وقائع الليلة الأولى لكائن ½ حي

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • عزت فوزي أحمد الحجار
    أديب وكاتب
    • 01-09-2012
    • 36

    وقائع الليلة الأولى لكائن ½ حي

    ( وقائع الليلة الأولى لكائن ½ حي ) مأسـاة قـزم

    الذرة هي أصغر جزء متكامل من المادة .. البكتيريا كائنات دقيقة ذات خلية واحدة .. تشير بعض الأبحاث أن الإنسان نوع من فصائل القرود .. أكدت حفريات أن طول الإنسان في العصر الفيكتوري بلغ ست بوصات .. الجُزيء .. النواة .. الظل .. السراب .. لا .. لا .. لا .
    أفاق مفزوعاً يتلبسه طائف من هلع .. كم كان يكره مدرس العلوم .. تكرار هذا الكابوس في الأيام الأخيرة أزعجه وأجج مخاوفه .. قد يكون ما سمعه من جاره الكهل عن الفضاء الخارجي ورحلات البحث عن كائنات ذكية بالكوكب المفقود ، له علاقة بهذه الأحلام .. موت أبيه المباغت أفقده نصف كماله .. كان يلهو معه .. يفكر معه .. يقرأ له .. يعبث بأشياءِه .. فقط الآن يبكيه ..
    الأشياء من حوله لا تحفل به منفردًا .. اعتادته ممزوجًا بأبيه .. مكونات الشقة تعلن العصيان .. تعاقبه ، تأبى تقديم خدماتها لجزء .. تسعى لالتهام ضعفه .. لابتلاع كيانه المحدود الذي يعبث في محيطها بغير رغبتها .. يتمدد فضاء الشقة .. تتعملق المناضد والمقاعد ؛ فتقضي على أية فراغات حوله .. تتشابك دوامات الهواء فتطوقه بأنسجتها .. يزداد شعوره بالاختناق .. يصطدم بظله فيخر ساقطاً .. تعتليه الحشرات التي زحفت من كل جانب تطلب نور عينيه .. يُفيق على صوت جاره الكهل .. صديق العائلة الوحيد الذي جاء ؛ ليسأل عنه
    شقته ليست تمليكًا ، لكن كونها تخضع لقانون الإيجار القديم جعلها كالتمليك .. أشياؤه تبدو ثابتة نمطية .. يعشق أي شيء مصبوغ بصبغة رسمية .. خاتم الشعار بالنسبة له أهم من خاتم سليمان .. يحفظ عن ظهر قلب اللوائح والقوانين التي تنظم عمله الحكومي .. يهيم بالملاحم والسير والأساطير .. تتناوب عليه الأيام فيقابلها بتثاؤب تتطاير مع زفيره أحداثها .. صراع الحضارات ، تهافت العالم ، غزو الفضاء ، تآكل ثقب الأوزون ،انهيار الجليد في القطب الشمالي ، الحرب النووية ، الصراع البيولوجي ، ثورات واحتجاجات الشعوب ، كلها أمور لا تحظى باهتمامه .. الشيء الوحيد الذي بات يؤرقه هو ما يتنامى بداخله من هواجس تفاقمت بشاعتها مؤخراً بشكل يؤكد أن استمرار تجاهلها يُـنذر بكارثة ..
    فالساعي يحضر له فنجان القهوة بعد كل الموظفين ويضعه على عجل دون أن يتفوه بحرف ، رغم أنه يمنحه
    أكبر بقشيش .. يتجاهله بواب العمارة فلا يهرع إليه معلنـًا تقديم خدماته كما يفعل مع الباقين .. يتحول المصعد لمقبرة بمجرد دخوله ويصدر العقاب مع أول محاولة منه للحديث : صمت مُطبق وشفاة ملتوية ونظرات تطاير شررًا.. ينكب على مكتبه .. يدفن أوجاعه بين الدفاتر والأوراق إلى أن ينصرف . يتثاقل خُـطوه .. ليس ثمة ما يُغري على التبكير بالعودة .. العمارة على غير عادتها .. تبتسم لبناتها ..تتماوج رَدهَتُها في دلال .. يغزو فراغاتها رحيق فريد ، احتل أنوف السكان ، أغشى أبصارهم ، حدد حركتهم .. لقد أتت سيدة الأزياء .. هكذا يُطلقون عليها .. تمتلك وجهًا أسطوريًا وقوامًا نادرًا يحفل بأزياء عصرية ، ترق له الأفئدة .. يطغى مجيئها على محنته فيؤجلها .. يُشبع رغبته بالنظر إليها قبل أن ينسحب عبيرها بمجيء المصعد .. ينتبه لوقع أقدام استقرت أمامه ، يقترب رجل من السيدة .. يدنو أكثر .. يتدخل الكائن ؛ ليعلن عن وجوده مستعينًا بصوته .. يلتفت الرجل كأنما يتحقق من مصدر الصوت .. بصعوبة يراه .. يبتسم الرجل متعجبًا مواصلاً تقدمه نحو السيدة المنتظرة دون أن يعيره اهتمامًا .. يتعانقان .. ينصرفان وقد تلاشى ما بينهما من مسافات ، فبدوا جسدًا واحدًا له رأسان ..
    يستنكر أن يتم ذلك بحضرته .. أضئيل لهذا الحد مقدار ما يشغله من الأرض !! أمتجمد لهذه الدرجة إحساس الآخرين به !! أدرك أنه يعيش كارثة حقيقية ، وأن عالمًا جحيميًا قد انغمس فيه ،ولما لم يتكيف مع كائناته قد تحول .. بل ذهب لأبعد من ذلك عندما تصور أنه من نسل كائنات ذكية .. فقد سمع كثيرًا من جاره - الطاعن في العمر - عن المقابلات الحميمة للبشر مع كائنات غريبة .. وأنه في زمن العصور الوسطى كانت تهبط آلهة الأولمب إلى الأرض ويتبادلون الحديث مع البشر .. قد يكون ابن إله إذن ! عمومًا استفز مشهد سيدة الأزياء ورجُلها ، ما به من مواطن رجولة .. كيف لم يفكر من قبل في المرأة .. يخيفه مجرد التحدث لأنثى .. وكيف يقيم علاقة مع جنس آخر وعلاقته ببني جنسه متوترة ؟
    ومن تلك التي ترضى بأن تقيم علاقة مع متر مربع من اللحم ؟
    ارتبك رأسه .. وثب والغضب يكسو ملامحه .. اتخذ قرارًا بأن يجرب نفسه .. قرر أن ينجح ولو لمرة .. إقامة علاقة مع سيدة هذه الأيام من أسهل ما يكون .. استجمع ما ينفرط بداخله من رجولة .. في الأوكار تتبدد المخاوف .. يتدرج ثمن المرأة .. عشرون .. خمسون .. مائة . - " حتمًا ستكون صاحبة المائة أروع من سيدة الأزياء .. نحن في عصر التضحيات .. لتذهب المائة جنيه إلى الجحيم .. العالم كله يبحث عن السعادة .. أنا جزء من العالم السعيد .. وداعًا أيتها الأحزان "
    صاح وأخذ يدور بجسده مبتهجًا ومقبلاً ، دون حذر لأول مرة .
    أضواء الحجرة خافتة .. أجواء مثيرة ومشجعة .. رآها ماكثة في أوج تأهبها .. فاتنة حقًا .. تفوق سيدة الأزياء بكثير .. تقدم .. اختلط لعابه بمخاطه .. ازدادت جسارة خطواته .. واصل حتى انتهى مصعوقًا أمام نهديها .. وقبل أن يطأ أرضها ، تحققت من طلعته .. وثبت متخطية حواجزها ؛ فاستقرت بجوار الباب . هاجت وماجت وكأن رياحًا خماسينية قد اجتاحت الغرفة .. صاحت مشتعلة : - " إنت يا زفت .. رجعله فلوسه .. ولا مـال الدنيا .. شيلوه من هنــا .. دا القـرود أرحم .. أنا خلاص تبت " خرج مسرعًا قبل أن تزداد ثورتها فتطيح برأسه .
    - حتى الغانية .. لا أمل .. ليذهب كل شيء إلى جهنم .
    سار غير مستغرب .. لم يكن يُعول الكثير على هذا الطريق أيضًا .. كان الطقس ساحرًا يُغري بمواصلة الصعلكة .. كانت لم تتجاوز العاشرة .. الليل هو أجمل ما بالصيف .. قرر ألا يعود .. ليلة في العمر يهمل فيها نفسه .. الآن يعيش بدون أبيه .. بدون مُعلم . شوارع القاهرة لها رائحة متفردة .. الزحام ومشاكل البيئة ومتاعب النهار ، لم يفلحوا في أن ينالوا منها .. أحداث اليوم تتساقط من رأسه .. تداعب خطواته المخمورة .. تتوزع على جدران البنايات والحوانيت .. اْفتُرشت الأرض بالوجوه .. الساعي ، البواب ، رفقاء العمارة .. يدق الأرض بعنف .. وأخيرًا الغانية .. تابت على يديه ولا أكبر داعية ..اندفعت منه الضحكات بشراهة الذي اعتاد البكاء .. ثم أخذ يهذي :

    - لست جُـز
    يئاً ، لست نواة .......... أنا أكبر من أي حياة
    - أنا أجمل طفل في الكون .......... أنا ضحكة مبتعرف آه

    انساب في الشوارع بلا توقف .. وجد نفسه أمام برج القاهرة .. تأمله لفترة ثم اتخذ قرارًا فوريًا بصعوده وقف شامخًا متصلبًا كالمسيطر على زمام مملكته .. بدت الأشياء ضئيلة والأحلام بعيدة والناس أقزام . الأحداث كلها تُغري بالتحرر .. نحى عنه كل شيء .. تعرى إلا من مِئزره ..
    وأخذ يغني بصوت ممزق :
    تحت سماء الليل البارد .. في صدري أسرار .. أنثر حلمي بين النُجُم .. أمتطي الهواء .. مملكتي ترقص ، أشيائي لا تنام .. أنا أكبر نجم ، وكلكم أقزام .. يا أبناء عصر الشك .. أنا ابن الفضاء .. أنا قبطان .. سفينتي الأحلام .. أنا شظية سعادة هبطت إلى الأرض ؛ لتبدد الأحزان .. جسدي سيموت لكن ستبقى روحي سابحة في عالمي المتخفي .. عالم الملاك الأبيض .. أجنحتي رقيقة مثل مشاعري .. أنا ملاك مُتنكر .. أحترف الأحلام ..... أحترف الأحلام .
    انتهى من أنشودته ، ثم أخذ يصيح : أهكذا تعيشون تفتقدون للحب .. أهكذا تعيشون مفقوؤن الأعين .. صُم الآذان .. أنتم موتى .. وأنا حفرية حية لحضارة مسالمة .. لن أحدثكم بعد اليوم .. ثم صمت بلا حراك .. وأجال بعينيه يملؤهما يقظة .. وانبسطت راحتيه .. ثم ما لبث أن فقد صحوه .

    عزت الحجار - منشورة بصحيفة
    عزت الحجار
  • محمد فطومي
    رئيس ملتقى فرعي
    • 05-06-2010
    • 2433

    #2
    نصّ يستحقّ المكوث أمامه طويلا . الدّهشة ، متانة الّلغة ، الحرفيّة العالية في تطويعها لخدمة المعنى ، التّشويق، البعد الانساني الكامن بين الأسطر، كلّها عناصر اجتمعت بجدارة في هذا العمل لتجعل منه وحدة أدبيّة فريدة.
    نظام : (العائق أو العاهة - الأمل - المحاولة - الخيبة ) كان محكما و مرتّبا على نحو جادّ و ناضج.
    لديّ رأي أبديه بعد إذنك:
    و هو أنّي سجّلتُ في بعض المواضع المتفرّقة على مدى النصّ نزعة الكاتب للاستعانة المباشرة بمسمّياته الخاصّة للحالة و بنظرته الشّخصيّة للشّخصيّة المحوريّة أو لما يحدث لها و من حولها،سالبا إيّاها حقّها في التّعبير عن نفسها أو عن نموّها بمفردها.
    أقدّم هنا بعض الأمثلة :
    خاتم الشعار بالنسبة له أهم من خاتم سليمان ..

    أضئيل لهذا الحد مقدار ما يشغله من الأرض !! أمتجمد لهذه الدرجة إحساس الآخرين به !!

    وكيف يقيم علاقة مع جنس آخر وعلاقته ببني جنسه متوترة ؟

    تآكل ثقب الأوزون ،انهيار الجليد في القطب الشمالي ، الحرب النووية ، الصراع البيولوجي ، ثورات واحتجاجات الشعوب ، كلها أمور لا تحظى باهتمامه ..

    سعيد لأنّي اكتشفتُ مبدعا حريّا بالمتابعة.

    مودّتي و تقديري لك أستاذ عزّت.
    مدوّنة

    فلكُ القصّة القصيرة

    تعليق

    • ريما ريماوي
      عضو الملتقى
      • 07-05-2011
      • 8501

      #3
      للتثبيت ولي عودة غدا صباحا باذن الله للمخمخة عليها...


      أنين ناي
      يبث الحنين لأصله
      غصن مورّق صغير.

      تعليق

      • ريما ريماوي
        عضو الملتقى
        • 07-05-2011
        • 8501

        #4
        المشاركة الأصلية بواسطة عزت فوزي أحمد الحجار مشاهدة المشاركة
        ( وقائع الليلة الأولى لكائن ½ حي ) مأسـاة قـزم

        الذرة هي أصغر جزء متكامل من المادة .. البكتيريا كائنات دقيقة ذات خلية واحدة .. تشير بعض الأبحاث أن الإنسان نوع من فصائل القرود .. أكدت حفريات أن طول الإنسان في العصر الفيكتوري بلغ ست بوصات .. الجُزيء .. النواة .. الظل .. السراب .. لا .. لا .. لا .
        أفاق مفزوعاً يتلبسه طائف من هلع .. كم كان يكره مدرس العلوم .. تكرار هذا الكابوس في الأيام الأخيرة أزعجه وأجج مخاوفه .. قد يكون ما سمعه من جاره الكهل عن الفضاء الخارجي ورحلات البحث عن كائنات ذكية بالكوكب المفقود ، له علاقة بهذه الأحلام .. موت أبيه المباغت أفقده نصف كماله .. كان يلهو معه .. يفكر معه .. يقرأ له .. يعبث بأشيائه.. فقط الآن يبكيه ..
        الأشياء من حوله لا تحفل به منفردًا .. اعتادته ممزوجًا بأبيه .. مكونات الشقة تعلن العصيان .. تعاقبه ، تأبى تقديم خدماتها لجزء .. تسعى لالتهام ضعفه .. لابتلاع كيانه المحدود الذي يعبث في محيطها بغير رغبتها .. يتمدد فضاء الشقة .. تتعملق المناضد والمقاعد ؛ فتقضي على أية فراغات حوله .. تتشابك دوامات الهواء فتطوقه بأنسجتها .. يزداد شعوره بالاختناق .. يصطدم بظله فيخر ساقطاً .. تعتليه الحشرات التي زحفت من كل جانب تطلب نور عينيه .. يُفيق على صوت جاره الكهل .. صديق العائلة الوحيد الذي جاء ؛ ليسأل عنه
        شقته ليست تمليك ، لكن كونها تخضع لقانون الإيجار القديم جعلها كالتمليك .. أشياءه تبدو ثابتة نمطية .. يعشق أي شيء مصبوغ بصبغة رسمية .. خاتم الشعار بالنسبة له أهم من خاتم سليمان .. يحفظ عن ظهر قلب اللوائح والقوانين التي تنظم عمله الحكومي .. يهيم بالملاحم والسير والأساطير .. تتناوب عليه الأيام فيقابلها بتثاؤب تتطاير مع زفيره أحداثها .. صراع الحضارات ، تهافت العالم ، غزو الفضاء ، تآكل ثقب الأوزون ،انهيار الجليد في القطب الشمالي ، الحرب النووية ، الصراع البيولوجي ، ثورات واحتجاجات الشعوب ، كلها أمور لا تحظى باهتمامه .. الشيء الوحيد الذي بات يؤرقه هو ما يتنامى بداخله من هواجس تفاقمت بشاعتها مؤخراً بشكل يؤكد أن استمرار تجاهلها يُـنذر بكارثة ..
        فالساعي يحضر له فنجان القهوة بعد كل الموظفين ويضعه على عجل دون أن يتفوه بحرف ، رغم أنه يمنحه
        أكبر بقشيش .. يتجاهله بواب العمارة فلا يهرع إليه معلنـًا تقديم خدماته كما يفعل مع الباقين .. يتحول المصعد لمقبرة بمجرد دخوله ويصدر العقاب مع أول محاولة منه للحديث : صمت مُطبق وشفاة ملتوية ونظرات تطاير شرراً.. ينكب على مكتبه .. يدفن أوجاعه بين الدفاتر والأوراق إلى أن ينصرف . يتثاقل خُـطوه .. ليس ثمة ما يُغري على التبكير بالعودة .. العمارة على غير عادتها .. تبتسم لبناتها ..تتماوج رَدهَتُها في دلال .. يغزو فراغاتها رحيق فريد ، احتل أنوف السكان ، أغشى أبصارهم ، حدد حركتهم .. لقد أتت سيدة الأزياء .. هكذا يُطلقون عليها .. تمتلك وجهًا أسطوريًا وقوامًا نادرًا يحفل بأزياء عصرية ، ترق له الأفئدة .. يطغى مجيئها على محنته فيؤجلها .. يُشبع رغبته بالنظر إليها قبل أن ينسحب عبيرها بمجيء المصعد .. ينتبه لوقع أقدام استقرت أمامه ، يقترب رجل من السيدة .. يدنو أكثر .. يتدخل الكائن ؛ ليعلن عن وجوده مستعينًا بصوته .. يلتفت الرجل كأنما يتحقق من مصدر الصوت .. بصعوبة يراه .. يبتسم الرجل متعجبًا مواصلاً تقدمه نحو السيدة المنتظرة دون أن يعيره اهتمامًا .. يتعانقان .. ينصرفان وقد تلاشى ما بينهما من مسافات ، فبدوا جسدًا واحدًا له رأسان ..
        يستنكر أن يتم ذلك بحضرته .. أضئيل لهذا الحد مقدار ما يشغله من الأرض !! أمتجمد لهذه الدرجة إحساس الآخرين به !! أدرك أنه يعيش كارثة حقيقية ، وأن عالمًا جحيميًا قد انغمس فيه ،ولما لم يتكيف مع كائناته قد تحول .. بل ذهب لأبعد من ذلك عندما تصور أنه من نسل كائنات ذكية .. فقد سمع كثيرًا من جاره - الطاعن في العمر - عن المقابلات الحميمة للبشر مع كائنات غريبة .. وأنه في زمن العصور الوسطى كانت تهبط آلهة الأولمب إلى الأرض ويتبادلون الحديث مع البشر .. قد يكون ابن إله إذن ! عمومًا استفز مشهد سيدة الأزياء ورجُلها ، ما به من مواطن رجولة .. كيف لم يفكر من قبل في المرأة .. يخيفه مجرد التحدث لأنثى .. وكيف يقيم علاقة مع جنس آخر وعلاقته ببني جنسه متوترة ؟
        ومن تلك التي ترضى بأن تقيم علاقة مع متر مربع من اللحم ؟
        ارتبك رأسه .. وثب والغضب يكسو ملامحه .. اتخذ قرارًا بأن يجرب نفسه .. قرر أن ينجح ولو لمرة .. إقامة علاقة مع سيدة هذه الأيام من أسهل ما يكون .. استجمع ما ينفرط بداخله من رجولة .. في الأوكار تتبدد المخاوف .. يتدرج ثمن المرأة .. عشرون .. خمسون .. مائة . - " حتمًا ستكون صاحبة المائة أروع من سيدة الأزياء .. نحن في عصر التضحيات .. لتذهب المائة جنيه إلى الجحيم .. العالم كله يبحث عن السعادة .. أنا جزء من العالم السعيد .. وداعًا أيتها الأحزان "
        صاح وأخذ يدور بجسده مبتهجًا ومقبلاً ، دون حذر لأول مرة .
        أضواء الحجرة خافتة .. أجواء مثيرة ومشجعة .. رآها ماكثة في أوج تأهبها .. فاتنة حقًا .. تفوق سيدة الأزياء بكثير .. تقدم .. اختلط لعابه بمخاطه .. ازدادت جسارة خطواته .. واصل حتى انتهى مصعوقًا أمام نهديها .. وقبل أن يطأ أرضها ، تحققت من طلعته .. وثبت متخطية حواجزها ؛ فاستقرت بجوار الباب . هاجت وماجت وكأن رياحًا خماسينية قد اجتاحت الغرفة .. صاحت مشتعلة : - " إنت يا زفت .. رجعله فلوسه .. ولا مـال الدنيا .. شيلوه من هنــا .. دا القـرود أرحم .. أنا خلاص تبت " خرج مسرعًا قبل أن تزداد ثورتها فتطيح برأسه .
        - حتى الغانية .. لا أمل .. ليذهب كل شيء إلى جهنم .
        سار غير مستغرب .. لم يكن يُعول الكثير على هذا الطريق أيضًا .. كان الطقس ساحرًا يُغري بمواصلة الصعلكة .. كانت لم تتجاوز العاشرة .. الليل هو أجمل ما بالصيف .. قرر ألا يعود .. ليلة في العمر يهمل فيها نفسه .. الآن يعيش بدون أبيه .. بدون مُعلم . شوارع القاهرة لها رائحة متفردة .. الزحام ومشاكل البيئة ومتاعب النهار ، لم يفلحوا في أن ينالوا منها .. أحداث اليوم تتساقط من رأسه .. تداعب خطواته المخمورة .. تتوزع على جدران البنايات والحوانيت .. افتُرشت الأرض بالوجوه .. الساعي ، البواب ، رفقاء العمارة .. يدق الأرض بعنف .. وأخيرًا الغانية .. تابت على يديه ولا أكبر داعية .. اندفعت منه الضحكات بشراهة الذي اعتاد البكاء .. ثم أخذ يهذي :

        - لست جُـز
        يئاً ، لست نواة .......... أنا أكبر من أي حياة
        - أنا أجمل طفل في الكون .......... أنا ضحكة مبتعرف آه

        انساب في الشوارع بلا توقف .. وجد نفسه أمام برج القاهرة .. تأمله لفترة ثم اتخذ قرارًا فوريًا بصعوده وقف شامخًا متصلبًا كالمسيطر على زمام مملكته .. بدت الأشياء ضئيلة والأحلام بعيدة والناس أقزام . الأحداث كلها تُغري بالتحرر .. نحى عنه كل شيء .. تعرى إلا من مِئزره ..
        وأخذ يغني بصوت ممزق :
        تحت سماء الليل البارد .. في صدري أسرار .. أنثر حلمي بين النُجُم .. أمتطي الهواء .. مملكتي ترقص ، أشيائي لا تنام .. أنا أكبر نجم ، وكلكم أقزام .. يا أبناء عصر الشك .. أنا ابن الفضاء .. أنا قبطان .. سفينتي الأحلام .. أنا شظية سعادة هبطت إلى الأرض ؛ لتبدد الأحزان .. جسدي سيموت لكن ستبقى روحي سابحة في عالمي المتخفي .. عالم الملاك الأبيض .. أجنحتي رقيقة مثل مشاعري .. أنا ملاك مُتنكر .. أحترف الأحلام ..... أحترف الأحلام .
        انتهى من أنشودته ، ثم أخذ يصيح : أهكذا تعيشون تفتقدون للحب .. أهكذا تعيشون مفقوئي الأعين .. صم الآذان .. أنتم موتى .. وأنا حفرية حية لحضارة مسالمة .. لن أحدثكم بعد اليوم .. ثم صمت بلا حراك .. وأجال بعينيه تملأهما يقظة .. وانبسطت راحتيه .. ثم ما لبث أن فقد صحوه .

        عزت الحجار - منشورة بصحيفة
        جميلة جدا ... استمتعت معك، وأحسست معاناة القزم البدين...
        وكأنه مخلوق فضائي بعد وفاة ابيه... وعدم تمكنه من الإنخراط
        بالمجتمع دون وجوده...

        سمحت لنفسي بتعديل بعض الاخطاء ...

        يسعدني الترحيب بك وأتمنى تفاعلك الجميل معنا...

        كن بخير وصحة وعافية...


        تحيتي وتقديري...


        أنين ناي
        يبث الحنين لأصله
        غصن مورّق صغير.

        تعليق

        • عزت فوزي أحمد الحجار
          أديب وكاتب
          • 01-09-2012
          • 36

          #5
          المشاركة الأصلية بواسطة محمد فطومي مشاهدة المشاركة
          نصّ يستحقّ المكوث أمامه طويلا . الدّهشة ، متانة الّلغة ، الحرفيّة العالية في تطويعها لخدمة المعنى ، التّشويق، البعد الانساني الكامن بين الأسطر، كلّها عناصر اجتمعت بجدارة في هذا العمل لتجعل منه وحدة أدبيّة فريدة.
          نظام : (العائق أو العاهة - الأمل - المحاولة - الخيبة ) كان محكما و مرتّبا على نحو جادّ و ناضج.
          لديّ رأي أبديه بعد إذنك:
          و هو أنّي سجّلتُ في بعض المواضع المتفرّقة على مدى النصّ نزعة الكاتب للاستعانة المباشرة بمسمّياته الخاصّة للحالة و بنظرته الشّخصيّة للشّخصيّة المحوريّة أو لما يحدث لها و من حولها،سالبا إيّاها حقّها في التّعبير عن نفسها أو عن نموّها بمفردها.
          أقدّم هنا بعض الأمثلة :
          خاتم الشعار بالنسبة له أهم من خاتم سليمان ..

          أضئيل لهذا الحد مقدار ما يشغله من الأرض !! أمتجمد لهذه الدرجة إحساس الآخرين به !!

          وكيف يقيم علاقة مع جنس آخر وعلاقته ببني جنسه متوترة ؟

          تآكل ثقب الأوزون ،انهيار الجليد في القطب الشمالي ، الحرب النووية ، الصراع البيولوجي ، ثورات واحتجاجات الشعوب ، كلها أمور لا تحظى باهتمامه ..

          سعيد لأنّي اكتشفتُ مبدعا حريّا بالمتابعة.

          مودّتي و تقديري لك أستاذ عزّت.
          كل الشكر والتقدير للأستاذ الكبير محمد فطومي ، فمرورك الكريم هو ما أضفى على أحرفي المتواضعة قوة وثراء ، استفدت كثيراً من تعقيبكم المبدع الجميل ، كنت محقاً فى ظهور نزعتى الشخصية في بعض مواضع النص ، كم أنت رائع ، أشكرك على تشريف نصي بحضورك ، بانتظارك دائماً ناقداً مبدعاً ومعلمًا مدهشًا
          مع بالغ حبي وامتناني
          عزت الحجار

          تعليق

          • عزت فوزي أحمد الحجار
            أديب وكاتب
            • 01-09-2012
            • 36

            #6
            المشاركة الأصلية بواسطة ريما ريماوي مشاهدة المشاركة
            جميلة جدا ... استمتعت معك، وأحسست معاناة القزم البدين...
            وكأنه مخلوق فضائي بعد وفاة ابيه... وعدم تمكنه من الإنخراط
            بالمجتمع دون وجوده...


            سمحت لنفسي بتعديل بعض الاخطاء ...

            يسعدني الترحيب بك وأتمنى تفاعلك الجميل معنا...

            كن بخير وصحة وعافية...


            تحيتي وتقديري...
            تقديري الكبير للاستاذة والمبدعة الرقيقة ريما ريماوي ، كم سعدت بك وبرأيك الكريم في أحرفي التي شرفت وتلألأت بلمساتك النقدية الراقية ، أشكرك على تعديل بعض أخطائي ، سعيد جداً بمعرفة صديقة رائعة وكاتبة مميزة متفردة ، أمنياتي بسعادة حقيقية دائمة ... دام قلمك مبدعًا ... تحياتي العميقة
            عزت الحجار

            تعليق

            • ربيع عقب الباب
              مستشار أدبي
              طائر النورس
              • 29-07-2008
              • 25792

              #7
              حين يتحول الانسان إلي شيء
              محض شيء
              نتوه عن ملامحنا
              عن أنفسنا .. كما تاه العالم و ضل عنا

              قصة جميلة بالفعل
              ما أحببت أن تكون بدايتها كما رسمت أخي الجميل عزت
              و لكنها أشبعتني وجعا
              حتى في الغناء كنت قاسيا عليه !

              محبتي
              sigpic

              تعليق

              • عزت فوزي أحمد الحجار
                أديب وكاتب
                • 01-09-2012
                • 36

                #8
                مضحك أن اعلق بعد النشر بفترة طويلة ... سامحني سيدي فقد ابتعدت لظروف خاصة ...
                ما وددت قوله انني سعيد جداً ؛ لأن أحرفي اثارت انتباه الكاتب الفذ العبقري ربيع عقب الباب
                تحياتي العميقة
                عزت الحجار

                تعليق

                يعمل...
                X