أرواح تأبى الرحيل

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • جلال داود
    نائب ملتقى فنون النثر
    • 06-02-2011
    • 3893

    #16
    المشاركة الأصلية بواسطة محمد الشرادي مشاهدة المشاركة
    - حبنا الكبير ارتباط وثيق بين روحين...و الروح مهما حلقت بعيدا لابد أن تعود إلى توأمها.
    كانت الكلمات تخرج من بين شفتيه الشاحبتين كطيور مهيضة الجناح سرعان ما تساقط على صدره،و هو ممدد على الفراش. وضعت سبابتها على ثغره المتعب.كلامه يفقدها السيطرة على شؤون عينيها.أحس بالوهن يهيمن على كامل جسده. برودة غريبة تصعد من مخمص قدميه ، و عند كل مفصل تحدث ألما حادا. لحظات وجع قاسية حفرت في أعماقها أخاديد ألم لن تنمحي أبدا. تأملها بعيون سقيمة. رسم على شفتيه بسمة متعبة. ضغط على يدها بقوة. شهق شهقة حارة، ثم أغمض مقلتيه إلى الأبد. فارقها و هو في ميعة شبابه. لم يتعد عقده الثاني إلا بثلاث سنوات. جلست في شرفة بيتها الجميل تحت ضوء القمر الذي يحمم بنوره جسدها الماسي،و بأنامل ضوئه يداعب جدائلها الناعمة. جلست كقديسة حزينة تردد تراتيل ذكرياتها المؤلمة ، و تعيد شريط اللحظات الأخيرة من حياة زوجها. رغم مرور أكثر من ستة أعوام ، لم تنس شيئا من تفاصيل ذلك الحوار الذي دار بينهما قبل وفاته بقليل:
    - الجسد تراب يحن إلى ترابه ، أما الروح فجوهر خالد تغادر الجسد ، و تعود إلى باريها.
    - كلا يا حبيبتي. الروح تذهب من جسد إلى آخر، لتبدأ رحلة جديدة.
    تحت التأثير الفائق للدهشة من كلامه ردت بقلق:
    - الله قادر على خلق ما لا يحصى من الأرواح، فلماذا يحتاج الناس للعيش بأرواح مستعملة؟ّ
    أمسك بيدها بكل ما تبقى لديه من قوة. و رفع وجهه المتعب نحوها:
    - أعلم أن الموت قد أنشبت براثنها في جسدي.لكني أومن بقوة أن المنية لن تبعدني عنك إلا مؤقتا. أعدك أن روحي ستعود إليك في ثوب جديد...انتظريها... !
    تنهدت تنهيدة حارة لفحت خديها الأسيلين. مسحت عينيها المخضلتين بالدموع، وهي تردد:
    - إنني أصدق كلامك. لكن روحك ستبدأ صغيرة في جسد صغير. كم سنة سأنتظر يا عائد؟

    الأحد 20يوليوز العاشرة صباحا.

    أراحت جسدها على كرسي وثير،تحت ظلة بألوان قزح.وضع النادل أمامها فنجان شاي،و كوب ماء. انتصب أمامها بوجهه الوضيء.رفعت قبعتها الوردية لترى صاحب الظل الذي يزاحم الظلال الأخرى على جسدها. وضع يده على قلبه،كأنه تلقى سهم حب أطلقه كيوبيد من قوس شفتها العليا المنحوتة بشكل لا يضاهى.وضع
    زهرة أضاليا بيضاء في كأس الماء.من دون استئذان جلس أمامها.ندت من ثغره البديع الشكل كلمات عذبة:
    هل يمكنني الجلوس؟ يراودني شعور بأنني أعرفك حق المعرفة!

    الأحد 20يوليوز الثانية عشرة زوالا

    تقف بكامل ملابسها تحت رشاش الماء البارد.لتطفئ الحرائق التي أشعلها في جسدها،و تلطف من غليان أعصابها.ما عاشته اليوم لقطة من الماضي السحيق أعادها مخرج مجهول بالعرض البطيء.نفس المكان و الزمان...نفس المشروبات و الزهرة...أقل وسامة منه، لكن روحه المرحة...ذوقه النبيل...حركاته المثيرة كانت استنساخا دقيقا للمرحوم.

    الأحد 27 يوليوز

    انفتح باب شقته الشاطئية على دنيا ساحرة.تسمرت في مكانها ترزح تحت التأثير الشديد للمفاجأة القوية. لا شيء غريب عنها في هذا الفضاء البهيج: أزهار الأضاليا البيضاء...طائر الكناري الأصفر...عناوين الكتب في خزانته...راحت تركز النظر بحثا عن شيء يخالف عالم زوجها، لم يقع نظرها إلا على ما يضارعه في أدق تفاصيله. أحست بالألفة.لكنها لم تستطع أن تمنع قلبها من الخفقان بقوة، و هي تردد كلامه:
    - بعض الأرواح تتكيف مع أجسادها الجديدة، و بعضها يحافظ على ذاكرته. فيسعى لاستنساخ حياته السابقة في كثير من تفاصيلها. ناداها باسمها كما كان يفعل زوجها.أحست بأقدامها تغوص في الأرض.إن لم تهرول خارج البيت سينصهر جسمها الطري كتمثال ثلج اكتسحت الحرارة أوصاله.
    الاثنين 28 يوليوز
    كان ضوء المصباح ينعكس على ذراعيها الرشيقتين، و قلبها مضمخ بعبق حب لا يمكن نسيانه، تعمل دائما على استعادة طقوسه الشاعرية التي تهيمن على كيانها برمته.
    سمعت الجرس يرن. خفق قلبها.فتحت الباب بسرعة. وجدته أمامها بكامل أناقته.غرس في شعرها البهيم زهرة أضاليا.ارتعشت (هكذا كان يفعل زوجها دائما)ابتسم، و قال:
    - لن تبقيني على الباب طبعا؟
    هزه جسدها المشع هزا عنيفا.ندت من بين شفتيه كلمات من دون إرادته:
    - يا له من جسد شفيف ينساب كجدول ماء رقراق! امنحني يا رب القدرة على تحمل روعته.
    ضمها بين ذراعيه المشتعلتين. و ضع رأسه على صدرها الصافن كجواد عربي أصيل.طفرت من عينيه دموع ساخنة.تدحرجت كحبات لؤلؤ على أديم صدرها الصقيل.أحست بمزلاج قلبها ينفتح من تلقاء نفسه،و بأجراس نبضها تصدح بنبوءة زوجها الراحل:
    - مهما تاهت روحي،ستعود إليك، و هي أكثر كمالا.ستعود لتذرف الدمع على صدرك المترع بالحنان.

    بعينين غارقتين في الدموع، و ضعت الرواية بجانبها. تأملت سريرها الموحش. بات باردا، بعد أن هجرته أنفاس زوجها، التي كانت تدفئه. إلى متى ستظل تطارد في ثنايا القصص و الأساطير الأمل في عودة زوجها. لم يعِدها بشيء، مضى في صمت. لكن الأبطال الذين قرأت رواياتهم كلهم عادوا. حتى الذين لم يقطعوا وعدا بذلك.
    الأستاذ محمد الشرادي
    تحياتي وتقديري

    تمتلك مَلَكة فلسفية تمسك بشغاف سردك.
    متعة هي قراءة مثل هذه القصص التي تنتقل ما بين الحاضر والمستقبل

    دمتم

    تعليق

    • محمد الشرادي
      أديب وكاتب
      • 24-04-2013
      • 651

      #17
      زيغ التشبيهات و خروجها عن المألوف هو الذي يعطي للسرد متعته.
      شكرا على مرورك المحفز.
      تحياتي

      تعليق

      • محمد الشرادي
        أديب وكاتب
        • 24-04-2013
        • 651

        #18
        المشاركة الأصلية بواسطة عبد الاله اغتامي مشاهدة المشاركة
        نهاية صادمة غير متوقعة ، لكن القصة جميلة جدا كتبت بأسلوب ولغة متينة وراقية. شكرا أستاذ محمد الشرادي على هذا الإبداع المتميز...تحياتي...
        أهلا أخي عبد الإله.
        شكرا اخي على مرورك المحفز.
        تحياتي

        تعليق

        • محمد الشرادي
          أديب وكاتب
          • 24-04-2013
          • 651

          #19
          المشاركة الأصلية بواسطة ريما ريماوي مشاهدة المشاركة
          دائما مبدع في نصوصك ولغتك الاستاذ محمد...
          واعجبتني القفلة الصادمة.. تمنيت لو تناسخت روحه حقا
          كما في الروايات التي تقراها...

          شكرا على نص ممتع..

          تحيتي وتقديري.
          أهلا أختي ريما.
          و أنا أسعد دائما بمرورك البهي، الخفيف الظل.
          تحياتي

          تعليق

          • محمد الشرادي
            أديب وكاتب
            • 24-04-2013
            • 651

            #20
            المشاركة الأصلية بواسطة ويس كروان مشاهدة المشاركة
            أخي محمد الشرادي نص رائع ورؤيا عميقة ,وفكرة تناسخ الأرواح هي فكرة يبدوفيها الإيمان بالتجدد والبعث, للارواح الطاهرة طبعا لانها تسمو الى الملكوت فتزداد طهارة وتبعث من جديــد, فما دخل النادل في روح تتحرى عودة الروح الطاهرة ,ألم يعدها الزوج بذلك؟-كلا ياحبــيبتي.....-, -أعدك ان روحي ستعود إليك - فلما أنهيت ب(لم يعدها بشئء)؟ ; أنت رائع والنص رائع ; تحيات ويـــس كروان
            شكرا على مرورك الجميل المتفحص للقصيصة.
            تحياتي

            تعليق

            • محمود قباجة
              أديب وكاتب
              • 22-07-2013
              • 1308

              #21
              نص جميل تتبعناه من البداية للنهاية
              راقت لنا الاحداث و تتابعها
              رغم اللامألوف بالنسبة لعالم الأرواح و انتقالها من جسد لآخر حسب نظرية ارواح تابى الرحيل


              دمت بخير


              تقديري

              تعليق

              • محمد الشرادي
                أديب وكاتب
                • 24-04-2013
                • 651

                #22
                المشاركة الأصلية بواسطة جلال داود مشاهدة المشاركة
                الأستاذ محمد الشرادي
                تحياتي وتقديري

                تمتلك مَلَكة فلسفية تمسك بشغاف سردك.
                متعة هي قراءة مثل هذه القصص التي تنتقل ما بين الحاضر والمستقبل

                دمتم
                أهلا أخي داود
                شكرا على مواكبة ما أقرأ
                تحياتي

                تعليق

                • فاطمة يوسف عبد الرحيم
                  أديب وكاتب
                  • 03-02-2011
                  • 413

                  #23
                  الأستاذ الشرادي
                  عنوان لافت ، قصة سردت بأسلوب متميز وكأنك أدخلت التأريخ لإعطائه حركة وحيوية ،
                  هذا السرد الراقي يعطي القدرة على تخيل المشهد تمثيليا ،
                  فالخيال الخصب يعطي العقل فرصة للتحرر من الضغط النفسي والعصبي

                  تحياتي وتقديري

                  تعليق

                  • عبدالرحيم التدلاوي
                    أديب وكاتب
                    • 18-09-2010
                    • 8473

                    #24
                    نص بهي كصاحبه...
                    ممتعة قصصك ، متى تجمعها بين دفتي حب ؟
                    مودتي

                    تعليق

                    يعمل...
                    X