ليته يفعلها
1
كورقة تلوكها الريح كان ، شاردا بين أعاصير من هم و حزن . لا تحط عيناه على معنى ، إلا ما كان دفينا . فجأة ينتبه ، فيتوقف بذات الشرود و التيه ،يطالع صمت الجدران ، و هزيمة الوقت بين أشلاء الشوارع .. ينتزع قدميه ، يخطو برغمه ؛ كأن بينه و بين الهواء المار بجواره جدارا سميكا . منفصل هو ، متوحد ..حتى حكة الهياكل ، و اصطدامها به حد التعثر ، لا يبعد صورتها قيد شعرة ، و لا يستشعر حرجا في اختلال توازنه ، و سقوطه الذي كان يعني الكثير فيما مضى .
على الطريق ارتفعت أبواق السيارات ، نالت من رأسه شتائم السائقين ، بصقات المعبئين في صناديق الحافلات .. ما كان هنا ، و لا كان هو . غريبا ممزقا فاقد المعنى مذ قرأ تلك القصة ، مذ رأى ما غاب عنه في حديثها ، ما اختزلته خشية من تورطها ، و هي لا تدري أنه متورط حد التلاشي في جناحها ، و بها يعافر الوقت ، كأنه فتى لما يزل ، على قيد شفرة من حياة أخرى .
ما تصور حين قشرت أوجاعها ، أن يكون الأمر أكثر من ذلك ، محض تصرفات خائنة ، وطيش شباب ؛ وكثيرا ما كان الأمر كذلك ، و لكن أن تتهشم الجوهرة كل مساء ، و بتلك اليد الثملة الغبية ، تقذف بها كخرقة ، إذا ما اعترضت ، أو طالبته بالاعتدال ، و أعلنت تذمرها ... يرحل في بيادق الرقعة ، ليرى ما يسكن توتره ، كأنه يبحث عن مبرر ما ، لم يقنعه أبدا ، ليتوقف سيل الرفض ، وهذا الجيشان القاهر وجعا ، في فلك ضميره وروحه .
باسترخاء عبر بوابة حنينه . كانت الأم في ركنها المعتاد ، قعيدة تحدقه بنظرات فرحة ، تحاصر عينيه الباكيتين . وقبل أن تنطق باسمه ، يرتمي على صدرها : ضميني يا أمي ". يلثم يديها بدموعه ، حتى أشعل روحها قلقا . ضمته كشجرة عتيقة ، وصوتها يخرج من كل جنباتها : " يا ولاد .. يا ... يا... أخوك يا ولاد ماله .. ". يأتي من الأرض و السماء ، ، كأنها تتحدث إلي نفسها ، ما كانت تنتظر تلبية ندائها ، ثم انهمرت دموعها كسيل .
من بين النشيج تفلتت كلماته : لم أنس أبدا ، حين كان يعتدي عليك ، أتذكرين يا أمي .. كم مرة كان غضبه يؤلمني ، و يشقيني، بل يذهب بي إلي التهالك كعصفور مبلل ، هناك أسفل السرير ، و أنت تتخذين ركنا حانيا يضمك و دموعك ، و انكساراتك .. كانت مثلك .. كانت أنت ، و كانت تبحث عني . كنت رجلا عاقا .. ما رأيتها ، ما سمعت حزنها إلا حين أدركني الشيب .. ضميني يا أمي ".
مسدت حزنه بملائكتها ، ثم نثرت بسمة حزينة :" ولم يحتمل القلب يا روح حنائي ، و أول هزائمي وفرحي .. كل البيوت مغاليق على جراحات .. كان حلما ، و كان لا بد أن أتحمل كل مشاغباته وأوجاعه .. المأساة أعمق يا قلب أمك .. أعمق .. و كلنا سنمضي ، بين يديه .. يدي .. أكفنه أو يكفنني ، ألا تستحقون يا صغار بطني ومواجعي ؟ ! ".
: لم كانت تبحث عني ، وهي تحمل ذات الوجه .. لم ؟!
: لأن الريح لا تستوي ولدي ، قد تمسد جذوة أو تطيرها رمادا ، كأن شيئا لم يكن .. وقد تشعل الرماد بلا رحمة ، و كلما خبا اللهب أعطته مزيدا من القوت .. سير يأكلها التراب ودود القبر ..
الفرق في الحطابة يا ولدي ، و حطابكم لم يكن سوى نقطة تبحث عن العدل في أرض مظلمة .. فلا بأس أن نلت حصتي من وجعه ، ونال حصته من ضعفي ".
هيجه ما كان منها ، استفزه بقوة . اعتدل واقفا مطلقا دهشتها ، و كنحلة دار حول نفسه : استعذ بالله .. استعذ بالله .
شلت صورتها المرتسمة على الحائط جنونه . تأملها ، غاب فيها . بينما الأم تسأله عن الأولاد ، و الزوجة .. و أنفاس الكبير تأتي من حجرة مختلطة برائحة الأدوية و المطهرات .
حدثته بصمتها المتغلغل في أعماقها ، بشت في وجهه ، و بين ارتخاءة نظرات الأم و غفلتها ، كان يردد : كم نحن قساة ، أنتِ جريمتنا .. أنا و هو .. أقول أحبك ، و هو يقول .. من منا كان صادقا .. من .. من .. من . كلي ظمأ إليك ، ولو كنت في آخر بقاع القهر .. في غيابك تائه ، فلا كنت هو و لا حطابي .. حطابها .
: دمك لن يتحمل يا ولدي .. لن يتحمل !
: ليته ينهزم - هذه المرة - يا أمي ، ليته يفعلها ؛ فهو يدري ما أحمل .. ليته يفعلها !
تعليق