وطئت عالم المطار الذي يموج بأرقام وأبجديات لاتينية وتدفقات المسافرين من كل بقاع الأرض، يتقاذفها مدّ الذهاب وجزر الإياب، حركة دائبة محسوبة بالثانية يكتنفها نظام دقيق وصارم، كيوم الحشر كلّ إلى ميقاته وتلفهم أكفان الصمت والحيرة والبحث الدائب، متباينين بملابسهم الفلكلورية المعبرة عن ثقافتهم وكأنهم مدعوون لكرنفال عالميّ، وأخذت أبحث بين الأرقام والأبجديات المطابقة لتذكرتي على شريط أرضي متحرك يحملني وحقائبي إلى هدفي حتى وجدت مدخلا إلى القاعة التي أنشدها كي انتظر فيها أربع ساعات لتقلني طائرة إلى مدينة "مالمو السويدية" لزيارة أختي، فالمطارات مستودعات الغياب، وقد رافقني إحساس بالخوف من المجهول ولكني أقنعت نفسي بإجادتي للّغة الانجليزية وبعض الفرنسية مما قد يخفف ثقل الخوف عن نفس تائهة في ملكوت الله وكنت المسلمة العربية الوحيدة على متن الطائرة المحلية، وعليّ إبراز جواز سفري مدموغا بفيزا الدخول، لأنّ الركاب "أهلية بمحليّة" ليت هذا في مطاراتنا العربية، وبوابات حدودنا، ابتلعت حسرتني وشردت حين أيقظني صوت المضيفة" بيف أور تشكن" بدوت حذرة من الطعام فأدركت سر حذري فقدمت"التشكن"وصلت مطار مالمو.
وقفت الوحيدة أمام موظف الجوازات، تصفح بيانات جواز سفري وقرأت ملامح وجهه، شاب في مقتبل العمر وسامته مذهلة وانتابني إحساس بألفة نحو هذه الملامح وكأن لها بصمة في ذاكرتي، وضحك بدفء، فلفني موج الغرابة، فسألته:"why are you laughing?" ابتسم مجيبا بلغة عربية محلية:" من وين أنت جاي"عروبته هدّأت الطمأنينة الهاربة في إطار غربتي.
فرددت على الفور: من الأردن
:لكنك حسب بيانات جواز السفر من مواليد لبنان!!
:هكذا شاءت الأقدار أن أكون فلسطينية الأصل من لبنان، وهوية أردنية.
أجاب بفرح من وجد ضالته: أنا من لبنان وبيت جدي في حيّ جامعة بيروت العربية وهويتي سويدية.
رددت بفرحة من وجد نفسه التائهة: في ذاك الحيّ كانت أحلى أيام طفولتي وصباي ودراستي،يا الله ما هذا التلاشي...!، ثم قرأت الباجة المكتوب عليها اسمه"سامي المنسي"وقفز فجأة إلى ذاكرتي من ذاك الزمن الغابر"وليد المنسي"، فسألته عنه! ..رد بوجع خفيّ: إنّه أبي!!
أردفت بحنين موغل لذاك الزمن : كان أستاذي في"إعدادية حيفا".
ردّ بحماسة: أعرف المدرسة،التي درست فيها المناضلة "دلال المغربي".
سألت بلهفة: أما زال أبوك في بيروت، كيف حاله، أتخيله هرما!!
ردّ بحزن دفين: أبي استشهد منذ عشرين سنة وهو يدافع عن أحد المخيمات الفلسطينية في بيروت.
رددت : رحمه الله، كان أستاذا رائعا ولا يمكن للذاكرة أن تغفل عنه.
وكأن ريحا هبت على ذاكرة جففتها غربة قاسية، ناولني جواز سفري ونظراته تنوء بأسىً: فرصة سعيدة وأتمنى لك إقامة ممتعة في السويد، دوامي انتهى ووصلت صديقتي السويدية وابننا"وليد".
توجه نحوهما ونظراتي الذاهلة تتابعه، حمل الصغير مرحبا" هاي داد"،ثمّ جاءني صوته مستاء: مدام، أبي لم يستشهد بيد يهودية بل بيد عربية، وأنا هنا مسئول قسم الأجانب في المطار"لي كيان"وإذ كان محذورا على أبناء وطني في بلد الشتات العمل في مؤسسة حكومية أو خاصة. وصافح شابا تسريحة شعره غريبة، موشوم الجسد، يتزين أنفه بحلقة معدنية، لاحظ سامي الدهشة في عيني حياني مبتعدا"هذا صديق عربي" وغيبتهم ممرات المطار والغربة.
جلست بانتظار أختي، ورحلت مع رياح حلم فائت وانتابتني نوستالجيا ذاك الزمن، حيث أزهرت أحلامي الوردية وحلا مرتع صباي،حيث كان الأستاذ وليد رجلا مميزا بوسامته ودماثة خلقة، ومحطّ أحلام العذارى، الذي استطاع بأخوية مهذبة وأستاذيّة مبهرة احتواء لهيب مشاعر مراهقتهن والتعامل معهن باحترام، كنت من المعجبات به، اقتحم أحلام مراهقتي فأقصى اهتمامي بكل مطرب أو فنان في ذاك الوقت، وباعد بيننا الزمن ولكنّه ما زال يحتل زاوية مشرقة في الذاكرة إذ كثيرا ما دغدغت نسيمات السعادة روحي وزها الشوق والحنين إلى تلك المرحلة حيث كانت الأحلام وردية والأماني براقة، لم أدرِ ما ربطني به أهو حبّ ميعة الصبا أو إعجاب طالبة بأستاذها، فرأيته عملاقا، شغوفا بعطائه، دافقا بحنان آسر، ومؤرخا بنهج أدبي لأزمنة الهزائم المؤطرة بالخيبات وتشظي الآمال، ولسانا يتدفق شعرا وأدبا ووطنية، فالقضية الفلسطينية دأبه، وبطولته وحماسه أعطانا يقينا أن فلسطين وراء باب واهن.
ما زلت أذكر آخر مرة رأيته فيها وهو يرتدي زيّ الفدائيين حاملا سلاحه ومودعا،وصوته مليء بصدى الحماس الواثق من خطاه "الآن اخترت الطريق الصحيح، ومسيرة التحرير بحاجة لي وأنا تواق إليها، وأنتن أمهات الغد اللواتي ستربي الأجيال المناضلة في زخم الرؤى الوطنية" ودّعنا، وعيناي مع العيون الدامعات على فراق أستاذ بجدارته، وانقطعت أخباره وتوهتنا تطلعات الحياة في دروبها.
خبر اغتياله صدمني، أتسحق أمانيه وأحلامه على أيدي المناوئين للثورة ويخلع ابنه"سامي المنسي" من جذره ليكون منتميا لثقافة سويدية، وحفيده جذرا ممتدا خارج السرب لا يحمل من عروبته إلا الاسم، هل جاهد وليد واستشهد من أجل فلسطين وتحريرها، أم من أجل أن تقتلع جذوره وترمى في أرض غريبة، وتدفق دمعي على شعب خابت آماله في ظل المؤامرة الكبرى.
وصلت أختي متلهفة وحضنتني ناظرة إلى عيني متسائلة: أهي دموع فرحة اللقاء؟؟ قلت: نعم، ولم تدر أنها دمع حسرة الضياع على هويتها وأولادها وهوية وليد الابن ووو...وكلّ مهاجر ....وراودني القول المأثور لأمّ عبد الله الصغير آخر ملوك الأندلس حين ألقى نظرته الأخيرة على غرناطة في مكان معروفً باسم "زفرة العربي الأخيرة" (el últimosuspiro del Moro) فبكى، فقالت عائشة الحرة: «ابكِ مثل النساء ملكاَ مضاعا لم تحافظ عليه مثل الرجال» لو كانت عائشة في زماننا أتنوح قائلة:" أبكوا على شعوب عربية ضاعت قلبا وقالبا ونطلق على كلّ الأمكنة زفرات الأمة العربية"؟؟؟؟
تعليق