وحدهما هبوطُ الليلِ والإعياءِ كانا يُعيدانهُ إلى فِراشه الَّرثِّ ..ووجهِ جدّهِ السّموح ، ذلك الرجلِ الذي لم يبقَ منهُ كاملاً إلاّ اسمهِ





وعصاً غليظةً يُقاومُ بها الجاذبيّةَ الأرضيّة .
بضعٌ وعشرونَ عاماً ..وذاكرةٌ مُعذّبةٌ تبحثُ عن فرحٍ بعثَرَتهُ ذاتَ عصفٍ.. بوّاباتُ الجحيم ،وقلبٌ رقيقٌ تُؤذيهِ الكلمةُ العابرةُ
لو استشَفَّ بين حروفها بعضَ الإهانةِ أوالتجريح ،
مُنطوياً على ذاتهِ..يلتفّ بذكرياتٍ صارت أطيافاً ، كأنهُ يهربُ من زمنٍ لا يستهويه ، في زاويةٍ منسيّةٍ من تلك المدينةِ المزدحمةِ
مُحاصراً بغربةِ الأمكنةِ والوجوه ..!
لم تستطعْ تلك السنواتُ التي قضاها بين أزقّةِ سوق الخضارِ أن تُكسبهُ بعض الصلابةِ أو أن تُغيّر من طبيعتهِ شيئاً ،اللّهمّ إلاّ تلك
لحُمرةِ المحروقةِ التي وضعتها شمس السوقِ القاسيةِ فوق جبهتهِ ،
لاهثاً متلعثمُ الخطى يعودُ كل مساءٍ بحصيلةِ يومٍ عصيبِ من أيامِ حياةٍ فيها التّقيُّ وفيها الشّقيّ ..ليوقعهُ حظهُ العاثرُ في صاحب عملٍ
من النوعِ الأخير ، فظٌّ غليظُ القلبِ..بِوجهٍ عَبوس ٍوكفٍّ شحيحٍ ..ولسانٍ سليط ..لا يجودُ في أحسنِ حالاتهِ بأكثرِ من أوامرٍ تُصدرُ
المُتطلّباتِ كلّ لحظةٍ بفرضيّةِ التنفيذِ في غيابِ أي إمكانيّةٍ للمجادلة..مُلحقةٌ في أغلبِ الأحيانِ بعباراتِ التأنيبِ والتقريع ،
كثيراً ما فكرَ بمغادرةِ هذا الوجهِ العَبوسِ..والكفّ الشحيح ، وتقلّبَ بين مخبزٍ وبقالةٍ وورشةِ ميكانيك ..، لكنهُ لا يلبثُ أن يعود ...
لعلّ ما كان يُعيدهُ تلك الملاليمِ التي كان بعضُ الزبائنِ ينفحهُ بها بعيداً عن عيون الكفّ الشحيح ، وصدفةٌ عبرت المكانَ مقتحمةً
الماضي والآتي وما بينهما من هواجس ،بشفتينِ وابتسامةٍ تعلوهما الأحلام ...وكأنّ القدرَ قررَ أن يُهادنهُ ببعضِ قطراتِ عذوبةٍ فوقَ كأسٍ تعتَّقتْ فيها مرارةُ الأيام ،أشرقت الإبتسامةُ ...فشعَّ في الوجهِ الجميلِ نورٌ أسمر إنعكسَ في عُمقِ غمازتيْنِ ضاحكتيْنِ
ذكّرتاه بليلةِ العيد ..بسيطةُ الهيئةِ..ترتدي حُلَّةَ ما قبلَ العشرينِ ، حين يكونُ الصِّبا جميلاً في كل الثياب .
رسَتْ نظراتُهُ عليها ذاتَ صباحٍ ...ومن عينيها الواسعتين استشعرَ طعمَ اللوز الأخضرِ في حقلٍ بعيد .
كان يسترجعُ ذلك الصباحِ حين زجرهُ الصوتُ الغليظُ بأمرٍ جديد :
__ يا محفوظ ضع الخضارِ في عربة اليدِ وأوصل البنت ..لا تتأخّر فالبيتُ قريب .
__ هل هذا بيتُكُم ..؟ سألها بسذاجةٍ وهويشاركها إنزال الخضارِ من العربة ..
__ يا ريت ..تقولُها بحسرةٍ مصحوبةٍ بتنهيدةٍ حرّى..، وبلهجةٍ ريفيّةٍ اليفةٍ ..تُكملُ ان هذا بيتُ العائلة التي تعملُ لديها منذ سنوات عدّة .
تشكرُهُ وهي تتفادى عينيهِ ، لكن عينيهِ المزروعتين بالأسئلةِ تُحاصرها كجيشٍ من النملِ الجائع ..!همَّ أن يستوقفَها ليسألها
شيئاً ما ..لكنهُ تراجعَ تحت عيني صاحبةِ البيتِ خلف شباكٍ قريبٍ ترمقهُ بنظرةٍ أشعرتهُ أن لم يعُدْ لهُ لزومٌ هناك .
وفي طريقِ العودةِ تساقطَ المطرُ رذاذاً شربتهُ الطرُقاتُ كما تشرَّبتْ روحهُ مذاق اللوزِ الآخضرِ المتماوجِ في العيون .ا
شيءٌ ما أضفى صوفيّةً على هذا الإختلاسِ الجميل ..وبين تلك الطرُقاتِ الرّطبة ودخان شاحناتِها وصناديقها المبعثرةِ أصبح
يستحثُّ الساعاتِ في إنتظار الخميس الموعود،وقد صارّ لديهِ انتظارٌ يُزعزعُ رتابةَ الأيامِ ..وخيالٌ يجوبُ الآفاقَ..،وقلبٌ يخفقُ
بحلمٍ صغيرٍ يؤنسُ وحدة لياليهِ الباردةِ ويُنسيهِ شخيرَ تلك الحنجرةِ العجوز .
كلماتٍ قليلةٍ كانا يتبادلانها دون إفصاحٍ أوتلميح..وأحاديثاً ساذجةً لكنها كانت تُضفي على يومهِ إشراقةً تُعينهُ على التعاملِ مع
تناقضاتِ البشرِ في ذلك السوقِ العجيب ،أحاديثاً استطاعَ من خلالها أن يعرفَ أنها تنتمي إلى نفسِ البقعةِ التي أتى منها
تلك التي لا تلوحُ على خارطةِ الكونِ إلارُكاماً مضرّجاً بالدماء ، وأنها تحملُ ذكرى الأحبّةِ أطيافاً شاحبةً ..بلسماً لما يوجعُ في
هذا الواقعِ المرير.
كثيرةٌ هي الأحلامُ التي نبتتْ في قلبهِ وصغُرّت إلى أن تلاشت في مشوارِ عمرهِ المقذوف خلفه ..وواقعهِ المُوزّعِ بين نهاراتٍ
تبدأ بصوتِ جدهِ ، وتنتهي بغبارِ المغيب الذي يُلبِسُ وجوهَ الكادحينَ قناعاً موحداً تكسوهُ دكنةُ الوجوم .
لكن شعوراً غامضاً بدأ يتراكم داخلهُ يقول أنها لا تبادلهً الشعور، تتهرّبُ من أسئلتهِ ..تتحاشى نظراتهُ ، تتجاهلُهُ في بعض الأحيان ،
أتكونُ قد تعرّفت بمن هو أفضلُ منهُ حالاً ،أو أوسعُ رزقاً ..فربما كان لديها تطلعاتِ وطموحات تتجاوز وضعهما البائس ،
أم هي مراوغةُ الأنثى في إحكامِ قبضتها على قلبٍ بات أسيراً لديها ..!! أو لعلّ سوء ظنهِ قد جاوز الحدود..!
وحيّرتهُ الظنون ..لِتنقلبَ حيرتهُ عذاباً ألزمهُ حجرتهُ يومين مذعناً لِإحساسٍ شاملٍ بالإعياء ..ليعودَ بعدهما إلى عملهِ فاترَ الهمّةِ
تتقاذفهُ الأفكارُ السود .
وما أن دخل السوقِ حتى رآها هناك ، تقفُ أمامَ ذلك الوجهِ العبوس ، سارعَ إلى الإقترابِ منها ..ورفعَ عينيهِ إليها كالمُستغيث ،
إلتقَت بعينيهِ ..فارتشفَت أهدابُها بوادرَ دمعةٍ كانت على أهبةِ السقوط ،
وفجأةً ..بزجرُهُ الصوتُ الغليظ :
__ حمداً لله على السلامةِ يا محفوظ بيك ، هل تظن نفسكَ عائدٌ إلى مُلكِ أبيك ...؟!!
تتغيّبُ كما يحلو لك ، وتعود متى تريد ؟؟؟
وفي غطرسةٍ بغيضةٍ صرخَ بهِ أن أُخرج من هنا...ففعل دون أي تعليق ..
إرتسمَ سوء الظن بعينيهِ وساورتهُ الشكوك ،لكنهُ أثر الإبتعادَ ..وكمُنَ في زاويةٍ خلف الصناديقِ تتيحُ لهُ أن يراهما بوضوح.
كانت تقفُ منهزمةً ..مُنسحقةً وقد شحُبَ لونُها الخمريِّ ..وخبا في عينيها اللوزيتينِ التألقُ والبريق ،وأمامها كان يقفُ ذلك
الوجُه العَبوسِ بصوتهِ الغليظ الذي تلائم معما ارتسمَ على وجههِ من لؤمِ وقسوة، وبين لحظةٍ واخرى كان يرفعُ سبابتهُ في
وجهها فيما بدا أنهُ إشارةٌ بالتهديدِ والوعيد ، وكلما ازدادّ صوتهُ صلفاً وخشونة ..إزداد صوتها خفوتاً وانكساراً ..
لحظةٌ صمتِ سادت أخرج بعدها يدهُ من جيبهِ ببعضِ الأوراقِ الماليةِ ودسّها في يدها مربتاً على كتفها كانهُ يُنهي الحديثَ
ويُطالبها بالإنصراف ، مُشيحاً بوجههِ عنها متظاهراً بالإنشغالِ،
هنا استطاعَ الكامنُ خلفَ الصناديقِ أن يُلِمّ باطرافِ الموضوع ، قفزّ من مكمنهِ مندفعاً دافعاً في طريقهِ كل ما اعترضهُ من
الأجسادِ والأشياءِ التي كانت تتواجدُ فيالمكان ، وانقضّ عليهِ ممسكاً بتلابيبهِ صارخاً في وحههِ بقوةٍ لم يعهدها في نفسهِ.
__ ماذا فعلتَ بها أيها الجبان ؟؟
وبعدّ لكمةٍ فوق صدغهِ يُكمل : تكلمْ يا حقير!!!
ينتفضُ هذا إلى الوراءِ صارخاً بجنون : أخرج من هنا أيها المتشرد ..وخُذ هذهِ الزبالةِ معك !!!!!!
موجعةٌ كضربةٍ قويةٍ على قصبةِ الساقِ...جاءت الكلمات .............
فار الدمُ في عروقهِ ..وانتفضت في جسدهِ الهزيلِ كل فتوّةِ الشباب ..، يتلفتُ حولهُ في جنون ..فتقعُ عيناهُ على أحد العيارات
الحديديةِ الثقيلةِ تتوسطُ كفةَ الميزان ،يلتقطُها ...وفي مثل لمحِ البصرِ يهوي بها على الرأسِ الجبان ..ضربةٌ ...ضربتين..
ويتهاوى الجسدُ مضرجاً بدماه ، تتقطعُ الأنفاسُ ..تتحشرجُ الإستغاثةُ ..وتنفردُ كتلةُ اللحمِ متشبثةً بالفراغ ، تنزاحُ الأشياءُ
مستسلمةً لثقلِ الزاحفِ الهابط..مرتطماً بما يُجفِّلُ صمتَ الأركان .
وما أن يفيقُ من ذهولهِ مكتشفاً ما فعلت يداهُ ؛حتى يُطلقُ ساقيهِ للريح ِ دافعاً من حولهِ الأجسادِ التي بدأت تتجمهرُ في المكان .
وراح يركضُ في كل الإتجاهات تلاحقهُ الأصواتُ والنداآت..يركضُ أكثر وتتعرّج به الطريق ..تتناثرُ من حولِه الأشياء..
يسودُ الهرَجُ والمرجُ ، يثورُ في وجههِ الغبار ، يُغيرُ إتجاههُ ويُطلقُ ساقيهِ للريح من جديد ، تعترضهُ بعضُ الأيدي لكنهُ
يتفلّتُ منها..، الدخانُ يملأُ المكان..الأشياءُ حولهُ تغيم ، تتماوجُ الأشكالُ ..تتمازجُ الصورُ وألألوان وسطّ ضبابٍ كثيف،
فجأةً..تمطرهُ السماءُ بالنيران ، تتساقطُ الأجسادُ..يتعالى الصراخ والعويل ، الدباباتُ تهدُر...تدكّ الأبنية ..تتهاوى الجدران
الإسمنتية كُتلاً مزروعةً بالقضبانِ وشظايا الزجاج ، المجنزراتُ تحرثُ الشوارع ..تزرعُ الموتَ والدمار..
الجرافاتُ تجتاحُ الرّكامَ ..وما تبقّى من البيوتِ .
يرتفعُ زعيقُ مكبرات الصوتِ من العرباتِ المدرّعةِ بعربيّةِ مكسّرة :
يا اهالي مخيم جنين ..عليكم ترك البيوتِ والنزول إلى الشوارع ،رجالاً ونساءً وأطفال ، جيش الدفاعِ الإسرائيليّ يبحثُ عن المخربين ، ومن لا يترك البيت سنهدمهُ فوق رأسهِ ،..ويتكرّرُ النداء...
يا إلهي أمهُ في البيت وحدها مع اخوتهِ الصغار، جدُّهُ في مشفى المدينةِ مع جدتهِ المريضة ، وأبوهُ مع المقاومين في أزقّةِ
لمخيمِ يطاردُ الموتَ بحثاً عن إمكانيةٍ للحياة .
ويركضُ محفوظ ...يتخيلُ امهُ واخوتهِ تحت جنازيرالدباباتِ فتُجنُّ خُطاه ،
يسرعُ اكثريُسابق ظلهُ.. بأعوامهِ الخمسة عشر وأطرافِ غزالٍ شريد ،
يحاولُ أن يصلَ إلى البيتِ قبل ان تدركهُ الدبابات .تُباغتهُ الرشاشاتُ من بين البيوت ، يُغيرُ إتجاههُ مرة أخرى ،تتقاطعُ الأصواتُ من خلفهِ ، أمسكوه ...هذا المجرم قتل الحاج زهران .
تضيقُ أنفاسُ تماسكهِ ..لقِصَرِ مدى الرؤيا أمامه ، تختلطُ خلفهُ الأصداء ..في فضاء انعدام الأوزانِ وعودةِ الطوفان ،
ينزفُ خوفاً ..فَيجترُّ التمرُّدَ مؤنساً ،وأذرعِ الرعبِ خلفهُ تتطاولُ على وهمِ النجاة ، يركضُ وينطلقُ بسرعةٍ لا معاييرَلها ..تكادُ
تكونُ اقتحاماً يمحو المسافاتِ بجميعِ أشكالها، الوقتُ ..الزمن ..العمُرُ ..جغرافية المكانِ تتشكلُ لعينيهِ دوائراً ومربعات ،
أضلاعاً وأقطار ..، متشابكةً في فضآاتٍ إعجازيةِ الأنحاء ..!!
يلتقطُ انفاسهُ لحظه ...كادوا يصلوه ..أيديهم تتشبثُ بأطرافِ سترتهِ ، يتملّصُ منها ويتركها فارغةً بين أصابعهم ،
ويركضُ يسابقُ الريحَ والنيران ..،
و...على مدخلِ السوقِ ..فجأة..قفزت الشاحنةُ مرتين ..بكلّ يُسرٍ وسهولة ، مرةً بالعجلةِ الأماميةِ ..ومرةً بالعجلةِ الخلفيّة.....
كأنها هرستْ برتقالةً تدحرجت بين العجلاتِ من أحدِ الصناديق .!
وعلى أطرافِ المكانِ ..تتمزقُ الظلال...تتناثرُ الصوَر ..تتطاير .. ثم تسقطُ مُهشّمةً ..تذروها رياحٌ تحملُ أشلاءَ حُلُمٍ مهيض...!!






نجــاح عيسى ..20/9/2012
تعليق