الدار اللي هناك -2-

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • رشيد الميموني
    مشرف في ملتقى القصة
    • 14-09-2008
    • 1533

    #16
    (8)

    التحق بي سلام "الأرنب" وسلكنا طريقا محاذيا للمنبع من الناحية العليا وأوغلنا في الغابة المحيطة به .. كنا نصعد ميممين صوب الغرب .. ولم يكن هناك أي مسلك مستوي لنسترجع أنفاسنا .. فما لبث لهاثي أن بدأ يصل إلى مسامع رفيقي الذي لم يكن يبدو عليه أي تعب . كان يقول لي :
    - تمهل ولا تصعد بهذه الطريقة .. تتبع الطريق الملتوي .. هل حسبت أن من سلكه كان يمزح ؟ العقبة (المرتفع) لا يفهمها إلا ثلاثة : الشارف (العجوز) و العارف والتالف (التائه) .
    بعد ذلك ساد الصمت ولم نتفوه بأية كلمة .. كنت غارقا في أفكاري . وكأنما أحس سلام بما كان يعتلج في صدري فاحترم سكوتي و التزم الصمت .
    صارت خطواتنا بطيئة و نحن نصل منعرج يوغل من جديد في غابة من الصنوبر الكثيف .. كانت آخر فرصة لنا لرؤية المجرى بكاملها في الأسفل . تناهى إلي آذان الظهر من مسجد المجرى فخفق قلبي بعنف . وأسرعت الخطى نحو المنعرج ، لكني لم أملك نفسي من النظر إلى هناك . في تلك اللحظة ، حدث ما كنت أترقبه و أتجنب حضوره . فقد تراءى لي رهط من الأهالي يتوجهون نحو مقبرة المسجد المحاذية له . لم أميز أحدا منهم ، لكني كنت أعلم أن أبي ضمنهم و كذلك فقيه القرية . فعاودني الحزن و بكيت في صمت . أما سلام "الأرنب" فقد تشاغل بالنظر إلى السماء تارة وإلى يديه تارة أخرى يفركهما في ارتباك واضح .. وفي الوقت الذي توقف فيه الموكب أمام مئذنة المسجد لم أعد أحتمل النظر إلى هناك ، فوليت وجهي شطر الجبل من جديد و أخذت أحث الخطى موغلا بين الأشجار . لكني ذهني لم يتوقف عن التفكير في ما سيحدث بجانب المسجد ، وبكل التفاصيل . وكان رفيقي يتبعني تارة و يسبقني تارة أخرى حين يلاحظ حيرتي أمام عدة مسالك يتفرع عنها الطريق الصاعد إلى ما لا نهاية . أحسسن نحوه بعطف وامتنان . و لولاه لكنت استوحشت المكان .
    يجدر بي القول إن علاقتي بزملائي ازدادت توطيدا ومتانة مع مرور السنين و اجتيازنا للمرحلة الابتدائية . غير أن انشغال أغلبيتهم بالعمل الفلاحي أثناء الصيف لم يسمح لنا بالالتقاء مرارا . فبعد عملية الحصاد و الدرس و الذرو ، كان عليهم مرافقة آباءهم لمساعدة باقي الأهالي بالتناوب . كانت صورة رائعة للتضامن . وأجمل ما كان يتخلل هذا النشاط ، ما يسمونه بعملية "توازة" ، حيث ينضم كافة الأهالي إلى عملية الحصاد ، ويقفون مصطفين على حافة الحقل ، وبعد إشارة من أحدهم ، ينطلقون في هجوم كاسح ومناجلهم في أيديهم بينما تتعالى الزغاريد . وكثيرا ما ذكرني هذا المنظر بفيلم سينمائي للهنود الحمر وهم يهجمون على قافلة للجنود . ثم تأتي فترة الاستراحة ، حيث يتحلقون حول مائدة كبيرة لتناول الغذاء .
    ثم تأتي بعد ذلك عملية الدرس ونحن نتابع حركة البغال الدائرية و هي ترفس سنابل القمح ، مربوطة بحبل يشده الفلاح وهو يتوسط القمح المتراكم . وعند المساء ، وحين تكون الريح رخاء ، يبدأ الذرو ، فيفصل القمح عن التبن .. وهنا كانت المتعة . إذ كنا نجري صوب التبن و نغطس فيه لاهين .
    كان هذا العمل المضني يجعل الذهاب جماعيا إلى النهر مستحيلا . لكني كنت أجد هناك من بقطن قرب الغدير فنمضي النهار كله بعيدا عن القرية ، خاصة حين يكثر الضجيج و تمتلئ بالوافدين أثناء المناسبات الوطنية وما يرافقها من احتفالات أو أثناء الانتخابات .
    وقد صادف ذلك اليوم تنصيب القائد الجديد للمجرى ، وطبعا كان هناك والد لطيفة بصفته رئيس الدائرة البحرية ، أي القائد الممتاز ووالدي وثلة من الموظفين .. وقد بدا مراسيم التنصيب متأخرة شيئا ما بسبب انشغال أبي و الموظفين بالجنازة .
    لطيفة ؟ ماذا تفعل الآن ؟ وهل لا زالت تحمل لي شيئا في نفسها بعد معاملتي الجافة لها ؟ وهل تكون تحيتها لي وعزاؤها مجرد تقيد بالأصول أم أنها كانت تشفق علي وهي ترى جفني منتفخين من البكاء فأثر منظري فيها ؟
    وصلنا عند العصر . واستقبلنا عمي عمار بحفاوة كبيرة ورأيت كيف سقطت دمعة من عينه ونحن نخبره بالحدث المفجع . كان عمي عمار رجلا قصير القامة ، وكنت أنا ابن الخامسة عشرة أفوقه طولا . وكان شديد المرح نشيطا وطيبا إلى أقصى درجة .. أما سكناه فلم أر أغرب منها إذ كان منزله يقع في نهاية صفين من أشجار التين بحيث بدا لي و كأنني أسلك ردهة .
    ولم يكن يبدو من سكناه شيئا إذ كان محاطا بأشجار التين أيضا .
    حدثته عما أوصاني به أبي ، وحين رأى نيتنا في العودة حاول استبقاءنا للغداة ، لكني أفهمته أن الليلة ستكون ليلة تأبين الفقيد و لابد أن أكون حاضرا ، فلم يلح ونهض يتنقل بين الأغراس ويجني من كل شجرة فاكهة و يملأ السلال ، ثم أخذ ديكين و ربطهما ومل سلة بالبيض ، فقلت و أنا ابتسم لأول مرة في ذلك اليوم :
    - عمي .ز كيف تريدنا أن نحمل كل هذا وليس لنا بغل ؟
    فانبرى سلام ممسكا بالسلال قائلا :
    - لا عليك .. بإمكانك ألا تحمل شيئا .. أنا سأتكفل بهذا .. هيا بنا .. ابق بخير عمي عمار .
    رأيته فجأة يقفز نحو السلال و يربطها إلى بعضها البعض ثم يضعها على كتفيه بينما حملت يده اليمنى الديكين و اليسرى سلة البيض .
    وقال وهو يشير إلي بوجهه :
    - اعتن فقط بالملف الذي سيعطيك إياه عمي عمار ، ففيها وثائق مهمة كما يبدو من حرصه عليها و العناية بها ..
    ثم ضحك و قال هامسا :
    - يأتيك الرزق إلى يديك و ترفضه ؟
    فضحكت بدوري ثم تقدمت إلى عمي عمار لتسلم مظروفا أصفر سلمه لي ويداه لا تكاد تتركه لشدة حرصه , وقال :
    - أعطيها لأبيك و قل له إن جميع الوثائق هنا باستثناء شواهد الازدياد .. هو سيتكفل لي بها جزاه الله خيرا .
    ودعناه وبدأنا الانحدار .. قال لي سلام في ما بعد أن الرجل يهيئ وثائق تخص جواز سفر ابنه كي يحصل على التأشيرة . فضحكت من جديد وأنا أقول :
    - يجب ان تعمل في القيادة كموظف .. تعرف كل شاذة وفذة ..
    - في المجرى لا يخفى شيء .. ثم إن هذا ليس سرا .. أنت غافل عما يجري من حولك .
    شعرت بقلبي يخفق .. هل يعني شيئا بكلامه ؟ .. لا يبدو عليه ذلك .. تبعته وهو يمشي أمامي بخفة .. كنت أظن أنه سيعاني من الثقال التي يحملها ويجر رجليه جرا .. لكني رأيته على العكس من ذلك ، بركض و ينط منحدرا نحو القرية فلم أملك إلا أن قلت له و أنا ألحق به :
    - لقد أصاب من لقبك بالأرنب .
    ضحك وقال بمرارة :
    - هو أبي الذي اختار لي هذا اللقب .. ربما كان ينتقم لأنه لم يتمكن من اختيار اسم لي عند ولادتي وسماني جدي لأمي .
    غابت الشمس من ورائنا و نحن نواصل الانحدار وبدأت أعاني من صعوبة الرؤية وصرت أعتمد على صوت وقع خطوات رفيقي وهو يتقدمني . وفي لحظة تراءى لي شبح حيوان مقبل في الاتجاه المعاكس .. وقبل أن اسأل سلام قال :
    - هذا هو الحلوف (الخنزير البري) راجع من المورد .. لا تخف وتنح جانبا ..
    رأيت الأرنب يستلقي بأحماله على جانب الطريق المحفوف بشجيرات صغيرة ففعلت مثله و أنا ارتعش خوفا . ومر الحيوان وكأننا لسنا موجودين .
    - احذر الحلوف فقط حين يكون جريحا و الأنثى مع صغارها .
    - ما أوسع معارفك يا سلام .. لو كنت لوحدي لما نجوت .
    - هكذا نتعلم .. لم نخلق متعلمين .
    شعرت نحوه بامتنان و أنا أرى الخطر يبتعد هناك في الأعلى ، بينما لاحت لنا أنوار القناديل في المجرى .. ووجدت نفسي فجأة في أعلى المنبع .. لم أمر طبع بالقرب من المئذنة ، ورأيت سلام يتجنبه أيضا و يسلك ممرا يحاذي النهر القريب من منزلنا . توقفنا و وضع سلام السلال أرضا و هو يقول :
    - يبدو أن منزلكم يعج بالناس .. هل أوصل الأحمال إلى مكان ما ؟
    انتبهت إلى الحركة الغير عادية بباب المنزل بينما تعالت ترنيمة "الطلبة" وهو يتلون القرآن الكريم ، فعادت ذكريات اليوم تضفي على نفسي الأسى , فقلت شاردا :
    - سأسأل أبي أين نضعها .. انتظر هنا .. سوف نتعشى معا .
    - علي أن أطمئن أولا على العيال .. لا تنتظرني إذا لم أعد .


    التعديل الأخير تم بواسطة رشيد الميموني; الساعة 10-05-2013, 06:32.

    تعليق

    • ريما ريماوي
      عضو الملتقى
      • 07-05-2011
      • 8501

      #17
      هذا المشهد مكمل لمشهد الفقد
      الحزين لاخي بطلنا الجميل...

      ما زلت أتابع الأحداث بشغف..

      كن بخير وصحة وعافية..

      مودتي واحترامي وتقديري.


      أنين ناي
      يبث الحنين لأصله
      غصن مورّق صغير.

      تعليق

      • احمد نور
        أديب وكاتب
        • 23-04-2012
        • 641

        #18
        الاستاذ رشيد الميموني
        انها قصة طويلة جدا لايمكن للطفل ان يستوعبها ويتابعها
        واعتقد ان سبب الاطالة من الاديبة ريما وتشجيعها
        هل انت متأكد انك تكتب قصة للاطفال!!!!!!!!!!!!
        لو اني قرأتها الف مره لما وجدت فيها ما يخص الطفل بحركة او كلمة الا عن بعد !!!
        كما ان كلماتها صعبة وكأنك تخاطب اناس كبار يعرفون اللغة ومعانيها!!!
        ومن الامثلة على الكلمات(ميممين- يعتلج................)
        أذا كان عندك اطفال اعرضها عليهم ليقرأوها واسألهم هل فهمتم منها شيء
        وأنت اعرف بالجواب!!! لأنني فعلت ذلك
        وارجع الى الاستاذة ريما
        حيث يبدو انها لم تنتبه ان القصة في ركن ادب الطفل
        فقامت بتشجيع الكاتب نحو المزيد لأنها كأديبة استمتعت بالقصة!!!!
        وكان الاولى بها ان تنصحك بنقلها الى ركن القصة اذا كانت مستمتعة بها الى هذه الدرجة !!!
        قد تستغربون من علامات التعجب
        الجواب لأنني كنت كلما قرأت سطرا من القصة اتعجب كيف نُشرت هنا
        ارجو ان لايكون هناك زعل
        تحياتي
        احمد عيسى نور

        تعليق

        • رشيد الميموني
          مشرف في ملتقى القصة
          • 14-09-2008
          • 1533

          #19
          المشاركة الأصلية بواسطة احمد نور مشاهدة المشاركة
          الاستاذ رشيد الميموني
          انها قصة طويلة جدا لايمكن للطفل ان يستوعبها ويتابعها
          واعتقد ان سبب الاطالة من الاديبة ريما وتشجيعها
          هل انت متأكد انك تكتب قصة للاطفال!!!!!!!!!!!!
          لو اني قرأتها الف مره لما وجدت فيها ما يخص الطفل بحركة او كلمة الا عن بعد !!!
          كما ان كلماتها صعبة وكأنك تخاطب اناس كبار يعرفون اللغة ومعانيها!!!
          ومن الامثلة على الكلمات(ميممين- يعتلج................)
          أذا كان عندك اطفال اعرضها عليهم ليقرأوها واسألهم هل فهمتم منها شيء
          وأنت اعرف بالجواب!!! لأنني فعلت ذلك
          وارجع الى الاستاذة ريما
          حيث يبدو انها لم تنتبه ان القصة في ركن ادب الطفل
          فقامت بتشجيع الكاتب نحو المزيد لأنها كأديبة استمتعت بالقصة!!!!
          وكان الاولى بها ان تنصحك بنقلها الى ركن القصة اذا كانت مستمتعة بها الى هذه الدرجة !!!
          قد تستغربون من علامات التعجب
          الجواب لأنني كنت كلما قرأت سطرا من القصة اتعجب كيف نُشرت هنا
          ارجو ان لايكون هناك زعل
          تحياتي
          احمد عيسى نور
          الأخ الكريم أحمد عيسى ، حياك الله ..
          تعليقك هذا يثير استغرابا ويغري أحيانا بالضحك .
          أول شيء استغربت له هو ذكرك للزعل وكأن أي نقد لنص من نصوصنا لا بد أن يثير الزعل إن كان لا يوافق هوانا .
          ثانيا : استغربت لقولك إن إطالتي للقصة جاء بناء على تشجيع الأخت ريما أو إعجابها . يعني لو لم تشجعني أختي ريما أو تعبر عن إعجابها لكنت توقفت عن إدراج أجزاء القصة (ابتسامة) .. أظنك لم تلق نظرة على الجزء الأول الذي أدرجته وربما ستجد أقساما منه لم تتلق تعليقا ومع ذلك تابعت الإدراج .
          ثالثا : مكان القصة في أدب الطفل أو غيره لن أعترض عليه إذا ما اقترحه أحد كما كان الشأن لبعض قصائدي النثرية التي تم إبلاغي بنقلها إلى الخاطرة لأنها لا تستوفي شروط القصيدة النثرية .. وتقبلت ذلك رغم أني لحد الآن موقن من أن لا أحد يمكن أن يعطي تفسيرا دقيقا للقصيدة النثرية وشورطها .
          رابعا : بالنسبة للمستوى اللغوي فإن من واجبنا أن نرفع مستوى قراءنا الصغار ليتعودوا على تعابير اللغة العربية بكل ما تحويه من جمالية .. والطفولة لا تنتهي مع المراهقة لأن المراهقين يعتبرون أطفالا انتقلوا لمرحلة جديدة من عمرهم الفتي .
          خامسا : تدريب الطفل على النفس الطويل في القراءة من واجبنا كمدرسين لأن القراءة حاليا صارت كأكلة الهمبوركر وها نحن نرى المستوى المتدني للغة في عدة مناطق عربية مثلها مثل الأغاني وهلم جرا .
          أؤكد لك أيها الغالي أن لا زعل حين يتعلق الأمر بنقد بناء يروم التصحيح وإعطاء البديل .. بالعكس يسعدني أن أناقش كل نقطة من النقط التي وردت في مداخلتك باستثناء نقط التعجب التي أفسدت تعليقك ..
          اشكرك لأنك أوليت القصة اهتماما يسعدني وأتمنى أن يرتفع مستوى تعليقاتنا إلى ما يحفظ روح الاحترام والود المتبادل ..
          مودتي وتقديري .
          التعديل الأخير تم بواسطة رشيد الميموني; الساعة 11-05-2013, 20:07.

          تعليق

          • رشيد الميموني
            مشرف في ملتقى القصة
            • 14-09-2008
            • 1533

            #20
            المشاركة الأصلية بواسطة ريما ريماوي مشاهدة المشاركة
            هذا المشهد مكمل لمشهد الفقد
            الحزين لاخي بطلنا الجميل...

            ما زلت أتابع الأحداث بشغف..

            كن بخير وصحة وعافية..

            مودتي واحترامي وتقديري.
            جميل هذا التجاوب منك ريما و أحيي فيك هذا التحفيز الذي يجعلني أتابع الإدراج بكل حماس .
            وسأدرج بعد قليل قسما آخر من الجزء الثاني .
            مودتي وتقديري .

            تعليق

            • رشيد الميموني
              مشرف في ملتقى القصة
              • 14-09-2008
              • 1533

              #21
              9
              في تلك اللحظة رأيت أبي يتقدم نحونا وهو يشير إلينا بالدخول :
              . - ادخلا ..سوف نقدم العشاء باكرا حتى يتمكن من يقطن بعيدا من الانصراف متى شاء
              . - عفوا عمي .. لقد تركت "العيال" لوحدهم
              . - اذهب وات بهم جميعا كي تتعشوا معنا ، فأبوك هنا .. هيا ضعا تلك السلال بالمخزن
              وعندما انتهينا نقل الأحمال في مخزن قرب الباب وضعت يدي على كتف سلام قائلا :
              . - سأنتظرك . لا تتأخر ، سأقوم بجولة عند الشط
              بعد انصراف سلام استأذنت أبي للخروج من جديد في انتظار العشاء . كنت بحاجة للحظات أخلو فيها إلى نفسي . فقصدت الشط و قد ساد الظلام . ولم أعد أسمع سوى أصوات الصراصير ونقيق الضفادع في المروج القريبة . جلست على صخرة تطل على جرف سحيق . تلك الصخرة التي كنت أراقب من أعلاها أبي و القائد وهما ينطلقان للصيد هناك في أسفل الوادي قبل أن يختفيا بين الأشجار الكثيفة . خفق قلبي و أنا أتذكر القائد الممتاز . وتشاغلت بالتحديق في الظلام حيث تراءت لي بعض المصابيح الغازية و هي تتحرك بعيدا . قد يكون أحد في غرسة يقطف النعناع أو يحول ماء ساقية إلى حقل آخر . لكني لمحت فجأة نورا بالقرب مني على الجهة اليسرى من الشط . من يكون هناك وليس ثمة سوى كهوف متناثرة شكلت دهاليز و ممرات تحت المجرى . هل يكون بعض المقامرين على موعد للعب بعيدا عن أعين السلطة ؟ لشد ما كانت ترعبني سحنتهم وهو يلعبون في إحدى المقاهي بالقرية . كانوا متجهمين أغلب الأوقات .
              ألا يكونون مجموعة من اللصوص ؟ شعرت بالخوف ، لكن الفضول جعلني أشرئب بعنقي لأتابع النور الذي كان يتوجه فعلا نحو الكهف الكبير . لم لا يكون احد المجذوبين الذين تعج بهم المجرى ؟
              شجعني هذا الاحتمال على النهوض من أعلى الصخرة و التقدم بحذر إلى الأمام لأقف مباشرة فوق فوهة الكهف وأنظر إلى الأسفل . توقف النور قليلا ثم تابع حركته نحو الداخل .هل شعر صاحب المصباح بوجودي أم أنه يتصرف بحذر ؟
              كانت نفسي ترزح تحت مشاعر شتى . يتنازعها الخوف و الفضول وهذا الإحساس الطاغي ببداية مغامرة جديدة بعد فترة من الركود . لكن هذه المرة لم يطلب أحد منا تحرير موضوع إنشائي والأمر لا يتعلق هذه المرة بمنزل وسط المجرى . هنا كل شيء مختلف بل و أخطر مما مضى . هنا الكهف و اللصوص و المقامرون و المجذوبون وربما أشياء أخرى لا يعلم بخطورتها إلا الله .
              وكما حدث في المرة السابقة ، طغا حب المغامرة على الخوف . من يدري ؟ قد تكون هذه البداية لتعرفني لطيفة على حقيقتي وعلى مؤهلاتي . ربما تحسبني فقط فتى مدللا اعتاد على رغد العيش و لينه . هذه فرصتي لأثبت رجولتي المتنامية .
              وعند وصول تفكيري إلى هذا الحد ، زدت حماسا و إصرارا على المضي في اكتشاف سر ذاك النور المتحرك عند باب الكهف ، واقتربت منه منحدرا إليه بخفة القط عبر مسلك ضيق يحاذي الشط ويكاد لا يرى لتشابك بعض أغصان الأشجار التي تخفي معالمه . لكني تمكنت من شق طريقي بكل سهولة لأني كنت أعرفه جيدا لكثرة ما سلكناه أنا و زملائي و نحن ننحدر صوب النهر الكبير .
              توقفت قليلا وأنا انظر إلى باب الكهف وكأنه فم غول كبير يتثاءب . تذكرت حكايات جدتي الكثيرة وخاصة تلك التي تروي مقتل أحد السكان على يد أخيه و التجاء هذا الأخير إلى الكهف ليقضي بقية حياته هناك خوفا من إلقاء القبض عليه .
              تقدمت بحذر محاولا ألا يغيب نور المصباح عن عيوني . كانت الظلمة داخل الكهف أشد من الخارج حيث كان ضوء النجوم يمكن من تمييز الأشياء . فأخذت أتحسس الأرض بقدمي قبل أن أخطو خطوة ملتفتا بين الفينة و الأخرى إلى الوراء لأتأكد من أن مدخل الكهف لا يزال يرى . لكني مع تقدمي و تغيير اتجاهي عدة مرات وأنا اقتفي المصباح ، لم أعد أرى شيئا من ورائي ، وغاب ذاك الضياء الخافت الذي تبدد به النجوم حلكة الظلام الدامس .
              هل أعود أدراجي ؟ هذا ما كان يجب علي فعله فورا . فصديقي الأرنب لا بد و أن يكون قد مل انتظاره لي على صخرة الشط ، وموعد العشاء قد حان . هل يقلق أبي لتأخري عن العودة في هذا الظرف الخاص وهو يعلم مدى حزني على أخي ؟
              رغم كل هذا ، كنت أحس بقوة تدفعني لمتابعة طريقي وأوغل داخل الكهف . ولكن ماذا لو لم أجد شيئا و تهت أو سقطت في حفرة من الحفر المتناثرة بكثرة هنا ؟ قد تكون سقطة قاتلة .
              نفضت عن ذهني هذه الأفكار المثبطة وفكرت في العودة فقط لاقتناء مصباح أستعين به على تمييز طريقي. ولكن أين أجد المصباح الآن ؟ وهل تتركني أمي أخرج من بعد العشاء ؟ إذن لأستمر في المطاردة ، وإذا استحال علي ذلك ، أجلت الاستكشاف إلى الصباح .
              وفجأة ، انطفأ المصباح وعلا صراخ و عويل تردد صداه عبر جنبات الكهف فأصابتني رعشة و كدت أفقد توازني . فعدت أدراجي لا أرى شيئا أمامي . أتعثر تارة و تعترض رأسي تارة أخرى صخرة فتسبب لي ألما لا يطاق ويزيد من رعبي . و لا أدري كيف وجدت نفسي في مدخل الكهف وقلبي يكاد ينخلع فزعا . جريت إلى حيث الصخرة وجلست ألهث . لم أجد سلام فكانت فرصة لاسترداد أنفاسي اللاهثة . ماذا حدث؟ وماذا كان ذاك العويل الرهيب ؟ ومن يكون صاحب المصباح ؟
              التعديل الأخير تم بواسطة رشيد الميموني; الساعة 11-05-2013, 20:25.

              تعليق

              • ريما ريماوي
                عضو الملتقى
                • 07-05-2011
                • 8501

                #22
                حلوة ما زلت اتابع..
                لكن لاحظت بعض الجمل المكررة الممكن تكثيفها..
                شكرا لك الاستاذ رشيد..

                تحيتي وتقديري.


                أنين ناي
                يبث الحنين لأصله
                غصن مورّق صغير.

                تعليق

                • رشيد الميموني
                  مشرف في ملتقى القصة
                  • 14-09-2008
                  • 1533

                  #23
                  المشاركة الأصلية بواسطة ريما ريماوي مشاهدة المشاركة
                  حلوة ما زلت اتابع..
                  لكن لاحظت بعض الجمل المكررة الممكن تكثيفها..
                  شكرا لك الاستاذ رشيد..

                  تحيتي وتقديري.
                  محظوظة قصتي المطولة هذه ريما لما نالته من تجاوب وتشجيع منك .
                  أملي أن يدوم استمتاعك ..
                  شكرا لك من كل قلبي ..
                  باقة ورد لك عربون شكري ومودتي .

                  تعليق

                  يعمل...
                  X