( وقائع الليلة الأولى لكائن ½ حي ) مأسـاة قـزم
أفاق مفزوعاً يتلبسه طائف من هلع .. كم كان يكره مدرس العلوم .. تكرار هذا الكابوس في الأيام الأخيرة أزعجه وأجج مخاوفه .. قد يكون ما سمعه من جاره الكهل عن الفضاء الخارجي ورحلات البحث عن كائنات ذكية بالكوكب المفقود ، له علاقة بهذه الأحلام .. موت أبيه المباغت أفقده نصف كماله .. كان يلهو معه .. يفكر معه .. يقرأ له .. يعبث بأشياءِه .. فقط الآن يبكيه ..
الأشياء من حوله لا تحفل به منفردًا .. اعتادته ممزوجًا بأبيه .. مكونات الشقة تعلن العصيان .. تعاقبه ، تأبى تقديم خدماتها لجزء .. تسعى لالتهام ضعفه .. لابتلاع كيانه المحدود الذي يعبث في محيطها بغير رغبتها .. يتمدد فضاء الشقة .. تتعملق المناضد والمقاعد ؛ فتقضي على أية فراغات حوله .. تتشابك دوامات الهواء فتطوقه بأنسجتها .. يزداد شعوره بالاختناق .. يصطدم بظله فيخر ساقطاً .. تعتليه الحشرات التي زحفت من كل جانب تطلب نور عينيه .. يُفيق على صوت جاره الكهل .. صديق العائلة الوحيد الذي جاء ؛ ليسأل عنه
شقته ليست تمليكًا ، لكن كونها تخضع لقانون الإيجار القديم جعلها كالتمليك .. أشياؤه تبدو ثابتة نمطية .. يعشق أي شيء مصبوغ بصبغة رسمية .. خاتم الشعار بالنسبة له أهم من خاتم سليمان .. يحفظ عن ظهر قلب اللوائح والقوانين التي تنظم عمله الحكومي .. يهيم بالملاحم والسير والأساطير .. تتناوب عليه الأيام فيقابلها بتثاؤب تتطاير مع زفيره أحداثها .. صراع الحضارات ، تهافت العالم ، غزو الفضاء ، تآكل ثقب الأوزون ،انهيار الجليد في القطب الشمالي ، الحرب النووية ، الصراع البيولوجي ، ثورات واحتجاجات الشعوب ، كلها أمور لا تحظى باهتمامه .. الشيء الوحيد الذي بات يؤرقه هو ما يتنامى بداخله من هواجس تفاقمت بشاعتها مؤخراً بشكل يؤكد أن استمرار تجاهلها يُـنذر بكارثة ..
فالساعي يحضر له فنجان القهوة بعد كل الموظفين ويضعه على عجل دون أن يتفوه بحرف ، رغم أنه يمنحه أكبر بقشيش .. يتجاهله بواب العمارة فلا يهرع إليه معلنـًا تقديم خدماته كما يفعل مع الباقين .. يتحول المصعد لمقبرة بمجرد دخوله ويصدر العقاب مع أول محاولة منه للحديث : صمت مُطبق وشفاة ملتوية ونظرات تطاير شررًا.. ينكب على مكتبه .. يدفن أوجاعه بين الدفاتر والأوراق إلى أن ينصرف . يتثاقل خُـطوه .. ليس ثمة ما يُغري على التبكير بالعودة .. العمارة على غير عادتها .. تبتسم لبناتها ..تتماوج رَدهَتُها في دلال .. يغزو فراغاتها رحيق فريد ، احتل أنوف السكان ، أغشى أبصارهم ، حدد حركتهم .. لقد أتت سيدة الأزياء .. هكذا يُطلقون عليها .. تمتلك وجهًا أسطوريًا وقوامًا نادرًا يحفل بأزياء عصرية ، ترق له الأفئدة .. يطغى مجيئها على محنته فيؤجلها .. يُشبع رغبته بالنظر إليها قبل أن ينسحب عبيرها بمجيء المصعد .. ينتبه لوقع أقدام استقرت أمامه ، يقترب رجل من السيدة .. يدنو أكثر .. يتدخل الكائن ؛ ليعلن عن وجوده مستعينًا بصوته .. يلتفت الرجل كأنما يتحقق من مصدر الصوت .. بصعوبة يراه .. يبتسم الرجل متعجبًا مواصلاً تقدمه نحو السيدة المنتظرة دون أن يعيره اهتمامًا .. يتعانقان .. ينصرفان وقد تلاشى ما بينهما من مسافات ، فبدوا جسدًا واحدًا له رأسان ..
يستنكر أن يتم ذلك بحضرته .. أضئيل لهذا الحد مقدار ما يشغله من الأرض !! أمتجمد لهذه الدرجة إحساس الآخرين به !! أدرك أنه يعيش كارثة حقيقية ، وأن عالمًا جحيميًا قد انغمس فيه ،ولما لم يتكيف مع كائناته قد تحول .. بل ذهب لأبعد من ذلك عندما تصور أنه من نسل كائنات ذكية .. فقد سمع كثيرًا من جاره - الطاعن في العمر - عن المقابلات الحميمة للبشر مع كائنات غريبة .. وأنه في زمن العصور الوسطى كانت تهبط آلهة الأولمب إلى الأرض ويتبادلون الحديث مع البشر .. قد يكون ابن إله إذن ! عمومًا استفز مشهد سيدة الأزياء ورجُلها ، ما به من مواطن رجولة .. كيف لم يفكر من قبل في المرأة .. يخيفه مجرد التحدث لأنثى .. وكيف يقيم علاقة مع جنس آخر وعلاقته ببني جنسه متوترة ؟
ومن تلك التي ترضى بأن تقيم علاقة مع متر مربع من اللحم ؟
ارتبك رأسه .. وثب والغضب يكسو ملامحه .. اتخذ قرارًا بأن يجرب نفسه .. قرر أن ينجح ولو لمرة .. إقامة علاقة مع سيدة هذه الأيام من أسهل ما يكون .. استجمع ما ينفرط بداخله من رجولة .. في الأوكار تتبدد المخاوف .. يتدرج ثمن المرأة .. عشرون .. خمسون .. مائة . - " حتمًا ستكون صاحبة المائة أروع من سيدة الأزياء .. نحن في عصر التضحيات .. لتذهب المائة جنيه إلى الجحيم .. العالم كله يبحث عن السعادة .. أنا جزء من العالم السعيد .. وداعًا أيتها الأحزان "
صاح وأخذ يدور بجسده مبتهجًا ومقبلاً ، دون حذر لأول مرة .
أضواء الحجرة خافتة .. أجواء مثيرة ومشجعة .. رآها ماكثة في أوج تأهبها .. فاتنة حقًا .. تفوق سيدة الأزياء بكثير .. تقدم .. اختلط لعابه بمخاطه .. ازدادت جسارة خطواته .. واصل حتى انتهى مصعوقًا أمام نهديها .. وقبل أن يطأ أرضها ، تحققت من طلعته .. وثبت متخطية حواجزها ؛ فاستقرت بجوار الباب . هاجت وماجت وكأن رياحًا خماسينية قد اجتاحت الغرفة .. صاحت مشتعلة : - " إنت يا زفت .. رجعله فلوسه .. ولا مـال الدنيا .. شيلوه من هنــا .. دا القـرود أرحم .. أنا خلاص تبت " خرج مسرعًا قبل أن تزداد ثورتها فتطيح برأسه .
- حتى الغانية .. لا أمل .. ليذهب كل شيء إلى جهنم .
سار غير مستغرب .. لم يكن يُعول الكثير على هذا الطريق أيضًا .. كان الطقس ساحرًا يُغري بمواصلة الصعلكة .. كانت لم تتجاوز العاشرة .. الليل هو أجمل ما بالصيف .. قرر ألا يعود .. ليلة في العمر يهمل فيها نفسه .. الآن يعيش بدون أبيه .. بدون مُعلم . شوارع القاهرة لها رائحة متفردة .. الزحام ومشاكل البيئة ومتاعب النهار ، لم يفلحوا في أن ينالوا منها .. أحداث اليوم تتساقط من رأسه .. تداعب خطواته المخمورة .. تتوزع على جدران البنايات والحوانيت .. اْفتُرشت الأرض بالوجوه .. الساعي ، البواب ، رفقاء العمارة .. يدق الأرض بعنف .. وأخيرًا الغانية .. تابت على يديه ولا أكبر داعية ..اندفعت منه الضحكات بشراهة الذي اعتاد البكاء .. ثم أخذ يهذي :
- لست جُـزيئاً ، لست نواة .......... أنا أكبر من أي حياة
- أنا أجمل طفل في الكون .......... أنا ضحكة مبتعرف آه
انساب في الشوارع بلا توقف .. وجد نفسه أمام برج القاهرة .. تأمله لفترة ثم اتخذ قرارًا فوريًا بصعوده وقف شامخًا متصلبًا كالمسيطر على زمام مملكته .. بدت الأشياء ضئيلة والأحلام بعيدة والناس أقزام . الأحداث كلها تُغري بالتحرر .. نحى عنه كل شيء .. تعرى إلا من مِئزره ..
وأخذ يغني بصوت ممزق :
تحت سماء الليل البارد .. في صدري أسرار .. أنثر حلمي بين النُجُم .. أمتطي الهواء .. مملكتي ترقص ، أشيائي لا تنام .. أنا أكبر نجم ، وكلكم أقزام .. يا أبناء عصر الشك .. أنا ابن الفضاء .. أنا قبطان .. سفينتي الأحلام .. أنا شظية سعادة هبطت إلى الأرض ؛ لتبدد الأحزان .. جسدي سيموت لكن ستبقى روحي سابحة في عالمي المتخفي .. عالم الملاك الأبيض .. أجنحتي رقيقة مثل مشاعري .. أنا ملاك مُتنكر .. أحترف الأحلام ..... أحترف الأحلام .
انتهى من أنشودته ، ثم أخذ يصيح : أهكذا تعيشون تفتقدون للحب .. أهكذا تعيشون مفقوؤن الأعين .. صُم الآذان .. أنتم موتى .. وأنا حفرية حية لحضارة مسالمة .. لن أحدثكم بعد اليوم .. ثم صمت بلا حراك .. وأجال بعينيه يملؤهما يقظة .. وانبسطت راحتيه .. ثم ما لبث أن فقد صحوه .
عزت الحجار - منشورة بصحيفة
تعليق