
السيارة تخترق المروج الخضراء ناهبة صفحة الإسفلت إلى متجه لم تحدد نهايته بعد.. ينكفئ متسائلا في خضم تأملاته:كيف يزج بنفسه في موقف غير معهود كان من الأجدر مجانبته؟..لم انساق إلى فعلته هذه من غير روية أو سابق تريث؟..ينتهي في آخر المطاف إلى الجزم بان المبادرة تصرف سافل لاتسامها بطابع صبياني..وربما أنف حتى الصبيان من إتيانها...
يلجأ إلى ذلك ربما وفاء لروح الزمالة لاغير،أو اعترافا بجميل سابق،أو لآصرة قائمة على مبدإ تبادل المصالح،أو لمبرر لا يدري ماهيته على الإطلاق...
على أية حال ألفى نفسه محشورا لدافع ما في قضية عدها مؤامرة دنيئة بحيث أصبح طرفا فاعلا في نسج خيوطها..في لحظة من اللحظات كاد أن يضغط على دواسة الفرامل ليدلف في اتجاه العودة، لكنه ارتأى الضغط على أعصابه في استسلام لما جرت به المقادير..فما عاد بالإمكان العدول عن "الخطة" بعد أن أعطى وعودا بالتنفيذ وأوشك على النهاية...
انفلتت الأصوات الآدمية من عقالها مخترقة جدار الصمت:
- لا تزال أمامنا مسافة طويلة..
- لم يسبق أن حشرت أنفي في أمر مماثل..
- وما شأننا نحن بحيوان قذر؟..
- ليس في ذلك ما يعاب على ما يبدو..
- كان على صاحبه أن يتولى أمره بنفسه..
- اعتبر أن ما نقوم به الساعة فسحة..
- فسحة؟!..
- اجل..فسحة وينتهي الأمر..
- وأنت!..مارايك؟..(ملتفتا للسائق)...
من جانبه يظل الرد طي الكتمان..اكتفى بإيماءة خاطفــة محركا رأسه..يعجب كيف يقوى مرافقاه على الإغراق في الحديث كما لو أن الواقعة شيء عاد ومألوف..يستكنه حقيقة ذلك من خلال النبرة الهادئة والملمح الساكن من غير امتقاع...
يظل مأسورا في زنزانة صمته وتأملاته بينما يواصل الرفيقان حديثهما :
-أعتقد أنه سيعود إلى البيت بالرغم من إرادة صاحبه..
- بعد أن قطعنا كل هذه المسافة؟..مستحيل!.
- ينبغي أن تعلم يا صاحبي انه من الصعب تضليل بعض الحيوانات لما تمتلكه من قدرات خاصـــة تستعين فيها بحدة الذكاء ورهافة الحواس..
على حين غرة تراءى له الوجه النقيض لهذا الموقف الإنساني..اندفعت من فيه ضحكة غير واضحة المعالم أثارت دهشة صاحبيه..اختلت به النفس اللوامة هامسة:"آدمي يروم إلى التخلص من حيوان مسن وعاجز ومريض،رضخت لتوسله وأذعنت لرجائه،فلم كل هذا التأثر البالغ وهذا الاهتمام الزائد؟..المسالة طبيعية يا رجل إلى أقصى حد!"...
لقد بدا له أن عشرات الوقائع المشابهة قد لا تثير أدنى اهتمام أو اعتبار...
الصمت يسود من جديد إلا من هدير للمحرك وصهيل لريح في الاتجاه المعاكس...
***********
لو أن أحدا سأله عن رأيه وانطباعه حول معاشرة الكلاب أو معاداتها لتعذر عليه الإدلاء برأي قاطع..لم يسبق له في ما مضى أن أقام علاقة إيواء أو ترويض لحيوان ما سواء أكان ذلك لمآرب خاصة أو حبا في الاستطلاع..إلا أن مشاعره إزاء الحيوان عامة كانت تتسم بالرحمة إلى حد لا يحتمل معه رؤية دجاجة معدة للذبح،وبالأحرى أن يقوى على ذبحها...من طفولته وصباه كان شأنه كذلك..لم يكن بمقدوره أن يدرك لم لم يكن منسوخا على شاكلة أبويه وأسلافه في بعض ما يصدر عنهم من سلوكات ويطبع أمزجتهم من مواصفات..لمجرد أن يواجه بالنباح أو الهرير،كان والده ينزعج ويستشيط غضبا..يستجمع قواه ثم يهوي على الفور بمقبض عكازه على قنة رأس الكلب وهو يصرخ:"يا بني كلبون! تفو!..الله يلعنها سلعة!!..."..ينبطح الحيوان أرضا يعوي ويتلوى من شدة الألم...
- الكلب يا بني كلب وإن طالت العشرة!!
- أتنسى وفاءه يا أبي بالمقارنة مع الآدميين؟
- أحمق!!..ومتى كان الكلب من الأوفياء؟!
أمه وزوجه تمقتان الكلاب إلى حد لا تحتملان معه دخولها إلى البيت..كانتا تريان أنها مخلوقات مدنسة وناقلة للجراثيم،وأن التودد إليها عمل صبياني ومضيعة للوقت،ولا تفتآن ترددان الحديث المشهور:" الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب "..
***********
استفاق من متاهة تأملاته وذكراه..دوي المحرك متواصل،لكن الريح هدأت قليلا..ينعطف بالسيارة يمينا عند مفترق للطرق بمحاذاة مجرى مائي..ينزل الرفيقان متجهين خلف السيارة..يرفعان بوابة مخزن الأمتعة بحذر تام..يندفع الكلب من داخله ملفوفا في كيس بلاستيكي تمكن من اختراقه بأنيابه فبدا رأسه متدليا..بهره النور فأغمض مقلتيه الدامعتين ..تسمر مكانه بلا حراك من غير أدنى مقاومة..ناوله احدهما قطعة خبز فأشاح بوجهه وطأطأ رأسه كما لو أن غربة المكان خدرت حواسه فبدا له المحيط وما يحتويه لغزا محيرا..الشمس تنزاح بخيوطها الواهنة في اتجاه الأفول..تنطلق السيارة في طريق العودة..من خلال المرآة الجانبية،على يساره،كان الكلب يبدو من بعيد واجما مثل المشلول إلى أن توارى عن الأنظار...
تعليق