تجسدت أمامي بكل روعتها ،
على امتداد حنيني إليها .
همت في الرمل ،
شفق السماء ؛
علني أهرب من حصارها ،
حتى قذفت بي قدماي إلي " كانتين " سرية النقل .
تدحرجت نازلا الخندق ،
تحت سيطرتها كمنوم ،
و فكرة لم أستطع رفع لثامها .
وجهها يلاحقني أينما سرت و حللت .
لا أدري .. لم ؟
من " محمود " جندي " الكانتين" دنوت ،
أسررت إليه بحاجتي لـ " باكو سجاير " .
ربما نعم كنت أفكر ؛ و إلا ما كنت هنا .
مط شفتيه ، ثم استدار و هو يردد
: السيارة لم تصل بعد ".
الوقت محرقة ،
و الانتظار شهيد لم تقم عليه صلاة ،
وصوتها على غير العادة يناديني بإلحاح .. من كل الجهات الست ،
من كل فتحاتي الست ،
من بين حبات الرمل .
فجأة وجدتني متكوما في صندوق سيارة ،
تمخر الطريق صوب المدينة .
لم أنتبه إلي إفلاسي ،
فقر جيوبي المدقع ،
إلا و أنا أمام حافلة ، تحملني إلي المحلة .. إليها .
ما العمل ؟
حتى لو لم أكن بلباسي الميري ؛
لا أستطيع مد يدي ، طلبا لمساعدة من لا أعرف .
درت في المكان كنحلة مكسورة الجناح .
حين اقتربت من أحد الجنود ،
و قد قررت أن أعلن حاجتي .
عجزت ،
فشلت .
ما خرج لساني ،
ما احتملتني قدماي .
ليس أمامي سوى القطار ،
حتى لو أدى الأمر إلي التسطيح على عرباته .
كم مؤلم انتظار القطارات !
كم مؤلم بطئها و برودتها !
وهذا الصوت لا يتوقف عن مطاردتي و جلدي .
هاجمني صوت أبي : اتركني أربي أخوتك .
و صراخه يمتد كاشفا عورة حيلتي ،
هواني على نفسي .
وقتها استشطت غضبا ،
ارتديت ملابسي الميري بسرعة غريبة ،
و انا أرتعد .. بينما صوت أمي الواهن يأتيني باكيا : لا تمش .. أبوك قلبه طيب .. لا تمش . اعذره يا ولدي !
لم أمثل عبئا على أحد ،
من وقت حملتني قدمان ،
هذا ما تأكد لي ،
و كنت على يقين منه .
أتي القطار أخيرا ،
زحفت وسط جموع حاشدة ،
لست أحمل أي شيء ،
تصريحا من الوحدة ،
لا مصاريف تقيني من الشرطة .. أي مهدد من كل ناحية ، من المدني و الميري .
بين العربات صعدت على سطح القطار ،
كما يفعل الكثيرون ،
و أنا في غاية الخجل و القرف من نفسي .
حضنت السقف الصاج ،
الذي رد أحضاني بسيل جارف من الصدأ ،
حين تحرك القطار .
وحملته الريح إلي غايته .
كم كانت الرحلة صعبة ومريرة ،
وكم هانت على روحي
بكيت برغمي ..
بكيت نفسي .
حين كنت هناك ..
فوجئت بأمي تضمني باكية .
كانت المرة الأولى التي تفعلها .
لم أعد أفهم شيئا .
ربتت على في أسى .
تشبثت بكتفيّ ،
بعد تردد دفعت ما تحمل : " لا تحزن ..
لا تحزن .. كل شيء نصيب ".
زاد استغرابي أكثر و أكثر : " أمي .. عن أي شيء تتحدثين ؟!".
من بين نشيجها :" جاءتني منذ يومين ..
وودّعتني .. قالت :
قبليه لي .. سوف أزف إلي قدري .. غدا ".
تعليق