لقاء في مالمو

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • فاطمة يوسف عبد الرحيم
    أديب وكاتب
    • 03-02-2011
    • 413

    لقاء في مالمو


    من علو شاهق تبدت لي هولندة حيث تتدفَّقُ أدغال الزنابق وكأنّ ريشة رامبراندت الساحرة ترسم زهور التوليب وتطرزها على رداء حسناء تتهادى على إيقاع سعادة، تلك الروائع الطبيعية تحفزك أن تهوي ساجدا للخالق الذي أبدع في ملكوته هذه اللوحات الجمالية التي قل ما نرى مثلها في أوطاننا.

    وطئت عالم المطار الذي يموج بأرقام وأبجديات لاتينية وتدفقات المسافرين من كل بقاع الأرض، يتقاذفها مدّ الذهاب وجزر الإياب، حركة دائبة محسوبة بالثانية يكتنفها نظام دقيق وصارم، كيوم الحشر كلّ إلى ميقاته وتلفهم أكفان الصمت والحيرة والبحث الدائب، متباينين بملابسهم الفلكلورية المعبرة عن ثقافتهم وكأنهم مدعوون لكرنفال عالميّ، وأخذت أبحث بين الأرقام والأبجديات المطابقة لتذكرتي على شريط أرضي متحرك يحملني وحقائبي إلى هدفي حتى وجدت مدخلا إلى القاعة التي أنشدها كي انتظر فيها أربع ساعات لتقلني طائرة إلى مدينة "مالمو السويدية" لزيارة أختي، فالمطارات مستودعات الغياب، وقد رافقني إحساس بالخوف من المجهول ولكني أقنعت نفسي بإجادتي للّغة الانجليزية وبعض الفرنسية مما قد يخفف ثقل الخوف عن نفس تائهة في ملكوت الله وكنت المسلمة العربية الوحيدة على متن الطائرة المحلية، وعليّ إبراز جواز سفري مدموغا بفيزا الدخول، لأنّ الركاب "أهلية بمحليّة" ليت هذا في مطاراتنا العربية، وبوابات حدودنا، ابتلعت حسرتني وشردت حين أيقظني صوت المضيفة" بيف أور تشكن" بدوت حذرة من الطعام فأدركت سر حذري فقدمت"التشكن"وصلت مطار مالمو.

    وقفت الوحيدة أمام موظف الجوازات، تصفح بيانات جواز سفري وقرأت ملامح وجهه، شاب في مقتبل العمر وسامته مذهلة وانتابني إحساس بألفة نحو هذه الملامح وكأن لها بصمة في ذاكرتي، وضحك بدفء، فلفني موج الغرابة، فسألته:"
    why are you laughing?" ابتسم مجيبا بلغة عربية محلية:" من وين أنت جاي"عروبته هدّأت الطمأنينة الهاربة في إطار غربتي.
    فرددت على الفور: من الأردن
    :لكنك حسب بيانات جواز السفر من مواليد لبنان!!
    :هكذا شاءت الأقدار أن أكون فلسطينية الأصل من لبنان، وهوية أردنية.
    أجاب بفرح من وجد ضالته: أنا من لبنان وبيت جدي في حيّ جامعة بيروت العربية وهويتي سويدية.
    رددت بفرحة من وجد نفسه التائهة: في ذاك الحيّ كانت أحلى أيام طفولتي وصباي ودراستي،يا الله ما هذا التلاشي...!، ثم قرأت الباجة المكتوب عليها اسمه"سامي المنسي"وقفز فجأة إلى ذاكرتي من ذاك الزمن الغابر"وليد المنسي"، فسألته عنه! ..رد بوجع خفيّ: إنّه أبي!!
    أردفت بحنين موغل لذاك الزمن : كان أستاذي في"إعدادية حيفا".
    ردّ بحماسة: أعرف المدرسة،التي درست فيها المناضلة "دلال المغربي".
    سألت بلهفة: أما زال أبوك في بيروت، كيف حاله، أتخيله هرما!!
    ردّ بحزن دفين: أبي استشهد منذ عشرين سنة وهو يدافع عن أحد المخيمات الفلسطينية في بيروت.
    رددت : رحمه الله، كان أستاذا رائعا ولا يمكن للذاكرة أن تغفل عنه.
    وكأن ريحا هبت على ذاكرة جففتها غربة قاسية، ناولني جواز سفري ونظراته تنوء بأسىً: فرصة سعيدة وأتمنى لك إقامة ممتعة في السويد، دوامي انتهى ووصلت صديقتي السويدية وابننا"وليد".
    توجه نحوهما ونظراتي الذاهلة تتابعه، حمل الصغير مرحبا" هاي داد"،ثمّ جاءني صوته مستاء: مدام، أبي لم يستشهد بيد يهودية بل بيد عربية، وأنا هنا مسئول قسم الأجانب في المطار"لي كيان"وإذ كان محذورا على أبناء وطني في بلد الشتات العمل في مؤسسة حكومية أو خاصة. وصافح شابا تسريحة شعره غريبة، موشوم الجسد، يتزين أنفه بحلقة معدنية، لاحظ سامي الدهشة في عيني حياني مبتعدا"هذا صديق عربي" وغيبتهم ممرات المطار والغربة.

    جلست بانتظار أختي، ورحلت مع رياح حلم فائت وانتابتني نوستالجيا ذاك الزمن، حيث أزهرت أحلامي الوردية وحلا مرتع صباي،حيث كان الأستاذ وليد رجلا مميزا بوسامته ودماثة خلقة، ومحطّ أحلام العذارى، الذي استطاع بأخوية مهذبة وأستاذيّة مبهرة احتواء لهيب مشاعر مراهقتهن والتعامل معهن باحترام، كنت من المعجبات به، اقتحم أحلام مراهقتي فأقصى اهتمامي بكل مطرب أو فنان في ذاك الوقت، وباعد بيننا الزمن ولكنّه ما زال يحتل زاوية مشرقة في الذاكرة إذ كثيرا ما دغدغت نسيمات السعادة روحي وزها الشوق والحنين إلى تلك المرحلة حيث كانت الأحلام وردية والأماني براقة، لم أدرِ ما ربطني به أهو حبّ ميعة الصبا أو إعجاب طالبة بأستاذها، فرأيته عملاقا، شغوفا بعطائه، دافقا بحنان آسر، ومؤرخا بنهج أدبي لأزمنة الهزائم المؤطرة بالخيبات وتشظي الآمال، ولسانا يتدفق شعرا وأدبا ووطنية، فالقضية الفلسطينية دأبه، وبطولته وحماسه أعطانا يقينا أن فلسطين وراء باب واهن.

    ما زلت أذكر آخر مرة رأيته فيها وهو يرتدي زيّ الفدائيين حاملا سلاحه ومودعا،وصوته مليء بصدى الحماس الواثق من خطاه "الآن اخترت الطريق الصحيح، ومسيرة التحرير بحاجة لي وأنا تواق إليها، وأنتن أمهات الغد اللواتي ستربي الأجيال المناضلة في زخم الرؤى الوطنية" ودّعنا، وعيناي مع العيون الدامعات على فراق أستاذ بجدارته، وانقطعت أخباره وتوهتنا تطلعات الحياة في دروبها.
    خبر اغتياله صدمني، أتسحق أمانيه وأحلامه على أيدي المناوئين للثورة ويخلع ابنه"سامي المنسي" من جذره ليكون منتميا لثقافة سويدية، وحفيده جذرا ممتدا خارج السرب لا يحمل من عروبته إلا الاسم، هل جاهد وليد واستشهد من أجل فلسطين وتحريرها، أم من أجل أن تقتلع جذوره وترمى في أرض غريبة، وتدفق دمعي على شعب خابت آماله في ظل المؤامرة الكبرى.

    وصلت أختي متلهفة وحضنتني ناظرة إلى عيني متسائلة: أهي دموع فرحة اللقاء؟؟ قلت: نعم، ولم تدر أنها دمع حسرة الضياع على هويتها وأولادها وهوية وليد الابن ووو...وكلّ مهاجر ....وراودني القول المأثور لأمّ عبد الله الصغير آخر ملوك الأندلس حين ألقى نظرته الأخيرة على غرناطة في مكان معروفً باسم "زفرة العربي الأخيرة" (
    el últimosuspiro del Moro) فبكى، فقالت عائشة الحرة: «ابكِ مثل النساء ملكاَ مضاعا لم تحافظ عليه مثل الرجال» لو كانت عائشة في زماننا أتنوح قائلة:" أبكوا على شعوب عربية ضاعت قلبا وقالبا ونطلق على كلّ الأمكنة زفرات الأمة العربية"؟؟؟؟
    التعديل الأخير تم بواسطة فاطمة يوسف عبد الرحيم; الساعة 25-09-2012, 19:57.
  • أم عفاف
    غرس الله
    • 08-07-2012
    • 447

    #2
    أسعدني كثيرا أن أكون أول من يقرأ قصتك .
    كانت قصة شيقة ومكتضة بالجمال .
    أجدت انتقاء اللغة .
    يصوّر لي طمعي أن للحكاية فصول أخرى ستكتبيتها وأنا لن أفوّت منها حرفا .
    صديقتي لم تستطيعي نقل القصّة بحياديّة ذلك أن الأمر موجع حقا .
    لكن حين يتخذ القارئ أحكامه بنفسه يكون له نصيبه في الكتابة .
    شكرا لأنني كنت هنا ولأنك كان لك فضل الضيافة بأفخر ما يقدم للإنسانية من المعاني .
    محبّتي

    تعليق

    • سعاد محمود الامين
      أديب وكاتب
      • 01-06-2012
      • 233

      #3
      النص جميل ولكنه طويل يبعث على الملل كأنه يومياتأطلت السرد وأدخلت لغة أخرى فتشوه قليلا آمل أن تتقبلى ملاحظتى ودمت
      مصر ومامصر سوى الشمس
      التي بهرت بثاقب نورهاكل الورى
      والناس فيك إثنان...
      شخص رأى حسنا فهام به
      وشخص لايرى!

      تعليق

      • ربيع عقب الباب
        مستشار أدبي
        طائر النورس
        • 29-07-2008
        • 25792

        #4
        الذكريات خانتك سيدتي
        فحولت النص إلي خاطرة جميلة
        إلا إذا تلاعبنا في العنوان و قلنا مثلا ( صفحة من يومياتي )
        و مع ذلك قد نعود نبحث فيها عن الدهشة
        عن القصة القصيرة التي لا تهتم بالسرد قدر ارتباطه بالحدث و الوصول إليه
        و المعروف عنك أنك تقتحمين السرد القصصي باجادة و تذهبين إلي الحدث
        ساخنا بل ملتهبا !

        تقديري و احترامي
        التعديل الأخير تم بواسطة ربيع عقب الباب; الساعة 26-09-2012, 12:32.
        sigpic

        تعليق

        • فاطمة يوسف عبد الرحيم
          أديب وكاتب
          • 03-02-2011
          • 413

          #5
          الأستاذ ربيع
          تحية وبعد

          محق فيما كتبت وهي يوميات ومواقف مؤثرة ولتغيير نمط القصة التي بات معروف فيها طابع الألم والحزن وكوني فلسطينية عشت في لبنان كان لا بد أن نعبر عن همومنا التي عايشناها وقد لا يعلم الكثير أن الفلسطيني في لبنان هُجّر باختياره أو وضع تحت ظروف قسرية ومعاناة لا يعلم بها إلا الله وزين له الغرب وهاجرت أكثر من مئة ألف عائلة وفق خطة جهنمية مدروسة حتى لا يناضل من أجل القضية الفلسطينية واقتلع مرة ثانية من أقرب أرض إلى وطنه وأصبح مواطنا من الدرجة الثانية أو طبقة منبوذة في الغرب ويحاولون تحويل الأجيال الجديدة عن الإسلام ، يا أخي لكل عربي في بلده همومة ومعاناته
          عذرا للإطالة

          تقديري واحترامي

          تعليق

          • فاطمة يوسف عبد الرحيم
            أديب وكاتب
            • 03-02-2011
            • 413

            #6
            المشاركة الأصلية بواسطة أم عفاف مشاهدة المشاركة
            أسعدني كثيرا أن أكون أول من يقرأ قصتك .
            كانت قصة شيقة ومكتضة بالجمال .
            أجدت انتقاء اللغة .
            يصوّر لي طمعي أن للحكاية فصول أخرى ستكتبيتها وأنا لن أفوّت منها حرفا .
            صديقتي لم تستطيعي نقل القصّة بحياديّة ذلك أن الأمر موجع حقا .
            لكن حين يتخذ القارئ أحكامه بنفسه يكون له نصيبه في الكتابة .
            شكرا لأنني كنت هنا ولأنك كان لك فضل الضيافة بأفخر ما يقدم للإنسانية من المعاني .
            محبّتي
            السيدة أم عفاف
            سررت لكونك الأولى في القراءة ، وهذا كرم منك ولباقة،أشكر مديحك ، فعلا لم أكن حيادية بل كما حدثت معي ، والسبب لأن القصة لها علاقة بقضية شعب وهمومه ،
            لا يوجد يوميات لأني في كتاباتي اهتم بالموقف الذي يثير قضية أو يحكي حالة ،
            هي همومنا نحولها إلى كلمات
            وأخيرا لي عتب بسيط عليك وعتب الأصدقاء محبة، لم تردي على تعليقي في قصتك الرائعة شياطين الإنس والجن
            وتقبلي محبتي

            تعليق

            • فاطمة يوسف عبد الرحيم
              أديب وكاتب
              • 03-02-2011
              • 413

              #7
              المشاركة الأصلية بواسطة سعاد محمود الامين مشاهدة المشاركة
              النص جميل ولكنه طويل يبعث على الملل كأنه يومياتأطلت السرد وأدخلت لغة أخرى فتشوه قليلا آمل أن تتقبلى ملاحظتى ودمت
              العزيزة سعاد
              أتقبل نقدك كما أتقبل مديحك ،
              لكن لكل كاتب رؤية يهدف من ورائها إيصال فكرة أو خبر أو معلومة ،
              والإطالة عادة غير شيقة سأحاول التخلص منها،
              لأننا في زمن يجب الإيجاز فيه في كل شيء والصبر عملة نادرة
              لك تقديري

              تعليق

              • ليندة كامل
                مشرفة ملتقى صيد الخاطر
                • 31-12-2011
                • 1638

                #8
                السلام عليكم
                قصة جميلة رغم الوجع تعالج حقا مأساة عامة ليس بالواقع الفسطيني فحسب بل تمس الواقع العربي ككل
                تحية تقدير ومحبة لا حزن قلبك
                http://lindakamel.maktoobblog.com
                من قلب الجزائر ينطلق نبض الوجود راسلا كلمات تتدفق ألقا الى من يقرأها

                تعليق

                • فاطمة يوسف عبد الرحيم
                  أديب وكاتب
                  • 03-02-2011
                  • 413

                  #9
                  المشاركة الأصلية بواسطة ليندة كامل مشاهدة المشاركة
                  السلام عليكم
                  قصة جميلة رغم الوجع تعالج حقا مأساة عامة ليس بالواقع الفسطيني فحسب بل تمس الواقع العربي ككل
                  تحية تقدير ومحبة لا حزن قلبك
                  أهلا بالصديقة ليندا
                  يسرني حضورك والمشاركة بالرأي كما قلت الهجرات قضية عربية و الاغتراب قاسٍ

                  تعليق

                  يعمل...
                  X