ذاكرة الجسد / لأحلام مستغانمي/ المختار الدرعي

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • المختار محمد الدرعي
    مستشار أدبي. نائب رئيس ملتقى الترجمة
    • 15-04-2011
    • 4257

    #61
    وكنت يتيماً، وكنت أعي ذلك بعمق في كل لحظة. فالجوع إلى الحنان، شعور مخيف وموجع، يظل ينخر فيك من الداخل ويلازمك حتى يأتي عليك بطريقة وبطريقة أو بأخرى.
    أكان التحاقي بالجبهة آنذاك محاولة غير معلنة للبحث عن موت أجمل خارج تلك الأحاسيس المرضية التي كانت تملأني تدريجياً حقداً على كل شيء؟
    كانت الثورة تدخل عامها الثاني، ويتمي يدخل شهره الثالث، ولم أعد أذكر الآن بالتحديد، في أية لحظة بالذات أخذ الوطن ملامح الأمومة، وأعطاني ما لم أتوقّعه من الحنان الغامض، والانتماء المتطرِّف له.
    وربما كان لاختفاء "سي الطاهر" من حينا بسيدي المبروك منذ بضعة أشهر، دور في حسم القضية، واستعجالي في أخذ ذلك القرار المفاجئ. فلم يكن يخفى على أحد أنه انتقل إلى مكان سري في الجبال المحيطة بقسنطينة ليؤسس من هناك مع آخرين إحدى الخلايا الأولى للكفاح المسلح.
    من أين عاد اسم "سي طاهر" الليلة ليزيد من ارتباكي، ومن منكما استدرجني للآخر؟.
    من أين عاد.. وهل غاب حقاً، وعلى بعد شارعين مني شارع مازال يحمل اسمه؟
    هناك شيء اسمه "سلطة الاسم".
    وهناك أسماء عندما تذكرها، تكاد تصلح من جلستك، وتطفئ سيجارتك. تكاد تتحدث عنها وكأنك تتحدث إليها بنفس تلك الهيبة وذلك الانبهار الأول.
    ولذا .. ظلّ لاسم (سي طاهر) هيبته عندي. لم تقتله العادة ولا المعاشرة، ولم تحوله تجربة السجن المشترك، ولا سنوات النضال، إلى اسم عاديّ لصديق أو لجار. فالرموز تعرف دائماً كيف تحيط نفسها بذلك الحاجز اللامرئي، الذي يفصل بين العادي والاستثنائي، والممكن والمستحيل، في كل شيء.
    ها أنذا أذكره في ليلة لم أحجزها له..
    وبينما أسحب نفساً من سيجارة أخيرة، يرتفع صوت المآذن معلناً صلاة الفجر. ومن غرفة بعيدة يأتي بكاء طفل أيقظ صوته أنحاء كل البيت..
    فأحسد المآذن، وأحسد الأطفال الرضّع، لأنهم يملكون وحدهم حق الصراخ والقدرة عليه، قبل أن تروض الحياة حبالهم الصوتية، وتعلِّمهم الصمت.
    لا أذكر من قال "يقضي الإنسان سنواته الأولى في تعلم النطق، وتقضي الأنظمة العربية بقية عمره في تعليمه الصمت!".
    وكان يمكن للصمت أن يصبح نعمة في هذه الليلة بالذات، تماماً كالنسيان. فالذاكرة في مناسبات كهذه لا تأتي بالتقسيط، وإنما تهجم عليك شلالاً يجرفك إلى حيث لا تدري من المنحدرات.
    وكيف لك لحظتها أن توقفها دون أن تصطدم بالصخور، وتتحطم في زلّة ذكرى؟
    وها أنت ذا، تلهث خلفها لتلحق بماضٍ لم تغادره في الواقع، وبذاكرة تسكنها لأنها جسدك.
    جسدك المشوه لا غير.
    وتدري أنّ هناك من يلهثون الآن من منبر إلى آخر، بحجة أو بأخرى، ليدينوا تاريخاً كانوا طرفاً فيه. عساهم يلحقون بالموجة الجديدة، قبل أن يجرفهم الطوفان. فلا تملك إلا أن تشفق عليهم.
    ما أتعس أن يعيش الإنسان بثياب مبللة.. خارجاً لتوه من مستنقع.. وألا يصمت قليلاً في انتظار أن تجف!
    صامتاً يأتي (سي طاهر) الليلة.
    صامتاً كما يأتي الشهداء.
    صامتاً.. كعادته.
    وها أنت ذا مرتبك أمامه كعادتك.
    لقد كانت دائماً الخمس عشرة سنة التي تفصلكما، أكبر من عمر السنوات. كانت عمراً بحد ذاتها، ورمزاً بحد ذاتها، لرجل كان يجمع إلى جانب الفصاحة التي كان يتميز بها كل من اختلط بجمعية العلماء، ودرس في قسنطينة، فصاحة أخرى.. هي فصاحة الحضور.
    كان (سي طاهر) يعرف متى يبتسم، ومتى يغضب. ويعرف كيف يتكلم، ويعرف أيضاً كيف يصمت. وكانت الهيبة لا تفارق وجهه ولا تلك الابتسامة الغامضة التي كانت تعطي تفسيراً مختلفاً لملامحه كل مرة.
    "إن الابتسامات فواصل ونقاط انقطاع.. وقليل من الناس أولئك الذين ما زالوا يتقنون وضع الفواصل والنقط في كلامهم".*
    في سجن ( الكديا) كان موعدي النضالي الأول مع (سي طاهر). كان موعداً مشحوناً بالأحاسيس المتطرفة، وبدهشة الاعتقال الأول، بعنفوانه.. وبخوفه.
    وكان (سي طاهر) الذي استدرجني إلى الثورة يوماً بعد آخر، يدري أنه مسؤول عن وجودي يومها هناك. وربما كان يشفق سراً على سنواتي الست عشرة، على طفولتي المبتورة، وعلى ( أمّا) التي كان يعرفها جيداً، ويعرف ما يمكن أن تفعله بها تجربة اعتقالي الأول.
    ولكنه كان يخفي عنّي كل شفقته تلك، مردداً لمن يريد سماعه: "لقد خلقت السجون للرجال".
    وكان سجن (الكديا) وقتها، ككل سجون الشرق الجزائري يعاني فجأة من فائض رجولة، إثر مظاهرات 8 ماي 1945 التي قدّمت فيها قسنطينة وسطيف وضواحيها أول عربون للثورة، متمثلاً في دفعة أولى من عدّة آلاف من الشهداء سقطوا في مظاهرة واحدة، وعشرات الآلاف من المساجين الذين ضاقت بهم الزنزانات، مما جعل الفرنسيين يرتكبون أكبر حماقاتهم، وهو يجمعون لعدة أشهر بين السجناء السياسيين، وسجناء الحق العام، في زنزانات يجاوز أحياناً عدد نزلائها العشرين معتقلاً.
    وهكذا، جعلوا عدوى الثورة تنتقل إلى مساجين الحق العام الذين وجدوا فرصة للوعي السياسي، ولغسل شرفهم بالانضمام إلى الثورة التي استشهد بعد ذلك من أجلها الكثير منهم. ومازال بعضهم حتى الآن على قيد الحياة، يعيش بتكريم ووجاهة القادة التاريخيين لحرب التحرير، بعدما تكفّل التاريخ بإعادة سجلّ سوابقهم العدلية.. لعذريته الأولى. بينما وجد بعض السجناء السياسيين _ في تلك الحماقة الاستعمارية _ فرصة للتعرف على بعض، ووقتاً كافياً للتشاور والتفكير في أمور الوطن.. والتخطيط للمرحلة القادمة.
    اليوم.. عندما أذكر تلك التجربة، تبدو لي لكثافتها ودهشتها، وكأنها أطول مما كانت. رغم أنها لم تدم بالنسبة لي سوى ستة أشهر فقط. قضيتها هناك قبل أن يطلق سراحي أنا واثنين آخرين لصغر سننا ولأنه كان هناك من يهمهم أمرهم، أكثر منَّا
    http://www.almolltaqa.com/vb/showthr...C7%E1%DA%D1%C8

    رواية ذاكرة الجسد / أحلام مستغانمي
    [youtube]8TY1bD6WxLg[/youtube]
    الابتسامة كلمة طيبة بغير حروف



    تعليق

    • المختار محمد الدرعي
      مستشار أدبي. نائب رئيس ملتقى الترجمة
      • 15-04-2011
      • 4257

      #62
      وهكذا عدت إلى ثانوية قسنطينة، بعدما أخلفت هامًا دراسياً، ﻷجد البرنامج نفسه وكتب الفلسفة

      نفسها واﻷدب الفرنسي في انتظاري..

      نفسها واﻷدب الفرنسي في انتظاري..

      أغلبهم طلبة في الصفوف العليا التي كان مقررًا أن تتخرج منها أول دفعة من المثقفين

      والموظفين الجزائريين المفرنسين.
      وكان ذلك شرفهم، أولئك الذين راهن البعض على خيانتهم، فقط ﻷنهم اختاروا الثانويات
      والثقافة الفرنسية، في مدينة ﻻ يمكن ﻷحد فيها أن يتجاهل سلطة اللغة العربية، وهيبتها في
      القلوب والذاكرة.
      فهل عجب أن يكون من بين الذين سجنوا وعذّبوا بعد تلك المظاهرات، الكثير منهم، هم الذين
      كانوا بحكم ثقافتهم الغربية يتمتعون بوعي سياسي مبكر، وبفائض وطنية.. وفائض أحﻼم.
      والذين أدركوا، والحرب العالمية تنتهي لصالح فرنسا والحلفاء، أن فرنسا استعملت
      الجزائريين، ليخوضوا حربًا لم تكن حربهم، وأنهم دفعوا آﻻف الموتى في معارك ﻻ تعنيهم،
      ليعودوا بعد ذلك إلى عبوديتهم.
      كان في مصادفة وجودي مع (سي الطاهر) في الزنزانة نفسها شيء أسطوري بحد ذاته،
      وتجربة نضالية ظلَت تﻼحقني لسنوات بكل تفاصيلها، وربما كان لها بعد لك أثر في تغير
      قدري. فهناك رجال عندما تلتقي بهم تكون قد التقيت بقدرك.
      كان) سي الطاهر) استثنائيًا في كلﱢ شيء، وكأنه كان يعد نفسه منذ البدء، ليكون أكثر من
      رجل.
      لقد خلق ليكون قائداً. كان فيه شيء من سﻼلة طارق بن زياد، واﻷمير عبد الطارق، وأولئك
      الذين يمكنهم أن يغيروا التاريخ بخطبة واحدة.
      وكان الفرنسيون الذين عذّبوه وسجنوه لمدة ثﻼث سنوات يعرفون ذلك جيدًا. ولكنهم كانوا
      يجهلون أن) سي الطاهر) سيأخذ بثأره منهم بعد ذلك بسنوات، ويصبح الرأس المطلوب بعد
      كل عملية يقوم بها المجاهدون في الشرق الجزائري.
      ذاكرة الجسد أحلام مستغانمي
      [youtube]8TY1bD6WxLg[/youtube]
      الابتسامة كلمة طيبة بغير حروف



      تعليق

      • المختار محمد الدرعي
        مستشار أدبي. نائب رئيس ملتقى الترجمة
        • 15-04-2011
        • 4257

        #63
        أي صدفة.. أن يعود القدر بعد عشر سنوات تماماً، ليضعني مع (سي طاهر) في تجربة
        كفاحية مسلحة هذه المرة!

        سنة ..1955 وفي شهر أيلول بالذات، التحقت بالجبهة.
        كان رفاقي يبدأون سنة دراسية ستكون الحاسمة، وكنت في عامي الخامس والعشرين أبدأ
        حياتي اﻷخرى.
        أذكر أن استقبال (سي طاهر) لي فاجأني وقتها. لم يسألني عن أية تفاصيل خاصة عن حياتي
        أو دراستي. لم يسألني حتى كيف أخذت قرار التحاقي بالجبهة، وﻻ أيطريق سلكت ﻷصل
        إليه. ظلﱠ يتأملني قبل أ، يحتضنني بشوق وكأنﱠه كان ينتظرني هناك منذ سنة.
        ثم قال:
        -جئت!..
        وأجبته بفرح وبحزن غامض معًا:
        -جئت!

        كان ( سي الطاهر) هكذا أحياناً، يكون موجزًا حتﱠى في فرحته؛ فكنت موجزاً معه في حزني
        أيضًا.

        سألني بعدها عن أخبار اﻷهل، وأخبار ( أما) بالتحديد، فأجبته أنها توفيت منذ ثﻼثة أشهر.
        وأعتقد أنه فهم كلّ شيء، فقد قال وهو يربت على كتفي، وشيء شبيه بالدمع يلمع في عينيه:
        -رحمها اﷲ، لقد تعذبت كثيرًا.
        ثم ذهب في تفكيره بعيدًا إلى حيث ﻻ أدري..
        بعدها حسدت تلك الدمعة المفاجئة في عينيه، والتي رفع بها أمي إلى مرتبة الشهداء. فلم
        يحدث لي أن رأيت (سي الطاهر) يبكي سوى الشهداء من رجاله. وتمنيت طويﻼً بعد ذلك أن
        أمدد جثمانًا بين يديه، ﻷتمتع ولو بعد موتي بدمعة مكابرة في عينيه.

        ألكلّ هذا تقلصت عائلتي فجأة في شخصه، ورحت أتفانى في إثبات بطولتي له، وكأنني أريد
        أن أجعله شاهدًا على رجولتي أ, على موتي؛ شاهدًا على أنني لم أعد أنتسب إلى أحد غير هذا
        الوطن، وأنني لم أترك خلفي سوى قبر ﻻمرأة كانت أمي، وأخٍ يصغرني اختار له أبي مسبقًا
        امرأة ستصبح أمه.
        ذاكرة الجسد أحلام مستغانمي
        [youtube]8TY1bD6WxLg[/youtube]
        الابتسامة كلمة طيبة بغير حروف



        تعليق

        • أسد العسلي
          عضو الملتقى
          • 28-04-2011
          • 1662

          #64
          القراءة هنا متعة لا تعادلها متعة
          أتمنى أن تنشرها كاملة و على مراحل
          تحيتي و تقديري
          ليت أمي ربوة و أبي جبل
          و أنا طفلهما تلة أو حجر
          من كلمات المبدع
          المختار محمد الدرعي




          تعليق

          • المختار محمد الدرعي
            مستشار أدبي. نائب رئيس ملتقى الترجمة
            • 15-04-2011
            • 4257

            #65
            كنت ألقي بنفسي على الموت في كل مرة، وكأنني أتحداه أو كأنني أريد بذلك أن يأخذني بدل
            رفاقي الذين تركوا خلفهم أوﻻدهم وأهلهم ينتظرون عودتهم.
            وكنت كل مرة أعود أنا ويسقط آخرون، وكأن الموت قرر أن يرفضني..
            وكان (سي طاهر) بعد أكثر من معركة ناجحة اشتركت فيها، قد بدأ تدريجيًا يعتمد علي في
            المهمات الصعبة، ويكلفني بالمهمات اﻷكثر خطورة، تلك التي تتطلب مواجهة مباشرة مع
            العدو. ورفعني بعد سنتين إلى رتبة مﻼزم ﻷتمكن من إدارة بعض المعارك وحدي، وأخذ
            القرارات العسكرية التي يقتضيها كل ظرف.

            بدأت وقتها فقط أتحول على يد الثورة إلى رجل، وكأن الرتبة التي كنت أحملها قد منحتني
            شهادة بالشفاء من ذاكرتي.. وطفولتي.
            وكنت آنذاك سعيدًا وقد بلغت أخيرًا تلك الطمأنينة النفسية التي ﻻ تمنحنا إياها سوى راحة
            الضمير.
            لم أكن أعي أن طموحاتي ﻻ عﻼقة لها بالمكتوب وأن القدر كان يتربص بي في ذلك الوقت
            الذي كنت أعتقد فيه أن ﻻ شيء بعد اليوم يمكن أن يعيدني إلى حزني السابق.

            وجاءت تلك المعركة الضارية التي دارت على مشارف "باتنة" لتقلب يومًا كل شيء..
            فقد فقدنا فيها ستة مجاهدين، وكنت فيها أنا من عداد الجرحى بعدما اخترقت ذراعي اليسرى
            رصاصتان، وإذا بمجرى حياتي يتغير فجأة، وأنا أجد نفسي من ضمن الجرحى الذين يجب أن
            ينقلوا على وجه السرعة إلى الحدود التونسية للعﻼج. ولم يكن العﻼج بالنسبة لي.. سوى بتر
            ذراعي اليسرى، ﻻستحالة استئصال الرصاصتين. ولم يكن هناك من مجال للنقاش أو التردد.
            كان النقاش فقط، حول الطرق اﻵمنة التي يمكن أن نسلكها حتى تونس، حيث كانت القواعد
            الخلفية للمجاهدين.

            وها أنذا أمام واقع آخر..

            ها هو ذا القدر يطردني من ملجأي الوحيد، من الحياة والمعارك الليلية، ويخرجني من السرية
            إلى الضوء، ليضعني أمام ساحة أخرى، ليست للموت وليست للحياة .ساحة لﻸلم فقط..
            وشرفة أتفرج منها على ما يحدث في ساحة القتال. فلقد بدا واضحًا من كﻼم (سي طاهر)
            يومها، أنني قد ﻻ أعود إلى الجبهة مرة ثانية.

            في ذلك اليوم اﻷخير، حاول (سي طاهر) أن يحافظ على نبرته الطبيعية، وراح كما كان

            يودعني كل مرة قبل معركة جديدة. ولكن هذه المرة كان يدري أنه يعدني لتحمل معركتي مع
            القدر.
            غير أنه كان موجزًا على غير عادته، ربما.. لأنه ليس هناك من تعليمات خاصة تعطى في
            هذه الحالات.. وربما لأنه كان يتكبد يومها أكبر خسارة بشرية ويفقد في معركة واحدة عشرة
            من خيرة رجاله بين جرحى وقتلي. وكان يدري، والثورة مطوقة من كل جانب، قيمة كلّ
            مجاهد وحاجة الثورة إلى كل رجل على حدة.
            ولم أقل له شيئًا ذلك اليوم..
            كنت أشعر، لسبب غامض، أنني أصبحت يتيمًا مرة أخرى.
            كانت دمعتان قد تجمدتا في عيني. كنت أنزف، وكان ألم ذراعي ينتقل تدريجيًا إلى جسدي
            كله، ويستقر في حلقي غصة. غصة الخيبة والألم.. والخوف من المجهول.
            كانت الأحداث تجري مسرعة أمامي، وقدري يأخذ منحى جديدًا بين ساعة وأخرى، ووحده
            صوت (سي طاهر (وهو يعطي تعليماته الأخيرة، كان يصل إلي حيث كان، ليصبح صلتي
            الوحيدة مع العالم.
            وبرغم ذلك، مازلت أذكر تمامًا حضوره الأخير، عندما جاء يتفقدني قبل سفري بساعة،
            ووضع ورقة صغيرة في جيبي وبعض الأوراق النقدية، وقال وهو ينحني علي وكأنه يودعني
            سرًا:
            "لقد ُقدر لك أن تصل إلى هناك.. أتمنى أن تذهب لزيارتهم حين تشفى وتسّلم هذا المبلغ إلى
            أما لتشتري به هدية للصغيرة، وأود أيضًا أن تقوم بتسجيلها في دار البلدية لو استطعت
            ذلك.. فقد يمر وقت طويل قبل أ، أتمكن من زيارتهم."..
            وعاد بعد لحظات وكأنه نسي شيئًا ليضيف شبه مرتبك وهو يلفظ ذلك الاسم لأول مرة..
            .."لقد اخترت لها هذا لاسم.. سجلها متى استطعت ذلك وقبلها عني.. وسّلم كثيرًا على
            أما
            كانت تلك أول مرة سمعت فيها اسمك.. سمعته وأنا في لحظة نزيف بين الموت والحياة،
            فتعلقت في غيبوبتي بحروفه، كما يتعلق محموم في لحظة هذيان بكلمة..
            ذاكرة الجسد أحلام مستغانمي



            [youtube]8TY1bD6WxLg[/youtube]
            الابتسامة كلمة طيبة بغير حروف



            تعليق

            • كمال حمام
              محظور
              • 14-12-2011
              • 885

              #66
              مكتبة ملتقى الأدباء و المبدعين العرب إخوتي رواد هذا الملتقى العتيد نشرع على بركة الله في تأثيث متصفح يجمع كل الأصناف الأدبية الخاصة بكم بحيث تكون على شكل مكتبة لكل إبداعات الملتقى نرجو منكم نشر أي نص إبداعي ضائع في زحمة النصوص حتى لو كان قديما لأن هدفنا من المكتبة هو فرز كل ما هو إبداع و وضعه في متصفح خاص

              تعليق

              • المختار محمد الدرعي
                مستشار أدبي. نائب رئيس ملتقى الترجمة
                • 15-04-2011
                • 4257

                #67
                كما يتعلق رسول بوصية يخاف أن تضيع منه..
                كما يتعلق غريق بحبال الحلم.
                بين ألف الألم وميم المتعة كان اسمك.
                تشطره حاء الحرقة ..ولام التحذير. فكيف لم أحذر اسمك الذي ولد وسط الحرائق الأولى،
                شعلة صغيرة في تلك الحرب. كيف لم أحذر اسمًا يحل ضده ويبدأ ب "أح" الألم واللذة معًا.
                كيف لم أحذر هذا الاسم المفرد _ الجمع كاسم هذا الوطن، وأدرك منذ البدء أن الجمع خلق
                دائمًا ليقتسم!
                بين الابتسام والحزن، يحدث اليوم أن أستعيد تلك الوصية:
                "قبلها عني.." وأضحك من القدر، وأضحك من نفسي، ومن غرابة المصادفات.
                ثم أعود وأخجل من وقار صوته، ومن مسحة الضعف النادرة التي غّلفت جملته تلك، هو الذي
                كان يريد أن يبدو أمامنا دائمًا، رج ً لا مهيبًا لا هموم له سوى هموم الوطن، ولا أهل له غير
                رجاله..
                لقد اعترف لي أنَّه رجل ضعيف؛ يحن ويشتاق وقد يبكي ولكن، في حدود الحياء، وسرًا دائمًا.
                فليس من ح ّ ق الرموز أن تبكي شوقًا.
                إنه لم يذكر أمكِ مث ً لا.. تراه لم يحن إليها، هي العروس التي لم يتمتع بها غير أشهر مسروقة
                من العمر وتركها حام ً لا.
                ولماذا هذا الاستعجال المفاجئ؟ لماذا لا ينتظر بعض الوقت ليرتِّب قضية غيابه لأيام، ويقوم
                هو نفسه بتسجيلكِ؟
                لقد انتظر ستة أشهر، فلماذا لا ينتظر أسابيع أخرى.. ولماذا أنا بالذات..
                أ ي قدر جعلني أحضر إلى هناك بتوقيتك؟
                كلما طرحت على نفسي هذا السؤال، دهشت له وآمنت بالمكتوب .
                فقد كان بإمكان (سي طاهر) برغم مسؤولياته أن يهرب ليوم أو ليومين إلى تونس. ولم تكن
                قضية عبور الحدود بحراستها المشددة ودورياتها وكمائنها لتخيفه، ولا حتى اجتياز (خط
                موريس) المكهرب والمفروش بالألغام، والممتد بين الحدود التونسية الجزائرية من البحر إلى

                الصحراء، والذي اجتازه فيما بعد ثلاث مرات، وهو رقم قياسي بالنسبة لعشرات المجاهدين
                الذين تركوا جثثهم على امتداده.
                أكان حب (سي طاهر) للانضباط، واحترامه للقوانين هو الذي خلق عنده ذلك الشعور بالقلق
                بعد ميلادك، وهو يكتشف عاجزًا أنه أب منذ شهور لطفلة لم يمنحها اسمًا، ولم يتمكن حتى من
                تسجيلها؟
                أم كان يخاف، هو الذي انتظرك طوي ً لا، أن تضيعي منه إن هو لم يرسخ وجودك وانتسابك له
                على ورقة رسمية عليها ختم رسمي؟
                أكان يتشاءم من وضعك القانوني هذا، ويريد أن يسجل أحلامه في دار البلدية، ليتأكد من أنها
                تحولت إلى حقيقة.. وأن القدر لن يعود ليأخذها منه، هو الذي كان حلمه في النهاية أن يصبح
                أبًا كالآخرين بعد محاولة زواج فاشلة لم يرزق منها ذرية؟
                ولا أدري إذا كان (سي الطاهر) في أعماقه يفضل لو كان مولوده صبيًا.. أدري فقط، كما
                علمت فيما بعد، أنه حاول أن يتحايل على القدر وأن يترك قبل سفره اسمًا احتياطيًا
                لصبي،متجاه ً لا احتمال مجيء أنثى. وربما فعل ذلك أيضًا بعقلية عسكرية، وبهاجس وطني
                دون أن يدري.. فقد كانت أحاديثه وخططه العسكرية تبدأ غالبًا بتلك الجملة التي كثيرًا ما
                سمعته يرددها "لازمنا رجال يا جماعة"..
                إذن، لهذا كان (سي طاهر (يبدو سعيدًا ومتفائ ً لا في كلّ شيء في تلك الفترة..
                فجأة تغير الرجل الصلب .أصبح أكثر مرونة وأكثر دعابة في أوقات فراغه.
                شيء ما كان يتغير تدريجيًا داخله، ويجعله أقرب إلى الآخرين، وأكثر تفهمًا لأوضاعهم
                الخاصة.
                فقد أصبح يمنح البعض بسهولة أكثر تسريحات لزيارة خاطفة يقومون بها إلى أهلهم، هو الذي
                كان يبخل بها على نفسه. لقد غيرته الأبوة المتأخرة، التي جاءت رمزًا جاهزًا لمستقبل أجمل..
                معجزة صغيرة للأمل.. كانت أنتِ.

                *الجمل المكتوبة بخط مميز مأخوذة عن تواطؤ شعري من روايتي مالك حداد "سأهبك
                غزالة" و" رصيف الأزهار لم يعد يجيب.
                طلع صباح آخر..
                وها هو ذا النهار يفاجئني بضجيجه الاعتيادي، وبضوئه المباغت الذي يدخل النور إلى
                أعماقي غصبًا عني، فأشعر أنه يختلس شيئًا مني.
                في هذه اللحظة.. أكره هذا الجانب الفضولي والمحرج للشمس.
                أريد أن أكتب عنك في العتمة .قصتي معك شريط مصور أخاف أن يحرقه الضوء ويلغيه،
                لأنك امرأة نبتت في دهاليزي السرية..
                لأنك امرأة امتلكتها بشرعية السرية..
                لا بد أن أكتب عنك بعد أن أسدل كلّ الستائر، وأغلق نوافذ غرفتي.
                ورغم ذلك.. يسعدني في هذه اللحظة منظر الأوراق المكدسة أمامي، والتي ملأتها البارحة،
                في ليلة نذرتها للجنون. فقد أهديتها لك مغّلفة بصورة مهذبة في كتاب..
                وأدري..
                أدري أنَّك تكرهين الأشياء المهّذبة جدًا.. وأنَّك أنانية جدًا.. وأن لا شيء يعنيك في النهاية،
                خارج حدودك أنت.. وجسدك أنت.
                ولكن قلي ً لا من الصبر سيدتي.
                صفحات أخرى فقط.. ثم أعري أمامك ذاكرتي الأخرى. صفحات أخرى لا بد منها، قبل أن
                أملأك غرورًا.. وشهوة ..وندمًا وجنونًا. فالكتب كوجبات الحب.. لا بد لها من مقدمات
                أيضًا.. وإن كنت أعترف أن "المقدمات" ليست مشكلتي الآن بقدر ما يربكني البحث عن
                منطلق لهذه القصة.
                من أين أبدأ قصتي معك؟
                ولقصتك معي عدة بدايات، تبدأ مع النهايات غير المتوقعة ومع مقالب القدر.
                وعندما أتحدث عنك.. عمن تراني أتحدث؟ أعن طفلة كانت تحبو يومًا عند قدمي.. أم عن
                صبية قلبت بعد خمس وعشرين سنة حياتي.. أم عن امرأة تكاد تشبهك، أتأملها على غلاف
                http://www.almolltaqa.com/vb/showthread.php?124636-%E3%DF%CA%C8%C9-%E3%E1%CA%DE%EC-%C7%E1%C3%CF%C8%C7%C1-%E6-%C7%E1%E3%C8%CF%DA%ED%E4-%C7%E1%DA%D1%C8

                أحلام مستغانمي / ذاكرة الجسد



                [youtube]8TY1bD6WxLg[/youtube]
                الابتسامة كلمة طيبة بغير حروف



                تعليق

                • المختار محمد الدرعي
                  مستشار أدبي. نائب رئيس ملتقى الترجمة
                  • 15-04-2011
                  • 4257

                  #68
                  كتاب أنيق عنوانه "منعطف النسيان" .. وأتساءل :أتراها حقًا.. أنتِ؟
                  وعندما أسميك فبأي اسم؟
                  ُترى أدعوك بذلك الاسم الذي أراده والدك، وذهبت بنفسي لأسجله نيابة عنه في سجلات
                  البلدية، أم باسمك الأول، ذلك الذي حملته خلال ستة أشهر في انتظار اسم شرعي آخر؟
                  "حياة.."
                  سأدعوك هكذا.. ليس هذا اسمك على كل حال. إنه أحد أسمائك فقط.. فلأسمينَّك به إذن مادام
                  هذا الاسم الذي عرفتك به، والاسم الذي أنفرد بمعرفته. اسمك غير المتداول على الألسنة،
                  وغير المسجل على صفحات الكتب والمجلات، ولا في أي سجلات رسمية.
                  الاسم الذي منحته لتعيشي وليمنحك الله الحياة والذي قتلته أنا ذات يوم، وأنا أمنحك اسمًا
                  رسميًا آخر، ومن حقي أن أحييه اليوم، لأنه لي ولم ينادِكِ رجل قبلي يه.
                  اسمك الطفولي الذي يحبو على لساني، وكأنك أنت منذ خمس وعشرين سنة. وكلما لفظته،
                  عدت طفلة تجلس على ركبتي وتعبث بأشيائي وتقول لي كلامًا لا أفهمه..
                  فأغفر لك لحظتها كلّ خطاياك.
                  كلما لفظته تدحرجت إلى الماضي، وعدت صغيرة في حجم دمية ..وإذا بك ابنتي.
                  هل أقرأ كتابك لأعرف كيف تحولت تلك الطفلة الصغيرة إلى امرأة؟ ولكنَّني أعرف مسبقًا أنك
                  لن تكتبي عن طفولتك.. ولا عن سنواتك الأولى.
                  أنت تملئين ثقوب الذاكرة الفارغة بالكلمات فقط، وتتجاوزين الجراح بالكذب، وربما كان هذا
                  سر تعلقك بي؛ أنا الذي أعرف الحلقة المفقودة من عمرك، وأعرف ذلك الأب الذي لم تريه
                  سوى مرات قليلة في حياتك، وتلك المدينة التي كنت تسكنينها ولا تسكنك، وتعاملين أزقَََّتها
                  دون عشق، وتمشين وتجيئين على ذاكرتها دون انتباه.
                  أنت التي تعلقتِ بي لتكتشفي ما تجهلينه.. وأنا الذي تعّلقت بك لأنسى ما كنت أعرفه.. أكان
                  ممكنًا لحبنا أن يدوم؟
                  كان (سي طاهر) طرفًا ثالثًا في قصتنا من البدء حتى عندما لا نتحدث عنه، كان بيننا حاضرًا
                  بغيابه، فهل أقتله مرة ثانية لأتفرد بك؟


                  آه لو تدرين.. لو تدرين ما أثقل حمل الوصايا، حتَّى بعد ربع قرن، وما أوجع الشهوة التي
                  يواجهها أكثر من مستحيل وأكثر من مبدأ فلا يزيدها في النهاية إلا ... اشتهاء!
                  كان السؤال منذ البداية..
                  كيف لي أن ألغي (سي طاهر) م ذاكرتي، وألغي عمره من عمري، لأمنح حبنا فرصة ولادة
                  طبيعية؟
                  ولكن.. ما الذي سيبقى وقتها، لو أخرجتك من ذاكرتنا المشتركة وحولتك إلى فتاة عادية؟
                  كان والدك رفيقًا فوق العادة .. وقائدًا فوق العادة.
                  كان استثنائيًا في حياته وفي موته .فهل أنسى ذلك؟
                  لم يكن من المجاهدين الذين ركبوا الموجة الأخيرة، لضمنوا مستقبلهم، مجاهدي ( 62 ) وأبطال
                  المعارك الأخيرة. ولا كان من شهداء المصادفة، الذين فاجأهم الموت في قصف عشوائي، أو
                  في رصاصة خاطئة.
                  كان من طينة ديدوش مراد، ومن عجينة العربي بن مهيدي، ومصطفى بن بولعيد، الذين كانوا
                  يذهبون إلى الموت ولا ينتظرون أن يأتيهم.
                  فهل أنسى أّنه والدك.. وسؤالك الدائم يعيد لاسمه هيبته حيًا وشهيدًا؟
                  فيرتبك القلب الذي أحبك حد الجنون. ويبقى صدى سؤالك مائ ً لا" ...حدثني عنه"..
                  سأحدثك عنه حبيبتي.. فلا أسهل من الحديث عن الشهداء. تاريخهم جاهز ومعروف مسبقًا
                  كخاتمتهم. ونهايتهم تغفر لهم ما يمكن أن يكونوا قد ارتكبوا من أخطاء.
                  سأحدثك عن (سي طاهر..(
                  فوحده تاريخ الشهداء قابل للكتابة، وما تلاه تاريخ آخر يصادر الأحياء. وسيكتبه جيل لم
                  يعرف الحقيقة ولكنه سيستنتجها تلقائيًا.. فهناك علامات لا تخطئ.
                  مات (سي طاهر) طاهرًا على عتبات الاستقلال. لا شيء في يده غير سلاحه. لا شيء في
                  جيوبه غير أوراق لا قيمة لها.. لا شيء على أكتافه سوى وسام الشهادة.
                  الرموز تحمل قيمتها في موتها..
                  ووحدهم الذين ينوبون عنهم، يحملون قيمتهم في رتبهم وأوسمتهم الشرفية، وما ملأوا به
                  جيوبهم على عجل من حسابات سرية.
                  [youtube]8TY1bD6WxLg[/youtube]
                  الابتسامة كلمة طيبة بغير حروف



                  تعليق

                  • المختار محمد الدرعي
                    مستشار أدبي. نائب رئيس ملتقى الترجمة
                    • 15-04-2011
                    • 4257

                    #69
                    ست ساعات من الحصار والتطويق، ومنن القصف المر ّ كز لدشرة بأكملها ليتمكن قتلته من
                    نشر صورته على صفحات جرائد الغد كدليل على انتصاراتهم الساحقة على أحد المخربين و
                    "الفلَّاقة" الذين أقسمت فرنسا أن تأتي عليهم..
                    أكان حقًا موت ذلك الرجل البسيط انتصارًا لقوة عظمى، كانت ستخسر بعد بضعة أشهر
                    الجزائر بأكملها؟!
                    استشهد هكذا في صيف 1960 ، دون أن يتمتع بالنصر ولا بقطف ثماره.
                    ها هو رجل أعطى الجزائر كلّ شيء، ولم تعطه حتى فرصة أن يرى ابنه يمشي إلى جواره..
                    أو يراك أنت ربما طبيبة أو أستاذة كما كان يحلم.
                    كم أحبك ذلك الرجل!
                    بجنون أبوة الأربعين.. بحنان الذي كان يخفي خلف صرامته الكثير من الحنان، بأحلام الذي
                    صودرت منه الأحلام، بزهو المجاهد الذي أدرك وهو يرى مولده الأول، أنه لن يموت تمامًا
                    بعد اليوم.
                    مازلت أذكر المرات القليلة التي كان يحضر فيها إلى تونس لزيارتكم خلسة ليوم واحد أو
                    ليومين.
                    وكنت وقتها أسرع إليه متلهفًا لسماع آخر الأخبار، وتطورات الأحداث على الجبهة. وأنا أجهد
                    نفسي في الوقت نفسه حتى لا أسرق منه تلك الساعات القليلة النادرة، التي كان يغامر بحياته
                    ليقضيها برفقة عائلته الصغيرة.
                    كنت أندهش وقتها، وأنا أكتشف فيه رج ً لا آخر لا أعرفه.
                    رجل بثياب أخرى، بابتسامة وكلمات أخرى، وبجلسة يسهل له فيها إجلاسك على ركبته طوال
                    الوقت لملاعبتك.
                    كان يعيش كل لحظة بأكملها، وكأنه يعتر من الزمن الشحيح كل قطرات السعادة؛ وكأنه يسرق
                    من العمر مسبقًا، ساعات يعرفها معدودة؛ ويمنحك مسبقًا من الحنان زادك لعمر كامل.
                    كانت آخر مرة رأيته فيها، في يناير سنة 1960 .وكان حضر ليشهد أهم حدث في حياته؛
                    ليتعرف على مولوده الثاني "ناصر"، فقد كانت أمنيته السرية أن يرزق يومًا بكر. يومها لسبب


                    غامض تأملته كثيرًا.. وحدثته قلي ً لا.. وفضلت أن أتركه لفرحته تلك، ولسعادته المسروقة.
                    وعندما عدت في الغد، قيل لي إّنه عاد إلى الجبهة على عجل مؤكدًا أنه سيعود قريبًا لمدة
                    أطول.
                    ولم يعد..
                    انتهى بعد ذلك كرم القدر البخيل. فقد استشهد (سي طاهر) بعد بضعة أشهر دون أن يتمكن
                    من رؤية ابنه مرة ثانية.
                    كان ناصر آنذاك ينهي شهره الثامن، وأنت تدخلين عامك الخامس.
                    وكان الوطن في صيف 1960 بركانًا يموت ويولد كلّ يوم .وتتقاطع مع موته وميلاده، أكثر
                    من قصة، بعضها مؤلم وبعضها مدهش..
                    وبعضها يأتي متأخرًا كما جاءت قصتي التي تقاطعت يومها معك.
                    قصة فرعية، كتبت مسبقًا وحولت مسار حياتي بعد عمر بأكمله، بحكم شيء قد يكون اسمه
                    القدر، وقد يكون العشق الجنوني ..
                    ذاك الذي يفاجئنا من حيث لا نتوقع، متجاه ً لا كلّ مبادئنا وقيمنا السابقة.
                    والذي يأتي متأخرًا.. في تلك اللحظة التي لا نعود ننتظر فيها شيئًا؛ وإذا به يقلب فينا كلّ
                    شيء.
                    فهل يمكن لي اليوم، بعدما قطعت بيننا الأيام جسور الكلام، أن أقاوم هذه الرغبة الجنونية
                    لكتابة هاتين القصتين معًا، كما عشتهما معك ودونك، بعد ذلك بسنوات..
                    رغب ً ة.. وعشقًا.. وحلمًا.. وحقدًا.. وغيرًة ..وخيب ً ة.. وفجائع حد الموت.
                    أنت التي كنت تحبين الاستماع إلي..
                    وتقلبينني كدفتر قديم للدهشة.
                    كان لا بد أن أكتب من أجلك هذا الكتاب، لأقول لك ما لم أجد متَّسعًا من العمر لأقوله.
                    سأحدثك عن الذين أحبوك لأسباب مختلفة، وخنتهم لأسباب مختلفة أخرى.
                    سأحدثك حتى عن زياد، أما كنت تحبين الحديث عنه وتراوغين؟
                    لم يعد من ضرورة الآن للمراوغة.. لقد اختار كلّ منا قدره.
                    أحلام مستغانمي / ذاكرة الجسد
                    [youtube]8TY1bD6WxLg[/youtube]
                    الابتسامة كلمة طيبة بغير حروف



                    تعليق

                    • المختار محمد الدرعي
                      مستشار أدبي. نائب رئيس ملتقى الترجمة
                      • 15-04-2011
                      • 4257

                      #70
                      سأحدثك عن تلك المدينة التي كانت طرفًا في حبنا، والتي أصبحت بعد ذلك سببًا في فراقنا،
                      وانتهي فيها مشهد خرابنا الجميل.
                      فعم تراك ستتحدثين؟
                      عن أي رجل منَّا تراك كتبت؟ من منَّا أحببت؟
                      ومن.. مّنا ستقتلين؟
                      ولمن تراك أخلصت، أنت التي تستبدلين حبًا بحب، وذاكرة بأخرى، ومستحي ً لا بمستحيل؟
                      وأين أنا في قائمة عشقك وضحاياك؟
                      تراني أشغل المكانة الأولى، لأنني أقرب إلى النسخة الأولى؟
                      تراني النسخة المزورة ل (سي طاهر) تلك التي لم يحولها الاستشهاد إلى نسخة طبق الأصل؟
                      تراني الأبوة المزورة.. أم الحب المزور؟
                      أنت التي _كهذا الوطن_ تحترفين تزوير الأوراق وقلبها.. دون جهد.
                      كان "مونتيرلان" يقول:
                      "إذا كنت عاجزًا عن قتل من تدعي كراهيته، فلا تقل إنَّك تكرهه: أنت تعهر هذه الكلمة."!
                      دعيني أعترف لك أنني في هذه اللحظة أكرهك، وأّنه كان لا بد أن أكتب هذا الكتاب لأقتلك به
                      أيضًا. دعيني أجرب أسلحتك..
                      فربما كنت على حق.. ماذا لو كانت الروايات مسدسات محشوة بالكلمات القاتلة لا غير؟.
                      ولو كانت الكلمات رصاصًا أيضًا؟
                      ولكنَّني لن أستعمل معك مسدسًا بكاتم صوت، على طريقتك.
                      لا يمكن لرجل يحمل السلاح بعد هذا العمر، أن يأخذ كلّ هذه الاحتياطات.
                      أريد لموتك وقعًا مدويًا قدر الإمكان..
                      فأنا أقتل معك أكثر من شخص، كان لا بد أن يجرؤ أحد على إطلاق النار عليهم يومًا.
                      فاقرأي هذا الكتاب حتى النهاية، بعدها قد تكّفين عن كتابة الروايات الوهمية.
                      وطالعي قصتنا من جديد..
                      دهشة بعد أخرى، وجرحًا بعد آخر، فلم يحدث لأدبنا التعيس هذا، أن عرف قصة أروع منها..
                      ولا شهد خرابًا أجمل.
                      32
                      الفصل الثاني
                      كان يوم لقائنا يومًا للدهشة..
                      لم يكن القدر فيه هو الطرف الثاني، كان منذ البدء الطرف الأول. أليس هو الذي أتى بنا من
                      مدن أخرى، من زمن آخر وذاكرة أخرى، ليجمعنا في قاعة بباريس، في حفل افتتاح معرض
                      للرسم؟
                      يومها كنت أنا الرسام، وكنت أنت زائرة فضولية على أكثر من صعيد.
                      لم تكوني فتاة تعشق الرسم على وجه التحديد. ولا كنت أنا رج ً لا يشعر بضعف تجاه الفتيات
                      اللائي يصغرنه عمرًا. فما الذي قاد خطاك هناك ذلك اليوم؟.. وما الذي أوقف نظري طوي ً لا
                      أمام وجهك؟
                      كنت رج ً لا تستوقفه الوجوه، لأن وجوهنا وحدها تشبهنا، وحدها تفضحنا، ولذا كنت قادرًا على
                      أن أحب أو أكره بسبب وجه.
                      وبرغم ذلك، لست من الحماقة لأقول إنني أحبتك من النظرة الأولى. يمكنني أن أقول إنني
                      أحبتك، ما قبل النظرة الأولى.
                      كان فيك شيء ما أعرفه، شيء ما يشدني إلى ملامحك المحببة إلي مسبقًا، وكأنني أحببت يومًا
                      امرأة تشبهك. أو كأنني كنت مستعداًَ منذ الأزل لأحب امرأة تشبهك تمامًا.
                      كان وجهك يطاردني بين كلّ الوجوه، وثوبك الأبيض المتنّقل من لوحة إلى أخرى، يصبح لون
                      دهشتي وفضولي..
                      واللون الذي يؤّثث وحده تلك القاعة الملأى.. بأكثر من زائر وأكثر من لون.
                      -هل يولد الحب أيضًا من لونٍ لم نكن نحبه بالضرورة_!
                      وفجأة اقترب اللون الأبيض مّني، وراح يتحدث بالفرنسية مع فتاة أخرى لم ألاحظها من قبل..
                      ربما لأن الأبيض عندما يلبس شعرًا طوي ً لا حالكًا، يكون قد غطَّى على كل الألوان..
                      [youtube]8TY1bD6WxLg[/youtube]
                      الابتسامة كلمة طيبة بغير حروف



                      تعليق

                      • المختار محمد الدرعي
                        مستشار أدبي. نائب رئيس ملتقى الترجمة
                        • 15-04-2011
                        • 4257

                        #71
                        قال الأبيض وهو يتأمل لوحة:
                        - Je prefere l'abstrait..! وأجاب اللون الذي لا لون له:
                        - moi je prefere comprendre ce que je vois. ولم تدهشني حماقة اللون الذي لا لون له، عندما يفضل أن يفهم كلّ ما يرى..
                        أدهشني اللون الأبيض فقط.. فليس من طبعه أن يفضل الغموض!
                        قبل ذلك اليوم، لم يحدث أن انحزت للون الأبيض.
                        لم يكن يومًا لوني المفضل.. فأنا أكره الألوان الحاسمة.
                        ولكنني آنذاك انحزت إليك دون تفكير.
                        ووجدتني أقول لتلك الفتاة، وكأنني أواصل جملة بدأتها أنتِ:
                        -الفن هو كل ما يهزنا.. وليس بالضرورة كلّ ما نفهمه!
                        نظرتما إلي معًا بشيء من الدهشة، وقبل أن تقولي شيئًا، كانت عيناك تكتشفان في نظرة
                        خاطفة، ذراع جاكيتي الفارغة والمختبئ كمه بحياء في جيب سترتي.
                        كانت تلك بطاقة تعريفي وأوراقي الثبوتية.
                        مددت نحوي يدك مصافحة وقلت بحرارة فاجأتني:
                        -كنت أريد أن أهّنئك على هذا المعرض..
                        وقبل أن تصلني كلماتك.. كان نظري قد توقَّف عند ذلك السوار الذي يزين معصمك العاري
                        الممدود نحوي.
                        كان إحدى الحلي القسنطينية التي ُتعرف من ذهبها الأصفر المضفور، ومن نقشتها المميزة.
                        تلك "الخلاخل" التي لم يكن يخلو منها في الماضي، جهاز عروس ولا معصم امرأة من الشرق
                        الجزائري.
                        مددت يدي إليك دون أن أرفع عيني تمامًا عنه. وفي عمر لحظة، عادت ذاكرتي عمرًا إلى
                        الوراء. إلى معصم) أما) الذي لم يفارقه هذا السوار قط.
                        وداهمني شعور غامض، منذ متى لم يستوقف نظري سوار كهذا؟
                        لم أعد أذكر.. ربما منذ أكثر من ثلاثين سنة!
                        بكثير من اللباقة سحبت يدك التي كنت أشد عليها ربما دون أن أدري، وكأنني أمسك بشيء
                        ما، استعدتِه فجأة.
                        وابتسمت لي..
                        رفعت عيني نحوك لأول مرة.
                        تقاطعت نظراتنا في نصف نظرة.
                        كنت تتأملين ذراعي الناقصة، وأتأمل سوارًا بيدك.
                        كان كلانا يحمل ذاكرته فوقه..
                        وكان يمكن لنا أن نتعرف على بعضنا بهذه الطريقة فقط. ولكن كنت لغزًا لا تزيده التفاصيل
                        إلا غموضًا. فرحت أراهن على اكتشافك. أتفحصك مأخوذًا مرتبكًا.. كأنني أعرفك وأتعرف
                        عليك في آن واحد.
                        لم تكوني جميلة ذلك الجمال الذي يبهر، ذلك الجمال الذي يخيف ويربك.
                        كنت فتاة عادية، ولكن بتفاصيل غير عادية، بسر ما يكمن في مكان ما من وجهك.. ربما في
                        جبهتك العالية وحاجبيك السميكين والمتروكين على استدارتهما الطبيعية. وربما في ابتسامتك
                        الغامضة وشفتيك المرسومتين بأحمر شفاه فاتح كدعوة سرية لقبلة.
                        أو ربما في عينيك الواسعتين ولونهما العسلي المتقلِّب.
                        وكنت أعرف هذه التفاصيل..
                        أعرفها.. ولكن كيف؟ وجاء صوتك بالفرنسية يخرجني من تفكيري قلت:
                        -يسعدني أن يصل فنان جزائري إلى هذه القمة من الإبداع..
                        ثم أضفت بمسحة خجل:
                        -في الحقيقة.. أنا لا أفهم كثيرًا في الرسم، ولم أزر إلا نادرًا معارض فنية، ولكن يمكنني أن
                        أحكم على الأشياء الجميلة، ولوحاتك شي مميز.. كّنا في حاجة إلى شيء جديد بنكهة جزائرية
                        معاصرة كهذه... لقد كنت أقول هذا لابنة عمي عندما فاجأتنا.
                        وعندما تقدمت تلك الفتاة مني لتصافحني، وتقدم لي نفسها، وكأنها بذلك ستصبح طرفًا في
                        وقفتنا، وذلك الحوار الذي وجدت نفسها خارجه بعدما تجاهلتها منذ البدء دون أن أدري..
                        قالت وهي تعرفني بنفسها:
                        -الآنسة عبد المولى. إني سعيدة بلقائك..
                        انتفضت لسماع ذلك الاسم.
                        ونظرت مدهوشًا إلى تلك الفتاة التي صافحتني بحرارة لا تخلو من شيء من الغرور..
                        تفحصتها وكأنني أكتشف وجودها، ثم عدت لأتأملك عساني أجد في ملامحك جوابًا لدهشتي.
                        عبد المولى.... عبد المولى..
                        وراحت الذاكرة تبحث عن جواب لتلك المصادفة..
                        كنت أعرف عائلة عبد المولى جيدًا.
                        إنهما أخوان لا أكثر .أحدهما (سي طاهر) استشهد منذ اكثر من عشرين سنة، وترك صبيًا
                        وبنتًا فقط.
                        والآخر) سي الشريف) تزوج قبل الاستقلال، و قد يكون له اليوم عدة أولاد وبنات..
                        فمن منكما ابنة (سي الطاهر)... تلك التي حمل ُ ت اسمها وصية من الجبهة حتى تونس.. ونبت
                        عن أبيها في دار البلدية، لتسجيلها رسميًا في سجلِّ الولادات؟
                        من منكما تلك الصغيرة التي قبلتها نيابة عن أبيها، ولا عبتها ودّللتها نيابة عنه؟
                        من منكما ...أنتِ؟
                        وبرغم بعض الخطوط المشتركة لملامحكما، كنت أشعر أنَّك أنتِ.. لا تلك.
                        أو هكذا كنت أتمنى، وأنا أحلم قبل الأوان بقرابة ما تكون جمعتني بك.
                        وأندهش لهذه المصادفة، وأجد فجأة تبريرًا لوجهك المحبب إلي مسبقًا. لقد كنت نسخة عن
                        (سي طاهر)، نسخة أكثر جاذبية.
                        ذاكرة الجسد أحلام مستغانمي
                        [youtube]8TY1bD6WxLg[/youtube]
                        الابتسامة كلمة طيبة بغير حروف



                        تعليق

                        • المختار محمد الدرعي
                          مستشار أدبي. نائب رئيس ملتقى الترجمة
                          • 15-04-2011
                          • 4257

                          #72
                          كنت أنثى.
                          ولكن.. أيعقل أن تكوني أنت الطفلة التي رأيتها لآخر مرة في تونس سنة ( 1962 ) غداة
                          الاستقلال، عندما رحت أطمئن عليكم كالعادة، وأتابع بنفسي تفاصيل عودتكم إلى الجزائر؟
                          بعدما اتصل بي) سي الشريف) من قسنطينة، ليطلب مني بيع ذلك البيت الذي لم يعد هناك
                          ضرورة لوجوده، والذي اشتراه (سي الطاهر) منذ عدة سنوات ليهرب إليه أسرته الصغيرة،
                          عندما أبعدته فرنسا عن الجزائر في الخمسينيات، بعد عدة أشهر من السجن قضاها بتهمة
                          التحريض السياسي.
                          كم كان عمرك وقتها؟
                          أيعقل أن تكوني تغيرت إلى هذا الحد.. وكبرت إلى هذا الحد.. خلال عشرين سنة؟!
                          رحت أتأملك مرة أخرى، وكأنني أرفض أن أعترف بعمرك، وربما أرفض أن أعترف
                          بعمري وبالرجل الذي أصبحته منذ ذلك الزمن الذي يبدو لي اليوم غابرًا.
                          ما الذي أوصلك إلى هذه المدينة.. وإلى هذه القاعة في هذا الزمن وهذا اليوم بالذات؟
                          يوم انتظرته طوي ً لا لسبب لا علاقة له بك..
                          وحسبت له ألف حساب لم تكوني ضمنه..
                          وتوقَّعت فيه كل المفاجآت إلا أن تكوني أنت مفاجأتي.
                          فجأة أذهلني اكتشافي، وخفت من مواجهة عينيك اللتين كانتا تتابعان بشيء من الدهشة
                          ارتباكي. فقررت أن أطرح سؤالي بالمقلوب، وأنا أواصل حديثي مع الفتاة الأخرى التي قدمت
                          لي نفسها. كنت أعرف أنني إذا عرفتها سينحل اللغز، وأعرف تلقائيًا من منكما.. أنتِ.
                          فقد كان لإحداكما اسم أعرفه منذ خمس وعشرين سنة، وعلي فقط أن أتعرف على صاحبته.
                          سألتها:
                          -هل لديك قرابة بسي الشريف عبد المولى؟
                          أجابت بسعادة وكأنها تكتشف أن أمرها يعنيني:
                          -إنه أبي.. لقد تعذر عليه الحضور اليوم بسبب وصول وفد من الجزائر البارحة.. لقد حدثنا
                          عنك كثيرًا. وقد أثار فضولنا لمعرفتك لدرجة قررنا أن نأتي مكانه اليوم لحضور الافتتاح!


                          كان كلام تلك الفتاة على تلقائيته يحمل لي جوابين. الأول أنها لم تكن أنت، والثاني سبب
                          تخلف (سي الشريف.(
                          كنت لاحظت غيابه وتساءلت عن سببه، هل كان المانع شخصيًا، أم سياسيًا.. أم تراه كان
                          لسببٍ ما يتحاشى الظهور معي؟
                          كنت أدري أن طرقنا تقاطعت منذ سنين عندما دخل دهاليز اللعبة السياسية، وأصبح هدفه
                          الوحيد الوصول إلى الصفوف الأمامية. ورغم ذلك لم يكن بإمكاني أن أتجاهل وجوده معي في
                          المدينة نفسها .فقد كان جزءًا من شبابي وطفولتي.. وكان بعض ذاكرتي.
                          ولذا، ولأسباب عاطفية محض، كان الشخصية الجزائرية الوحيدة التي دعوتها.
                          لم ألتق به منذ عدة سنوات، ولكن أخباره كانت تصلني دائمًا منذ عين، قبل سنتين، ملحقًا في
                          السفارة الجزائرية، وهو منصب ككل المناصب "الخارجية"، يتطلب كثيرًا من الوساطة
                          والأكتاف العريضة.
                          وكان بإمكان (سي الشريف) أن يشق طريقه إلى هذا المنصب ولأهم منه بماضيه فقط، وباسمه
                          الذي خّلده سي الطاهر باستشهاده. ولكن يبدو أن الماضي لم يكن كافيًا بمفرده لضمان
                          الحاضر، وكان عليه أن يتأقلم مع كلّ الرياح للوصول..
                          خطر ببالي كلّ ذلك، وأنا أحاول بدوري أن أتأقلم مع كل المفاجآت والانفعالات التي هزتني
                          في بضع لحظات، والتي كانت بدايتها أنني وددت أن أسلم على فتاة جميلة تزور معرضي لا
                          غير.. فإذا بي أسّلم على ذاكرتي!
                          وعدت إلى دهشتي الأولى معك..
                          إلى كل التفاصيل الأولى التي لفتت نظري إليك منذ البدء. إلى تلك اللوحة بالذات التي توقفت
                          طوي ً لا أمامها. لقد كان هناك أكثر من قدر، أكثر من مكتوب.. أكثر من مصادفة.
                          أنتِ..
                          أكنت أنت.. في قاعة تتفرجين فيها على لوحاتي. تتأملين بعضها، تتوقفين عند بعضها الآخر،
                          وتعودين إلى الدليل الذي تمسكيه بيدك لتتعرفي على أسماء اللوحات التي تلفت نظرك الأكثر؟
                          ذاكرة الجسد أحلام مستغانمي
                          [youtube]8TY1bD6WxLg[/youtube]
                          الابتسامة كلمة طيبة بغير حروف



                          تعليق

                          • المختار محمد الدرعي
                            مستشار أدبي. نائب رئيس ملتقى الترجمة
                            • 15-04-2011
                            • 4257

                            #73
                            أنتِ..
                            تراك أنت.. نور آخر يضيء كل لوحة تمرين بها، فتبدو الأضواء الموجهة نحو اللوحات،
                            وكأنها موجهة نحوك.. وكأنك كنت اللوحة الأصلية.
                            أنت إذن..
                            تتوقفين أمام لوحة صغيرة لم تستوقف أحدًا. تتأملينها بإمعان أكبر، تقتربين منها أكثر،
                            وتبحثين عن اسمها في قائمة اللوحات.
                            ولحظتها سرت في جسدي قشعريرة مبهمة. واستيقظ فضول الرسام المجنون داخلي..
                            من تكونين، أنت الواقفة أمام أحب لوحاتي لي..؟
                            رحت أتأملك مرتبكًا وأنت تتأملينها.. وتقولين لرفيقتك كلامًا لا يصلني شيء منه.
                            ما الذي أوقفك أمامها؟
                            لم تكن أجمل ما في القاعة من لوحات، كانت لوحتي الأولى وتمريني الأول في الرسم فقط..
                            ولكنني أصررت هذه المرة، على أن تكون حاضرة في معرضي الأهم هذا، لأنني اعتبرتها
                            برغم بساطتها، معجزتي الصغيرة.
                            رسمتها منذ خمس وعشرين سنة، وكان مر على بتر ذراعي اليسرى أقلّ من شهر.
                            لم تكن محاولة للإبداع ولا لدخول التاريخ. كانت محاولة للحياة فقط، والخروج من اليأس.
                            رسمتها كما يرسم تلميذ في امتحان للرسم منظرًا ليجيب على ورقة الأستاذ:
                            "ارسم أقرب منظر إلى نفسك."
                            إنها الجملة التي قالها لي ذلك الطبيب اليوغسلافي الذي قدم مع بعض الأطباء من الدول
                            الاشتراكية إلى تونس، لمعالجة الجرحى الجزائريين، والذي أشرف على عملية بتر ذراعي
                            وظل يتابع تطوراتي الصحية والنفسية فيما بعد.
                            كان يسألني كل مرة أزوره فيها عن اهتماماتي الجديدة، وهو يلاحظ إحباطي النفسي المستمر.
                            لم أكن مريضًا ليحتفظ بي الطبيب في مستشفى، ولا كنت معافى بمعنى الكلمة لأبدأ حياتي
                            الجديدة.
                            كنت أعيش في تونس، ابنًا لذلك الوطن وغريبًا في الوقت نفسه؛ حرًا ومقيدًا في الوقت نفسه؛
                            سعيدًا وتعيسًا في الوقت نفسه.
                            كنت الرجل الذي رفضه الموت ورفضته الحياة. كنت كرة صوف متداخلة.. فمن أين يمكن
                            لذلك الطبيب أن يجد رأس الخيط الذي يحلّ به كلّ عقدي؟
                            وعندما سألني ذات مرة، وهو يكتشف ثقافتي، هل كنت أحب الكتابة أو الرسم، تمسكت بسؤاله
                            وكأنني أتمسك بقشه قد تنقذني من الغرق، وأدركت فورًا الوصفة الطبية التي كان يعدها لي.
                            قال:
                            -إن العملية التي أجريتها عليك، أجريت مثلها عشرات المرات على جرحى كثيرين فقدوا في
                            الحرب ساقًا أو ذراعًا، وإذا كانت العملية لا تختلف، فإن تأثيرها النفسي يختلف من شخص
                            إلى آخر، حسب عمر المريض ووظيفته وحياته الاجتماعية.. وخاصة حسب مستواه الثقافي،
                            فوحده المثقَّف يعيد النظر في نفسه كلّ يوم، ويعيد النظر في علاقته مع العالم ومع الأشياء
                            كلما تغير شيء في حياته..
                            لقد أدركت هذا من تجربتي في هذا الميدان. لقد مرت بي أكثر من حالة من هذا النوع، ولذا
                            أعتقد أن فقدانك ذراعك قد أخلّ بعلاقتك بما هو حولك. وعليكم أن تعيد بناء علاقة جديدة مع
                            العالم من خلال الكتابة أو الرسم..
                            عليك أن تختار ما هو اقرب إلى نفسك، وتجلس لتكتب دون قيود كلّ ما يدور في ذهنك. ولا
                            تهم نوعية تلك الكتابات ولا مستواها الأدبي.. المهم الكتابة في حد ذاتها كوسيلة تفريغ، وأداة
                            ترميم داخلي..
                            وإذا كنت تفضل الرسم فارسم.. الرسم أيضًا قادر على أن يصالحك مع الأشياء ومع العالم
                            الذي تغير في نظرك، لأنك أنت تغيرت وأصبحت تشاهده وتلمسه بيدٍ واحدة فقط..
                            وكان يمكن أن أجيبه ذلك اليوم بتلقائية.. إنني أحب الكتابة، وأنها الأقرب إلى نفسي، مادمت
                            لم أفعل شيئًا طوال حياتي، سوى القراءة التي تؤدي تلقائيًا إلى الكتابة.
                            كان يمكن أن أجيبه كذلك، فقد تنبأ لي أساتذتي دائمًا بمستقبل ناجح.. في الأدب الفرنسي!
                            ولهذا أجبته دون تفكير، أو ربما بموقف اكتشفت فيما بعد أنه كان جاهزًا في أعماقي:
                            -أفضل الرسم..
                            ذاكرة الجسد / أحلام مستغانمي
                            [youtube]8TY1bD6WxLg[/youtube]
                            الابتسامة كلمة طيبة بغير حروف



                            تعليق

                            • المختار محمد الدرعي
                              مستشار أدبي. نائب رئيس ملتقى الترجمة
                              • 15-04-2011
                              • 4257

                              #74
                              لم تقنعه جملتي المقتضبة فسألني إن كنت رسمت قبل اليوم..
                              قلت: "لا."..
                              قال: "إذن ابدأ برسم أقرب شيء إلى نفسك.. ارسم أحب شي إليك."..
                              وعندما ودعني قال بسخرية الأطباء عندما يعترفون بعجزهم بلباقة " :ارسم.. فقد لا تكون في
                              حاجة إلي بعد اليوم."!
                              عدت يومها إلى غرفتي مسرعًا أريد أن أخلو لنفسي بين تلك الجداران البيضاء، التي كانت
                              استمرارًا لجدران مستشفى" الحبيب ثامر" الذي كان حتى ذلك الوقت، المكان الذي أعرفه
                              الأكثر في تونس.
                              رحت يومها أتأمل تلك الجدران على غير عادتي، وأنا أفكر في كل ما يمكن أن أعلق عليها
                              من لوحات بعد اليوم. كل وجوه من أحب.. كلّ الأزقة التي أحب.. كلّ ما تركته خلفي هناك.
                              نمت في تلك الليلة قلقًا، وربما لم أنم. كان صوت ذلك الطبيب يحضرني بفرنسيته المكسرة
                              ليوقظني "ارسم". كنت أستعيده داخل بدلته البيضاء، يودعني وهو يشد على يدي "ارسم". فتعبر
                              قشعريرة غامضة جسدي وأنا أتذكر في غفوتي أول سورة للقرآن. يوم نزل جبرائيل عليه
                              السلام على محمد لأول مرة فقال له "اقرأ" فسأله النبي مرتعدًا من الرهبة.. "ماذا أقرأ؟" فقال
                              جبريل "اقرأ باسم ربك الذي خلق" وراح يقرأ عليه أول سورة للقرآن. وعندما انتهى عاد النبي
                              إلى زوجته وجسده يرتعد من هول ما سمع. وما كاد يراها حتى صاح "دثريني.. دثريني."...
                              كنت ذلك المساء أشعر برجفة الحمى الباردة. وبرعشة ربما كان سببها توتري النفسي يومها،
                              وقلقي بعد ذلك اللقاء الذي كنت أعرف أنه آخر لقاء لي مع الطبيب. وربما أيضًا بسبب ذلك
                              الغطاء الخفيف الذي كان غطائي الوحيد في أوج الشتاء القارس، والذي لم يمنحني مستأجري
                              البخيل غيره.
                              وكدت أصرخ وأنا أتذكر فراش طفولتي. وتلك "البطانية" الصوفية التي كانت غطائي في
                              مواسم البرد القسنطيني، كدت أصرخ في ليل غربتي.. "دثريني قسنطينة.. دثريني.." ولكن لم
                              أقل شيئًا ليلتها، لا لقسنطينة ولا لصاحب الغرفة البائس. احتفظت بحماي وبرودتي لنفسي.
                              صعب على رجل عائد لتوه من الجبهة، أن يعترف حتى لنفسه بالبرد..
                              انتظرت فقط طلوع الصباح لأشتري بما تبقى في جيبي من أوراق نقدية ما أحتاج إليه لرسم
                              لوحتين أو ثلاث. ووقفت كمجنون على عجل أرسم "قنطرة الحبال" في قسنطينة..
                              أكان ذلك الجسر أحب شيء إلي حقًا، لأقف بتلقائية لأرسمه وكأنني وقفت لأجتازه كالعادة؟ أم
                              تراه كان أسهل شيء للرسم فقط؟
                              لا أدري..
                              أدري أنني رسمته مرات ومرات بعد ذلك، وكأنني أرسمه كل مرة لأول مرة .وكأنه أحب
                              شيء لدي كل مرة.
                              خمس وعشرون سنة، عمر اللوحة التي أسميتها دون كثير من التفكير "حنين". لوحة لشاب في
                              السابعة والعشرين من عمره، كان أنا بغربته وبحزنه وبقهره.
                              وها أنا ذا اليوم، في غربة أخرى وبحزن وبقهر آخر.. ولكن بربع قرن إضافي، كان لي فيه
                              كثير من الخيبات والهزائم الذاتية.. وقليل من الانتصارات الاستثنائية.
                              ها أنا اليوم أحد كبار الرسامين الجزائريين، وربما كنت أكبرهم على الإطلاق؛ كما تشهد بذلك
                              أقوال النقاد الغربيين الذين نقلت شهادتهم بحروف بارزة على بطاقات دعوة الافتتاح.
                              ها أنا اليوم... نبي صغير نزل عليه الوحي ذات خريف في غرفة صغيرة بائسة، في شارع
                              "باب سويقة" بتونس.
                              ها أنا نبي خارج وطنه كالعادة.. وكيف لا ولا كرامة لنبي في وطنه؟
                              ها أنا "ظاهرة فنية؟، كيف لا وقدر ذي العاهة أن يكون "ظاهرة" وأن يكون جبارًا ولو بفنه؟
                              ها أنا ذا..
                              فأين هو ذلك الطبيب الذي نصحني بالرسم ذات مرة؟ والذي صدقت نبوءته ولم احتاج إليه بعد
                              ذلك اليوم؟ إنه الغائب الوحيد في هذه القاعة الشاسعة التي لم يسبق لأي عربي أن عرض فيها
                              لوحاته قبلي. أين هو الدكتور "كابوتسكي" ليرى ماذا فعلت بيدٍ واحدة..
                              ذلك الذي لم أسأله يومًا ماذا فعل بيدي الأخرى!
                              وها هي "حنين" لوحتي الأولى، وجوار تاريخ رسمها (تونس 57 ) توقيعي الذي وضعته لأول
                              مرة أسفل لوحة. تمامًا كما وضعته أسفل اسمك، وتاريخ ميلادك الجديد، ذات خريف من سنة
                              42
                              1957 ، وأنا أسجلك في دار البلدية لأول مرة..
                              من منكما طفلتي.. ومن منكما حبيبتي؟ سؤال لم يخطر على بالي ذلك اليوم، وأنا أراك تقفين
                              أمام تلك اللوحة لأول مرة..
                              لوحة في عمرك ..تكبرينها _ رسميًا _ ببضعة أيام.. وتصغرك في الواقع ببضعة أشهر لا
                              غير.
                              لوحة كانت بدايتي مرتين.. مرة يوم أمسكت بفرشاة لأبدأ معها مغامرة الرسم.. ومرة يوم
                              وقفت أنت أمامها، وإذا بي أدخل في مغامرة مع القدر...
                              على مفكرة ملأى بمواعيد وعناوين لا أهمية لها، وضعت دائرة حول تاريخ ذلك اليوم: نيسان
                              1981 ، وكأنني أريد أن أميزه عن بقية الأيام. قبل ذلك اليوم، لم أجد في سنواتي الماضية ما
                              يستحق التميز.
                              فقد كانت أيامي مثل أوراق مفكرتي ملأى بمسودات لا تستحق الذكر. وكنت املأها غالبًا كي
                              لا أتركها بيضاء، فقد كان اللون الأبيض يخيفني دائمًا عندما يكون على مساحة ورق.
                              ثماني مفكرات لثماني سنوات، لم يكن فيها ما يستحق الدهشة. جميعها صفحة واحدة لمفكرة
                              واحدة لا تاريخ لها سوى الغربة .غربة كنت أحاول أن أختصرها بعملية حسابية كاذبة، تتحول
                              فيها السنوات إلى ثماني مفكرات لا غير، مازالت مكدسة في خزانتي الواحدة فوق الأخرى...
                              مسجلة لا حسب تواريخها الميلادية أو الهجرية.. إنما حسب أرقام سنوات هجرتي الاختيارية.
                              أضع دائرة حول تاريخ ذلك اليوم، وكأنني أغلق عليك داخل تلك الدائرة. كأنني أطوقك
                              وأطارد ذكراك لتدخلي دائرة ضوئي إلى الأبد.
                              كنت أتصرف عن حدس مسبق، وكأن هذا التاريخ سيكون منعطفًا للذاكرة؛ كأنه سيكون
                              ميلادي الآخر على يديك. وكنت أعي وقتها تمامًا أن الولادة على يدك كالوصول إليك أمر لن
                              يكون سهلا.

                              [youtube]8TY1bD6WxLg[/youtube]
                              الابتسامة كلمة طيبة بغير حروف



                              تعليق

                              • المختار محمد الدرعي
                                مستشار أدبي. نائب رئيس ملتقى الترجمة
                                • 15-04-2011
                                • 4257

                                #75
                                يشهد على ذلك غياب رقمك الهاتفي وعنوانك من تلك الصفحة التي لم تكن تحمل في النهاية
                                سوى تاريخ لقائك. فهل كان من المنطقي أن اطلب منك رقم هاتفك في لقائنا الأول أو صدفتنا
                                الأولى تلك.. وبأي مبرر وبأية حجة سأفعل ذلك، وكلّ الأسباب تبدو ملّفقة عندما يطلب رجل
                                من فتاة جميلة رقم هاتفها؟
                                كنت أشعر برغية في الجلوس إليك.. في التحدث والاستماع إليك.. عساني أتعرف على
                                النسخة الأخرى لذاكرتي .ولكن كيف أقنعك بذلك؟ كيف أشرح لك في لحظات أنني أعرف
                                الكثير عنك، أنا الرجل الذي تقابلينه لأول مرة، والي تتحدثين إليه كما نتحدث بالفرنسية
                                للغرباء بضمير الجمع ..فلا أملك إلا أن أجيبك بنفس كلام الغرباء بالجمع..
                                كانت الكلمات تتعثر يومها على لساني، وكأنني أتحدث لك بلغة لا أعرفها.. بلغة لا تعرف
                                شيئًا عّنا. أيعقل بعد عشرين سنة أن أصافحك وأسألك بلغة فرنسية محايدة..
                                - Mais comment allez-vous mademoiselle? فتردين علي بنفس المسافة اللغوية:
                                - Bien.. je vous remercie.. وتكاد تجهش الذاكرة بالبكاء.. تلك التي عرفتك طفلة تحبو.
                                تكاد ترتعش ذراعي الوحيدة وهي تقاوم رغبة جامحة لاحتضانك، وسؤالك بلهجة قسنطينية
                                افتقدتها..
                                -واشك..؟
                                آه واشك.. أيتها الصغيرة التي كبرت في غفلة منِّي ..كيف أنت أيتها الزائرة الغريبة التي لم
                                تعد تعرفني. يا طفلة تلبس ذاكرتي، وتحمل في معصمها سوارًا كان لأمي؟
                                دعيني أضم كلّ من أحببتهم فيك. أتأملك وأستعيد ملامح (سي الطاهر) في ابتسامتك ولون
                                عينيك. فما أجمل أن يعود الشهداء هكذا في طّلتك. ما أجمل أن تعود أمي في سوار
                                بمعصمك؛ ويعود الوطن اليوم في مقدمك. وما أجمل أن تكوني أنت.. هي أنت!
                                أتدرين..
                                إذا صادف الإنسان شيء جميل مفرط في الجمال.. رغب في البكاء..


                                ومصادفتك أجمل ما حلّ بي منذ عمر.
                                كيف أشرح لك كلّ هذا مرة واحدة.. ونحن وقوف تتقاسمنا الأعين والأسماع؟
                                كيف أشرح لك أنني كنت مشتاقًا إليك دون أن أدري.. أنني كنت انتظرك دون أن أصدق
                                ذلك؟
                                وأنه لا بد أن نلتقي.
                                أجمع حصيلة ذلك اللقاء الأول..
                                ربع ساعة من الحديث أو أكثر. تحدثت فيها أنا أكثر مما تحدثت أنت. حماقة ندمت عليها فيما
                                بعد. كنت في الواقع أحاول أن أستبقيك بالكلمات. نسيت أن أمنحك فرصة أكثر للحديث.
                                كنت سعيدًا وأنا أكتشف شغفك بالفن.. كنت على استعداد لمناقشتي طوي ً لا في كل لوحة، كان
                                كل شيء معك قاب ً لا للجدل. وأما أنا فكنت لحظتها لا أرغب سوى في الحديث عنك. وحده
                                وجودك كان يثير شهيتي للكلام.
                                ولأنه لم يكن في الوقت متسع لأسرد عليك فصول قصتي المتقاطعة مع قصتك، اكتفيت
                                بجملتين أو ثلاث عن علاقاتي القديمة بأبيك.. وعن طفولتك الأولى ..وعن لوحة قلت إنك
                                أحببتها، وقلت لك إنها توأمك!
                                اخترت جملي بكثير من الاقتضاب.. وكثير من الذكاء. تركت بين الكلمات كثيرًا من نقط
                                الانقطاع.. لإشعارك بثقل الصمت الذي لم تملأه الكلمات.
                                لم أكن أريد أن أنفق ورقتي الوحيدة معك في يوم واحد على عجل.
                                كنت أريد أن أوقظ فضولك لمعرفتي أكثر، لكي أضمن عودتك لي ثانية. وعندما سألتني "هل
                                ستكون موجودًا هنا طوال فترة المعرض؟" أدركت أنني نجحت في أول امتحان معك، وأنا
                                أجعلك تفكرين في لقائي مرة ثانية. ولكنني قلت بصوت طبيعي لا علاقة له بزلازلي الداخلية:
                                "سأكون هنا بعد الظهر في أغلب الأحيان.." ثم أضفت وأنا أكتشف أن جوابي قد لا يشجعك
                                على زيارة قد أكون غائبًا عنها:
                                "ومن الأرجح أن أكون هنا كل يوم، فستكون لي مواعيد كثيرة مع الصحافيين والأصدقاء."..
                                كان في ذلك الكلام شيء من الحقيقة. ولكنني لم أكن في الواقع مضطرًا للبقاء طوال الوقت
                                في المعرض. كنت فقط أحاول ألا أجعلك تعودين عن قرارك لسبب ما.
                                ذاكرة الجسد / أحلام مستغانمي
                                [youtube]8TY1bD6WxLg[/youtube]
                                الابتسامة كلمة طيبة بغير حروف



                                تعليق

                                يعمل...
                                X