[align=right][align=right]أحبائي الكرام
أرجو قراءة هذه السطور التي تتضمن ملامح لها أهميتها ويجب الأنتباه لها في مسيرتنا نحو الكتابة بالعامية وهذا بالطبع زاد نتزود به من المناهل المختلفة للعلوم والمعرفيات التي نسعي أليها جميعا ، وأتمني من الله العلي القدير أن تفتح آفاقاً جديدة لدينا خصوصاً ونحن نتعامل مع متلقي ينتظر إبداعاتنا وكلمتنا .
وبالتالي فنحن حينما نستمع لرأي نقدي لأعمالنا نكون علي دراية وعلم بما يقال ومتفهمين للرؤية النقدية ومن ثم نستطيع الرد عليها وعلي الناقد الذي سيتبين لنا بمعرفتنا ببواطن الأمور هل هذا النقد ( نقد موضوعي )أم ( نقد إنطباعي )
إن العارف بسيرة وتاريخ جاهين يدرك أنه ليس ابنا ـ طبقيا ـ للجماعة الشعبية، فجاهين الذى ولد في بيت بحي شبرا العريق بالقاهرة يملكه جده الصحفي الوطني الشهير أحمد حلمي، وكان أبوه وكيلا للنيابة، يصعب القول إنه تربى فى أحضان عادات وتقاليد وأشعـار الجمـاعة الشعبيـة، لكن يجدر القول إنه تشرب الأغانى الشعبية، المواويل، المربع … إلي آخر الأشكال ، حينما كان يتنقل مع والده في طفولته بين محافظات مصر، ومن خلال ارتحالاته استطاع عبر مشاهداته بعينه اللاقطة، وأذنه القادرة على اصطياد الموسيقى، ووعيه الحاد باللون، واتقاد ذهنه فى استلهام أشكال شعرية شعبية أن تكون له هذه الفرادة فى كتاباته المتنوعة، إذ إنه كتب شعر العامية والزجل والأغنية والأشعار المسرحية والسينمائية، فضلا عن مسرح العرائس والفوازير الإذاعية والتليفزيونية، إضافة إلى السيناريو السينمائى والتليفزيوني، غير مواهب أخرى غير كتابية (نسبة إلى الكتابة)، ولا تزعم هذه الدراسة أنها بقادرة وحدها، وفى حيزها هذا أن تتتبع صور تناص جاهين مع عناصر الفولكلور فى مجمل إنتاجه، وإنما سيقف مسعاها عند المحاولة الأولية لمكاشفة علاقته ببعض عناصر المأثور والتراث الشعبى، ونخص منها شكل الرباعية.
لقد عرف الإبداع الشعبى ـ منذ زمن بعيد يستعصى على التحديد- الأشكال الرباعية، وقد تجلت هذه الأشكال فى عدة أنواع بينها تباينات تخص سياق الأداء، ومناسباته، وطرائق تشكيلها، بل وأوزانها، من هذه الأشكال ما عرف باصطلاح خاص، أو باصطلاح دال على شكل الرباعية، من هذه الفنون الشعريـة: المربع، الواو، الدوبيت، النميم، المسدار، الموال الرباعى.. إلخ، ولقد عرفت الجماعة الشعبية فنونا من "التربيع" متعددة يصعب حصرها جميعا إلا بعد جمع ميدانى وتدوين وتصنيف للوقوف على هذه الفنون والإلمام بها وبطرائق بنائهـا وجماليتها. إن التاريخ القريب يعرفنا بشعراء أفراد كتبوا الرباعيات لعل من أهمهم رباعيات بيرم التونسى المنتشرة فى معظم دواوينه، والتى يأخذ بعضها شكلا مستقلا، بينما تكون الرباعية فى بعض قصائده وحدة بنائية من الوحدات المكونة للبناء الكلى، ورباعيات الخيـام التى أعاد كتابتها الزجال البارع أحمد سليمان حجاب، ورباعيات شعراء شعبيين وزجالين لم يقـدر لأشعارهم ولا لأسمائهم الذيوع منهم: الشيخ على النابى وزوجته - الشيخ حسين الحكيم - الشيخ حسن الفرشوطى - الشيخ حسين زوط - الشيخ محمد أحمد القوصى الشاعر عبد الله لهلبها إضافة إلى زجال الإسكندرية فرج السيد (أبو فراج)،وكذلك رباعيات الخيام المصرى حامد البلاسى.. البورسعيدي ، ثم رباعيات العظيم صلاح جاهين
شكل الرباعية:
إن القارىء لأشعار جاهين سيجد هيمنة لشكل الرباعية فى كثير من أشعاره وأزجاله وأغانيه، غير ديوان مستقل تحت عنوان رباعيات.لقد كانت رباعيات ابن عروس الشاعر المصرى تسير على نمط القوافى المتبادلة فى الرباعية، وتاخذ الشكل التالى:ـ[/align]
ـــــــــــ أ مسكين من يطبخ الفاس
ـــــــــــ ب ويريـد مرق من حديده
ـــــــــــ أ مسكين من يعاشر الناس
ـــــــــــ ب ويـريـد مـن لا يريده
بينما كانت رباعيات جاهين تعتمد فى بنائها على شكل الرباعية "العرجاء" متشاكلة مع شكل الموال الخماسى الأعرج، وتسير مورفولوجيا على هذا النحو:ـ
1 ــــــــــــ أ
كروان جريح مضروب شعاع م القمر
2 ــــــــــــ أ
سقـط مـن السمـوات فؤاده انكسر
3 ـــــــــــ ب
جريـت عليـه قطـه عشـان تبلعه
4 ــــــــــــ أ
أتـاريه خيـال شعرا ومالهوش أثـر
ولم يقتصـر جاهين عـلى هذا الشكل من الرباعيات فسنجد عنده رباعيات متبادلة القافية، ورباعيات متوالية القافية، وثالثة عرجاء، والرصد الأولى يدلنا على أن رباعيات جاهين (حينما نذكر كلمة رباعيات لا نعنى ديوانه وحسب) كانت تتحلق فى معظمها حول بحرين شعريين هما الرجز والبسيط، ويستخدم جماليات الموال الرباعى فى تجنيسه الكامل: [/align]
ياميت ندامـه على إللي البحـر ما ادَّاله
مفتـوح عليه الحنك والكـف مادَّاله
عدى الشطوط والخطوط اللنش عدَّى له
غفر السواحل يا صاحبى مستعدَّاله
[align=right]كما يراوح بين الشكلين الرباعى والخماسى فى موالية "العرس" فالبداية رباعية متوالية القافية تليها خماسية مثلها،ثم رباعية، ثم خماسية عرجاء:[/align]
النيل رجع زاد وعاد من غير ميعاد مرسوم
كيف ابن شداد ما طب فى يوم يحوم ويزوم
مطهوم ينادى يا عبله ومهرك المعلوم
حاضر وفوق منه عقد من النجوم ملضوم
يام الضفاير ألوف ملهوف وانا المحروم
يا تمرا سمرا ياجمرا حمره خلف غيوم
لجلك يا حلوه شربت المر والزقوم
وصبرت وكبرت وانحفرت فى وشى هموم
العرس دقت طبوله يقولوا: هب وقوم
[align=right]فجاهين لا يستسلم لغواية الشكل وإنما يعشق اللعب معه، فالشكل لديه حالة وعى متساوقة مع رؤيته، فحين كتب قصيدة فنان لفاخر فاخر عكس فى نهايتها حالة الوعى هذه "من غير قوافى كتبت فيه مرثاه … إكمنه مات مش زى كل الناس"، مع الاعتذار للشاعر عبد المنعم عواد يوسف الذى يقول فى سياق أخر"كما يموت الناس مات".
فالشكل اختيار، فحين كانت الحكمة عماده والفلسفة طريقه، والتأمل طريقته كانت الرباعية العرجاء، فقد زاوج - مستلهما - بين طاقة المربع وقدرته على الصيد، وإيقاع الرباعية بما يتيح هذه المساحة من التأمل:[/align]
ياللى انت بيتك قش مفروش بريش
تقوى عليه الريح يصبح مفيش
عجبى عليك حواليك مخالب كتار
ومالكش غير منقار وقادر تعيش
[align=right]والمعروف أن المربع يتكون من أربع حركات بنائية هى: العتب - الطرح - الشد ـ الصيد، فإذا كان صيد ابن عروس يتمثل فى الحكمة النهائية التى تتقطر شعبية، فإن صيد جاهين يأتى بداية من الشد، فالحركتين الأخيرتين المتمثلتين فى الشطرة العرجاء ورباط أو قفل الرباعية ترتبطان ارتباطا عضويا بحيث يمثل الشطر الأعرج بداية الارتفاع الذى تأتى بعده ذروة المفارقة، فهو الممهد للقنص:[/align]
من بين شقوق الشيش وشقشقت لك
مع شهقة العصافير وزقزقت لك
نهار جديد أنا قوم نشوف نعمل ايه
أنا قلت يا ح تقتلنى يا ح أقتلك
[align=right]بينما سنجده فى قصائد أخرى يراوح بين رباعيات متوالية القافية وأخرى عرجاء، ففى قصيدة "الأمير" يمارس غرامه بالتربيع:[/align]
المجد للجندى اللى من غير لبس حرب
الفـارس اللى مش على صهـوة جواد
الراجل الغلبان فى روحه وعيشته كرب
لكن أمير عاشـق بروحـه ودمه جاد
***
والنحـل والعصافيـر تجيله تكلمه
أنبل أمير أساطير خيالك يرسمـه
السحارين سحروه صبح عتال فقير
شيل الحمول يحنيه ويوشك يهدمه
[align=right]إن رصد رباعيات جاهين فى دواوينه يؤكد على غرامه بهذا الشكل الذى كان يتحرك داخل بنيته برشاقة، ويشكل من خلاله حالات شعرية متنوعة تؤكد أن الأشكال لا تضيق أمام شاعر كبير، كما أن امتلاك هذه الذخيرة من الأشكال هى التى أتاحت له التمرد عليها، من هنا يمنحنا ويمنح الأجيال الجديدة دلالة مهمة هى أن التمرد لابد وأن يكون على ملكية ضخمة من التراث والمأثور، "فما الأسد إلا مجموعة خراف مهضومة"، وتنتشر تيمة الرباعية كجزء من بنية أشعاره فى قصائد "ميلاد" التى تعتمد الرجز ميزانا لها، كما تسير على نمط (أ. ب. أ. ب ):[/align]
بعدت ولادتى فى الزمن تلاتين سنه
صبحت تاريخ زى السيوف والسقايين
زى الشراكسه والشموع والسلطنه
زى الخيول.. ضاعت سنينى فى السنين
[align=right]كما تعتمد "السـونيتات" البسيط ميزانا لها، وتمتد عبر سبع صفحات فى ديوانه أشعار بالعامية:[/align]
خلا خلا، أنا شعرى قد الوجود
وقدها وقدود، وقلبى غنى
كأنه عود، فى الجود ما يعرف حدود
وحبيبته عواد، وعليه منحنى
[align=right]كذلك سنجد هذا النسق الرباعى فى ديوان الأغانى،على سبيل المثال "المقاطع الثلاثة الأخيرة فى قصيدة "يابو قلب وحيد"، وهى رباعيات عرجـاء تتخذ من "فاعلاتـن ـ فاعلاتـن ـ فاعلـن" ميزانـا لها، كذلك أغنيـة "راية العرب"، "البيانولا"... إلخ.
الشكل الخماسى
يدلنا الجمع الميدانى على وجود أشكال موالية خماسية عرجاء، وأخرى متوالية القافية، أما جاهين فقد اخترع لنفسه شكلا خماسيا مخططه كالتالى (أـ أ - ب - ب - أ)[/align]
اللحم طين والعرق دود من ديدان الطين
آدم وحوا على أرض العدم حاطين
عاقبهم الرب... أخرجهم من الجنه
آدم عمل حضن حوا جنته وغنى
الناس بتتهنى مهما يكونو منحطين
[align=right]وإذا كان جاهين قد صك لنفسه شكلا خماسيا لم تعرفه الجماعة الشعبية إلا انه قد اعتمد بحر البسيط هذا البحر الموالى الأثير، كما اعتمد جناسات الموال بكثافتها الموسيقية، كما أنه يبدو فى هذه المقطوعات الموالية الخماسية "مولديا" من الموالة ذوى الخبرة العميقة بأصول الحرفة، ولنتأمل هذه القدرة عند الموالة وكيف استلهمها جاهين ببراعة، فرواة الموال ومبدعيه يقومون فى المواويل "المزهرة" / الزهيرى بجمع موسيقى "عتبة الموال" و "ردف الموال" فى نهايته، أى فى "رباط الموال"، على هذا المنوال يواصل جاهين مخالفة عرف الجماعة فى البناء، لكنه يستعير بعض جمالياته الموسيقية، ولنتأمل ذلك فى قصيدته الرائعة - لا أحب مثل هذه الكلمات، لكنها تصدق عليها بحقـ "أهل الهوى"[/align]
(عتبة الموال)
الولف لو شاف وليفته ورا الجبل هدمه
ياميت ندامه على جبلين واصطدمو(
ردف الموال)
اتهد منهم جبل اسمه هابيل وانهار
قابيل أخوه اللى قتله سكب الدموع أنهار
(رباط أو غطا الموال)
واللى افتتن بالنهار.. بالليل يا ندمه
[align=right]ولايخفى على القارىء أن جاهين عبر دواوينه قد عرك الموال وخبره بدرجة عميقة، يدلنا على ذلك بجدارة قصيدته "على اسم مصر" بجزئيها، كذلك قصائد "الوحدة"، "الأرض"، "بستان الاشتراكية"، "با أهلا بالمعارك"،رولا يعنى هذا الرصد ميزة لهذه القصائد على قرينتها، بل ربما تكون أقل تميزا، لكن الذى لاشك فيه أن جاهين قد تعرف على هذه الخبرات وهضمها عبر استماعه الحى للأشعار الشعبية، فضلا عن علاقته بالشاعر الراحل العظيم بيرم التونسى الذى تفنن فى كتابة أزجاله على أنماط موالية بالغة الثراء والتعدد، وقد كثر ورود اسم بيرم فى أشعار جاهين اعترافا بثقله وبريادته وتطويره الكبير لفن الزجل، فحين يقول جاهين "معلمنا بيرم عليه السلام" فهو يؤكد على معنيين مهمين أوشكا على الاختفاء هما، الأول: الاعتراف بقيمة وفضل السابقين والتمرد عليهم تمرد الواعى الجسور،الثانى: وجوب إعادة النظر فى القيم الجمالية التى يطرحها الشعراء الرواد دون الوقوف عند المقولات التى ثبتت واحتكرت المشهد، مقولات من مثل أن جاهين شاعر مدينى، هل هذا حكم بالقيمة؟ وأن الشعراء الذين جاءوا من الأقاليم جاءوا ليريفوا الشعر، ألم يقرأ واحد منكم قصائد جاهين بعناية ليدرك معرفته العميقة بالمفردات النوعية لفلاحى مصر بما يعكس خبرة واسعة بهذا العالم كأنه ولد لأب فلاح، ولم تكن المفردات التى تنتشر فى تضاعيف قصائده من قبيل التوشية لمواكبة حملة استلهام الفولكلور الستينية، هذا الزعم ينتفى تماما حينما نقرأ قصائده "زى الفلاحين"، "أغنية للقطن"، "الأرض".. ونعتقد أن هذا الزعم مبنى على مقولة مؤداها أن جاهين رائد قصيدة النثرـ لم يدع ذلك - وأن قصيدة النثر منتج مدنى، كتبها ابن المدينة جاهين، وكلها مقولات تضرب بعضها ولا تنشغل بالشعر الحقيقى أيا كان من كتبه، وأيا كان شكله، فالشاعر الكبير كبيرم وحداد وجاهين هو الشاعر الذى لا ينشغل بالأبنية سابقة التجهيز، ولا بالمقولات المجانية التى تحتل مكانا كان الشعر أجدر به.
إن القاريء لتجربة شاعرنا الكبير فؤاد حداد سيواجه تنوعات من العناصر والموتيفات الشعبية، فلا تكاد تخلو قصيدة من قصائده من عناصر فولكلورية متنوعة تقيم حوارا مع بني القصائد لتلقي بقارئها علي نص الجماعة الشعبية، وهي إذ تقيم هذه العلاقة فإنها تراوح بين أكثر من آلية، مرة تحاول الحلول محل نص الجماعة مستدعية شكله، وأخري تحاول إقصاء نص الجماعة بعيدا عن متنها، وثالثة تحاول تثبيت آلياتها اعتمادا علي الرسوخ الذي صنعته، واكتساب بعض أرضها التي امتلكتها بالتقادم، أو بنزع ملكيتها الجمالية، وفي أحايين تقوم بالإجهاز علي محتوي النص الشعبي لترتدي أقنعته الشكلية، وربما تزينت بهيكلها الشكلي تاركة مضامينها لتحتل ظلا هامشيا في متنها. إن فؤاد حداد لم يشيد أبنيته علي أساسات ابن عروس والنديم وبيرم التونسي وأبو بثينة.. إلخ، وهو ليس امتدادا لهم، وإنما هو شاعر مؤسس، قام بتشييد صرح شعري قائم بنفسه، لقد قدم حداد نفسه بداية من أول دواوينه 'أحرار وراء القضبان' 1952 بوصفه 'آخر' له بناءاته، ولايعني جدة البناء وتميزه تخليه عن تراث جماعته ومأثورها، خاصة الشعبي منه، فالقاريء لدواوين حداد سيستمع الي ارتطام قوافي الموال وتجنيسها الكامل:[/align]
وانا جيت هنا وانا كنت توى هناك
قال ابن آدم احنا توهناك
انا قلت عمرى ما اتوه وعمرى ما اضل
انا قلت أصلى ظل ظل هناك
[align=right]وتعكس المقدمة التى أفتتح بها مجموعاته الشعرية إشارات مهمة حول مصدرية شعره، ولعل تأملها يشير إلى مـناهل حداد المتنوعة، فالشعر لديه كالتنفس والرزق، المستقبل، الأمس، واقع الناس، بما يحيل على إيمانه بما يحملونه من أغان وأشعار وأمثال، وهو فى اصطياده للعناصر الشعبية يتبنى آلية التداعى الحر، ولنتأمل هذا المقتطف من مقدمته:[/align]
الحمد لله على كل يوم تنفست فيه هذا النسيم
ورزقت هذا الغناء
شعرى خيال الشمس فى الهلال أم الهلال قى الشمس
المستقبل والأمس
الصباح والهمس
ليس لى فى القوافى جديد
شعرى خيال هذا الطعام وهذا الماء وهذا الشجر
شعرى واقع الناس (المقدمة، ص 7)
[align=right]كما سيستدعي مخزونه الشعبي حينما يعبر البكائيات التي توظف شكل 'العدودة'، هكذا سينتقل حداد من فن إلي فن ليعشّق نصه الفردي الجمالي المجاوز ينص الجماعة، لذا سنجد استلهامات للسير الشعبية.. البلاليق، المربعات، الموال بأشكاله، الأمثال، فضلا عن اصطياده لبعض الموتيفات' الاعتقادية إضافة إلي العناصر المرتبطة بالعادات والتقاليد المصرية.
إن فؤاد حداد يعد واحدا من أبدع الغواصين في تراثنا ومأثورنا الشعبي، وربما ترجع عنايته الاستلهامية الفائقة الي انه لم يكن مصري الجذور، لذا فقد كانت عينه قادرة علي التقاط هذه العناصر واصطيادها وإدخالها إلي عالمه الشعري، هكذا تتعدد مستويات توظيف الفولكلور في دواوينه، مثل: ديوان 'رقص ومغني' كما في قصائد 'رقصة الدب'، 'رقصة الديك'، 'رقصة الكلب' ألخ.. [/align]
طلعت أدب نزلت أدب
وطالع نازل أقزقز لب
أردب أرادب
أرنب أرنب
دا كله دا كله فى بطب الدب (قصيدة رقصة الدب، ص 14)
[align=right]هكذا يواصل العثور على "العتبة" بموسيقاها الشعبية ليواصل البناء مكملا إياه لتستدعى المفردة صويحباتها موسيقيا ودلاليا دونما افتعال أو شبهة التوشية المجانية، فلم يكن حداد يرتدى لحية مستعارة ليدلل على شعبية نصه الشعرى. فالقاريء لدواوين حداد لن يعبر علي قصائده دون أن تتشبع روحه بعدد من الأشكال الشعرية الشعبية، ويتعامل حداد مع عناصر التراث والمأثور الشعبي عبر عدة مستويات لعل منها:
مستوي التضمين:
أي تضمين أجزاء كاملة من أغنية شعبية، أو مثل بكامل نصه، وحداد حينما يستدعي هذه الأجزاء المكتملة من نصوص شعبية فإنه يستدعيها لتنوب عنه في القول، لكنها تحتل مكانها ليس بوصفها جزءا مستقلا، وإنما بوصفها جزءا من البناء الشعري، ومثاله:[/align]
أبو يا أبوح
كلب العرب مدبوح
وامه عليه بتنوح
بنت القبيله عند رأس كليب (قصيدة رقصة الكلب، ص 24 )
[align=right]فهو يستدعى مطلع الأغنية الشعبية ليواصل عبر توليد النص موسيقيا صناعة رؤيته المفارقة:[/align]
الشاعر اللى شحت
ع العضم جلد وشغت
شمت الملك فيه
شمت
فىَّ أنا جــزار على بقـــال
زاد فى المقام عنى وذل السؤال
ولطم خدوده وبك دمـه وقـال
"وكم بمصر من المضحكات
ولكنه ضحك كالبكا"
كالبكا
كالبكا
أنا كالبكا كلب
أنا قافية القلب
دمى انحلب حلب (قصيدة رقصة الكلب، ص 24 )
مستوي التضفير:
[align=right]أي صناعة نسق يتداخل فيه الفولكلوري مع الصيغة الشعرية الخاصة، هذا التداخل يتم في معظم الأحيان بإزاحة بعض عناصر الفولكلوري، أو بانتخاب جزء منه، وإدخال عناصر لغوية وتركيبية جديدة عبر تحويل جملة الإشارات الفولكلورية إلي قيمة استاطيقية جديدة، ويتم ذلك عبر درجات من الإبدال (إبدال بعض المفردات)، أو خلق نسق مساو لنسق المثل تركيبيا حتي تستطيع ذهنية القاريء/ المتلقي أن تستدعي ما في مخزونها لتضاهي به ما في مخزون الشاعر من عناصر مشتركة فيصبح الانحراف عن النص الأصلي محفزا لنوع من المتلقين علي التجاوب مع النص، حيث يتحلق حول افقه المتوقع، ومثاله:[/align]
يا فار أبوك الجبل ثابت وجبت منين الوسوسه
وكذلك:تاخد خطوه قدام آخد خطوه كسكسه
تشوح لى أشوح لك
سن بسن وعين بعين
وفن بفن أصل الفن أوله نسنسه (رقصة الفار، ص 29)
[align=right]ففى المقتطع السابق يستدعى المثل الشعبى "السن بالسن والعين بالعين، والبادى أظلم"، كما يستدعى بشكل ضمنى المثل الشعبى " أمك البصل وابوك التوم منين الريحه الطيبه يا مشوم " فى جملته "يا فار أبوك الجبل ثابت وجبت منين الوسوسه "
مستوي الظلال:
أي وجود ظلال فولكلورية ليست واضحة تماما بحيث يستطيع القاريء الامساك بها، لكنها تشير إلي مصدر بعيد وضمني في آن واحد، هذا المستوي يعد الأكثر انتشارا في أشعار حداد، وهو كذلك الأكثر شعرية حيث تنسرب العناصر الفولكلورية دون إبانة واستقلالية، فهو يغتال رسالتها الأصلية، ونصها المتماسك ليصنع رسالة جديدة معتمدا علي الطاقة المجازية التي تحملها هذه النصوص، يؤكد علي ذلك مقولته التي تتضمن بعض سطور قصيدته 'جوده سعيد الديب'في ديوان 'أيام العجب والموت':[/align]
'الكلام الأجنبي في الزور
بالتفت للآخرة والتراث
والمحبة غزلها أنكاث
في الزمان اللي نقض غزلي'
[align=right]ونتسمع أصداء الرقى الشعبية فى العاشورة، ومنع الحسد والبسملة قبل الخبيز وفن القافية فى هذه القصيدة، رغم مفارقتها لهذه الفنون لغة وتشكيلا، لكن تظل الأذن على استعداد لاستدعاء هذه النصوص الموازية:[/align]
ديك
الله يهديك
صد
عمره ما نصد
عين
طلق سبعين
باع
ما على سباع
ريش
ذو تنقريش
عرف
غاية الظرف
ديل
يفرس الخيل
عود
سنط مفرود
غصن
زى ما الحسن (قصيدة رقصة الديك، ص 20)
[align=right]هذه المستويات، وغيرها تردنا دوما إلي منطقة مصدرية تؤكد علي تواصل حداد الدائم مع النصوص الشعبية ليعلن عن كتابة جديدة مغايرة لقوانين الإبداع الشعبي، هذا التواصل الذي يتبدي في مرات علي انه 'تثقيف' نصه وأخري بوصفه نوعا من التجريب الواعي الذي يصنع النص الشعبي في مختبره، ولأن حداد شاعر مؤسس فان بعض قصائده لا تخلو من غرام زائد بالتراث والمأثور الشعبي، إلي الحد الذي يتماهي فيه نصه بنص الجماعة خاصة في استعارته للأشكال المستقرة، وبشكل أخص فنون الموال، لاحظ تسميات حداد لعدد كبير من قصائده بموال أو مواويل، مثل: مواويل من أول الدنيا، مـوال الشيـخ سعيد، ص 118، مـوال قتـيل المحبة،ص 137، موال القرفة، ص 142، ولا يقتصر الأمر عند عناوين القصائد، بل يتعداه إلى قصائد تحتفى بالمصطلحات الخاصة بالموال "الأحمر - الأخضر " [/align]
آه ياليالى يا ليالى
الاحمر والاخضر موالى
أنا اللى موت وأنا المولود
شقايا أنا لسعد عيالى
وآه كأنى ما قلتش آه (قصيدة: طبال الغوازى، ص 63)
[align=right]وتتبدى عظمة حداد وقدرته الاستلهامية الفائقة فى مجموعة المواويل التى تؤكد على معرفة كبيرة بأسراره كنص شعبى، ويتأكد ذلك فى مواله "الشيخ سعيد"[/align]
قال ياولد ياللى ماشى هناك على الحيطه
والقف زى السحـالى طـل واسعى لى
حا اعلمك صنعة المــوال وطـباتـه
اوعى توسوس توشوش خد نفس عالى
ودحرج النور على السلـم وطبــاته
بعيد ولفوق
قلنا القوافى كتيره قالوا طـب هاتـو، ص 118
ـ ويختم مواله هكذا
صوتى اللى يفرح بلد يصبح صفيح سرساع
وكأنه سر وذاع
وكأنه سر وضاع
وكأنه سر بتاع
واحد بتاع مواويل
لا كان سعيد ولا كان أسمر عيونه وساع ص 120
[align=right]فـإذا كانت الجماعة الشعبية قد توجت شعرها الشعبى بالموال بأنواعه وأشكاله المختلفة، فإن حداد قد راهن على الموال وقدرته على "تزهير" نصوصه، عبر هضمه لتراث الموال الشعبى وعبوره إلى موال حدادى لا ينتسب إلا إليه:[/align]
بنغنى موال على المنوال وبنولف
والدنيا أحوال إشى يكلف واشى يكيف
بنغنى سخنين واذا بطلنا حنجيف
إحنا اللى وارثين صفاتك دمنا خفيّف
من حبنا فى السلامه كل ما نسيف
ونصيب نهيف
ياعين يا ليل ونغنى بالموال
وقالت الست الوالده
ما تبطلوش الموال ده
يغنيك غنى ويمولك موال (قصيدة كتاكيت الفن، ص 37)
[align=right]ولأن حداد "والد الشعراء، وأحد أمهر صناع الموال بتزهيره الكثيف، وبخبرته الكبيرة قد صنع موالا يخصه،هذه الخصوصية التى تمثل بحرا لم تسلم من صيد تلاميذه ومحبيه وأولاده الشعراءـ من ديوان التسالى بالمزاج والقهر:[/align]
أنا والد الشعرا فؤاد حداد
أيوه أنا الوالد ويا ما ولاد
قبلسه ربيتهم بكل وداد
بعدسه تلميذ أولى وإعداد
تسالى
ابنك يادنيا وإمتى ها تصادفيه
موالى بحر وكلهم صاد فيه
والنقل زى اللؤل فى صدفيه
تسالى
[align=right]إن حداد استطاع أن ينتهي إلي صيغة في شعر العامية المصرية، هي ما يمكن تسميته بالمضمون الفني الذي يعالج التجربة 'المصرية' في بعدها الشعبي علي أبعد مدي لأنغامها المحلية، كما يعكس شعره إمكانات استغلال الموروث الوزني، والقيم الموسيقية من تجنيس وتقفية وزخرفة وكلها قيم يحفل بها المأثور والتراث الشعبي، فضلا عن الإمكانات الدرامية القائمة علي تعدد الأصوات، ثم الخروج بالغنائية والإنشاد من الخيال التحريري والشفهي إلي خيال فردي لاينتمي سوي لفؤاد حداد، هكذا 'يؤلف' فؤاد حداد بين المفردات مستدعيا حسا شعبيا عبر المفردات المتجانسة، واستخداما للإصاتة داخل الجملة الواحدة:[/align]
والتلزونه للحلزونه يا قلبى لا تحزن
كل الفجر ده فجر السوق
وطعامة العيش المسروق
ولحام القلب المفلوق
وخلاعة باب النجار
م الحلزونه للتلزونه (قصيدة شوك لين فى أغنية صينيه ص 132)
[align=right]كذلك سنجد استخداما كثيفا للتجنيس الكامل كما فن الموال رغم المغايرة الوزنية ويتضح ذلك بجلاء في قصيدة 'رقصة الفار' التى تؤكد أن حداد أمهر من صنع التجنيس عبر تعاشيق أربيسكية تخصه وحده:[/align]
ساقطه قدامى ومن غش اراها
دنيا تفاحه زباله مقشراها
من شراها باعها من باعها شراها
بس قولو يا دراوشه
رقصى اسمه دوشه روشه
أو مناوشه
أو شراهه
[align=right]أما قصيدة "كتاكيت الفن"فيها يستعير شكل الموال عبر بنية تقفوية ثلاثية الشطرات، لكنه يكسر تراتبها بلازمة إيقاعية مغايرة، كذلك استخدامه للحكي الشعبي، والنكتة في قصيدة 'إبليس غرمان' وهي قصيدة تراوح بين أكثر من شكل، ففي بدايتها يتبدي الحكي خارجا عن الوزن في شكله الكمي ثم تأتي أجزاء مفعلة لتليها أجزاء زجلية تتبني نسقا بنائيا يعتمد علي التقفية ووحدة البحر الشعري، ويتبدي ذلك في البداية الحكائية.[/align]
'مرة واحد قال لابوه جوزني يابا
قال له يابني دا الجواز يكلف كتير
قال يكلف ايه يابا.. قال يكلف سمنه
وممنه ورز وجهاز ومهاز'
ثم يوالي البناء بنسق مغاير في نفس القصيدة:
'إضرب مهماز يا ابليس وغني'
[align=right]هكذا يفتح الغناء طاقة جديدة حافلة بالموسيقي:[/align]
'والبني آدم يا بتنجان
عايز يبقي علي الرز عليه المز
علي السمنة عليه الممنة
ويضمن جنة بالمجان'
[align=right]من الحكي الي التفعيلة الي الشكل الزجلي يراوح حداد في عبقرية[/align]
'عايز يرجع صبي تلميذ
يمشي يهزر مع مزاميز
تضحك في خدودهم غماميز'
[align=right]إن حداد لايكف عن استخـدام آليـات وحيـل المبـدعين الشعبيـين في فنونهم القوليةVerbal arts مثل استخدامه للألفاظ المدمجة، وهي خصيصة أثيرة في عدد من الفنون الشعرية الشعبية مثل الموال والواو، وهو باستخدامه هذا يمنح موسيقي نصه حيوية مستمدة من تواتر موسيقي النص الشعبي:[/align]
صوتى ينبح صوتى ينبحّ
ديلى يرقص رقصته دح
[align=right]فضلا عن توظيفه للمثل الشعبى فى أكثر من قصيدة ولندلل على هذا الاستخدام بقصيدته الدالة "الزمار يضرب الأمثال" والتى يختتم كل مقطع فيها بمثل شعبى:[/align]
(يموت الزمار وصباعه بيلعب)
أنا أنا زمار
أنا أنا زمار
وحا عيش وحاموت
وانا بنفخ توت
وصوابعى بتلعب أنا زمار
على رأى مثلكم يا شطار
(ياخبر النهارده بفلوس بكره ببلاش)
ـ يا خبر بفلوس
بكره الأخبار
على رأى مثلكم يا شطار
(قد الزبله ويقاوح التيار)
على ضى فانوس
ليالينا نهار
عام الننوس
ويا التيار
(خيار وفاقوس)
على ضى فانوس
ليالينا نهار
ما فيناش فاقوس
ولا فينا خيار (قصيدة: الزمار يضرب الأمثال، ص 80، 81 )
[align=right]كما يمنح متلقيه أفقا فى بعض قصائده لتوقعها، وكشف ما غمض في تركيبتها، كما يستخدم كذلك نسق أغاني الأدباتية كما في قصيدة 'علي باب الله'. وفؤاد حداد في هذا السياق ليس 'أبا' وحسب وإنما هو تأسيس باهر لإنجازات العامية في الشعر الحديث، ولعل هذه الإطلالة ربما تفتح أفقا حول العلاقة الشائعة بين الابداع الفردي والابداع الشعبي، ومدي مساهمة نص الجماعة الشعبية في مد نص العامية بخبرات جمالية تنكرها الأجيال الجديدة بدعوي تخلفها وابتذالها، فضلا عن استخدام البعض لها بوصفها توشية او حلية وحسب، من هنا وجب بإعادة النظر في مشروع حداد الشائك والمربك في آن واحد لان يتسلح بأشكال شعبية لا تقتصر علي فنون القول وإنما يتجاوزها لنجد في متن نصه عناصر من العادات والتقاليد والمعتقدات والثقافة المادية الشعبية ليعلن في كل وقت عن ثراء نصه وحاجته إلي من يفض مغاليق سره بعيدا عن المقولات الجاهزة والعبارات الإنشائية، من هنا تظل هذه الكتابة مفتاحا أو اطلالة أولي علي علاقته بالفولكلور ربما تسلمنا إلي مكاشفة عالمه الثري والرحب والمشتبك بقوة وحيوية بنص الجماعة الشعبية.[/align]
ارجو التعليقات لاتخرج عن الموضوع من فضلكم
ولكم جزيل الشكر
تقبلوا تحياتي ووافر أحترامي
اخيكم محمدأسامة
أرجو قراءة هذه السطور التي تتضمن ملامح لها أهميتها ويجب الأنتباه لها في مسيرتنا نحو الكتابة بالعامية وهذا بالطبع زاد نتزود به من المناهل المختلفة للعلوم والمعرفيات التي نسعي أليها جميعا ، وأتمني من الله العلي القدير أن تفتح آفاقاً جديدة لدينا خصوصاً ونحن نتعامل مع متلقي ينتظر إبداعاتنا وكلمتنا .
وبالتالي فنحن حينما نستمع لرأي نقدي لأعمالنا نكون علي دراية وعلم بما يقال ومتفهمين للرؤية النقدية ومن ثم نستطيع الرد عليها وعلي الناقد الذي سيتبين لنا بمعرفتنا ببواطن الأمور هل هذا النقد ( نقد موضوعي )أم ( نقد إنطباعي )
إن العارف بسيرة وتاريخ جاهين يدرك أنه ليس ابنا ـ طبقيا ـ للجماعة الشعبية، فجاهين الذى ولد في بيت بحي شبرا العريق بالقاهرة يملكه جده الصحفي الوطني الشهير أحمد حلمي، وكان أبوه وكيلا للنيابة، يصعب القول إنه تربى فى أحضان عادات وتقاليد وأشعـار الجمـاعة الشعبيـة، لكن يجدر القول إنه تشرب الأغانى الشعبية، المواويل، المربع … إلي آخر الأشكال ، حينما كان يتنقل مع والده في طفولته بين محافظات مصر، ومن خلال ارتحالاته استطاع عبر مشاهداته بعينه اللاقطة، وأذنه القادرة على اصطياد الموسيقى، ووعيه الحاد باللون، واتقاد ذهنه فى استلهام أشكال شعرية شعبية أن تكون له هذه الفرادة فى كتاباته المتنوعة، إذ إنه كتب شعر العامية والزجل والأغنية والأشعار المسرحية والسينمائية، فضلا عن مسرح العرائس والفوازير الإذاعية والتليفزيونية، إضافة إلى السيناريو السينمائى والتليفزيوني، غير مواهب أخرى غير كتابية (نسبة إلى الكتابة)، ولا تزعم هذه الدراسة أنها بقادرة وحدها، وفى حيزها هذا أن تتتبع صور تناص جاهين مع عناصر الفولكلور فى مجمل إنتاجه، وإنما سيقف مسعاها عند المحاولة الأولية لمكاشفة علاقته ببعض عناصر المأثور والتراث الشعبى، ونخص منها شكل الرباعية.
لقد عرف الإبداع الشعبى ـ منذ زمن بعيد يستعصى على التحديد- الأشكال الرباعية، وقد تجلت هذه الأشكال فى عدة أنواع بينها تباينات تخص سياق الأداء، ومناسباته، وطرائق تشكيلها، بل وأوزانها، من هذه الأشكال ما عرف باصطلاح خاص، أو باصطلاح دال على شكل الرباعية، من هذه الفنون الشعريـة: المربع، الواو، الدوبيت، النميم، المسدار، الموال الرباعى.. إلخ، ولقد عرفت الجماعة الشعبية فنونا من "التربيع" متعددة يصعب حصرها جميعا إلا بعد جمع ميدانى وتدوين وتصنيف للوقوف على هذه الفنون والإلمام بها وبطرائق بنائهـا وجماليتها. إن التاريخ القريب يعرفنا بشعراء أفراد كتبوا الرباعيات لعل من أهمهم رباعيات بيرم التونسى المنتشرة فى معظم دواوينه، والتى يأخذ بعضها شكلا مستقلا، بينما تكون الرباعية فى بعض قصائده وحدة بنائية من الوحدات المكونة للبناء الكلى، ورباعيات الخيـام التى أعاد كتابتها الزجال البارع أحمد سليمان حجاب، ورباعيات شعراء شعبيين وزجالين لم يقـدر لأشعارهم ولا لأسمائهم الذيوع منهم: الشيخ على النابى وزوجته - الشيخ حسين الحكيم - الشيخ حسن الفرشوطى - الشيخ حسين زوط - الشيخ محمد أحمد القوصى الشاعر عبد الله لهلبها إضافة إلى زجال الإسكندرية فرج السيد (أبو فراج)،وكذلك رباعيات الخيام المصرى حامد البلاسى.. البورسعيدي ، ثم رباعيات العظيم صلاح جاهين
شكل الرباعية:
إن القارىء لأشعار جاهين سيجد هيمنة لشكل الرباعية فى كثير من أشعاره وأزجاله وأغانيه، غير ديوان مستقل تحت عنوان رباعيات.لقد كانت رباعيات ابن عروس الشاعر المصرى تسير على نمط القوافى المتبادلة فى الرباعية، وتاخذ الشكل التالى:ـ[/align]
ـــــــــــ أ مسكين من يطبخ الفاس
ـــــــــــ ب ويريـد مرق من حديده
ـــــــــــ أ مسكين من يعاشر الناس
ـــــــــــ ب ويـريـد مـن لا يريده
بينما كانت رباعيات جاهين تعتمد فى بنائها على شكل الرباعية "العرجاء" متشاكلة مع شكل الموال الخماسى الأعرج، وتسير مورفولوجيا على هذا النحو:ـ
1 ــــــــــــ أ
كروان جريح مضروب شعاع م القمر
2 ــــــــــــ أ
سقـط مـن السمـوات فؤاده انكسر
3 ـــــــــــ ب
جريـت عليـه قطـه عشـان تبلعه
4 ــــــــــــ أ
أتـاريه خيـال شعرا ومالهوش أثـر
ولم يقتصـر جاهين عـلى هذا الشكل من الرباعيات فسنجد عنده رباعيات متبادلة القافية، ورباعيات متوالية القافية، وثالثة عرجاء، والرصد الأولى يدلنا على أن رباعيات جاهين (حينما نذكر كلمة رباعيات لا نعنى ديوانه وحسب) كانت تتحلق فى معظمها حول بحرين شعريين هما الرجز والبسيط، ويستخدم جماليات الموال الرباعى فى تجنيسه الكامل: [/align]
ياميت ندامـه على إللي البحـر ما ادَّاله
مفتـوح عليه الحنك والكـف مادَّاله
عدى الشطوط والخطوط اللنش عدَّى له
غفر السواحل يا صاحبى مستعدَّاله
[align=right]كما يراوح بين الشكلين الرباعى والخماسى فى موالية "العرس" فالبداية رباعية متوالية القافية تليها خماسية مثلها،ثم رباعية، ثم خماسية عرجاء:[/align]
النيل رجع زاد وعاد من غير ميعاد مرسوم
كيف ابن شداد ما طب فى يوم يحوم ويزوم
مطهوم ينادى يا عبله ومهرك المعلوم
حاضر وفوق منه عقد من النجوم ملضوم
يام الضفاير ألوف ملهوف وانا المحروم
يا تمرا سمرا ياجمرا حمره خلف غيوم
لجلك يا حلوه شربت المر والزقوم
وصبرت وكبرت وانحفرت فى وشى هموم
العرس دقت طبوله يقولوا: هب وقوم
[align=right]فجاهين لا يستسلم لغواية الشكل وإنما يعشق اللعب معه، فالشكل لديه حالة وعى متساوقة مع رؤيته، فحين كتب قصيدة فنان لفاخر فاخر عكس فى نهايتها حالة الوعى هذه "من غير قوافى كتبت فيه مرثاه … إكمنه مات مش زى كل الناس"، مع الاعتذار للشاعر عبد المنعم عواد يوسف الذى يقول فى سياق أخر"كما يموت الناس مات".
فالشكل اختيار، فحين كانت الحكمة عماده والفلسفة طريقه، والتأمل طريقته كانت الرباعية العرجاء، فقد زاوج - مستلهما - بين طاقة المربع وقدرته على الصيد، وإيقاع الرباعية بما يتيح هذه المساحة من التأمل:[/align]
ياللى انت بيتك قش مفروش بريش
تقوى عليه الريح يصبح مفيش
عجبى عليك حواليك مخالب كتار
ومالكش غير منقار وقادر تعيش
[align=right]والمعروف أن المربع يتكون من أربع حركات بنائية هى: العتب - الطرح - الشد ـ الصيد، فإذا كان صيد ابن عروس يتمثل فى الحكمة النهائية التى تتقطر شعبية، فإن صيد جاهين يأتى بداية من الشد، فالحركتين الأخيرتين المتمثلتين فى الشطرة العرجاء ورباط أو قفل الرباعية ترتبطان ارتباطا عضويا بحيث يمثل الشطر الأعرج بداية الارتفاع الذى تأتى بعده ذروة المفارقة، فهو الممهد للقنص:[/align]
من بين شقوق الشيش وشقشقت لك
مع شهقة العصافير وزقزقت لك
نهار جديد أنا قوم نشوف نعمل ايه
أنا قلت يا ح تقتلنى يا ح أقتلك
[align=right]بينما سنجده فى قصائد أخرى يراوح بين رباعيات متوالية القافية وأخرى عرجاء، ففى قصيدة "الأمير" يمارس غرامه بالتربيع:[/align]
المجد للجندى اللى من غير لبس حرب
الفـارس اللى مش على صهـوة جواد
الراجل الغلبان فى روحه وعيشته كرب
لكن أمير عاشـق بروحـه ودمه جاد
***
والنحـل والعصافيـر تجيله تكلمه
أنبل أمير أساطير خيالك يرسمـه
السحارين سحروه صبح عتال فقير
شيل الحمول يحنيه ويوشك يهدمه
[align=right]إن رصد رباعيات جاهين فى دواوينه يؤكد على غرامه بهذا الشكل الذى كان يتحرك داخل بنيته برشاقة، ويشكل من خلاله حالات شعرية متنوعة تؤكد أن الأشكال لا تضيق أمام شاعر كبير، كما أن امتلاك هذه الذخيرة من الأشكال هى التى أتاحت له التمرد عليها، من هنا يمنحنا ويمنح الأجيال الجديدة دلالة مهمة هى أن التمرد لابد وأن يكون على ملكية ضخمة من التراث والمأثور، "فما الأسد إلا مجموعة خراف مهضومة"، وتنتشر تيمة الرباعية كجزء من بنية أشعاره فى قصائد "ميلاد" التى تعتمد الرجز ميزانا لها، كما تسير على نمط (أ. ب. أ. ب ):[/align]
بعدت ولادتى فى الزمن تلاتين سنه
صبحت تاريخ زى السيوف والسقايين
زى الشراكسه والشموع والسلطنه
زى الخيول.. ضاعت سنينى فى السنين
[align=right]كما تعتمد "السـونيتات" البسيط ميزانا لها، وتمتد عبر سبع صفحات فى ديوانه أشعار بالعامية:[/align]
خلا خلا، أنا شعرى قد الوجود
وقدها وقدود، وقلبى غنى
كأنه عود، فى الجود ما يعرف حدود
وحبيبته عواد، وعليه منحنى
[align=right]كذلك سنجد هذا النسق الرباعى فى ديوان الأغانى،على سبيل المثال "المقاطع الثلاثة الأخيرة فى قصيدة "يابو قلب وحيد"، وهى رباعيات عرجـاء تتخذ من "فاعلاتـن ـ فاعلاتـن ـ فاعلـن" ميزانـا لها، كذلك أغنيـة "راية العرب"، "البيانولا"... إلخ.
الشكل الخماسى
يدلنا الجمع الميدانى على وجود أشكال موالية خماسية عرجاء، وأخرى متوالية القافية، أما جاهين فقد اخترع لنفسه شكلا خماسيا مخططه كالتالى (أـ أ - ب - ب - أ)[/align]
اللحم طين والعرق دود من ديدان الطين
آدم وحوا على أرض العدم حاطين
عاقبهم الرب... أخرجهم من الجنه
آدم عمل حضن حوا جنته وغنى
الناس بتتهنى مهما يكونو منحطين
[align=right]وإذا كان جاهين قد صك لنفسه شكلا خماسيا لم تعرفه الجماعة الشعبية إلا انه قد اعتمد بحر البسيط هذا البحر الموالى الأثير، كما اعتمد جناسات الموال بكثافتها الموسيقية، كما أنه يبدو فى هذه المقطوعات الموالية الخماسية "مولديا" من الموالة ذوى الخبرة العميقة بأصول الحرفة، ولنتأمل هذه القدرة عند الموالة وكيف استلهمها جاهين ببراعة، فرواة الموال ومبدعيه يقومون فى المواويل "المزهرة" / الزهيرى بجمع موسيقى "عتبة الموال" و "ردف الموال" فى نهايته، أى فى "رباط الموال"، على هذا المنوال يواصل جاهين مخالفة عرف الجماعة فى البناء، لكنه يستعير بعض جمالياته الموسيقية، ولنتأمل ذلك فى قصيدته الرائعة - لا أحب مثل هذه الكلمات، لكنها تصدق عليها بحقـ "أهل الهوى"[/align]
(عتبة الموال)
الولف لو شاف وليفته ورا الجبل هدمه
ياميت ندامه على جبلين واصطدمو(
ردف الموال)
اتهد منهم جبل اسمه هابيل وانهار
قابيل أخوه اللى قتله سكب الدموع أنهار
(رباط أو غطا الموال)
واللى افتتن بالنهار.. بالليل يا ندمه
[align=right]ولايخفى على القارىء أن جاهين عبر دواوينه قد عرك الموال وخبره بدرجة عميقة، يدلنا على ذلك بجدارة قصيدته "على اسم مصر" بجزئيها، كذلك قصائد "الوحدة"، "الأرض"، "بستان الاشتراكية"، "با أهلا بالمعارك"،رولا يعنى هذا الرصد ميزة لهذه القصائد على قرينتها، بل ربما تكون أقل تميزا، لكن الذى لاشك فيه أن جاهين قد تعرف على هذه الخبرات وهضمها عبر استماعه الحى للأشعار الشعبية، فضلا عن علاقته بالشاعر الراحل العظيم بيرم التونسى الذى تفنن فى كتابة أزجاله على أنماط موالية بالغة الثراء والتعدد، وقد كثر ورود اسم بيرم فى أشعار جاهين اعترافا بثقله وبريادته وتطويره الكبير لفن الزجل، فحين يقول جاهين "معلمنا بيرم عليه السلام" فهو يؤكد على معنيين مهمين أوشكا على الاختفاء هما، الأول: الاعتراف بقيمة وفضل السابقين والتمرد عليهم تمرد الواعى الجسور،الثانى: وجوب إعادة النظر فى القيم الجمالية التى يطرحها الشعراء الرواد دون الوقوف عند المقولات التى ثبتت واحتكرت المشهد، مقولات من مثل أن جاهين شاعر مدينى، هل هذا حكم بالقيمة؟ وأن الشعراء الذين جاءوا من الأقاليم جاءوا ليريفوا الشعر، ألم يقرأ واحد منكم قصائد جاهين بعناية ليدرك معرفته العميقة بالمفردات النوعية لفلاحى مصر بما يعكس خبرة واسعة بهذا العالم كأنه ولد لأب فلاح، ولم تكن المفردات التى تنتشر فى تضاعيف قصائده من قبيل التوشية لمواكبة حملة استلهام الفولكلور الستينية، هذا الزعم ينتفى تماما حينما نقرأ قصائده "زى الفلاحين"، "أغنية للقطن"، "الأرض".. ونعتقد أن هذا الزعم مبنى على مقولة مؤداها أن جاهين رائد قصيدة النثرـ لم يدع ذلك - وأن قصيدة النثر منتج مدنى، كتبها ابن المدينة جاهين، وكلها مقولات تضرب بعضها ولا تنشغل بالشعر الحقيقى أيا كان من كتبه، وأيا كان شكله، فالشاعر الكبير كبيرم وحداد وجاهين هو الشاعر الذى لا ينشغل بالأبنية سابقة التجهيز، ولا بالمقولات المجانية التى تحتل مكانا كان الشعر أجدر به.
إن القاريء لتجربة شاعرنا الكبير فؤاد حداد سيواجه تنوعات من العناصر والموتيفات الشعبية، فلا تكاد تخلو قصيدة من قصائده من عناصر فولكلورية متنوعة تقيم حوارا مع بني القصائد لتلقي بقارئها علي نص الجماعة الشعبية، وهي إذ تقيم هذه العلاقة فإنها تراوح بين أكثر من آلية، مرة تحاول الحلول محل نص الجماعة مستدعية شكله، وأخري تحاول إقصاء نص الجماعة بعيدا عن متنها، وثالثة تحاول تثبيت آلياتها اعتمادا علي الرسوخ الذي صنعته، واكتساب بعض أرضها التي امتلكتها بالتقادم، أو بنزع ملكيتها الجمالية، وفي أحايين تقوم بالإجهاز علي محتوي النص الشعبي لترتدي أقنعته الشكلية، وربما تزينت بهيكلها الشكلي تاركة مضامينها لتحتل ظلا هامشيا في متنها. إن فؤاد حداد لم يشيد أبنيته علي أساسات ابن عروس والنديم وبيرم التونسي وأبو بثينة.. إلخ، وهو ليس امتدادا لهم، وإنما هو شاعر مؤسس، قام بتشييد صرح شعري قائم بنفسه، لقد قدم حداد نفسه بداية من أول دواوينه 'أحرار وراء القضبان' 1952 بوصفه 'آخر' له بناءاته، ولايعني جدة البناء وتميزه تخليه عن تراث جماعته ومأثورها، خاصة الشعبي منه، فالقاريء لدواوين حداد سيستمع الي ارتطام قوافي الموال وتجنيسها الكامل:[/align]
وانا جيت هنا وانا كنت توى هناك
قال ابن آدم احنا توهناك
انا قلت عمرى ما اتوه وعمرى ما اضل
انا قلت أصلى ظل ظل هناك
[align=right]وتعكس المقدمة التى أفتتح بها مجموعاته الشعرية إشارات مهمة حول مصدرية شعره، ولعل تأملها يشير إلى مـناهل حداد المتنوعة، فالشعر لديه كالتنفس والرزق، المستقبل، الأمس، واقع الناس، بما يحيل على إيمانه بما يحملونه من أغان وأشعار وأمثال، وهو فى اصطياده للعناصر الشعبية يتبنى آلية التداعى الحر، ولنتأمل هذا المقتطف من مقدمته:[/align]
الحمد لله على كل يوم تنفست فيه هذا النسيم
ورزقت هذا الغناء
شعرى خيال الشمس فى الهلال أم الهلال قى الشمس
المستقبل والأمس
الصباح والهمس
ليس لى فى القوافى جديد
شعرى خيال هذا الطعام وهذا الماء وهذا الشجر
شعرى واقع الناس (المقدمة، ص 7)
[align=right]كما سيستدعي مخزونه الشعبي حينما يعبر البكائيات التي توظف شكل 'العدودة'، هكذا سينتقل حداد من فن إلي فن ليعشّق نصه الفردي الجمالي المجاوز ينص الجماعة، لذا سنجد استلهامات للسير الشعبية.. البلاليق، المربعات، الموال بأشكاله، الأمثال، فضلا عن اصطياده لبعض الموتيفات' الاعتقادية إضافة إلي العناصر المرتبطة بالعادات والتقاليد المصرية.
إن فؤاد حداد يعد واحدا من أبدع الغواصين في تراثنا ومأثورنا الشعبي، وربما ترجع عنايته الاستلهامية الفائقة الي انه لم يكن مصري الجذور، لذا فقد كانت عينه قادرة علي التقاط هذه العناصر واصطيادها وإدخالها إلي عالمه الشعري، هكذا تتعدد مستويات توظيف الفولكلور في دواوينه، مثل: ديوان 'رقص ومغني' كما في قصائد 'رقصة الدب'، 'رقصة الديك'، 'رقصة الكلب' ألخ.. [/align]
طلعت أدب نزلت أدب
وطالع نازل أقزقز لب
أردب أرادب
أرنب أرنب
دا كله دا كله فى بطب الدب (قصيدة رقصة الدب، ص 14)
[align=right]هكذا يواصل العثور على "العتبة" بموسيقاها الشعبية ليواصل البناء مكملا إياه لتستدعى المفردة صويحباتها موسيقيا ودلاليا دونما افتعال أو شبهة التوشية المجانية، فلم يكن حداد يرتدى لحية مستعارة ليدلل على شعبية نصه الشعرى. فالقاريء لدواوين حداد لن يعبر علي قصائده دون أن تتشبع روحه بعدد من الأشكال الشعرية الشعبية، ويتعامل حداد مع عناصر التراث والمأثور الشعبي عبر عدة مستويات لعل منها:
مستوي التضمين:
أي تضمين أجزاء كاملة من أغنية شعبية، أو مثل بكامل نصه، وحداد حينما يستدعي هذه الأجزاء المكتملة من نصوص شعبية فإنه يستدعيها لتنوب عنه في القول، لكنها تحتل مكانها ليس بوصفها جزءا مستقلا، وإنما بوصفها جزءا من البناء الشعري، ومثاله:[/align]
أبو يا أبوح
كلب العرب مدبوح
وامه عليه بتنوح
بنت القبيله عند رأس كليب (قصيدة رقصة الكلب، ص 24 )
[align=right]فهو يستدعى مطلع الأغنية الشعبية ليواصل عبر توليد النص موسيقيا صناعة رؤيته المفارقة:[/align]
الشاعر اللى شحت
ع العضم جلد وشغت
شمت الملك فيه
شمت
فىَّ أنا جــزار على بقـــال
زاد فى المقام عنى وذل السؤال
ولطم خدوده وبك دمـه وقـال
"وكم بمصر من المضحكات
ولكنه ضحك كالبكا"
كالبكا
كالبكا
أنا كالبكا كلب
أنا قافية القلب
دمى انحلب حلب (قصيدة رقصة الكلب، ص 24 )
مستوي التضفير:
[align=right]أي صناعة نسق يتداخل فيه الفولكلوري مع الصيغة الشعرية الخاصة، هذا التداخل يتم في معظم الأحيان بإزاحة بعض عناصر الفولكلوري، أو بانتخاب جزء منه، وإدخال عناصر لغوية وتركيبية جديدة عبر تحويل جملة الإشارات الفولكلورية إلي قيمة استاطيقية جديدة، ويتم ذلك عبر درجات من الإبدال (إبدال بعض المفردات)، أو خلق نسق مساو لنسق المثل تركيبيا حتي تستطيع ذهنية القاريء/ المتلقي أن تستدعي ما في مخزونها لتضاهي به ما في مخزون الشاعر من عناصر مشتركة فيصبح الانحراف عن النص الأصلي محفزا لنوع من المتلقين علي التجاوب مع النص، حيث يتحلق حول افقه المتوقع، ومثاله:[/align]
يا فار أبوك الجبل ثابت وجبت منين الوسوسه
وكذلك:تاخد خطوه قدام آخد خطوه كسكسه
تشوح لى أشوح لك
سن بسن وعين بعين
وفن بفن أصل الفن أوله نسنسه (رقصة الفار، ص 29)
[align=right]ففى المقتطع السابق يستدعى المثل الشعبى "السن بالسن والعين بالعين، والبادى أظلم"، كما يستدعى بشكل ضمنى المثل الشعبى " أمك البصل وابوك التوم منين الريحه الطيبه يا مشوم " فى جملته "يا فار أبوك الجبل ثابت وجبت منين الوسوسه "
مستوي الظلال:
أي وجود ظلال فولكلورية ليست واضحة تماما بحيث يستطيع القاريء الامساك بها، لكنها تشير إلي مصدر بعيد وضمني في آن واحد، هذا المستوي يعد الأكثر انتشارا في أشعار حداد، وهو كذلك الأكثر شعرية حيث تنسرب العناصر الفولكلورية دون إبانة واستقلالية، فهو يغتال رسالتها الأصلية، ونصها المتماسك ليصنع رسالة جديدة معتمدا علي الطاقة المجازية التي تحملها هذه النصوص، يؤكد علي ذلك مقولته التي تتضمن بعض سطور قصيدته 'جوده سعيد الديب'في ديوان 'أيام العجب والموت':[/align]
'الكلام الأجنبي في الزور
بالتفت للآخرة والتراث
والمحبة غزلها أنكاث
في الزمان اللي نقض غزلي'
[align=right]ونتسمع أصداء الرقى الشعبية فى العاشورة، ومنع الحسد والبسملة قبل الخبيز وفن القافية فى هذه القصيدة، رغم مفارقتها لهذه الفنون لغة وتشكيلا، لكن تظل الأذن على استعداد لاستدعاء هذه النصوص الموازية:[/align]
ديك
الله يهديك
صد
عمره ما نصد
عين
طلق سبعين
باع
ما على سباع
ريش
ذو تنقريش
عرف
غاية الظرف
ديل
يفرس الخيل
عود
سنط مفرود
غصن
زى ما الحسن (قصيدة رقصة الديك، ص 20)
[align=right]هذه المستويات، وغيرها تردنا دوما إلي منطقة مصدرية تؤكد علي تواصل حداد الدائم مع النصوص الشعبية ليعلن عن كتابة جديدة مغايرة لقوانين الإبداع الشعبي، هذا التواصل الذي يتبدي في مرات علي انه 'تثقيف' نصه وأخري بوصفه نوعا من التجريب الواعي الذي يصنع النص الشعبي في مختبره، ولأن حداد شاعر مؤسس فان بعض قصائده لا تخلو من غرام زائد بالتراث والمأثور الشعبي، إلي الحد الذي يتماهي فيه نصه بنص الجماعة خاصة في استعارته للأشكال المستقرة، وبشكل أخص فنون الموال، لاحظ تسميات حداد لعدد كبير من قصائده بموال أو مواويل، مثل: مواويل من أول الدنيا، مـوال الشيـخ سعيد، ص 118، مـوال قتـيل المحبة،ص 137، موال القرفة، ص 142، ولا يقتصر الأمر عند عناوين القصائد، بل يتعداه إلى قصائد تحتفى بالمصطلحات الخاصة بالموال "الأحمر - الأخضر " [/align]
آه ياليالى يا ليالى
الاحمر والاخضر موالى
أنا اللى موت وأنا المولود
شقايا أنا لسعد عيالى
وآه كأنى ما قلتش آه (قصيدة: طبال الغوازى، ص 63)
[align=right]وتتبدى عظمة حداد وقدرته الاستلهامية الفائقة فى مجموعة المواويل التى تؤكد على معرفة كبيرة بأسراره كنص شعبى، ويتأكد ذلك فى مواله "الشيخ سعيد"[/align]
قال ياولد ياللى ماشى هناك على الحيطه
والقف زى السحـالى طـل واسعى لى
حا اعلمك صنعة المــوال وطـباتـه
اوعى توسوس توشوش خد نفس عالى
ودحرج النور على السلـم وطبــاته
بعيد ولفوق
قلنا القوافى كتيره قالوا طـب هاتـو، ص 118
ـ ويختم مواله هكذا
صوتى اللى يفرح بلد يصبح صفيح سرساع
وكأنه سر وذاع
وكأنه سر وضاع
وكأنه سر بتاع
واحد بتاع مواويل
لا كان سعيد ولا كان أسمر عيونه وساع ص 120
[align=right]فـإذا كانت الجماعة الشعبية قد توجت شعرها الشعبى بالموال بأنواعه وأشكاله المختلفة، فإن حداد قد راهن على الموال وقدرته على "تزهير" نصوصه، عبر هضمه لتراث الموال الشعبى وعبوره إلى موال حدادى لا ينتسب إلا إليه:[/align]
بنغنى موال على المنوال وبنولف
والدنيا أحوال إشى يكلف واشى يكيف
بنغنى سخنين واذا بطلنا حنجيف
إحنا اللى وارثين صفاتك دمنا خفيّف
من حبنا فى السلامه كل ما نسيف
ونصيب نهيف
ياعين يا ليل ونغنى بالموال
وقالت الست الوالده
ما تبطلوش الموال ده
يغنيك غنى ويمولك موال (قصيدة كتاكيت الفن، ص 37)
[align=right]ولأن حداد "والد الشعراء، وأحد أمهر صناع الموال بتزهيره الكثيف، وبخبرته الكبيرة قد صنع موالا يخصه،هذه الخصوصية التى تمثل بحرا لم تسلم من صيد تلاميذه ومحبيه وأولاده الشعراءـ من ديوان التسالى بالمزاج والقهر:[/align]
أنا والد الشعرا فؤاد حداد
أيوه أنا الوالد ويا ما ولاد
قبلسه ربيتهم بكل وداد
بعدسه تلميذ أولى وإعداد
تسالى
ابنك يادنيا وإمتى ها تصادفيه
موالى بحر وكلهم صاد فيه
والنقل زى اللؤل فى صدفيه
تسالى
[align=right]إن حداد استطاع أن ينتهي إلي صيغة في شعر العامية المصرية، هي ما يمكن تسميته بالمضمون الفني الذي يعالج التجربة 'المصرية' في بعدها الشعبي علي أبعد مدي لأنغامها المحلية، كما يعكس شعره إمكانات استغلال الموروث الوزني، والقيم الموسيقية من تجنيس وتقفية وزخرفة وكلها قيم يحفل بها المأثور والتراث الشعبي، فضلا عن الإمكانات الدرامية القائمة علي تعدد الأصوات، ثم الخروج بالغنائية والإنشاد من الخيال التحريري والشفهي إلي خيال فردي لاينتمي سوي لفؤاد حداد، هكذا 'يؤلف' فؤاد حداد بين المفردات مستدعيا حسا شعبيا عبر المفردات المتجانسة، واستخداما للإصاتة داخل الجملة الواحدة:[/align]
والتلزونه للحلزونه يا قلبى لا تحزن
كل الفجر ده فجر السوق
وطعامة العيش المسروق
ولحام القلب المفلوق
وخلاعة باب النجار
م الحلزونه للتلزونه (قصيدة شوك لين فى أغنية صينيه ص 132)
[align=right]كذلك سنجد استخداما كثيفا للتجنيس الكامل كما فن الموال رغم المغايرة الوزنية ويتضح ذلك بجلاء في قصيدة 'رقصة الفار' التى تؤكد أن حداد أمهر من صنع التجنيس عبر تعاشيق أربيسكية تخصه وحده:[/align]
ساقطه قدامى ومن غش اراها
دنيا تفاحه زباله مقشراها
من شراها باعها من باعها شراها
بس قولو يا دراوشه
رقصى اسمه دوشه روشه
أو مناوشه
أو شراهه
[align=right]أما قصيدة "كتاكيت الفن"فيها يستعير شكل الموال عبر بنية تقفوية ثلاثية الشطرات، لكنه يكسر تراتبها بلازمة إيقاعية مغايرة، كذلك استخدامه للحكي الشعبي، والنكتة في قصيدة 'إبليس غرمان' وهي قصيدة تراوح بين أكثر من شكل، ففي بدايتها يتبدي الحكي خارجا عن الوزن في شكله الكمي ثم تأتي أجزاء مفعلة لتليها أجزاء زجلية تتبني نسقا بنائيا يعتمد علي التقفية ووحدة البحر الشعري، ويتبدي ذلك في البداية الحكائية.[/align]
'مرة واحد قال لابوه جوزني يابا
قال له يابني دا الجواز يكلف كتير
قال يكلف ايه يابا.. قال يكلف سمنه
وممنه ورز وجهاز ومهاز'
ثم يوالي البناء بنسق مغاير في نفس القصيدة:
'إضرب مهماز يا ابليس وغني'
[align=right]هكذا يفتح الغناء طاقة جديدة حافلة بالموسيقي:[/align]
'والبني آدم يا بتنجان
عايز يبقي علي الرز عليه المز
علي السمنة عليه الممنة
ويضمن جنة بالمجان'
[align=right]من الحكي الي التفعيلة الي الشكل الزجلي يراوح حداد في عبقرية[/align]
'عايز يرجع صبي تلميذ
يمشي يهزر مع مزاميز
تضحك في خدودهم غماميز'
[align=right]إن حداد لايكف عن استخـدام آليـات وحيـل المبـدعين الشعبيـين في فنونهم القوليةVerbal arts مثل استخدامه للألفاظ المدمجة، وهي خصيصة أثيرة في عدد من الفنون الشعرية الشعبية مثل الموال والواو، وهو باستخدامه هذا يمنح موسيقي نصه حيوية مستمدة من تواتر موسيقي النص الشعبي:[/align]
صوتى ينبح صوتى ينبحّ
ديلى يرقص رقصته دح
[align=right]فضلا عن توظيفه للمثل الشعبى فى أكثر من قصيدة ولندلل على هذا الاستخدام بقصيدته الدالة "الزمار يضرب الأمثال" والتى يختتم كل مقطع فيها بمثل شعبى:[/align]
(يموت الزمار وصباعه بيلعب)
أنا أنا زمار
أنا أنا زمار
وحا عيش وحاموت
وانا بنفخ توت
وصوابعى بتلعب أنا زمار
على رأى مثلكم يا شطار
(ياخبر النهارده بفلوس بكره ببلاش)
ـ يا خبر بفلوس
بكره الأخبار
على رأى مثلكم يا شطار
(قد الزبله ويقاوح التيار)
على ضى فانوس
ليالينا نهار
عام الننوس
ويا التيار
(خيار وفاقوس)
على ضى فانوس
ليالينا نهار
ما فيناش فاقوس
ولا فينا خيار (قصيدة: الزمار يضرب الأمثال، ص 80، 81 )
[align=right]كما يمنح متلقيه أفقا فى بعض قصائده لتوقعها، وكشف ما غمض في تركيبتها، كما يستخدم كذلك نسق أغاني الأدباتية كما في قصيدة 'علي باب الله'. وفؤاد حداد في هذا السياق ليس 'أبا' وحسب وإنما هو تأسيس باهر لإنجازات العامية في الشعر الحديث، ولعل هذه الإطلالة ربما تفتح أفقا حول العلاقة الشائعة بين الابداع الفردي والابداع الشعبي، ومدي مساهمة نص الجماعة الشعبية في مد نص العامية بخبرات جمالية تنكرها الأجيال الجديدة بدعوي تخلفها وابتذالها، فضلا عن استخدام البعض لها بوصفها توشية او حلية وحسب، من هنا وجب بإعادة النظر في مشروع حداد الشائك والمربك في آن واحد لان يتسلح بأشكال شعبية لا تقتصر علي فنون القول وإنما يتجاوزها لنجد في متن نصه عناصر من العادات والتقاليد والمعتقدات والثقافة المادية الشعبية ليعلن في كل وقت عن ثراء نصه وحاجته إلي من يفض مغاليق سره بعيدا عن المقولات الجاهزة والعبارات الإنشائية، من هنا تظل هذه الكتابة مفتاحا أو اطلالة أولي علي علاقته بالفولكلور ربما تسلمنا إلي مكاشفة عالمه الثري والرحب والمشتبك بقوة وحيوية بنص الجماعة الشعبية.[/align]
ارجو التعليقات لاتخرج عن الموضوع من فضلكم
ولكم جزيل الشكر
تقبلوا تحياتي ووافر أحترامي
اخيكم محمدأسامة
تعليق