(8)
التحق بي سلام "الأرنب" وسلكنا طريقا محاذيا للمنبع من الناحية العليا وأوغلنا في الغابة المحيطة به .. كنا نصعد ميممين صوب الغرب .. ولم يكن هناك أي مسلك مستوي لنسترجع أنفاسنا .. فما لبث لهاثي أن بدأ يصل إلى مسامع رفيقي الذي لم يكن يبدو عليه أي تعب . كان يقول لي :
- تمهل ولا تصعد بهذه الطريقة .. تتبع الطريق الملتوي .. هل حسبت أن من سلكه كان يمزح ؟ العقبة (المرتفع) لا يفهمها إلا ثلاثة : الشارف (العجوز) و العارف والتالف (التائه) .
بعد ذلك ساد الصمت ولم نتفوه بأية كلمة .. كنت غارقا في أفكاري . وكأنما أحس سلام بما كان يعتلج في صدري فاحترم سكوتي و التزم الصمت .
صارت خطواتنا بطيئة و نحن نصل منعرج يوغل من جديد في غابة من الصنوبر الكثيف .. كانت آخر فرصة لنا لرؤية المجرى بكاملها في الأسفل . تناهى إلي آذان الظهر من مسجد المجرى فخفق قلبي بعنف . وأسرعت الخطى نحو المنعرج ، لكني لم أملك نفسي من النظر إلى هناك . في تلك اللحظة ، حدث ما كنت أترقبه و أتجنب حضوره . فقد تراءى لي رهط من الأهالي يتوجهون نحو مقبرة المسجد المحاذية له . لم أميز أحدا منهم ، لكني كنت أعلم أن أبي ضمنهم و كذلك فقيه القرية . فعاودني الحزن و بكيت في صمت . أما سلام "الأرنب" فقد تشاغل بالنظر إلى السماء تارة وإلى يديه تارة أخرى يفركهما في ارتباك واضح .. وفي الوقت الذي توقف فيه الموكب أمام مئذنة المسجد لم أعد أحتمل النظر إلى هناك ، فوليت وجهي شطر الجبل من جديد و أخذت أحث الخطى موغلا بين الأشجار . لكني ذهني لم يتوقف عن التفكير في ما سيحدث بجانب المسجد ، وبكل التفاصيل . وكان رفيقي يتبعني تارة و يسبقني تارة أخرى حين يلاحظ حيرتي أمام عدة مسالك يتفرع عنها الطريق الصاعد إلى ما لا نهاية . أحسسن نحوه بعطف وامتنان . و لولاه لكنت استوحشت المكان .
يجدر بي القول إن علاقتي بزملائي ازدادت توطيدا ومتانة مع مرور السنين و اجتيازنا للمرحلة الابتدائية . غير أن انشغال أغلبيتهم بالعمل الفلاحي أثناء الصيف لم يسمح لنا بالالتقاء مرارا . فبعد عملية الحصاد و الدرس و الذرو ، كان عليهم مرافقة آباءهم لمساعدة باقي الأهالي بالتناوب . كانت صورة رائعة للتضامن . وأجمل ما كان يتخلل هذا النشاط ، ما يسمونه بعملية "توازة" ، حيث ينضم كافة الأهالي إلى عملية الحصاد ، ويقفون مصطفين على حافة الحقل ، وبعد إشارة من أحدهم ، ينطلقون في هجوم كاسح ومناجلهم في أيديهم بينما تتعالى الزغاريد . وكثيرا ما ذكرني هذا المنظر بفيلم سينمائي للهنود الحمر وهم يهجمون على قافلة للجنود . ثم تأتي فترة الاستراحة ، حيث يتحلقون حول مائدة كبيرة لتناول الغذاء .
ثم تأتي بعد ذلك عملية الدرس ونحن نتابع حركة البغال الدائرية و هي ترفس سنابل القمح ، مربوطة بحبل يشده الفلاح وهو يتوسط القمح المتراكم . وعند المساء ، وحين تكون الريح رخاء ، يبدأ الذرو ، فيفصل القمح عن التبن .. وهنا كانت المتعة . إذ كنا نجري صوب التبن و نغطس فيه لاهين .
كان هذا العمل المضني يجعل الذهاب جماعيا إلى النهر مستحيلا . لكني كنت أجد هناك من بقطن قرب الغدير فنمضي النهار كله بعيدا عن القرية ، خاصة حين يكثر الضجيج و تمتلئ بالوافدين أثناء المناسبات الوطنية وما يرافقها من احتفالات أو أثناء الانتخابات .
وقد صادف ذلك اليوم تنصيب القائد الجديد للمجرى ، وطبعا كان هناك والد لطيفة بصفته رئيس الدائرة البحرية ، أي القائد الممتاز ووالدي وثلة من الموظفين .. وقد بدا مراسيم التنصيب متأخرة شيئا ما بسبب انشغال أبي و الموظفين بالجنازة .
لطيفة ؟ ماذا تفعل الآن ؟ وهل لا زالت تحمل لي شيئا في نفسها بعد معاملتي الجافة لها ؟ وهل تكون تحيتها لي وعزاؤها مجرد تقيد بالأصول أم أنها كانت تشفق علي وهي ترى جفني منتفخين من البكاء فأثر منظري فيها ؟
وصلنا عند العصر . واستقبلنا عمي عمار بحفاوة كبيرة ورأيت كيف سقطت دمعة من عينه ونحن نخبره بالحدث المفجع . كان عمي عمار رجلا قصير القامة ، وكنت أنا ابن الخامسة عشرة أفوقه طولا . وكان شديد المرح نشيطا وطيبا إلى أقصى درجة .. أما سكناه فلم أر أغرب منها إذ كان منزله يقع في نهاية صفين من أشجار التين بحيث بدا لي و كأنني أسلك ردهة .
ولم يكن يبدو من سكناه شيئا إذ كان محاطا بأشجار التين أيضا .
حدثته عما أوصاني به أبي ، وحين رأى نيتنا في العودة حاول استبقاءنا للغداة ، لكني أفهمته أن الليلة ستكون ليلة تأبين الفقيد و لابد أن أكون حاضرا ، فلم يلح ونهض يتنقل بين الأغراس ويجني من كل شجرة فاكهة و يملأ السلال ، ثم أخذ ديكين و ربطهما ومل سلة بالبيض ، فقلت و أنا ابتسم لأول مرة في ذلك اليوم :
- عمي .ز كيف تريدنا أن نحمل كل هذا وليس لنا بغل ؟
فانبرى سلام ممسكا بالسلال قائلا :
- لا عليك .. بإمكانك ألا تحمل شيئا .. أنا سأتكفل بهذا .. هيا بنا .. ابق بخير عمي عمار .
رأيته فجأة يقفز نحو السلال و يربطها إلى بعضها البعض ثم يضعها على كتفيه بينما حملت يده اليمنى الديكين و اليسرى سلة البيض .
وقال وهو يشير إلي بوجهه :
- اعتن فقط بالملف الذي سيعطيك إياه عمي عمار ، ففيها وثائق مهمة كما يبدو من حرصه عليها و العناية بها ..
ثم ضحك و قال هامسا :
- يأتيك الرزق إلى يديك و ترفضه ؟
فضحكت بدوري ثم تقدمت إلى عمي عمار لتسلم مظروفا أصفر سلمه لي ويداه لا تكاد تتركه لشدة حرصه , وقال :
- أعطيها لأبيك و قل له إن جميع الوثائق هنا باستثناء شواهد الازدياد .. هو سيتكفل لي بها جزاه الله خيرا .
ودعناه وبدأنا الانحدار .. قال لي سلام في ما بعد أن الرجل يهيئ وثائق تخص جواز سفر ابنه كي يحصل على التأشيرة . فضحكت من جديد وأنا أقول :
- يجب ان تعمل في القيادة كموظف .. تعرف كل شاذة وفذة ..
- في المجرى لا يخفى شيء .. ثم إن هذا ليس سرا .. أنت غافل عما يجري من حولك .
شعرت بقلبي يخفق .. هل يعني شيئا بكلامه ؟ .. لا يبدو عليه ذلك .. تبعته وهو يمشي أمامي بخفة .. كنت أظن أنه سيعاني من الثقال التي يحملها ويجر رجليه جرا .. لكني رأيته على العكس من ذلك ، بركض و ينط منحدرا نحو القرية فلم أملك إلا أن قلت له و أنا ألحق به :
- لقد أصاب من لقبك بالأرنب .
ضحك وقال بمرارة :
- هو أبي الذي اختار لي هذا اللقب .. ربما كان ينتقم لأنه لم يتمكن من اختيار اسم لي عند ولادتي وسماني جدي لأمي .
غابت الشمس من ورائنا و نحن نواصل الانحدار وبدأت أعاني من صعوبة الرؤية وصرت أعتمد على صوت وقع خطوات رفيقي وهو يتقدمني . وفي لحظة تراءى لي شبح حيوان مقبل في الاتجاه المعاكس .. وقبل أن اسأل سلام قال :
- هذا هو الحلوف (الخنزير البري) راجع من المورد .. لا تخف وتنح جانبا ..
رأيت الأرنب يستلقي بأحماله على جانب الطريق المحفوف بشجيرات صغيرة ففعلت مثله و أنا ارتعش خوفا . ومر الحيوان وكأننا لسنا موجودين .
- احذر الحلوف فقط حين يكون جريحا و الأنثى مع صغارها .
- ما أوسع معارفك يا سلام .. لو كنت لوحدي لما نجوت .
- هكذا نتعلم .. لم نخلق متعلمين .
شعرت نحوه بامتنان و أنا أرى الخطر يبتعد هناك في الأعلى ، بينما لاحت لنا أنوار القناديل في المجرى .. ووجدت نفسي فجأة في أعلى المنبع .. لم أمر طبع بالقرب من المئذنة ، ورأيت سلام يتجنبه أيضا و يسلك ممرا يحاذي النهر القريب من منزلنا . توقفنا و وضع سلام السلال أرضا و هو يقول :
- يبدو أن منزلكم يعج بالناس .. هل أوصل الأحمال إلى مكان ما ؟
انتبهت إلى الحركة الغير عادية بباب المنزل بينما تعالت ترنيمة "الطلبة" وهو يتلون القرآن الكريم ، فعادت ذكريات اليوم تضفي على نفسي الأسى , فقلت شاردا :
- سأسأل أبي أين نضعها .. انتظر هنا .. سوف نتعشى معا .
- علي أن أطمئن أولا على العيال .. لا تنتظرني إذا لم أعد .
تعليق