مصابيح النّهار
نهار جديد..
إنّ أجمل مخلوق في الدّنيا هو نهار النّاس..
عبر شقوق النّافذة تكسّر شعاع نحاسيّ..و خيّل إليّ و أنا أميط الغطاء عنّي بأنّي أغطس في الماء لشدّة برودة الغرفة..
بتُّ دون غطاء في الشّتاء لمّا كنت طالبا. لم تكن التّجربة سيّئة للغاية .ربّما لأنّي تخلّيت بعدها نهائيّا عن طور فكريّ خطير لو أردتُ التّدقيق ،و أقررت في نهايتها بأنّي كنت مشعوذا على نحو ما؛ إذ كنت دائما أعتقد أنّ هناك رعاية تحفّني دون غيري ، تجعل من المآزق التي تصادفني مجرّد دعابات تزول من تلقاء نفسها قبل أن تتحوّل إلى ورطة بمعنى الكلمة، و أنّ كلّ ما عليّ فعله في المقابل كي لا تهجرني الرّعاية هو أن أتقمّص دور من يتلقّى التّوبيخ الذي يسبق الصّفح،و أن لا أبدي بشأن المأزق ما يوحي باستخفاف أو سخرية أو ثقة كبيرة في الخلاص.كانت رياضة سرّيّة..و كنت إذّاك طالبا بأحداق ملتهبة.
عشيّتها رتّبت أثاثي القليل في البيت الذي أجّرته و رحتُ أجوب المدينة ،كنت أعرف أنّي لا أملك أغطية،مع ذلك تخاذلت في تدبير الأمر.ليلا ،حين عدتُ،كنتُ منهكا جدّا و الحيّ سابح بعدُ في بَكَم حجريّ. طرقت باب السيّدة صاحبة البيت.طلبتُ منها بحياء أن تعيرني غطاء أعيده لها في الغد، سكتت قليلا و قالت لا يمكنني .قدّمت لها اعتذاري فورا دون أن أتعجّب، قلت :" أفهم."..كانت على قدر كبير من الوقار و كان على ملامحها ما يجعلك تشعر بأنّها أمّ النّاس جميعا،حتّى أنّي تصرّفت لحظتها بلباقة مبالغة كما لو أنّ قضاء ليلة دون غطاء أمر ممتع ..في اليوم الموالي استوقفني شابّ عرّف نفسه على أنّه ابنها.بدا محرجا . قال إنّ أمّه طيّبة و كريمة لكنّها لا تقدّم شيئا إذا طُلب منها ..و أضاف :"ذاك مبدؤها في الحياة..أرجو أن لا تغضب..في النّهاية لكلّ منّا مبدأ في حياته..".كانت ليلة الصّقيع، ليلتي الأولى خارج المبيت الجامعيّ . لم يكن يحقّ لغير الدستوريّين من الطّلبة وقتها أن يحصلوا على غرفة خلال العامين الأخيرين. كانوا يتزعّمون جميع النّشاطات بالجامعة ،خيرِِها و شرِّها. أذكر أنّهم كانوا يعلّقون طيلة أيّام الأسبوع ورقة يُكتب عليها في كلّ مرّة عنوانا لشريط حرب مشهور بخط رديء يشبه إلى حدّ محيّر ذاك الذي تكتب به في كلّ ناحية من البلاد عبارة " للـكراء "، أو الذي يكتب به على جدران الورشات .مساء الأربعاء كانوا يعرضون شريطا إباحيّا.و أحيانا كانوا بالفعل يعرضون العنوان المدوّن على الورقة، تعلّمت بعد فترة أنّ الدّائرة الصّغيرة المشطوبة المرسومة أسفل الورقة،هي التي تصنع الفرق.
كنت آنذاك شابّا حيّا مفعما بهواجس الفنّ و الجمال و الحرارة و الإنسان و كان لي مع الناس نهار..كنت قلبا..و كانت لي أمنية:أن أصير سائحا إنسانيّا..هكذا ترتّبت الأمنية في عقلي.
في صغري كان المشهد المُسيطر على مُخيّلتي عبارة عن عشرات الأحجار الكريمة التي تغدو و تروح بين زوايا رأسي بألوانها القاتمة حينا و النورانيّة الزّاهية حينا آخر، كانت تجرّ خلفها بريقها المُتوهّج و هي تعبر في كلّ الاتّجاهات. لم يكن يحدث أيّ ارتطام . كانت كلّ واحدة منها تعرف مسارها جيّدا كالكواكب تماما.أشتاقها..الذّاكرة تُصرّ على إقناعي بأنّي لا ألمحها إلاّ عند الدّقائق التي تسبق نومي، أو عندما أجلس لمراقبة جريان السّواقي بعد كلّ صحوة مطر،لكنّي على يقين من أنّها صحِبتني مُعظم الوقت..يقول أبي إنّها من عمل الشّيطان.
الصّوت الذي ذاع في الهواء صدح في أذني بجرأة: "أنتَ حرّ" حرّ بمعنى الكلمة لا كما اعتاد أن يُسمعك إيّاها الذين يئسوا من جرّك نحو ما تكره.مع ذلك لا ينفكّ أبي يؤنّبني :" مالنا و كلام الكتب، الزم ركنك! ".
في ركن من بناية صفراء معزولة عن العمارة و التّقويم ما تزال وضيفتي تتلخّص في فوترة المبيعات مع الحرص على أن لا يتجاوز المبلغ المدوّن بالخانة السّادسة من الصّفحة الثّانية ما هو مدوّن بالمستطيل الأخير من الصّفحة الرّابعة،كما أنّ عليّ تذكير المدير بمعرّفنا الجبائيّ كلّ ثلاث هواتف يتلقّاها و الخروج من مكتبي برهة حتّى ينقشع الصّمت الثّقيل الذي يلي كذبه على زوجته بصوت يسمعه الجميع،و أن أقابل متعته في تكديس الوصولات على طاولتي بمتعة أكبر و أنا أستلمها ، و ثرثرته العجيبة بمتعة في الإصغاء. مرّة كلّ شهر يتّخذ مسألة تافهة جدّا فيحقّق معنا فيها بإسهاب شديد مُثيرا حولها ضجّة كبيرة و يظلّ يستفسر و يدقّق حتّى يشعر بأنّنا بدأنا نتساءل في أنفسنا و نتهامس فيما بيننا :" ماذا لو أنّ الأمر ذا بال إذن؟ " في الأخير كان يختم كلامه بالثّناء على خواء ذهنه إلاّ من الحذر و الفروض.
لم أكن ألتقي أحدا من الزّبائن أو أرى الشّجيرات أو العصافير التي نبيعها . لم أكن أعرف عنها سوى أسماءها على الورق.نبيع العصافير بأثمان باهظة جدّا،لم أشكّ يوما أنّنا نغرّم النّاس ثمن السّاعات التي كان من الممكن أن تحلّقها حرّة راضية.
اليوم هو الاثنين ،رأسُ الأسبوع كما يتشدّق بتسميته الأصحّاء نفسيّا. لقد اتّخذتُ قراري: لن أذهب إلى العمل..
يبدو أنّ الحرّيّة لا تتحقّق لك إلاّ إذا استأصلتَ من رأسك رأسا ينازعك إيّاه أو شيئا بعينه في هذا الوجود، شيئا خاصّا من قبيل الواجب الميّت الذي نصّبته الدّنيا ليكفل لك الحقّ في الحياة.
لم يكن لديّ ما يملأ كوب حليب لذا زدتُه القليل من الماء.لمّا أضفت البنّ صعدت إليّ الرّائحة الصّباحيّة لمطبخ جدّتي عندما كانت تجتمع في بيتها عائلتنا و عائلة خالي أيّام العطل المدرسيّة. كنت دائما أتساءل لم تنبعث من قهوتها رائحة لا أشمّها في بيتنا.احتسيتُها على مهل ثمّ خرجت باتّجاه المحطّة.
السّماء في الخارج مُقيمة على زرقة أصيلة فاتنة كما في رسوم الأطفال.
عادة ليست لي وجهة عدا عملي ، أستقلّ سيّارة من موقف غير بعيد عن شقّتي،عليها خطّ أصفر عريض ، كُتب على خلفيّتها "عاشقة الطّريق" نحو بناية خارج العمارة و التّقويم.
ركبتُ الحافلة باتّجاه العاصمة،لم تكن لديّ فكرة واضحة عن الرّحلة سوى أنّ عليّ احتضان الشّوارع و الأزقّة ،رائحةَ المنازل العتيقة و الخرائب و البشر و المكائد الصّغيرة .أن أنتحل حزن المدينة بدافع بهجة..
وصلت..
أكمام معطفي طويلة، تغطّي نصف أصابعي..وسائل النّقل تجعلني أزدرد المشاهد بسرعة فلا يعلق منها في مخيّلتي الجائعة سوى وميض الألوان،لذا قرّرت أن أترجّل.
همتُ بين الأنهج ألتقط الأشياء بعين ضرير أبصر للتوّ. أنا طائر.. أنا عود عنبر ..مشيتُ في قلب الطّريق .أغلب الباعة على الجادة ملتحون ،التماثيل في الواجهات تحدّق في المارّة بأعين متملّقة مدرّبة على تمييز البدويّين. نسيتُ تعليمات أبي عن السّير جنبا إلى جنب مع الحائط:" نحن البسطاء علينا دائما أن نُطيع و أن نمشي لصق الحائط ".
العاشرة صباحا. من المفترض الآن أن أكون في المكتب بين الأوراق أؤدّي طقس الإخلاص الأبديّ،و من المفترض أيضا أن أكون قد استخدمت آلة شدّ الأوراق خمسين مرّة على الأقلّ.
دخلتُ حديقة عامّة . العشب نديّ، بارد . استلقيتُ على ظهري .أرخيتُ أطرافي و أغمضتُ عيني ،نقاء الآونة شرّع أمامي كوّة رأيتُ عبرها عمّي الذي هجر البلدة و اعتبره أهلها أسوأ من اعتزل واجبه الأسريّ في الدّنيا ،عمّي الذي بلغنا لاحقا أنّ سكّان حيّ " لافايات" يعتبرونه أفضل من يمكن أن تعهد له بساعة يدك ،أراه يعود إلى الحيّ ثملا ،و أرى العمدة يلوّح له :" أحسدك !" فيجيب مزهوّا: " لا تحسد أحدا يا شيخ! فالدابّة التي لا تحمل على ظهرها لحمها طيّب ". وجدتُني أبتسم. جلستُ على مقعد و مددتُ ساقي. كم هو بغيض أن ترى تجهيزات النّافورة عارية من الماء.مرّ من أمامي بائع ذرة يدفع عربة. أمكنني أن أسمع صوت فرقعتها داخل الصّندوق الزّجاجيّ المغلق رغم الضّوضاء التي كان يحدثها شبّان بحقائب و أزياء رياضيّة. اشتريت منه كيسا.و خطر لي أن أرافقه بعض الوقت. شقّ عليّ الطّلب . خشيت أن يرتاب بأمري. فجأة قال بهدوء :"يقولون بأنّها قد سحرته..أتدري لماذا؟".لم أفهم قصده لكنّي أحسست أنّها فرصة مناسبة لأتعلّل بأهمّيّة الموضوع حتّى يأتي ما يفرّقنا. واصل دون أن يسمع إجابة:
"حسن..لأنّي لا أعرف بالضّبط قصّة حياته ..أو ماذا أخذ معه ..و ماذا ترك ..و لا ماذا ينوي أن يفعل...هل فهمت؟"
قلت " صحيح ".
قال " حبوب لعينة..أنا دائما هكذا ..يوميّا أرمي في جوفي حبّتين كي لا يتعب رأسي..".
نجحتُ في ترويضه ليسمح لي بمرافقته أينما اتّجه. أثناء المسير تعلّمت متى يُطفأ الموقد و متى يوقد و مقادير الذّرة و الزّيت و الملح التي عليه إضافتها في كلّ مرةّ. مرّت جنازة في الشّارع الآخر فلحقنا بها و تداولنا على المشي خطوات خلفها.لم أكن لأفعل.حرصه جعلني أبدي حرصا أكبر. أثناء نيابتي بعت كيسين لطفلين صغيرين بمآزر زرقاء. كانا يحملان على ظهريهما حقائب عليها آثار الجير. دفعت الثّمن عنهما.كنت مأخوذا بنشوة النّهار ..كان ضوء النّهار أبيضا ، آسرا ، لذيذا كما توقّعت.
عاد ليخبرني أنّ علينا الإسراع قليلا كي لا نتخلّف عن موعد خروج طلاّب المعاهد. رنّ جوّاله و لم يكترث. الرنّة تشبه الموسيقى التي ترافق الجياد الدوّارة في مدينة الملاهي.بعد برهة من الصّمت،أخبرني أنّه يرغب في الزّواج و أنّه ينوي الانضمام لتيّار السّلفيّين المُتشدّدين ،قال إنّ الزّواج لديهم بشربة ماء.
عند الواحدة ركنّا العربة أمام مطعم صغير و تناولنا الغداء.عندما بدأ عمّال المصانع يفدون صرتُ أسمع أكثر كلمة "بدون " تعقب الطّلبات :أرزّ بدون – مرق بدون...
حين خرجنا لبِسَ رفيق النّهار معطفي كي لا تحترق الأكمام،و سقت العربة . قمت بما يلزم بمفردي مع قليل من التّوجيه الضّروريّ. طفنا لساعتين، رويت له خلالها عن ليلة الصّقيع و عن أشياء أخرى و عن أبي البستانيّ كيف تخلّى من فترة عن عادة ريّ نباته حوضا بعد آخر بعدما قام بأوّل تجربة لإغراقها بالماء جميعا دفعة واحدة..عندما توقّفنا في المنعطف المؤدّي إلى شارع المستشفيات عرفت أنّنا ننصب كمينا للأطفال المرضى .حدّثني هناك عن كلبهم الضحّاك ،قال إنّه دائما يضحك.إذا أكل يضحك و إذا جاع يضحك .يضحك لنا و للغرباء و للسّارق على حدّ سواء.يضحك إذا مرّت جنازة و يضحك إذا مرّ به موكب عرس.تحت المطر يضحك و تحت الشّمس الحارقة يضحك ..قبل أن تدهسه عربة يجرّها حصان و يموت كان يضحك .لم نرمه كما ترمى الكلاب .ذاك الكلب بالذّات حفرنا له و دفنّاه..
افترقنا ،
بَيْدَ أنّه استدرك قبل أن أتخطّى مجال صوته العاديّ: أين أجدك غدا؟ وخزتني العبارة قليلا ، أجبت : في نفس المكان..قال تعال لأطلعك على أمر قبل أن تذهب.عدتُ أدراجي.أخرج من جيب قميصه قطعة نقديّة لُفّت بعناية داخل ورقة كرّاس،فتح الورقة برفق . قرّبها من أنفي دون أن يُمسك بها.شممتُ رائحة أصباغ نسائيّة.قرأ ملامحي ثمّ ضحك بمكر و مضى.
في طريقي إلى محطّة الحافلات لاحظت أنّ مصابيح الإنارة مُضاءة أينما وجّهت بصري، خالج معدتي ذعر لاذع .ارتبكتُ .نمت بداخلي قناعة ساذجة؛ إنّ بوسعي تغيير العالم .أليس من الضّروريّ أحيانا في قلب الرّيح العاتية أن نُعين الشّعلة على التّماسك بخفقات صغيرة من مروحة سعف ؟ تردّدتُ قليلا قبل أن أقصد شركة الكهرباء . كانت الرابعة مساء،المدينة ورقة تبغ عملاقة حولها نمل كثير بمعاطف آدميّة طويلة الأكمام.العصر و شمسُه مناسبة جيّدة ليثبت الناس للنّاس أنّهم غير معنيّين بمرض العصر. بقِيت ساعة على موعد انتهاء الدّوام، بإمكانك أن تلاحظ كيف بدأ السّرور يدبّ في الموظّفين من خلال مسامراتهم فيما بينهم.طلبت مقابلة مسؤول الصّيانة،كان عليّ الاستظهار بالهويّة و ملـء استمارة. المكتب ضيّق، تحت بلّور طاولته صور لأطفاله و قصاصات رزنامة عليها مواعظ، على المشجب عُلّقت منشفة و سجّادة صلاة. قلت له إنّ مصابيح الإنارة مضاءة في كامل المدينة. ردّ باستياء : " على أيّة حال لم يبق الكثير لتضيء آليّا.بعد ساعتين ستبدو الأمور طبيعيّة، لا عليك! ". تناول ورقة كما اتّفق ثمّ خطا صوب الباب .انتابني ضيق جادّ .
عود العنبر يذوي..لم أعد طائرا..لم أكن يوما كذلك..أنا خانتان : العدد المدوّن بالخانة السّادسة من الصّفحة الثّانية يجب أن يساوي العدد المدوّن بالمستطيل الأخير من الصّفحة الرّابعة.
غادرت المدينة..
و أنا أدخل شقّتي المأجورة سمعت هسيسا ضعيفا.أضأتها بالكامل. لم يأكل الفأر شيئا من الخبز و قطع الطّماطم المسمومة. أخرجت لصق الفئران و مسحت به ورقة كرتون بازدراء كأنّ فأرا بين يديّ. ثمّ وضعتها بجانب قارورة الغاز هذه المرّة.و بالغت في غسل يديّ.دخّنت نصف سيجارة،و عدّلت المنبّه على السّاعة السّادسة و دخلت تحت الغطاء.تلك الّليلة راودتني أحجاري القديمة ،و كان آخر شيء فكّرت فيه قبل أن أنام :كيف يصادف أن تتطابق دقّات الثّواني للمنبّه مع ساعة الجدار ثمّ يزيغ كلاهما عن الآخر..
في اليوم التّالي لم يردّ المدير على تحيّتي و اكتفى بسؤالي بلحن قبيح: " هل كلّ شيء على ما يرام؟"
لم أردّ .
على ورقة الحضور الخاصّة بيوم الأمس قرأتُ أمام اسمي :"غياب غير مبرّر".
كانت العبارة مسطّرة على نحو غير محايد..غير مُحايد بالمرّة.
***
محمد فطومي
تعليق