية على شفتيه وهو يتأمل واجهة سينما على بابا : الرجال يفضلون الشقراوات ، لص بغداد ، إسماعيل يس فى الجيش .
                    خلف السينما وراءه ، واتجه ناحية اليسار . بادله رواد المقهى ـ على الناصية ـ نظرات معرفة . كان قد تكرر مرافقته لسيلفى فى زياراتها المتباعدة إلى الخالة إيفون . مضى ناحية باب البيت الخشبى المتآكل . وجد لجسده منفذا بين الأجولة المرصوصة على جانبى المدخل الضيق ، وروائح التراب والرطوبة والشواء والطبيخ والعطن .
                    تلمست قدماه السلمة الأولى ..
                    حدجته الخالة إيفون بنظرة متأملة ، تستشف ما بداخله :
                    ـ تسأل عن سيلفى ؟
                    حرك رأسه دلالة الموافقة .
                    ـ ألم تزر دومينيك وعياد ؟
                    ـ لا أعرف البيت .
                    وهى تنظر فى عينيه :
                    ـ سيلفى دخلت الدير ..
                    أضافت للدهشة المرتسمة على وجهه :
                    ـ أثّر فيها غيابك عنها ..
                    حدثته عن الأيام الأخيرة قبل أن تلجأ سيلفى إلى الدير ، تعتزل فيه .
                    قالت فى نبرة باردة :
                    ـ بدا القرار صعباً .. بدا القرار الوحيد . تفر مما أوقعت فيه نفسها من مشكلات .
                    وزمت شفتيها ، فبدت الكرمشة حول الفم :
                    ـ قد يغفر الله ذنوبنا ، لكن الناس يرفضون المغفرة .
                    وأدارت وجهها نحو النافذة :
                    ـ أزمعت سيلفى أن تلجأ إلى الدير .
                    حاول أن يقول شيئاً ، يسأل ، أو يوضح ، أو يعترض . شعر كأنه فقد القدرة على مجرد تحريك شفتيه . ظلتا ترتعشان ، دون أن تنفرجا . كأن شيئاً ما قد انتزع من داخله . تحركت مشاعره بما لا يقوى على التعبير عنه . لا يدرى حقيقة الشعور الذى تملكه .
                    أغمض عينيه ، كأنه لا يريد أن يرى ما حوله .
                    تنحنحت لتزيل احتباس صوتها :
                    ـ لم أفلح فى إثنائها عما اعتزمت فعله .
                    همست بالسؤال ، دون أن تلتفت إليه :
                    ـ ألم تر ـ ذات يوم ـ ما بداخل حقيبتها ؟
                    اخترقها بنظرة مستاءة :
                    ـ ما شأنى بحقيبتها ؟!
                    وأحاط رأسه بيديه كمن يعجز عن التصرف :
                    ـ لماذا ؟
                    وهى تضغط على الكلمات :
                    ـ إنها تحرص على وضع صورة العذراء تحمل المسيح .
                    ثم فى هيئة من يرفض أن يعطى المناقشة أكثر مما أخذت :
                    ـ كلمتنى عن اعتزامها التحول إلى الإسلام .. ثم أبلغتنى ـ فى زيارتها الأخيرة ـ بحرصها على ديانتها .
                    وبدا كأنها تستعد للنهوض :
                    ـ دعائى أن يرشدها الله إلى التصرف السليم !
                    ومضت فى ذهنه لحظات ، غلبه فيها التأثر لقول سيلفى إنها لا تتصور حياتها بدونه ، إذا ابتعد عنها ، فإن كل الصور تشحب ، تظل صورته وحدها واضحة الملامح . وقالت : لا أتصور ماذا كان سيحدث فى حياتى لو لم تظهر أنت فيها . وقالت : لولا حبى لك كنت سأقتل أنطوان ، أو أقتل نفسى !. وقالت : مادمت معى فلن أحزن على فترة ما قبل لقائنا . وقالت : إذا أسلمت فإنى سأدعو الله أن أموت قبلك كى تدفننى !
                    هل كانت تستمتع باللعبة ؟!
                    داخله حزن لم يكن شعر به من قبل ، غضب لم يعهده فى نفسه . قهره الإحساس بعدم القدرة على التصرف . أضاف إلى مشاعره أن الوقت قد فات ، لم يعد بوسعه أن يفعل شيئاً .
                    غلبه الذهول ، فلا يدرى شيئاً مما حوله . أحس أنه محاط بما لا يفهمه ، ولا يدرك كنهه .
                    هل كانت سيلفى بنتاً حقيقية ؟ هل تعرف إليها بالفعل ؟ هل عاش معها حياة حقيقية ؟!
                    ساوره الشك إن كان قد تعرف إليها ، وحدث بينهما ما حدث . تلاحق الكذب ، تراكم ، لم يعد يصدق إن كان ما رآه قد رآه بالفعل ؟
                    وهو يتهيأ للانصراف :
                    ـ أين هو الدير ؟

                    تعليق

                    • د. حسين علي محمد
                      عضو أساسي
                      • 14-10-2007
                      • 867

                      #25
                      ـ 25 ـ

                      أسوار الدير العالية ـ بتداخل حجارتها البيضاء والبنية ـ يبدو من ورائها ـ كالانبثاق ـ برج الكنيسة المفتوح الجوانب ، يتدلى من أوسطه جرس نحاسى ضخم . البوابة الحديدية تفضى إلى ساحة ضخمة على جانبيها أشجار . يتوسطها بناية من الحجارة اختلط فيها البياض والبنى . من حولها خلاء تتناثر فى مدى أفقه بنايات صغيرة وزراعات .
                      لاحظ أن الراهبات يرتدين الملابس البنية الفضفاضة ، من الرأس إلى القدمين . يختلفن عن الراهبات اللائى يرتدين الملابس البنية المختلطة بالبياض . يتكرر التقاؤه بهن فى شوارع القاهرة .
                      قالت الراهبة :
                      ـ هل هى راهبة أم أو راهبة أخت ؟
                      ـ لا أفهم .. لكنها كانت غير متزوجة ..
                      ابتسمت :
                      ـ تقصد راهبة أماً !
                      كيف تبدو فى ثياب الراهبات ؟ كيف تعيش الرهبنة ؟ هل كان دخولها الدير محاولة للخلاص من حصار الأزمات ؟ أو أنها تريد تغيير حياتها بالفعل ؟
                      كان قد قرأ ، وحدثته سيلفى ، عن الحياة فى الدير : التقشف ، التأمل ، غرف العبادة ، الجدران العارية ، الزى البسيط ، العمل فى صمت ، لا حوارات جانبية ، ولا كلام بصوت مرتفع .
                      لم يطل وقوفه أمام البوابة الحديدية المغلقة ..
                      اعتذرت الراهبة بأن الأخت كريستينا ـ تنبه للصفة الجديدة ، ولتغير الاسم ـ لا تستقبل زواراً :
                      ـ نذرت الأخت كريستينا نفسها عروساً للسيد المسيح ..
                      أردفت فى نبرة تمثيلية :
                      ـ هجرت الدنيا إلى أحضان المسيح ، عذراء ، طاهرة ، فى موكب أصحاب الرب .
                      رسم على شفتيه ابتسامة تذلل ، وظل واقفا .
                      قالت وهى تغلق البوابة ثانية :
                      ـ دعنى أتحقق من الأمر .
                      مضت إلى داخل الدير .
                      التقط رسماً على جدار المدخل من اليمين ، العذراء المتوجة على العرش تحمل على ذراعيها الطفل يسوع ، أحاطت برأس كل منهما هالة نورانية .
                      طالعته ـ بعد انتظار دقائق ـ راهبة ، حدس أهميتها من تجاعيد الوجه ، والشعر الأبيض المتسلل من تحت لباس الرأس ، والنظرة المتجهمة .
                      قالت :
                      ـ هذا دير .
                      غالب ارتباكه :
                      ـ أعرف .
                      ـ هل تعرف أن الزيارات ممنوعة ؟
                      داخل صوته تذلل :
                      ـ أطمئن عليها وأنصرف ..
                      قالت الأم إن الأخت كريستينا تطيل التعبد منذ دخلت الدير . اجتازت اختبارات الروح على الصفاء والتجرد . تشارك فى الصلوات ، وفى الطقوس المختلفة .
                      منذ عادت إلى التردد على الكنيسة ، لم تهز جرس كرسى الاعتراف . تظل واقفة ، حتى تلمح الأب ـ الذى لا تعرفه ـ قادماً بخطواته المهرولة . تطمئن إلى جلستها وراء ثقوب النافذة ذات الخشب المعشق . تهمس باعترافها ، ما فعلته ، وما جرى لها ، فى الأسبوع الفائت ، ما يشغلها وما تعانيه ، لا تنصت إلى نصائح الأب قدر حرصها على أن تعترف ، تتكلم فى كل ما يخطر ببالها ، كأنها تنظر فى مرآة ، أو تكلم نفسها بصوت مرتفع . تخشى أن تتوالى الأيام ، تواجه ما تغيب صورته ، قبل أن تهمس باعترافها الحقيقى . تروى ما حدث دون أن تبدل ، أو تضيف ، أو تحذف .
                      آلمها أنها أرادت أن تصلى ، لكن الكلمات استعصت عليها ، نسيت ما ينبغى قوله ، مفردات اعتادت سماعها من أمها وأبيها . عجزت عن البوح بما فى نفسها ، وما تطلبه .
                      لم تتصور أن الأمور ستجرى على هذا النحو . شعرت أنها تتجه إلى هدف لا تعرفه ، شيء مخيف لا تدرى متى يحدث ، ولا كيف تبدو ملامحه .
                      اختلط كل شىء : هل ما تزال ابنة لميكيل جوتييه وكاترين فرنسيس ، وتقيم فى فيلا الزيتون ، ورحل أخواها إلى خارج البلاد ، وانتقلت أختها إلى بيت زوجها القبطى ، ومعارفها وأصدقائها من غير المصريين .. هل مازال ذلك كله صحيحاً ، أم أن ما عاشته ـ فى الفترة الأخيرة ـ بدّل كل شئ ؟! هل تبدّل شهادة ميلادها ؟ هل تقطع صلتها بالزيتون ؟
                      هذه الفيلا ليست بيتى .
                      أنظر إلى ما حولى : الجدران والأسقف والأثاث والنوافذ والأبواب ، المرئيات التى اعتدتها ، أشعر بغربة عن المكان تماماً ـ رغم أنى لم أغادره ـ ولا صلة لى به . طوحت بى حياتى الجديدة بعيداً عن البيت وأهله .
                      أدركت خطورة ما وراء الأفق ، بما لن تفلح الأكاذيب فى صده . شعرت أن أمراً ما ، قاسياً ، يلوح ، يهدد حياتها .
                      لم تعد تدرك الصواب من الخطأ .
                      وجدت فى الرحيل عن مصر فراراً من كل ما أوقعت فيه نفسها ، من كرة الثلج التى تضخمت ، فحطت على صدرها .
                      أسقطت فكرة السفر إلى أمريكا ، لن يرحب أنطوان بالفكرة ، وإذا سافرت دون أن تبلغه ، فقد يرفض استضافتها ، أو استقبالها . لن ينسى أنه لم يحصل على ما أراد . ظلت الفيلا ملكاً للأسرة ، ربما لا يرد على رسالتها ، أو يرد بالاعتذار .
                      ناوشتها صورة جان فى سيدنى الاسترالية . حدثها ـ فى رسائله ـ عن البحر والبنايات والشوارع والكنائس والحدائق وتماثيل الميادين . أرفق برسائله بطاقات صور ملونة ، حاولت أن تجد فيها الحياة هناك . تحركت فى داخلها مخاوف الرحيل إلى المجهول ، المغامرة ، ومواجهة ما لا تعرفه .
                      هى لن تستطيع البقاء فى البيت ، أو أنها لن تستطيع البقاء فيه بمفردها .
                      فطنت إلى إيماءة المعنى فى كلمات عياد المتكررة عن احترام ذكرى الأب الراحل ، واحترام وصيته .
                      تأملت الخالة إيفون بالعجز فى ملامحها وتصرفاتها ، ولويجى الذى يلزم البيت . قد تجد عملاً يدر عيها إيراداً ، لكن الإقامة فى بيت الخالة إيفون سيفرض عليها ـ بعد وقت العمل ـ ما لا تطيقه . الملاحظات والتعليقات والأوامر التى كانت تنغص عليها العيش ، قد تتكرر بما لا تستطيع مواجهته ، وقد لا يحتملها العجوزان .
                      تقاطعت الطرق ، وتشابكت . لم تعد تعرف إلى أين تتجه .
                      أهملت فكرة الاختفاء من العالم . تلاشت الفكرة فى اللحظة التالية لظهورها . التخلص من الحياة يحتاج إلى شجاعة ، لا تملكها .
                      ماهر كأنه الأمل المستحيل ، لا تعرف إن كانت تحبه ، أم أنه علاقة عابرة حاولت ـ بالتعرف إليه ـ أن تفر من أزمتها ؟
                      مثل الومضة التى تستعيد عوالم كاملة ، رأت الأب لوقا فى ملامحه الطيبة ، وثوبه الكهنوتى المختلط الأبيض والبنى .
                      الدير !
                      بدت الفكرة قارب نجاة حقيقياً ، تصعد إليه من خطر الأمواج الصاخبة حولها ، يمضى بها إلى اليابسة والأمان وتناسى الالتفات إلى الوراء .
                      حين زارت الأب لوقا ، لم يجهد نفسه فى تذكرها ..
                      ارتجفت ملامح وجهه بانعكاس المفاجأة .
                      اكتفى بالقول :
                      ـ كيف حالك ؟
                      عرفت أنه لم ينسها ..
                      وهو يحاول إخفاء مشاعره :
                      ـ فى هذا الأمر لابد من الرجوع إلى آراء ربما كانت أكثر حكمة !
                      عاودت التردد على الدير ، تؤكد ما اعتزمته . تنقر باب مكتب الأب لوقا بنقرات خافتة . يتناهى صوته . تدخل . تقف أمامه حتى يأذن لها بالجلوس . لا تعيد عرض ما حدثته فيه ، ولا يسألها إن كانت قد رجعت عن قرارها ..
                      لما دفع إليها أوراقاً ، وقال : املئى البيانات ، أدركت أنها تخطو أولى خطواتها إلى داخل الدير .
                      قالت الأخت :
                      ـ خدمة الرب يمكن أن تؤدى فى أى مكان ..
                      قالت سيلفى :
                      ـ يشغلنى فقط أن أخدم الرب ..
                      ثم وهى تمسح دمعة فى عينها :
                      ـ أنا أفر إليه مما أعانيه !
                      حدثته الراهبة عن حياة سيلفى فى الدير : أداء الصلوات والطقوس ، تنظيف حجرتها ، ترتيب فراشها ، حياكة ـ أو رفو ـ ثيابها .
                      ومضت على شفتيها بسمة ، وهى تشير إلى امتلاك الأخت كريستينا ـ فهم أنها تقصد سيلفى ـ صوتاً جميلاً ، فهى تشارك فى كل التراتيل داخل كنيسة الدير .
                      قالت وهى تتأهب للعودة :
                      ـ منذ دخلت الأخت كريستينا الدير لم يعد لها صلة بالعالم الخارجى .
                      لم يقاطع فى إصغائه .
                      حدّست أنه لا ينصت لها .
                      محمد جبريل ـ الإسكندرية 15/4/2004


                      [align=center](انتهت الرواية)[/align]

                      تعليق

                      يعمل...
                      X